المؤثرات التي أثرت علي كروائي كثيرة، تمتد من الأساطير والحكايات الشعبية وتجارب الطفولة المفعمة بالمرح والأسى، الإقدام والفزع ومن التجارب المتصلة بالمجابهات الأولى مع الطبيعة: دعتها وسطوتها، كرمها وجحودها. كذا من المؤثرات المتعلقة بالنصوص السردية، المكتوبة بأيام النشأة المبكرة حين انبثقت عوالم بأكملها بمجرد انفتاح مغاليق القراءة وما وفرته من سعادة ?رهيبة? ستفضي إلى رهبة ?سعيدة? فيما بعد حينما تعصف بي صدماتي الوجودية الكبرى الناتجة عن التساؤلات التي تطرحها القراءة في بعدها الإنساني الشائك وحين يفتح كل نص أصيل، مهما كان نوعه، صندوق بندورا من الشكوك التي لا نهاية لها.
أنا ممتن بشكل أساسي لمعلميّ في المرحلة الأولية ممن سردوا علينا القصص شفاهة وممن قرأوا لنا النصوص الأولى فغدونا متعلقين بالقراءة على نحو لا فكاك منه. لكن الذي أعلمه أنني ابتداء من المرحلة الابتدائية وانتهاء بالثانوية كنت قد قرأت بشغف لا يدانيه شغف كلما وقعت عليه عيناي من كتب وصحف ومجلات، بشكل لا تنتظمه أي خطة.
لابد أن أذكر من ناحية أخرى، أن القراءة تتطابق في وعيي المبكر بالغناء والإنشاد الديني. لقد كنت أجلس على الأرض بجانب أبي وهو يقرأ مرتلا ?المولد?، أحد النصوص المؤسسة للطريقة الختمية الميرغنية، أو وهو يقرأ بصوت عالٍ مرتلا أيضا ?دلائل الخيرات? أو أيا من كتبه الصفراء الأخرى. أظن أن النصوص المكتوبة المغناة أعطتني انطباعا جيدا عن القراءة.
سمح لنا نظام التعليم العام المتحرر الذي كان سائدا في الستينيات والسبعينيات بقراءة نصوص تعتبر في الدوائر الرسمية الآن رجسا وضربا من الزندقة أو هي على الأقل تصنف باعتبارها مجانة وخلاعة صريحتين، فمثلا، قرأنا أعمال الطيب صالح في المدرسة الوسطى، وقرأنا روايات جرجي زيدان التاريخية، وقرأنا كل أشعار نزار قباني، وقرأنا ألف ليلة وليلة كاملة غير منقحة، وكتابات طه حسين، وبعض روايات نجيب محفوظ. كان بوسعك أن تقرأ ما تشاء ثم تكتب ملخصات لها أو تحاور فيها أساتذة اللغة العربية الذين كان جلهم من خريجي الأزهر الشريف! لم يكن الدين يمارس دورا باطشا ومركزيا، كما هو حاله اليوم، مما أتاح لنا فرصا ثمينة للتعبير الحر عن ذواتنا وتنمية ملكاتنا ومهاراتنا دون خوف من رقيب أو عتيد.
أظنني كنت ولا أزال أقدر طريقة نجيب محفوظ في بناء حواراته وأنا مفتتن للغاية بجرأته في تناول علاقات الحب في أعماله وهذا ما كرّسه الطيب صالح فيما بعد بشكل مختلف نهل من ثقافة الطيب المعمقة ومعرفته بالأدبين العربي الكلاسيكي والأوربي. لكن أحببت أيضا كتابات الروائيين المصريين ممن جاءوا بأعقاب محفوظ، مثل جمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم، برغم التقنيات المختلفة التي يتوسلانها في السرد، وكذا محمد البساطي. أظن أن الكتاب المصريين يمتازون بطرافة سردية لا تبارى وأنهم كانوا دائما مقدامين وروادا فيما يتعلق بتخطي الحدود التي تحاول المؤسسات التقليدية رسمها، وقد يكون هذا نتيجة وجود المؤسسات التقليدية الأقدم لديهم، إذ طالما سعى الإبداع لتمريغ زيف التقليد بالتراب! لقد حققت الرواية لدينا في السودان فتوحاتها الأكبر في أعقاب صعود تيارات الاسلام السياسي وهيمنتها على مفاصل السياسة والاقتصاد. ورغم أنني وجدت نفسي منذ طفولتي متعلقا بالأدب فإن السياسة في بعدها التقدمي، الاشتراكي الأفريقي والقومي العربي والماركسي، قد اجتذبتني أولا وقبل كل شيء بنضالها المتصل من أجل تخطي الأعراف التقليدية للتفكير والتصرف وللزخم التحريري الذي تحتوي عليه؛ إنه ميلي العميق والفطري للتمرد على كل قيد. اكتشفت مبكرا أيضا جمال السرد عند إبراهيم اسحق وأظنه كان واحدا من مصادر إلهامي المبكر فيما يتعلق بوسائل تصميم وتشييد معمار السرد: لغة فاتنة ولكنها مباشرة وحكائية في المقام الأول. لكني أيضا أحب الأدب العربي الكلاسيكي. مثلا أكمل هذه الأيام قراءة مجلدات الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني علما بأنني اقرأ هذا العمل الأدبي الجليل كاملا للمرة الثانية واحتفظ وأقرأ بانتظام دواوين الشعراء العرب الأقدمين، من جاهليين وأمويين وعباسيين زيادة على نصوص عربية كلاسيكية أخرى عديدة.
