مينا ناجي
كاتب مصري
زيارة جديدة لرفيق قديم
في سن السادسة عشرة كنتُ بدأت بالفعل أقرأ الشعر بكثافة، بالأكثر الشِعر المُترجم، وحينها وقع بين يديَّ كتاب «شعراء وقصائد: باقة من بستان الشعر اليوناني الحديث» ترجمة وتقديم د. نعيم عطية، الصادر ضمن سلسلة آفاق عالمية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في تلك السنة، أي في 2003. هذا الكتاب كان سببًا لاكتشافي لشعراء مهمين مثل سيفيريس (الحائز على نوبل) وكفافيس (الذي بقيت لسنوات لا أحبه حتى قدرته أخيرًا في نهاية العشرينيات)، وإعجابي بقصائد لشعراء مثل «نيكيفوروس فريتاكوس» ذي الحس الصوفي الرائق، و«يانيس ريتسوس» ذي القصائد– الفزورة والقدرة الشعرية الفائقة، و«فافوبولس» الذي لم أجد له أثرًا بعد ذلك في أي مكان، و«كوستي موسكوف» و«نيكوس كازانتزاكيس» المشهور أكثر ككاتب وروائي. لكن مع الوقت لم يتبق معي سوى ريتسوس وكفافيس وبالطبع شاعر مراهقتي المفضل الذي فُتنت به: أوديسياس إليتيس.
قرأت بعدها مختارات شعريَّة له بعنوان «الشمسُ المهيمنة» قام بنقلها للعربيَّة الشاعر المصري محمد عفيفي مطر في سلسلة «عيون الأدب الأجنبي» عن دار شرقيات، وذلك عن ترجمة كيمون فريار الإنجليزيَّة. ثم في بداية عشرينياتي، اشتريت أعماله الشعرية الكاملة بالإنجليزية ترجمة جيفري كارسون ونيكوس ساريس التي أعتمد عليها هنا في هذه الدراسة، وأترجم منها المقاطع المذكورة. بجانب نسخة من ديوانه الأشهر «مستحق هو» ترجمة إدموند كيلي وجورج سافيديس.
كان إليتيس مهمًا بالنسبة لي لأنه كتب الشِعر في تضاد مع العاطفيَّة المفرطة والحزن الكئيب اللذين يغمران الشعر الذي تعرضتُ له. كان مهمًا، بالفعل، بالنسبة لي أن أرى كيف يمكن للشِعر أن يُكتَب عن لحظات أكثر جمالًا وبهجة وجلالًا دون أن يكون مبتذلًا أو سطحيًا. ولتأثيره على تكويني الشخصي والجمالي، شعرت دومًا بالواجب ناحية الكتابة عنه، الأمر الذي أجلته كثيرًا لضخامة أبعاد مُنجزه الذي جعله يحصل على جائزة نوبل سنة 1979. لذا، سأحاول الآن، من منظور النضج ومسافة الزمن، رصد مراحل التأسيس والتطور والنضج الجمالي لمنجزه الشعري وسياقاته التاريخيَّة والفكريَّة والسياسيَّة، الذي مزج فيه السورياليَّة والكلاسيكيَّة في توليفة خاصة به، حيث استلهم الأساطير الإغريقيَّة والتاريخ الهيليني مع الحداثة الأوروبية والطقوس الأرثوذوكسيَّة الشرقيَّة.
الخلفية والتشكُّل
ولد أوديسياس ألبوديليس، يوم 2 نوفمبر 1911، في مدينة «كانديا» بجزيرة كريت، كأخ أصغر لستة من أبناء عائلة مقتدرة تعمل في صناعة الصابون ترجع أصولها إلى جزيرة «ليسبوس». انتقلت العائلة بعدها بقليل للإقامة في أثينا بشكل دائم، حيث أصيب أوديسياس في سن السادسة عشرة بالسُل ولزم الفراش ليقرأ بشراهة الشعراء اليونانيين الذين أتيح له قراءتهم، ويكتشف من بينهم الشاعر السكندري كفافيس (1863– 1933) الذي زعزع كيانه وأدخله عالم الشعر، وربما أيضًا أسلافه الشعراء من سافو (حوالي 630- 570 ق.م.) إلى ديونيسيوس سولوموس (1798- 1857)، وأندرياس كالفوس (1792– 1869) وبالاماس (1859– 1943).
بعدها بعام، أي في عام 1928، ينهي دراسة الثانوية ويلتحق بكلية الحقوق في جامعة أثينا، ربما تأثرًا بالشاعر سيفيرس الذي درس الحقوق أيضًا في باريس، وهي السنة التي انتحر فيها الشاعر كوستاس كاريوتاكيس (1896– 1928)، الذي كتب عن أزمات المجتمع اليوناني المتردي، في قصائد تحتفي بالطبيعة ومتأثرة بالسورياليَّة والتعبيريَّة، والذي أثَّر في إليتيس، كما على أبناء جيله، بشكل عميق.
مع ذلك كان أكبر اكتشاف شعري لإليتيس الشاب بعدها بعام في مكتبة بأثينا، هـو ديوان شعر للشاعر السوريالي الفرنسي بول إلوار، حيث أدرك أن شعر الشاعرين السابقين لا يُعبِّر بشكل حقيقي عن تجربة الحياة مثلما يعيشها كشاب صغير. وكان لإلوار التأثير الحاسم في توجهه الشعري حيث أحب سورياليته الطيعة والمرنة. قرَّر أوديسياس أن يصبح شاعرًا، متخذًا لنفسه اسمًا مستعارًا يمزج بين كلمات «الحرية» و«الأمل» و«اليونان» هو «إليتيس»، الذي نشر تحته حتى وفاته أعماله الشعرية بجانب كتب نثرية ومقالات وترجمات ولوحات كولاج وتمبرا.
في عام 1935، بعد سبع سنوات من دخوله كلية الحقوق، حضر إليتيس محاضرة عن السوريالية ألقاها أندرياس إمبيريكوس، المحلل النفسي والشاعر السوريالي الذي عقد صداقة ممتدة معه بعد ذلك، بالإضافة إلى الشاعرين جورج سيفيريس ونيكوس جاتسوس، ليقرر حينها ترك الدراسة دون أن يحصل على شهادته الجامعيَّة. كان هؤلاء الثلاثة مع نيكوس إنجونوبولوس، ويانيس ريتسوس، ونيكيفوروس فريتاكوس يمثلون طليعة شعراء «جيل الثلاثينيات».
