حسونة المصباحي
كاتب تونسي
هناك اتفاق مُعلن وغير مُعلن من جانب المهتمين بالماركسية في جانبها الفلسفي، وأيضا في جوانبها الأخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، على أن الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891-1937) يظلّ إلى حدّ هذه الساعة المنظّر الأكثر تمثيلا لها، والأشدّ إدراكا لخفاياها مُتفوقا في ذلك على جلّ مُنظّريها الآخرين سواء من الأموات، أو من الأحياء. لهذا السبب هو ما يزال حاضرا بقوة في الواقع العالمي اليوم، وإليه، وإلى مؤلفاته يعود رجال السياسة والاقتصاد والفكر والثقافة باحثين فيها عن ما يعمّق تحاليلهم لهذا الواقع، ويمدّهم بمفاتيح لفحص خصائصه ومميزاته ومخاطره على جميع الأصعدة.
ومن أهمّ ما يتميّز به أنطونيو غرامشي هو أنه ابتكر مفاهيم لم تذبل ولم تمت بعد. فمن خلال مفهوم «المثقف العضوي»، حدّد مَهامّ المثقف، وعلاقته بمجتمعه، وبالطبقة التي ينتمي إليها، نافيا عنه استقلاليته عن المجموعة الاجتماعية. وهو يرى أن كلّ ثقافة ترتبط ارتباطا عضويّا بالسلطة المُهيّمنة. وبقطع النظر عن المثقف التقليدي المتمثل في العلماء، وفي الفلاسفة، والكتاب، يمكن القول إن كلّ المجموعات الاجتماعية تُنتج المثقفين الخاصين والمرتبطين بها. والمثال الأول عن المثقف الذي يُقدمه غرامشي هو رجل الأعمال الرأسمالي الذي يولد في نفس الوقت الذي فيه يولد تقنيّ الصناعة، والعالم الاقتصادي، والمُنظر للثقافة الجديدة، ولقوانين جديدة. وإذن كل مجموعة اجتماعية تولّدُ مثقفين مرتبطين بها. وهؤلاء يكونون بدورهم مُرتبطين بعمليّة الإنتاج. وبالنسبة لغرامشي لا يمكن للثقافة أن تكون مُنفصلة عن السياسة بأيّ حال من الأحوال إذ إن كل نظريّة « ثورية أساسا من حيث أنها عنصر من عناصر الفصل والتمييز الواعيين بين مُعسكرين، ومن حيث إنها تمثل قمّة يعسر الوصول إليها من قبل المعسكر المعارض».
ويرى غرامشي أنه يتحتم على «المثقف العضوي» أن يتخلص من كل ما يمتّ بصلة لصورة المثقف التقليدي القديم. بل عليه أن يكون نقيضا له في الأفكار وفي السلوك. وعن ذلك كتب يقول: «إذا ما كانت هناك روابط وصلات مُباشرة بين المثقفين الذين يعتقدون أنهم «جدد»، وبين «الإنتلجنسيا» القديمة، فإنه لا يجوز لهم أن يصفوا أنفسهم بـ«الجدد» إذ إنهم ليسوا مرتبطين بالمجموعة الاجتماعية التي هي جديدة حقا، والتي هي التعبير العضوي عن الوضع التاريخي الجديد، وهم ليسوا سوى الفُضَالة الرجعيّة والمتكلّسة لمجموعة اجتماعية تجاوزها التاريخ، (وهذا يعني أن الوضع التاريخي الجديد لم يبلغ بعد مستوى من التطور الكافي الذي يسمح له بأن يضع على أرض الواقع بُنية فوقية أخرى، بل هو حبيس الإطار المنخور والمسوّس لتاريخ مضى وانتهى».
وعن «وظيفة الحزب»، يرى غرامشي أنه لا يمكن لأيّ حركة من الحركات الشعبية أن تحقق الانتصار حتى ولو كانت الظروف ملائمة لذلك، من دون حزب ثوري، ومن دون قيادة واعية بحقائق الواقع والتاريخ. ومن دون «قوة ذاتية» ناضجة، تكون «الظروف الموضوعية» غير كافية. ولا يكون الحزب حزبا ثوريا بالمعنى الحقيقي للكلمة إلاّ إذا ما كان قادرا على بلورة تصور ثوري للعالم من داخله اعتمادا على «المثقفين العضويين»، وعلى إعداد برنامج يسمح له بأن يكون مُرتبطا بالجماهير العريضة ارتباطا وثيقا.