لا أبالغ إن ادعيت أن شكسبير ربما يكون قد أثر بطريقة ما عليّ: غرامه العظيم بتقنيات الأدب في مستوياتها البلاغية الصغرى مثل المفارقة والمجاز والتورية والإشارة وتوظيفها لتجذير وترسيخ الحدث وليس بوصفها محسنات بلاغية مقيتة. ولقد اكتشفت في رحلات جلفر لجونثان اسويفت نموذجا موحيا لصغر شأن الكائن البشري وبشاعته وبؤسه، التيمة التي تتكرر بانتظام، على سبيل المثال، عند توماس هاردي وجيمس جويس وكافكا وصموئيل بيكيت، بل إنها تصبح موتيفا أساسيا في مجمل بنية الأدب الغربي. أحببت كتاب أمريكا العظام: هيرمان ميلفيل في موبي ديك وغيرها ووليم فولكنر وهمنجواي الذي اضطررت لقراءته من الألف إلى الياء لإنجاز أطروحتي للتخرج من سنة خامسة بشعبة الأدب الإنجليزي في آداب الخرطوم علما بأن الأطروحة نفسها لا تساوي أكثر من ورقتين اثنتين من مجموع أوراق التخرج التي تتجاوز العشر! لابد هنا من الإشارة إلى كتاب الرواية والقصة الروس العظام، تولستوي وديستوفسكي مثلا. نقرأ هذه الأيام سردا من أمريكا اللاتينية، لابد من ذكر جبرائيل قارسيا ماركيز بوجه خاص، ومن أفريقيا وجنوب أوروبا، اسبانيا والبرتغال والهند واليابان، ومن كل حدب وصوب، فأفضل السرديات ترد إلينا هذه الأيام من خارج انجلترا وأمريكا. تمتد المؤثرات فتشمل دراسات النقد الأدبي التي كتبت في حقب تاريخية مختلفة وسيطة ومحدثة وأجد متعة كبيرة في الدراسات اللغوية الحديثة خاصة تلك التي تتوفر على تشريح بنية النص، وقد ساعدني هذا في مكابداتي المستمرة لتطوير بنية الجملة العربية وطريقة استعمال علامات الترقيم من أجل إثراء وتحديد المعنى.
أحيانا يتم ?تجييل? الكتاب على نحو عشوائي بتصنيفهم على فترات عقدية، أي بحسب العقد التاريخي الذي نشطوا فيه ككتاب، أو يتم التجييل بحساب أعمارهم ومن ثم العقد الذي ينشطون فيه أول ما ينشطون ككتاب. في حالتيه يعتمد هذا النوع من التصنيف مقاييس تتعلق بالكاتب وليس بالكتابة مما يسلبه أي موضوعية نقدية. طبعا لا يحوز أي إبداع قيمته بكونه ينتمي إلى فترة تاريخية أحدث، وليس بوسع كاتب معاصر أن يدعي التفوق لمجرد معاصرته، فمعايير قيمة العمل الإبداعي تكمن في جودة العمل ذاته وليس بمبررات الحقبة التي ينتمي إليها. ربما يحقق رائد مجدد مجدا مؤثلا بذريعة الفتوح الأدبية الجديدة التي ينجزها، مثلما فعل ت.س. إليوت في عبوره بالقصيدة الرومانسية إلى واقعيتها المحدثة البديعة، أو كما فعل أدونيس في انتقاله بالقصيدة العربية إلى مشارف قصيدة النثر، لكن تبقى القيمة الفعلية لإنجازات كل منهما متعلقة فوق ذلك بجمال شعره على مستوى بنيته وموضوعاته وتقنياته.