ظهر «جيل الثلاثينيات» في المشهد الثقافي في اليونان، كمجموعة من المثقفين والفنانين والشعراء والكتَّاب الذين ألفوا السفر والعيش في أوروبا، ينتمون إلى الطبقة البرجوازيَّة، ويرغبون في تجريب الحركات الفنية الحداثيَّة الغربيَّة التي تهيمن على مشهد الفنون والآداب الأوروبي. وبذلك قد أدخلوا في الأدب اليوناني شكل الرواية الجديد بتقنياته الحداثيَّة، والشِعر الحر المتخلِّص من الأوزان والأشكال التقليديَّة، والسورياليَّة في الرسم.
أطلق الكاتب يورجوس ثيوتوكاس على «جيل الثلاثينيات» هذا الاسم في مقالين يعتبران الآن مانفيستو هذا الجيل الأدبي هما «الروح الحرة» و«المركز المفقود»، حيث أشار بالارتباط الفني والثقافي بأوروبا وثقافتها وتحديث الأدب اليوناني وموضوعاته التي يتناولها، مع العودة إلى الروح اليونانيَّة وتاريخها وتراثها. وهو ما ينعكس في شعرهم الحداثي الأوروبي الشكل والتقنيَّة، لكنه وطني محلي من حيث بحثه عن روح هويَّة جمعيَّة جديدة لليونان واليونانيين، بعد التردي والتدهور الناتجين عن الحرب اليونانيَّة- التركيَّة عام 1922. وذلك عبر استلهام التراث الهيليني والكلاسيكي برموزه وأساطيره.
ظهرت في نفس السنة مجلة «الآداب الجديدة» التي اعتُبرتْ الصوت المعبِّر لشعراء الثلاثينيَّات، والتي نشر فيها إليتيس قصائده الأولى ذات الطابع السوريالي الواضح. كان تبني إليتيس للسورياليَّة تحديدًا عودة لمنابع السحر والخيال والحلم في مقابل العقلانيَّة الأوربيَّة التي رآها بداية من عصر النهضة تخنق الجانب الروحي للعالم الغربي. الأمر الذي وجده متوافقًا مع المنطق اليوناني (الذي يحتوي على مكوِّن شرقي) في الإصرار على الاعتماد على الشعور والحدس واللاوعي الذي يملك منطقه الخاص به. ورغم رفضه جوانب التضاد المجاني، والكتابة الآليَّة وعدم وضوح السياق العام للنصوص، إلا أنه تبنَّى التداعي الحر للأفكار والصور الغريبة والجريئة التي تكشف عن الحقيقة «فوق الواقعية» (المعنى الحرفي لكلمة ‹سورياليَّة›) للأشياء، والتي استوحاها من البيئة المحيطة المحليَّة في جزر بحر «إيجة» بشكل غنائي عَذب، ليمجِّد بها الشباب والصحة والصيف والشمس والبحر، صانعًا عالمًا أسطوريًا خاصًا به، يتخطى الاستلهام المباشر للأساطير الجمعيَّة.
مرحلة البدايات: «بساتين زيتون وكروم عنب حتى البحر»
يحيل عنوان الديوان الأول لإليتيس «توجهات» (1939) إلى ديوان «إشراقات» للشاعر الفرنسي آرتور رامبو، الذي يفتتح الديوان بسطر من قصيدة فيه تدعى «رحيل»: «فلترحل في العاطفة والضجة الجديدتين». هذه القصيدة، التي كتبها رامبو قبل أن يبلغ العشرين، تبدي اكتفاءها من مشاهد وصخب المدن المكرورة والمعرفة التقليديَّة المعتادة، والدعوة للرحيل في عواطف جديدة وضجة جديدة. كيف يمكن حدوث هذا؟ استخدم رامبو عناصر سورياليَّة وتفجُّر اللغة الرمزي ليصنع هذه السياحة قبل أن يقيمها فعلًا في حياته الواقعية حتى مماته في السابعة والثلاثين.
أما إليتيس، الشاعر اليوناني الشاب، فكان له توجه آخر، أو توجهات أخرى، وإن كانت تسترشد بإشراقات رامبو، في استخدام السورياليَّة لسبر الأبعاد اللاواعية والاستعمال اللغوي المبتكر بتكديس الصور الطازجة المدهشة لاستجلاب هذا الحس الروحاني المتفجر من المادة. يمكن استنباط هذا المسلك من أول سطرين في أول قصيدة بالديوان.
السطر الأول في قصيدة «عن الإيجي» (نسبة إلى بحر إيجة) عبارة عن كلمة واحدة هي «إيروس». «إيروس» هو إله الحب والجنس عند الإغريق، الذي وصفه الشاعر الإغريقي، هزيود، بأنه القوة التي تقهر البشر والآلهة على السواء، سبب كل جمال وعذاب، وهو ابن السماء الذي يتوق إلى الصعود والتسامي بالنسبة لسافو الشاعرة اليونانية القديمة التي يحبها إليتيس.
تمتد مركزية إيروس في كل أعمال إليتيس وفي كل ما يكتبه. يمكن قراءة هذه المركزية عبر عدسة تأثره العميق والمبكر بالسوريالية، فهو في الأغلب قد تعرَّض لأعمال سيجموند فرويد، الذي مدحه رموز ومؤسسو هذه المدرسة الفنية، وكتبوا عنه كثيرًا، بصفته منظِّر الجانب العلمي لأفكارهم ومبادئهم. ففرويد يرى «الليبيدو» أو الطاقة الإيروسية هو المحرك الأساسي للحياة وهو مُنشئ الجمال. كما أرسى أهمية ومركزية اللاشعور في فهم النفس البشرية وكونه مصدر طاقات استثنائيَّة داخل الإنسان، وفتح إمكانيَّة استكشافه عبر الحلم والتداعي الحر للكلام والأفكار. جلب فرويد بدوره هذه الرؤية وصاغها من الحضارة اليونانية القديمة، مثلما تسم نظرياته الأساسية وأهمها بالطبع «عقدة أوديب» الذي جلبه من المسرح اليوناني القديم لسوفوكليس رأسًا.
يجب الإشارة إلى أن إليتيس يُماهي من البداية فكرة القداسة مع عالم الحواس. ولاحقًا سيدمج عناصر القداسة المسيحيَّة في ميتافيزيقيا تتضمن أيضًا الوثني على غرار ييتس وريلكه. فإليتيس يؤلِّه المتعة الحسيَّة، وتحوز الشهوة نفسها التي هي نشوة الحواس، براءة أوليَّة عنده. فلسفيًا، يمكن القول إن الوصول للمثال الأفلاطوني عند إليتيس، يمكن فقط عن طريق الحواس ومتعتها، التي عبر «ميتافزيقيا الضوء» كما يسميها، يصل الإنسان إلى جنَّة أخلاقيَّة متحررة من الخطيئة وزيف أوهام اللاهوتيين. فالنقاء لا صلة له بالامتناع والزهد، بل على العكس، هو المشاركة الكاملة المفتوحة وتحقيق الرغبة. ومن هنا يعتبر إليتيس شاعرًا وثنيًا، حيث لا تتطهر الرغبة في قصائده بل هي نفسها عامل تطهير.