ويعني غرامشي بمفهوم «الكتلة التاريخية» أنه يتحتّمُ علينا عدم الفصل بين البنية التحتية المتمثلة في الاقتصاد، وفي العلاقات الاجتماعية، وبين البنية الفوقية المتمثلة في القانون، وفي الثقافة، وفي الفنون، وفي الفلسفة. وفي ذلك كتب يقول: «القوى المادية هي المحتوى، وأما الأيديولوجيات فهي الشكل. والتفريقُ بين الشكل والمضمون هو في واقع الأمر إرشادي وتعليمي فقط، إذ إن القوى الاجتماعية من دون أشكال مُحددة تكون غير مقبولة تاريخيا. أما الأيديولوجيات من دون القوى المادية فإنها تكون مُجرد أهواء فردية».
ويعتقد غرامشي أن كلّ حركة اجتماعية هي في الحقيقة مزيج مُلْتَبس من العفوية ومن القيادة الواعية التي تتحكم فيها عادة أحزاب أو منظمات أو نقابات تعتمد على برامج واضحة. مع ذلك فإن القيادة الواعية لا تستطيع أن تكون فاعلة في الواقع ومُحركة له إن لم تتوفر لها عفوية الجماهير. كما أن عفوية الجماهير وحدها حتى وإن تمكنت لفترة من الزمن من أن تكون فاعلة بقوة في الوقع فإن الفشل يكون مصيرها في نهاية المطاف.
ويُحدد غرامشي مفهومه لـ«فلسفة البراكسيس» على النحو التالي: «لا تبحث فلسفة البراكسيس عن حلّ سلميّ لتناقضات التاريخ والمجتمع، وإنما هي تنحتُ منها النظرية.وهي ليست الوسيلة التي تسمح للمجموعات المُهيّمنة بالحصول على الموافقة الضرورية لتُباشر هيمنتها على الطبقات الثانوية. وإنما هي بالأحرى التعبير عن تلك الطبقات الأخرى في طموحها وإرادتها للتمرّن على فنّ الحكم لأن من صالحها معرفة كلّ جوانب الحقيقة، حتى ولو كانت بشعة، وإحباط مغالطات الطبقة المٌُهيّمنة، وأيضا إحباط مُغالطاتها هي نفسها».
وعند تحديده لمفهوم الدولة، عاد أنطونيو غرامشي إلى فرانسوا غيشاردان، وهو فيلسوف من فلورنسا من القرن السادس عشر. وكان هذا الفيلسوف يرى أن الدولة تحتاج إلى جيش وإلى دين. ومن دون ذلك لن تتوفر لها القوة للبقاء طويلا. ومن خلال هذا الفيلسوف، توصّل غرامشي إلى أن الدولة هي في الحقيقة مجتمع سياسي مع مجتمع مدني. أي إنّ الدولة تحكم وهي مَحْميّة بالهيمنة إذ إن المجتمع السياسي يعني بالنسبة لغرامشي الجيش والشرطة اللذين يمثلان أجهزة المراقبة والقمع. أما المجتمع المدني فيتمثل في الثقافة، وفي التقاليد الاجتماعية. لذا لا يُكتب البقاء للدولة إلاّ إذا ما تمكنت من التوحيد بين السلطتين، سلطة المجتمع السياسي، وسلطة المجتمع المدني. وعندما لا تتمكن الدولة من المحافظة على هذه الوحدة، وعلى هذا التوازن، فإنها تفقد سلطتها. وغالبا ما يؤدي ذلك إلى ظهور تيارات فاشية، وإلى بروز نزعات مُتطرفة قد تُغرقُ المجتمع في الفوضى المدمرة أو في الحروب الأهلية.