وتتخذ موضوعة الجيل عندنا وربما في بلدان عربية أخرى أيضا سلاحا للتدافع القائم على عصبيات الصداقة، ونفي الجيل القديم من أجل تكريس الجيل الجديد جيلي أنا، إذا جاز لنا أن نستشهد بالشاعر السوداني المرموق محمد المكي ابراهيم، مختزلين ومخلين بسياق أكتوبرياته. لكن حتى عندما يقترح جيل جديد تقنيات للكتابة مختلفة، يظل المعيار الأهم هو التفرد بكتابة مختلفة في ظل الرطانة السائدة، مثلما يفعل خالد حسن عثمان أو نجلاء التوم وأحمد النشادر في الشعر أو أحمد الملك ومنصور الصويم في السرد، كأمثلة سودانية معاصرة.
في ظل القواعد الجامدة للكتابة العربية، لا يتأتى تكريس تجديد حثيث ويسير على مستوى مفردات القاموس الأدبي أو بنية الجملة ونحوها وتبقى واحدة من الاختراقات الأهم تلك التي تمت وتتم على مستوى تطوير واستخدام لغة وموضوعات مباشرة تقترب من تقنيات لغة الصحافة ، وهذه شبه جملة أعني بها مجموع الاسهامات الحداثية التي تسعى إلى تقعيد وجرجرة وموضعة النص بحيث يقترب من روح الناس رغم تعاليه الأدبي المقدس. لكن من واقع ما يكتب الأدباء اليوم، في الشعر وفي السرد، يبدو حلم تنزيل الكتاب إلى الجمهور أبعد اليوم منه من أي وقت مضى، مما يحمل على التساؤل حول صدقية المقولة التي بذلتها هنا، وعما إذا كان الأدب بشكل عام قد سعى لتكريس نفسه كصديق حميم للقارئ أو كخصم لدود له، أو حتى ما إذا كانت جماهيرية النص تعني تجسير الهوة قائمة بين تعالي لغة الكتابة الإبداعية وفصاحتها وتواضع اللغة العامية وشعبيتها؛ فلنتأمل فقط أشعار عاطف خيري بالعامية، مثلا، في مجموعته الشعرية الأولى سيناريو اليابسة.
لكن دراستي للأدب الإنجليزي بطريقة منهجية في كلية الآداب بجامعة الخرطوم شكلت علامة فارقة في مجمل علاقتي بالأدب بشكل عام. ولا أزال في ظني أن أي كتابة إبداعية، شعرا أو سردا أو نقدا حتى، لا يمكنها أن تكون ذات قيمة فنية مكتملة دون دراسة ربما منتظمة لأدب أوروبي ما وأنه لا مندوحة من المعرفة المتخصصة بتقنيات الإبداع الأدبي الغربي من أجل تكريس نصوص تنتمي على نحو أفضل وأوثق بمدونة الأدب العالمي المعاصر!
أعتقد أن الروائي متورط بشكل أساسي في صناعة اختلاق وتوضيب الحكايات. روى الطيب صالح، وهذه نادرة لا أمل تكرارها، أن صديقه محمد خير البدوي إذاعي هيئة الإذاعة البريطانية المعروف قال له مداعبا أنك، يا الطيب، مجرد حكواتي ساكت! بالتأكيد إن البدوي بثقافته الرفيعة إنما كان يقصد إلى ممازحة صديقه، بينما ردو الطيب صالح النادرة على سبيل التواضع الذي يخفي وراءه ما يخفي من الاعتزاز بدوره المفصلي في تأليف روايات عظيمة أخذت لها موقعا مهما في تاريخ الأدب السردي العالمي. ما أود قوله أن تأليف رواية، خاصة في بلد كالسودان، هو بحد ذاته دور حيوي كبير، لكني، من جهة أخرى، لا آنف من المشاركة في الهموم الوطنية والإنسانية عموما متى ما توفرت لي عوامل الكفاءة اللازمة للتصدي لهذه الهموم. إنني أنظر لكتابة الرواية باعتبارها هاجسي الأول، وغاية ما أتمناه في هذه المرحلة من عمري هو أن تتوفر لي شروط أفضل من أجل أداء هذا الدور على نحو أفضل.
الحسن بكري*