ثاني سطر في القصيدة الأولى هو كلمة «الأرخبيل» وهو كناية ورمز لعالم الطبيعة اليوناني الذي يمدُّه بالصور والطاقة الروحيَّة والأخلاقيَّة عبر شعره كله. فعلى خلاف غالبية الشعر الأوروبي الحداثي، فقصائد إليتيس السورياليَّة مُبهجة ومُشعة، وتحتفي بالجمال اليوناني الطبيعي كعالم مثالي من المتعة الحسية والنقاء الأخلاقي: الشمس، البحار الزرقاء، السماوات اللازوردية والسحب، الضوء المتفجر والجزر الإيجية بشواطئها من رمل وحصى وقواقع، ببيوتها البيضاء وصخورها العارية، بأشجار زيتونها وصيفها المثالي، بالنباتات المتنوعة والزهور، الجنادب، الطيور، إلخ… فيمكن النظر إليها كفسيفسائيات ملونة بألوان ناصعة حارَّة تمجِّد الشباب والصحة وخلو البال، والإقدام، والفرح، والجمال، والطلاوة، والبراءة، والطفولة، واليقظة الجنسيَّة الأولى، والأحاسيس الجسديَّة المبهجة.
لا ترمز الطبيعة عند إليتيس إلى القوى الأخلاقيَّة والروحيَّة فحسب، بل هي أيضًا مصدرها، فيما يذكرنا بموقع الطبيعة في فلسفة ألبير كامو، الذي قابله بعد ذلك أثناء إقامته في باريس وعُقدت صداقة عميقة بينهما. لذلك اعترض إليتيس في إحدى المرَّات على تسميته «شاعر الشطآن والبحر»، قائلًا إن من يدعونه بذلك لا يفهمون أن الطبيعة لديها معنى ميتافيزيقي أبعد من وجودها الفيزيقي فحسب.
هذان البُعدان أساسيان في فهم شعر إليتيس الذي يرفعهما لشيء غامض وشفيف “حيث الحياة تُبحر تجاه/ حياة/ بُعد البصر” (عن الإيجي)، فهو لديه قدرة مدهشة على خلق أمزجة معينة ورسم مشاهد متكاملة بأقل عدد من الكلمات بشكل إيحائي، كما في كل شِعر سوريالي جيد: «بساتين زيتون وكروم عنب حتى البحر / وأبعد مراكب صيد حمراء حتى الذاكرة» (عصر الذاكرة الزرقاء).
ويحدث أن يتحوَّل العالم في قصائد إليتيس إلى واقع رمزي، في طريقة تحاكي صنع الأساطير، مستخدمًا الاستعارة لاستبقاء جواهر الأشياء، ونقلها إلى حالة من النقاء حتى تظهر أهميتها الميتافيزيقيَّة مثل رؤيا: «والوقت نحَّات شغوف للرجال/ والشمس تقف فوقه وحش أمل» (مرساة الصخور)، «نهار أشقر، مكافأة الشمس وإيروس” (ساعات المجهول المائية).
يظهر في هذا الديوان الأول بوضوح أنه -على خلاف معاصريه وسابقيه الذين كتبوا بحساسيَّة كئيبة ونفسيَّة مائعة ومحطَّمة، وعلى خلاف أغلب الشعر الحداثي الأوربي المكتوب وقتها عن الوضع البشري للإنسان المعاصر الذي يعاني الاغتراب والشعور بالذنب والتحلل الروحي- يكتب إليتيس الشعر عن النشوة المقدسة للرغبة المجهولة:
“أخبرني، هي التي تلعب، هي التي تغضب، هي التي تغوي
نازعة من التهديد ظلماته السوداء الشريرة
ساكبة العصافير المُسكِرة على صدر الشمس» (شجرة الرمان المجنونة)،
والأمل الذي يسطع دومًا من جديد ومن البداية:
«لا، كلمتنا الأخيرة ليست اليوم، العالم لا ينتهي
اليوم أملنا لا يذوب، بل يملأ أعشاش الصوت بالحبوب الخضراء» (ساعات المجهول المائية)،
«الآمال قادمة» (سماوات صافية)،
وعن كل ما هو جميل ونشوي في الحياة يستدعي الفرح والسعادة:
«الآن كل ما ينقصنا هو سفينة (..)
وهكذا سنخرج من عقولنا (…)
ومن كل لا مبالاة تُجَر أمنية مُمزَقة
وألتقطها أنا- اليوم أنا شاب، وهذا يكفيني
هذا يجعل دمي أكثر حُمرةً، سنونوات حمراء، كتابة حمراء» (ساعات المجهول المائية)
لكن ليس صحيحًا ما يعتاد ذكره عن أشعاره، المبكرة خصوصًا، بأنها قصائد سعادة وطلاوة فحسب، فهو يتبع هزيود وسافو في كون إيروس يجلب العذاب والضنى أيضًا. وهناك من أشعاره الأولى حزن وأسى، لكنهما غامضان وخارج بؤرة النظر، كشيء آسيان وحزين حدث في وقت فائت أو خارج الكادر. بل وهناك بذرة كل التوجهات الفنيَّة والعناصر التي ستتسع وتتطور وتكتمل في مشاريعه المستقبليَّة، مثل القصائد الطويلة ذات المقاطع المتعددة وكتابة الأغاني وتمجيد البراءة.
يبدأ الديوان الثاني «الشمس الأولى» (1943) الذي صدر بعد «توجهات» بأربعة أعوام، بسطر غريب على أجواء إليتيس الصحوة: «ما عدتُ أعرف الليل، مجهوليَّة الموت المخيفة».
هناك أمر مخيف ومظلم قد خيَّم. هذا الأمر هو احتلال ألمانيا النازيَّة- إيطاليا الفاشيَّة لليونان (1941 – 1944) في خضم الحرب العالميَّة الثانيَّة. مع ذلك نرى لوحات طبيعيَّة أكثر بريقًا في القصائد: “سمائي ثابتة وعميقة/ ما أحبه يولد بلا انقطاع/ ما أحبه هو في بدايته دائمًا» ، وإن كان بدأ يظهر حس وطني على استحياء:
«اليونان التي تخطو بثقة على البحر
اليونان التي تأخذني في رحلة دائمًا
إلى الجبال العارية المتلألئة بالثلوج»
«بأي حجارة أي دم أي حديد
بأي نار صُنعنا
على الرغم من أننا نبدو مصنوعين من سحاب عادي»
«أيها الرفاق الذين يفهمونني،- الوطنيون الصغار للشمس».