**
وكان مولد أنطونيو غرامشي في بلدة صغير بجزيرة سردينيا، في الثاني والعشرين من شهر جانفي- يناير 1891. وكان لا يزال في سن الرضاعة لمّا أصيب بمرض سلّ العظام الذي سوف يُعرقل نموه، ويجعله قصير القامة، وأحْدب طوال حياته. وعند بلوغه سنّ الرابعة، تكالبت عليه أمراض خطيرة حتى إن والدته أعدّت له كفنا مُعتقدة أن موته بات وشيكا. وعند بلوغه سنّ السابعة، عاشت عائلته محنة أغرقتها في فقر مُدقع. فقد اتّهم والده الذي كان يعمل مُراقبا في مكتب للحالة المدنية، بالغشّ في الانتخابات، وحُكم عليه بخمس سنوات سجنا. ولمساعدة عائلته على مواجهة متاعب ومصاعب الحياة اليومية، أجبر الفتى أنطونيو بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، على القيام بأعمال مُهينة وشاقّة تستغرق عشر ساعات في اليوم الواحد. لذلك لم يعدْ إلى الدراسة إلاّ بعد إطلاق سراح والده، وتحسّن الوضع المادي لعائلته. وبفضل نجاحه الباهر في امتحان البكالوريا، حصل الفتى أنطونيو على منحة خوّلت له الالتحاق بجامعة تورينو. إلاّ أن المنحة لم تكن كافية لحمايته من الجوع ومن البرد في المدينة الشمالية. وواصفا وضعه كتب يقول في إحدى رسائله: «إن شدّة البرد تشغلني كثيرا ولا تسمح لي بالتركيز على دراستي إذ إنه يتحتّم عليّ أن أظل أدور وأدور في الغرفة الضيّقة لكي تحصل رجليّ على شيء من الدفء، أو أن أظل مُحشورا في الفراش ساعات مديدة».
وفي الجامعة، انجذب الطالب السّردي (نسبة إلى سردينيا) إلى الحلقات الاشتراكية التي سوف تصبح قوية النفوذ لدى النخب المثقفة بعد انتصار الثورة البلشفية التي أطاحت بالنظام القيصري في خريف عام 1917. وكان من بين أصدقائه كلّ من بالميرو توغلياتي، وأنجلو توسكا اللذين سيكونان في ما بعد من مؤسسي الحزب الشيوعي الإيطالي. وللدفاع عن أفكاره، شرع أنطونيو غرامشي في نشر مقالات في صحيفة «صوت الشعب»، ثم في صحيفة «إلى الأمام» الناطقة باسم الحزب الاشتراكي الإيطالي انطلاقا من عام 1914، وواظب على ذلك إلى حدود عام 1926. ومع رفيقيه توغلياتي وتوسكا، أسّس مجلة فكرية غير مُنتظمة الصدور أطلق عليها اسم :«النظام الجديد». وكان الهدف الأساسي من تلك المجلة نسج علاقات وطيدة بين العمال والمثقفين التقدميين. وكانت مدينة تورينو تعجّ في تلك الفترة بأعداد كبيرة من العمال الذين كانوا يعملون في مصانع السيارات. وفي العديد من المقالات المنشورة في المجلة المذكورة، كان أنطونيو غرامشي ورفاقه يحثّون العمّال على تكوين «مجالس عمّالية» للدفاع عن حقوقهم، والتصدي للمظالم المسلطة عليهم من قبل أصحاب المصانع. وفي مقال نشره في شهر حزيران- يونيو سنة 1919، اقترح غرامشي أن تكون أبواب تلك المجالس مفتوحة لا فقط على العمّال المُنخرطين في النقابات، وإنما على الجميع لكي تشهد الثقافة الاشتراكية الجديدة انتشارا واسعا، وتمدّ العمال بما يضمن لهم تحسين مستواهم الثقافي، واكتساب أسلحة المقاومة ضد الرأسمالية، وامتلاك تجارب تُمهّد لقيام نظام اشتراكي يضمن لهم العدالة التي يطمحون إليها.
وبتأثير من الثورة البلشفية، تأسّس الحزب الشيوعي الإيطالي في الخامس عشر من شهر جانفي- يناير سنة 1921. وبسبب قصر قامته، وعاهته الجسدية، وعدم امتلاكه لقدرات وبلاغة الخطيب القادر على التأثير في الجماهير، اختار أنطونيو غرامشي أن يكون عضوا في الأممية الشيوعية. وكان عليه أن ينطلق إلى موسكو في ربيع عام1922.وكانت رحلته مُرهقة إلى درجة أنه أجبر حال وصوله على دخول إحدى المصحات من أجل العلاج. وفي تلك المصحة، عشق فتاة روسية تدعى جوليا، وتزوجها. وفي رسالة بتاريخ حزيران- يونيو 1924، كتب لها يقول: «فكرت فيك كثيرا، لقد دخلت حياتي ومنحتني الحبّ وكلّ ما كان ينقصني ويجعلني سيئا ومضطربا». وكانت ثمرة ذلك الزواج الذي لم يستمر سوى أربع سنوات ابنين، الأول ويدعى ديليو، ولد في العاشر عشر من شهر آب- أغسطس 1924. أما الثاني الذي يدعى جوليانو فقد ولد في الثلاثين من الشهر المذكور عام 1926 إلا أن غرامشي لم يره أبدا.