الخط الجمالي- الفلسفي لـ«الشمسُ الأولى» هو امتداد لـ«توجهات»، لكن فارق التوقيت مهم ودال، فامتلاء قصائده بصور الأجساد العاريَّة الجميلة والمناظر الطبيعيَّة اليونانيَّة المشمسة كان غريبًا ويثير التساؤل. يمكن النظر إلى هذا الأمر كرفض لهيمنة وضغط القهر الموجود في الأمر الواقع، أو في تسمية أقل بريقًا «هروب من الواقع». لكن يمكن النظر إليه أيضًا بشكل مختلف، إذا أخذناه من زاوية ديوانه السابق، بأن هناك إيمانًا وتمجيدًا لمادة الحياة وقيمتها، وسعيًا فنيًا لخلق جمال سعيد من القبح المُحزن داخلها، الأمر الذي سيتكشَّف بوضوح أكثر في الديوان التالي، والمصاحب له زمنيًا: «أغنية بطولة ورثاء» في تضاد الحياة مع الموت، والانتصار عليه.
يعتبر استمرار هذا الخط الجمالي- الفلسفي إصرارًا على تحدي أحزان العصر والحداثة التي أنتجت كتابات كئيبة ومحطَّمة، فحتى حدثٌ في حجم الحرب العالمية الثانية والاحتلال النازي- الفاشي لبلده وتدنيس فردوسه الطبيعي، لم يثنه عن تحديقته التي تُخرِج الأمل والنور من القتامة واليأس: «نظرة واسعة حيث العالم مرة أخرى يصبح/ جميلًا من البداية وفق معايير القلب». هذه المسألة الشعريَّة، الجماليَّة، الأخلاقيَّة، الفلسفيَّة تعتبر جوهر شعر إليتيس كله. ففي رؤيته لثنائية الخير والشر، يكدح الإنسان من أجل صنع الضوء من الظلمة، ليقتلع الشر من الذاكرة، ويحوِّل الكآبة والأسى إلى فرح ومجد. وهذا يجعل العواطف السوداء، التي تطلقها محنة مثل الاحتلال الغاشم والظالم، تثير عواطف وإرادة تغييرها لما هو مقابلها ووجها الآخر.
مرحلة الذروة: «العالم الصغير العظيم»
جاءت قصيدة «أغنية بطولة ورثاء للملازم ثان الفقيد في الحملة الألبانية (1945)» نتاج التجربة الصعبة والعميقة التي عاشها إليتيس أثناء الحرب العالميَّة الثانيَّة على أرض المعركة بالحدود الألبانيَّة ضد غزو الجيش الإيطالي الفاشي، حيث انضم إلى صفوف فيلق الجيش الأوَّل على رتبه ملازم ثان، كونه ضابطًا احتياطيًا بالجيش.
يقول إليتيس إن نوعًا من «التواضع الميتافيزيقي» تملَّكه، حين لمس الفضائل التي تعيش حيَّة ومجسَّدة في رفاقه، والتي شكلَّت أمامه شخصيَّة شاب صغير شجاع ذي مكانة بطوليَّة وأبعاد تاريخيَّة مُستمَدة من أحقاب سابقة باليونان، واقعيَّة وأسطوريَّة؛ بطل شاب يدفعه للكفاح حبه لا للموت بل للحياة، وعبر سعيه للحرية استطاع إعادة خلق هذه الحياة مرَّة أخرى من مادة الموت. نستطيع القول إن المراهق في الديوانين السابقين قد كبر وأصبح الآن رجلًا صغيرًا يواجه ظلمات الموت والظلم بشجاعة، وعناصر الطبيعة التي أعطته سرها في السابق أصبحت أسلحته وأدواته في تلك المواجهة.
ازداد وضوح اللغة الشعريَّة في هذا العمل رغم احتفاظها بالصور غير المتوقعة والمدهشة التي ظهرت في قصائد البدايات. وظهرت نبرة أكثر قتامة ومأساوية، وإن تكن فخورة مع ذلك. ولأول مرة يحدث التماهي بين إليتيس كشخص وبين ذاته الشاعرة وبين شخصيَّة الملازم الفقيد التي تمثل تضحيات الشباب اليوناني، كما تماهيه مع الصوت الراثي والسارد لمعاناة وكفاح الأمة اليونانيَّة.
هنا التمجيد ليس للحياة فقط وجمالها، بل أيضًا الإنسان وقدراته الروحية، واستمداده لقوته من الطبيعة فيما يشبه موقعها في فلسفة كامو العبثيَّة. فالحياة الإنسانية هي جزء من الخليقة ويؤتى معناها منها وبالشراكة معها. وبذلك يحدث ربط الفعل المعاصر بالتاريخ الوطني بصراعات اليونان ضد أعدائها، والتاريخ الكوني الذي يمثِّل صراع الخير ضد الشر.
في قصيدة «أغنية رثاء وبطولة» تحدث بضعة أشياء للمرة الأولى في شعر إليتيس: أولًا، استخدام قالب القصيدة الممتدة– الديوان؛ على الرغم من أن هذه القصيدة ليس لها عمران هندسي، لكنها أقرب إلى التوزيع السيمفوني للتيمات والتيمات المضادة (التناغم والسلام– الحرب والموت– الأمل– الرثاء– إلخ…) تبدأ بوصف للجمال الفردوسي للطبيعة اليونانيَّة المهدد بالفقد، والنبرة القاتمة بوضوح حتى انتصار النور والخير في النهاية. ثانيًا، توظيف الصور والاستعارات والرموز التي ابتكرها في أعماله الأولى المستمدة من الطبيعة اليونانيَّة، بالذات في الجزر والشواطئ. ثالثًا، عملية المماهاة بينه كفرد وكشاعر، وبين اليونانيين كأفراد وكشعب، واليونان نفسها كبلد وكتاريخ، وذلك باستخدام صوت سارد لهذه الدراما الملحميَّة. رابعًا، استلهام -بشكل واضح- التاريخ اليوناني الواقعي والأسطوري والتقليد الأرثوذوكسي اليوناني، فقيامة البطل في نهاية القصيدة تناظر قيامة الرب من بين الأموات في عيد الفصح. خامسًا، اقتراب بعض الفقرات والمقاطع من انتظام الشعر الموزون، في هذه الحالة، البيت ذي المقاطع الخمس- عشريَّة الشائع في الشعر العامي اليوناني، سادسًا، الحفاظ على الصور الجريئة والمفاجئة والغريبة، والتداعي الحر في المقارنات البعيدة التي مدته بها الغنائيَّة السورياليَّة في تكوينه الشعري، لكن في خدمة سياق أوضح وبِنَاء أكثر تحديدًا.