ورغم بعده عنها، لم يكن غرامشي ينقطع عن مُتابعة ما يجري في بلاده من أحداث. فبعد «المسيرة الكبرى» على روما التي نظمها الفاشيون في عام 1922، كلّف الملك إيمانويل الثالث زعيمهم موسيليني الذي أصبح رئيسا لمجلس المستشارين، بتكوين حكومة. وفي الانتخابات التشريعية التي جرت عام 1924، أصبح غرامشي نائبا في البرلمان بعد أن ترشح على قائمة شيوعية، لذلك سارع بالعودة إلى إيطاليا، مُعتقدا أن نيابته البرلمانية ستضمن له الحصانة اللازمة لمواصلة نشاطه السياسي. لكن الفاشيين سرعان ما كشفوا عن مخططهم لبسط هيمنتهم ونفوذهم على الدولة، وعلى مؤسساتها، وعلى المجتمع برمته. لذا شرعوا في ضرب وقمع كل الحركات والأحزاب والمنظمات والنقابات المعادية لهم. وكان النائب الاشتراكي جياكومو ماتيوتي أول ضحاياهم إذ حالما فضح عمليات تزوير للانتخابات في العديد من المناطق، تمّ اغتياله في العاشر من شهر حزيران- يونيو من العام المذكور. وقد فتحت عملية الاغتيال تلك الباب على مصراعيه أمام الفاشيين لكي يفعلوا بإيطاليا، وبشعبها ما يريدون. فقد فرضوا حزبهم كحزب أوحد في البلاد، لاغين كل الأحزاب الأخرى، ومُصادرين الصحف المعارضة لهم، وناصبين أجهزة الرقابة في كل مكان للتجسّس على حركات وسكنات كل من يخالفهم في الرأي، وفي الفكرة. وأما النواب البرلمانيّون فقد رُفعت عنهم الحصانة ليجدوا أنفسهم بلا أدنى حماية أمام الإجراءات التعسّفية والقمعية التي كانت تزداد حدّة وشراسة يوما بعد آخر. وعن انتصار الفاشيين والقوى الرجعية على القوى الثورية والتقدمية كتب غرامشي يقول في نص له نشره عام 1923: «لماذا هُزمت الطبقة العاملة، ولماذا لم تتمكن من تحقيق وحدتها؟ يتوجّب علينا في مثل هذه الحالة أن نقوم بنقد عنيف، ومن دون رحمة ولا شفقة، لجوانب الضعف فينا. ويتوجّب علينا في الآن نفسه أن نتساءل: لماذا خسرنا معركتنا؟ وكيف كنا؟ وما هي أهدافنا المقبلة؟ وما هو السبب الأساسي لهزيمة الأحزاب الثورية الإيطالية؟ وأعتقد أن السبب الأساسي لكل هذا هو أن هذه الأحزاب لا تمتلك أيديولوجيا، ولم تتمكن من نقلها إلى الجماهير الواسعة، وعجزت عن تقوية الوعي لدى المناضلين من خلال قناعات أخلاقية ونفسية. وكيف لنا عندئذ أن نندهش ونتعجب حين نعاين أن بعض العمال أصبحوا فاشيين». و»لمنعه من التفكير» -بحسب تعبير أحد القادة الفاشيين الكبار- حُكم على أنطونيو غرامشي في الثامن من شهر نوفمبر- تشرين الثاني 1926 بعشرين سنة سجنا، ونُقل من تورينو إلى جنوب البلاد. وفي الزنزانة، بين الجدران الرمادية، شرع في إعادة النظر في مساره الفكري والسياسي. وأول شيء انتبه له هو أنه لا يمكنه مستقبلا أن يكون على وفاق مع الخط العام للأممية الشيوعية التي كان قد سيطر عليها ستالين وأتباعه بعد وفاة لينين. وعندما علمت قيادة الحزب الشيوعي الإيطالي بذلك، استشاطت غضبا، وقطعت الاتصالات به ليجد نفسه وحيدا ومعزولا في الزنزانة الرهيبة. فقط بين وقت وآخر يتلقّى زيارة أحد أقاربه. ولمواجهة وضعه المأساوي، قرر أنطونيو غرامشي أن ينْكبّ على العمل وهو على يقين بأنه -أي العمل- هو الوسيلة الوحيدة لمواجهة أعدائه داخل الحزب الشيوعي، وخارجه.
بعد حصوله على ترخيص رسميّ في الثامن من شهر فبراير- شباط 1929 يسمح له بالكتابة، انطلق غرامشي يعمل في الليل وفي النهار، مُتحديا جسده المعطوب، ومتاعبه الصحية لينتهي في عام 1935 من تدوين أفكاره وملاحظاته في تسعة وعشرين كرّاسا حول تاريخ إيطاليا مُتمثلا بالخصوص في ماكيافيلي، وحول الثقافة الإيطالية من خلال الناقد الكبير بينيديتو كروتشي، وحول فلسفة هيغل، وحول الماركسية-اللينينية بصفة عامة. وعالما بأن التفكير داخل زنزانة السجن الضيقة قد يقوده إلى أفكار وإلى تحاليل خاطئة ومُشوّشة بسبب عدم تلمّسه للواقع في مختلف تجلياته، وفي تضاريسه الحقيقية، كتب يقول في الكرّاس رقم 9: «السجنُ مَبْرَد مشحوذ جيّدا إلى درجة أنه قادر على تدمير الفكر. بل قد يكون عمله شبيها بعمل حرفيّ ماهر مُنح جذع شجرة زيتون لكي يصنع منه تمثالا للقديس بطرس. وهو أنه يقطع، هنا، ويزيل هناك، ويصلح ما قام به، ويخطط ويُصمّمُ… وفي النهاية تكون نتيجة عمله مقبضا لمخرز».
ومن بين التعابير الشهيرة التي ابتكرها غرامشي في «كراسات السجن»، وبها اشتهر، عبارة «تشاؤم الذكاء» و«تفاؤل الإرادة». وهو يعني بذلك أن الذكاء «وسيلة لفحص الواقع». وأما الإرادة فهي «المَلَكَة التي تتيح لنا التطلع إلى المستقبل». لذلك سيكون من الخطأ أن نُهمل الواقع ونغفل عن تحليله بدقة مُتناهية حتى ولو كان ميؤوسا منه. وإن نحن أعرضنا عن ذلك، فإنه من الممكن أن نتوهم أن أحلامنا هي فرضيّات الواقع. عندئذ يصبح من السهل أن نتصور أنه باستطاعتنا «الحصول على كل الأشياء التي نبتغيها، والتي نحن محرومون منها في الوقت الراهن». وفي الحقيقة نحن هنا نقوم بالنظر إلى الحاضر وكأنه المستقبل. وفي مثل هذه الحالة تستيقظ كل رغباتنا وكل طموحاتنا وأهوائنا المكبوتة لنكون ضحية لها. ولتجنب ذلك، يجدر بنا أن نفحص الحاضر بعناية وبدقة إذا ما نحن ابتغينا تغييره وتجاوزه.