كل هذا سيتكرر بشكل أوسع وأكثر تركيبًا وعمقًا في الديوان التالي والأشهر لإليتيس، والذي يُنظر إليه بصفته عمله الكبير: «مستحق هو». بعد أعوام طويلة من المحاولات والبحث والتنظير، صاحبها دراسة أكاديمية للأدب في السوربون في فرنسا التي عاش بها من 1948 إلى 1952، بمعية شعراء وفنانين مثل أندريه بريتون، إيلوار، تزارا، رينيه شار، هنري ميشو، أونجاريتي؛ كامو وسارتر؛ بيكاسو، ماتيس، جياكومتي، دي شيركو، وآخرين.. حتى وصل إلى هذا التركيب السيمفوني متعدد النغمات، الذي بدأه فعليًا وقت سفره إلى باريس عام 1948 في سن الـ 37، ليظهر إلى النور بعدها بأحد عشر عامًا سنة 1959 أي في سن 48، حيث يوحِّد بين الذات الشاعرة وصوت الوطن على منوال الذات الكونيَّة عند والت ويتمان، في سيرة روحية تُمسرِح أفكاره الشعريَّة والوطنيَّة والفلسفيَّة، داخل بناء معماري من قصائد النثر والشعر الحر والأناشيد الموزونة، تتبادل وتتوالي في حركة تعطي غني إيقاعيًا ونغميًا، كما تمنح سيميتريَّة عامة للبناء، بمركز في المنتصف يشعُّ في كل الاتجاهات بشكل متماثل، جاعلًا للقصيدة بنيانًا كـ «شمس صغيرة» -بحسب تعبيره-.
تعمل تلك البنية المركبة في خلفية المحتوى، وتظهر فحسب في عملية التنقيب عنها، مما يحيل إلى عمل جويس الكبير «يوليسيس» المستوحى من التراث الإغريقي أيضًا في رحلة البطل اليوناني أوديسيوس. كما أنها مثل «يوليسيس» تحتوي على المستوى اللغوي والبلاغي، على إحالات وألفاظ وبلاغيَّات وقواعد نحويَّة وسياقيَّة وإيقاعيَّة من أحقاب متوالية، في هذه الحالة مراحل مختلفة من التقليد الديني والأدبي اليوناني، من هومير وهيزود وبِندار، وأفلاطون وفيثاغورس وهيراقليطس إلى الكتاب المقدس وكاتبي التمجيدات الدينيَّة البيزنطيَّة، والأغاني الشعبيَّة والحكايات الفلكلوريَّة في القرون الوسطى، وقصائد شعراء العامية في القرن التاسع عشر مثل أشعار ديونيسيوس سولوموس، والشعراء السورياليين في القرن العشرين، دون التوقف عند مستوى لغوي معين.
ما هو مميز في هذا العمل الفريد، أنه على الرغم من اتساع وتعقيد الصرح الشعريّ الذي بناه إليتيس في سبيل إعلاء كفاح الأفراد والشعوب للوصول إلى القيم الإنسانية الكبرى، إلا أنه لم يزل يحتفظ في مواضع كثيرة منه بطزاجة وطلاوة أشعاره الغنائيَّة المبكرة، الأمر الذي جعل له مذاقًا خاصًا ومختلفًا عن إنتاج أي شاعر معاصر آخر، مما جعله يحصل على الجائزة الوطنية الأولى في الشعر، وفي النهاية يحوز جائزة نوبل في الآداب «لشعره الذي -على خلفية التقاليد اليونانية- يصوِّر بقوة حسيِّة وبصيرة فكريَّة نضال الإنسان الحديث من أجل الحرية والإبداع» مادحة هذا العمل بصفته «واحدة من أكثر القصائد الأكثر تركيزًا وتعددًا في أدب القرن العشرين» أو كما أسماها الموسيقار اليوناني الشهير «ميكيس ثيودورياكيس»، الذي وضع لها ألحانًا فخيمة «إنجيل للشعب اليوناني».
«مستحق هو» تعبير مأخوذ من مديح المسيح في طقس صلوات «الجمعة العظيمة» البيزنطي، وأيضًا من ترتيلة تمجيد للعذراء في الليتورجية. ويبدأ الديوان بتصدير من المزمور 129 من سِفر المزامير: « كثيرًا ما ابتلوني منذ شبابي، لكن لم يقدروا علي». ربما يلخص هذا الأمر روح العمل نفسه، الروح الدينيَّة- القتاليَّة، التي تُفسِح المجال للابتلاء والمِحَن، لكن أيضًا للصمود والكرامة والانتصار. عملية الاستعارة من الرافد الديني ليست بنيويَّة وبلاغيَّة فحسب، بل أيضًا على مستوى المحتوى الأسلوبي، فإن ألحان المدائح أو الأناشيد البيزنطيَّة، تمتاز بوضع نَغَم مُحدَّد للكلمات مخصَّص لكل مناسبة، وهو ما يمكن رؤيته في قصائد الديوان، بنجاح متفاوت لكنه مدروس.
تنقسم القصيدة- الديوان إلى ثلاثة أجزاء. الجزء الأول يسمَّى «التكوين»، على غرار سِفر «التكوين» أول أسفار الكتاب المقدس، وهو مكوَّن من قصائد غير معنونة في قالب الشعر الحر بلازمة «هذا العالم/ هذا العالم الصغير العظيم» في نهاية كل قصيدة. يتناول هذا الجزء سيرته الشخصية التي تمثل في ذات الوقت سيرة كل شاعر وكل يوناني، في حوار مع صوت آخر يمثل روح الشعب اليوناني، الموجود منذ بدء التاريخ، ويعرف كل شيء ويفسر غوامض الكون والتاريخ لتلك الذات الشاعرة.
ثم يدخل الجزء الثاني بعنوان «الآلام»، كما في «آلام المسيح» و«أسبوع الآلام» الموجود في الليتورجية المسيحيَّة. يتتبع هذا الجزء الصعاب والمحن التي واجهت الشعب اليوناني في حربهم مع الفاشيين الإيطاليين ومع الاحتلال النازي لبلدهم ومع الحرب الأهلية بعد الحرب. يتكوَّن جزء «الآلام» من ثلاثة أنماط أو قوالب: المزامير (م) وهي قصائد من الشعر الحر، مجموعة في أزواج ومستوحاة من أناشيد النبي داود ونصوص الصلوات البيزنطيَّة. أناشيد (أ) بأوزان مركبة وتعتمد على الموازاة والتماثل في المقاطع. قراءات نثرية (ق) بلغة عاميَّة وأسلوب يدل على تمكن أدبي كبير في النثر أيضًا عند إليتيس، وتحتوي على وصف واقعي وفيزيقي للأحداث التي جرت له كملازم ثان في الحملة الألبانيَّة، الآن في صيغتها النهائيَّة، بنفحة ملحميَّة ومتساميَّة، وهي تأخذ مكان قراءات الإنجيل في الليتورجيَّة البيزنطيَّة.
يختم إليتيس العمل بالجزء الأخير بعنوان «المجد» الذي هو أغنية مديح أو ما يسمَّى في التقليد البيزنطي «دوكسولوجيَّة». يتكوَّن «المجد» من ثلاثة أقسام متماثلة البناء، والقسم الأوسط هو الأطول ليكون كمدخل رئيس على جانبيه مدخلان أصغر على غرار معمار الكنيسة البيزنطيَّة. هنا نرى بوضوح بداية هوس إليتيس بالأرقام الهندسيَّة لبنيانه الشعري، فالقسم الأول والثالث يتكونان من ست رباعيات، ثلاثيَّة، ست رباعيات، ثلاثيَّة، خمس رباعيات، سبعة كوبليهات، ويزيد عنهما الثاني بست رباعيات وثلاثية في المنتصف. يبدأ «المجد» بمديح النور أيضًا وتمجيده، ثم ينطلق المديح النشوي ليحتفي بالإنسان الذي أنضجته التجارب وعززته خبراته، وأصبحت إرادته محصَّنة في الدفاع عن الحياة ووفرتها الحسيَّة. ومديح الطبيعة اليونانيَّة، والخلق الشعري والجسد الأنثوي. ومديح انتصار القوى المبدعة على الشر والاهتمامات العابرة. يعتبر الجزء الثالث احتفاء بالحيوية الحسيَّة والروحيَّة التي تجدها الذات المستنيرة في العالم المفتوح لها حتى بعد معرفة الشر الإنساني والتضحية البشرية من أجل العدالة والحرية. احتفاء بكل شيء؛ خير أو شر، واضح أو مبهم، شديد أو رقيق، متحرك أو ساكن. الحياة والموت معًا في تكامل وتناغم مع جمال الطبيعة الذي يشكِّل نظامًا جديدًا من العدالة.
مرحلة النضج: «بقليل من الكبرياء»
كانت الأعوام الثلاثة التي قضاها إليتيس، بين 1969 و1972، في منفى اختياري بباريس وأوروبا، بسبب الانقلاب العسكري الدكتاتوري والقمع السياسي في اليونان، غزيرة الإنتاج وأفصحت عن نضج فكري وشعري لأفكاره السابقة مثل «نظرية التناظرات» و«ميتافيزيقا الضوء» والمعمارية الشعريَّة، فقد كتب أربع قصائد طويلة ذات مستوى فني رفيع نُشروا في كتيبات منفصلة هي: «فيلا ناتاشا» و«موت وقيامة كونستانتين باليولوجوس» في سنة 1969 (ضمتا بعد ذلك في ديوان «أبناء الزوجة»)، و«المونوجرام» و«الشمسُ المتسيِّدة» سنة 1970، ومجموعة شعريَّة هي «شجرة النور والجمال الرابع عشر» كُتبت سنة 1971.
نشر إليتيس «شجرة النور والجمال الرابع عشر» (1971) وقد أتم الستين من العمر. يأتي العنوان من مصدر صوفي شرقي، ففي الوقت الذي كان يكتب فيه الديوان في فرنسا، كان يقرأ كتابًا عن التصوُّف الإسلامي الفارسي من تأليف هنري كوربين. القصائد التي يجتمع فيها الإلهي مع المادي في جلاء الجمال والنقاء، أصبحت شخصية أكثر، وبها لمسة من الحزن الشفيف والأسى العميق، فنراه يقول لأول مرة ربما: «بأيَّة حال ضائعٌ للأبد هنا على الحافة حيث مصائب هذا العالم قذفتني، أردتُ أن أحاول قفزة أسرع من التدهور» و«شمس يا شمسي يا خاصتي خذي كل ما أملك خذيه كله واتركي لي كبريائي/ إنني لا أظهر دمعة واحدة، إنني ألمسك فقط على الرغم من أنني أحترق، بكيتُ ومددتُ يدي» (حديقة اليد المحروقة). هذا تأسِّي رجل رأى الكثير لكنه لا يزال يؤمن ولا يزال يرفع رأسه. لكنه يدرك أن هناك أشياء ضاعت إلى الأبد في الزمن: «أتمنى أنه لو كان للحنين جسد لأدفعه من النافذة! لأحطم ما لا يمكن أن يكون!» (ما لا يمكن أن يكون).
يتخذ إليتيس في الديوان، بشكل ظاهر، من التقشفيَّة الصوفيَّة والحكمة العقليَّة والمتع الحسيَّة الجنسيَّة، كما من مخزون الذكريات الجالبة للأحاسيس البريئة والطازجة والفردوسيَّة، مصادر روحيَّة للإنسان يستطيع أن ينجو بها من كوارث ومصائب العالم وخسارات الزمن.
أما «المونوجرام» (1972) (المونوجرام تعني رمزًا كتابيًا مكوَّنًا من أكثر من حرف)، فهي قصيدة حب صدرت في كتيب منفصل عام 1972. في هذه القصيدة الطويلة تظهر ملامح شعر إليتيس في مرحلة النضج الفني، بعد سنوات من التجريب والبحث، فهي قصيدة حب، تكاد تكون أغنية، بتدفق كبير للغنائيَّة العاطفيَّة، إلا أنها مُهندَسة بمعمار محدَّد بالكامل على شاكلة سبع قصائد مثل مثلث به مرآة عاكسة في المنتصف، بأبيات عددها: 7/ 21/ 35/ 49/ 35/ 21/ 7، وهي كلها مضاعفات رقم سبعة، وكل قصيدة تحاكي أيضًا مثلثات صغيرة داخليَّة، فأول قصيدة بأبيات 3/ 1/ 3، الثانية: 3/ 4/ 7/ 4/ 3، الثالثة: 1/ 7/ 5/ 9/ 5/ 7/ 1، الرابعة وهي الأطول: 11/ 1/ 7/ 11/ 7/ 1/ 11، القصيدة الخامسة متناظرة مع الثالثة، السادسة مع الثانية، والسابعة والأخيرة مع الأولى.
المدهش في هذه القصيدة أن القارئ لا يعي تمامًا تلك الهندسة المعماريَّة الحسابيَّة المركبة، التي تشبه مقطوعات سباستيان باخ، فالكلام مُسترسل وفيَّاض. هذا الجمع بين العناصر الرومانسيَّة والسورياليَّة والقالب الكلاسيكيَّ، يشكِّل الطموح الجمالي الشعري عند إليتيس الذي يجد ربما ذروته في هذه القصيدة وما تلاها من أعمال بهندسة مخططة على مستوى الكتاب الشعري. وكلها تعتمد على الرقم 7 بداية من أول ديوان له «توجهات» المليء بسباعيات شعرية وكل قصيدة منها تتكون من سبعة أسطر، وديوان «الشمسُ الأولى» الذي يتكون من 21 قصيدة (7 * 3)، و»أغنية بطولة ورثاء» 14 قصيدة (7 * 2)، وديوان «أبناء الزوجة» التالي يتكون من سلسلتين، كل منهما تتكون من 7 قصائد، وديوان «ماريا نيفلي» ثلاثة أزواج من السبعات، وديوان «يوميات أبريل خفي» يتكون من 49 مُدخَلًا (7 * 7).
«أولاد الزوجة» هي قصائد جمعها إليتيس من سنة 1939 (سنة صدور «توجهات») إلى 1972، ولم تُتَضمن في أي ديوان منشور له، ووضعها في «سلسلتين» كلتاهما من سبع قصائد، أشهرها وأبرزها القصيدتان الطويلتان «موت وقيامة كونستانتين باليولوجوس (سنة 1968) و»فيلا ناتاشا» (سنة 1969) المنشورتان في كتيبات منفصلة قبل ذلك.
كتب إليتيس قصيدة «موت وقيامة كونستانتين باليولوجوس» في سنة 1969 في عمر يناهز الـ 58 عامًا. باليولوجوس هو آخر الأباطرة البيزنطيين الذي مات مدافعًا عن أسوار القسطنطينيَّة أمام الأتراك العثمانيين سنة 1453. يرمز باليولوجوس إلى سقوط بيزنطة وانبعاثها مرة أخرى. فنيًا هي إعادة كتابة لـ «أغنية بطولة ورثاء» لكن بشكل أكثر تكثيفًا وتركيزًا. فهنا يتماهى إليتيس كفرد وشاعر مع باليولوجوس ليرمز إلى ما هو يوناني أو الروح اليونانيَّة. هنا يوجد حس وجودي أكثر مع الكفاح المادي والروحي: «هكذا وقف ثابتًا أمام البوابة غير مأسور في أساه»، «وكان هناك ما يكفي من الخراب ……»، «ثقيلٌ العالم عليك لتعيشه إلا أنه بقليل من الكبرياء يستحق الأمر.»، «يا إلهي ماذا الآن هذا الذي عليه أن يصارع الآلاف الآن كما عليه أيضًا أن يصارع وحدته». أما قصيدة «فيلا ناتاشا» فقد كتبها إليتيس في مُقاطعة صديقه من ليسبوس، جامع الفنون والناشر، تيرياد، والتي أهداها إليه، أثناء فترة نفيه الاختياري إلى فرنسا بعد الانقلاب السياسي الذي حدث في اليونان، فهو يقول في مطلعها: «لدي شيء ما أقوله شفاف وغير مفهوم/ مثل أغنية طائر في زمن الحرب». وفيها يتأمل: «لا يحتاج العالم إلى الكثير. أقل/ شيء. مثل انعطاف المقود الحاد قبل الحادثة/ لكن/ في/ الاتجاه المعاكس/ بالضبط».
قضى إليتيس 15 سنة يكتب في ديوان «ماريا نيفلي» (1978)، الذي خرج نخبويًا وتجريبيًا في توجهه، نظرًا لتركيبه الشعري الصعب والمُهندَس بالكامل. ولذلك، فعلى الرغم من امتداحه من النقاد والمهتمين بالشعر، إلا أنه قد تم استقباله على مستوى أوسع بارتباك وتردد، لأن قصائده كانت ذات منحى مَدينيّ بامتياز، على خلاف أعماله السابقة التي يغلب عليها سمة الطبيعة الساحليَّة والبحريَّة. يغلب على قصائد «ماريا نيفلي» نبرة الكآبة والتأمل، وإن كانت لا تزال تحتفظ بالإيمان بقوة الخيال وحقيقة الشعر، والبعد الأسطوري والتراثي الذي يمتاز به شعره. ووزِّعتْ على صوتين، لا يلتقيان أبدًا بشكل مباشر، هما صوت الشابة العصريَّة «ماريا نيفلي» (‹نيفلي› تعني سحابة في اليونانية القديمة) التي تمثِّل الشباب والطبيعة الأنثويَّة في هذا العصر المأزوم، حيث يكمن فيها السحر والجمال وسط عالم يختنق بالحداثة والسرعة والتكنولوجيا والكلبيَّة والابتعاد عن الحقيقة، وصوت «المُردِّد» (المأخوذ من عالم الصلوات الدينيَّة) الذي يمثل الشاعر إليتيس نفسه، وهو صوت الشعر والحقيقة وعبادة الجمال، والاحساس بالتعب من العالم والاغتراب عنه، والعزلة الاختياريَّة عن كل ما هو غير مهم أو زائف إلى حيث «الشمس والنور».
مرحلة التقدم في العمر: «بدلًا عنَّا يكون الحب»
بعد حصوله على جائزة نوبل في الآداب سنة 1979، نشر إليتيس كتبًا نثرية وترجمات شعريَّة لشعراء كبار مثل برخت وإلوار وكريناجوراس، وسافو، وأونجاريتي. ليدشن في هذا الوقت مرحلة جديدة من كتابته الشعريَّة بديوان صغير مكوَّن من ثلاث قصائد بعنوان «ثلاث قصائد تحت علم ملاءمة» (علم الملاءمة هو علَمٌ ترفعه السفن التجارية يشير إلى البلد الذي سُجلت فيه ويكون مختلفًا عن بلد مالكها). لا يوضح تحديدًا معنى العنوان، لكن ربما يُقصَد منه أنه كتب تلك القصائد في بلاد مختلفة خارج اليونان، نظرًا لسفره الدائم بعد حصوله على الجائزة، ونشاطه الثقافي والإعلامي الكثيف، الذي اشتكى في حوار أجري معه أنه عطَّله كثيرًا عن مشاريعه الفنيَّة. هذا الديوان الصغير يحوي كما يدل العنوان على ثلاث قصائد، كل منها من سبع مقاطع مُرقَّمة.
في هذه المرحلة نرى أن العالم الذي تحول كله إلى اليونان في عمل «مستحق هو»، يحدث له العكس هنا، أي أن ترمز اليونان إلى العالم أجمع، واللغة اليونانيَّة، إلى اللغة السريَّة الروحيَّة والشعريًّة التي يلامس بها الحقيقة ولا يفهمها أحد غيره، باستثناء الشعراء الكبار والأشخاص البريئين. وبداية من هذا العمل نرى بوضوح أن القصائد انتقلت إلى مستوى آخر من الصعوبة والتركيب والتكثيف، بعد الوضوح النسبي في مرحلة الذروة والنضج. فقد أصبحت القصائد أكثر تجريدًا وترميزًا وتجريبًا، كما نرى أيضًا في الديوان اكتمال تقنية «السياق المزدوج» التي طوَّرها إليتيس، مبتعدًا عن علامات الترقيم المعتادة، جاعلًا الكلمة أو السطر الشعري يلحق بما قبله أو بما بعده، مما يعطي معنى مزدوجًا لنفس الكلمات، ويحدث أثرًا دائريًا ويبطء سرعة القراءة ويجعلها متأنيَّة ومتأمِّلة.
هناك حزن وأسى واضحان من تجربة الحياة وتدهورات التقدم في العمر حيث «الحرب والسلام أكلان فيَّ من الجانبين». هناك شك وعدم ثقة جرَّاء هذا في تصوره عن الحياة والعالم. مع ذلك، تُستخدم نفس الأسلحة ضد كل هذه المكابدة: الطبيعة والأنوثة والرغبة والحقيقة. رغم معاناته فهو لا يلعن الحياة بلحظاتها الرائعة النادرة، لأنها إذا كانت قصيرة وعاجزة، فلا يزال ممكنًا أن يحاول البشر فيها أن يكونوا «منتصبي القامة/ على تراس فوق البحر».
ماذا يتبقى من تَركة إليتيس الشعريَّة؟
ترك إليتيس ميراثًا كبيرًا من الأشعار والترجمات والكتب النثرية، أكبرها هو منجزه الشعري الذي يتكوَّن من سبعة عشر ديوانًا منشورًا، عبر 6 عقود، من سنة 1939 حين صدور ديوانه الأول «توجهات»، إلى سنة 1998 سنة صدور ديوانه الأخير «عن قرب» الذي صدر بعد وفاته. وهذا ما يطرح التساؤل، لماذا إليتيس ليس معروفًا بين الشعراء أو المهتمين بالشعر من العرب؟
يمكن الإجابة عن هذا السؤال بقلَّة الترجمات أو ضعف جودتها، لكن هناك شعراء عالميين آخرين قد تجاوزوا تلك الصعوبات والعقبات وانتشروا رغم ذلك بين القرَّاء العرب. كما أن إليتيس ليس مشهورًا عالميًا مثل أنداد له يونانيين مثل كفافيس وريتسوس، أو ما يوازوه من البلدان الأوروبيَّة أو من قارتي أمريكا الشماليَّة والجنوبيَّة. يمكن الإجابة أيضًا بأن عالم إليتيس بحري بامتياز، على عكس بيئة البلاد العربيَّة التي يغلب عليها الطابع الصحراويّ أو الريفيّ، لكن هناك أيضًا شعراء من بيئات مغايرة يؤثرون في الشعراء والقرَّاء العرب دون أن يكون ذلك عائقًا، كما أن الجمال الشعري لإليتيس يُغني عن الاستغراق الواقعي في هذه البيئة.
في الحقيقة، يمكننا عزو الإجابة إلى مسألة اختلاف حساسيَّات. فإليتيس شاعر ومفكر مثالي، كلاسيكي في رؤيته للخير والشر، وصراعهما المتمازج معًا، وحضور الحقيقة وارتباطها الأفلاطوني بالجمال. كان يمكن لإليتيس أن يكون أكثر شهرة في عالم حداثي استاقه هو من كبار أسمائه الشعريَّة، لكن في عالم ما بعد حداثي الحساسيَّة، لا يوجد قبول واسع لهذه النظرة الكليانيَّة الكونيَّة وتلك «السرديَّة الكبيرة» في الحياة. في الواقع، كان إليتيس أحيانًا ما يتأرجح على حافة السذاجة، وأحيانًا ما كان يتفاخر بكونه بريئًا وساذجًا على عكس الزمن الذي يعيشه. وهو نفسه في مراحله الشعريَّة الأخيرة، قد تحوَّل إفراطه الكبير في الأمل أن الخير سينتصر، تدريجيًا إلى «تواضع ميتافيزيقي» أن الخير دائمًا يحاول، وأصبحت الحقيقة لا تسطع مثلما في السابق مثل الشمس المتسيِّدة، بل غامضة وهاربة مثل ظل صغير في وسط النهار.
في نفس الوقت، هناك حساسيَّة أخرى عنده غير الحساسيَّة السائدة للضعف والهزيمة والانكسار والسوداويَّة التي ربما تلاقي صدى عند مرهفي المشاعر الذين يهتمون بقراءة الشعر في هذا الزمن الصعب والطاغي. وبالتالي يبدو شعره غير مألوف وغير جذَّاب بشكل ما، خاصة حين يتكلم عن الطاقة الغُفْل للحياة، وعن القوة الروحيَّة للشمس والطبيعة والجنس، وعن خلود وعظمة إنجازات البشريَّة الكبرى المتنوعة.
رغم كل هذا، لا يزال يمكن الحديث عمَّا يتبقى من تركته. فما يبقى الآن في قصائده هو المُدهش والمؤثِّر في الشِعر، والإيمان السحري به وبقوة الحب. يبقى الأمل العنيد المطلوب طوال الوقت. تبقى الروح الإنسانيَّة الكبيرة. لا أظن أن هناك مشاريع شعريَّة الآن يمكن أن تُكتب وتُهندَس بهذا الطموح والمعيار، كأنها أعمال حداثيَّة مصغَّرة لهوميروس أو دانتي، لكن بالتأكيد يوجد، وسيوجد دومًا، من يقرأ أشعاره ليُدهَش ويُفتَن ويُحِب.
الهوامش
المصادر
The Collected Poems of Odysseus Elytis, Revised and Expanded Edition, Translated by Jeffrey Carson and Nikos Sarris. Year 2004. The Johns Hopkins University Press
The Sovereign Sun: Selected Poems, Translated by Kimon Friar. Year 1974. Temple University Press, Philadelphia
https://www.nobelprize.org/prizes/literature/1979/elytis/facts/
https://www.britannica.com/biography/Odysseus-Elytis
https://www.poetryinternational.com/en/poets-poems/poets/poet/102-2462_Elytis