وفي «الكراسات»، ركّز غرامشي على دور الأفكار، ودور المثقفين، ودور الفلسفة في التاريخ. وأول شيء اهتم به هو محاولة التقريب بين هيغل وبين ماركس بخصوص رؤية كل واحد منهما للتاريخ. فهيغل يرى أن التاريخ هو ثمرة ما يتحقق بفضل العقل مثل ولادة الدولة، وظهور القوانين الحديثة اللذين يمثلان مرحلة مُتقدمة ومهمّة في تاريخ الإنسانية. ومعنى هذا أن الأفكار تمتلك قوة تأثير على المسار العام للتاريخ، وللأحداث. وهذه الرؤية المثالية للتاريخ عند هيغل تتناقض مع النظرة المادية عند ماركس الذي يعتقد أن التاريخ هو ثمرة الصراع الطبقي. وهو يقول بأن المثقفين والأفكار بصفة عامة ينتمون إلى البنية الفوقية التي تستند إلى بنية تحتية تحدّدُها علاقات الإنتاج. ويعني ذلك بالنسبة لماركس أن القوانين المادية والاقتصادية هي التي تتحكّمُ في مسار التاريخ، وفي طبيعة الأحداث. ولكي لا يظلا على طرفي نقيض، سعى أنطونيو غرامشي في كراساته إلى التوفيق بين نظريتي هيغل وماركس باحثا عن روابط بين البنية الفوقية والبنية التحتية لسدّ الفراغ بينهما. وهو يرى أن «كل الناس فلاسفة»، أو هم قادرون على امتلاك «فلسفة عفوية». وهو يضيف قائلا: «كل الناس مثقفون. غير أن كلّ الناس لا يؤدون في المجتمع دور المثقفين». وحجته في ذلك أنه في كل عمل يدويّ -حتى ولو كان هذا العمل في أسفل المراتب- يتوفّرُ الحد الأدنى من «النشاط الثقافي الخلاّق» (كراس رقم 12-1932). وعند غرامشي، تتكون «الفلسفة العفوية» من اللغة، ومن الحسّ المشترك، ومن الدين، ومن المعتقدات العامة، ومن جملة الآراء والأفكار التي بها يتأثر الإنسان في مختلف مراحل حياته. ومعنى هذا أن الانسان لا يفكر وحده، بل مع مجموع الناس الذين معهم يعيش، ويتبادل الآراء والأفكار. أما الفيلسوف الحقيقي فهو ذلك الذي يقوم بعمل نقدي لتجاوز ما هو مُتنافر ومشوّش ومُرتَبك» في «الفلسفة العفوية». ومُحدّدا عمل الفيلسوف، كتب غرامشي يقول: «نقد مفهومه الخاص للعالم، يعني أن يجعله مُنسجما ومُتوحدا، وأن يرتفع به عاليا ليبلغ الدرجة الأكثر تقدما في الفلسفة العالمية».
وفي «الكراسات»، خصّص غرامشي فصلا مُهمّا انتقد فيه أفكار وأطروحات الناقد والمفكر الكبير بينيديتو كروشي (1866-1952). وكان هذا الأخير يتمتع بمكانة بارزة في الأوساط الثقافية والفكرية الإيطالية والأوروبية انطلاقا من نهايات القرن التاسع عشر. ولا يزال يتمتع بهذه المكانة حتى هذه الساعة. وقد أسس فلسفته في علم الجمال، وفي علم التاريخ (التاريخانية) استنادا إلى فلسفة هيغل التي تأثر بها منذ سنوات شبابه. وفي البداية ساند بقوة الحركة الفاشية بزعامة موسيليني ثم تخلى عن ذلك لينتقدها بشدة. وبعد أن أصدر جانتيلي -وهو أحد أبرز المثقفين المساندين للفاشية- «بيان المثقفين الفاشيين»، ردّ عليه بينيديتو كروشي في نفس السنة (1925) بـ«بيان المثقفين المناهضين للفاشية». مع ذلك لم يكن غرامشي رحيما به واصفا إياه بـ«الرجعي الأشد ضررا وإيذاء في شبه الجزيرة الإيطالية». وهو «العدو الذي لا بد من الإطاحة به لأنه يشكل خطرا على صعود الطبقة العاملة، وعلى مستقبلها الثوري». كما أنه «الآلة التي تتمتع بقوة هائلة لعرقلة القوى الجديدة، والتصدي لطموحاتها في الحاضر، وفي المستقبل». لكنه يقرّ في النهاية بأنه كان من أتباع بينيديتو كروشي في سنوات شبابه.
وفي «كراسات السجن»، ينتقد غرامشي الانشقاقات الأيديولوجية والسياسية داخل الأممية الشيوعية. وهو يرى أنه يتوجب على هذه الأممية أن تقتدي بالأديان، وتحديدا بالكنيسة الكاثوليكية، التي تعمل كل ما في وسعها للمحافظة على «الوحدة الفكرية والدينية»، وتحاول دائما أن تكون قريبة من الطبقات السفلى من دون أن تهمل الطبقة العليا للمثقفين والعلماء. لذلك لم يكن غرامشي على وفاق مع الشيوعية الأممية عندما أصدرت قرارا بطرد تروتسكي إذ إن أفكار هذا الأخير يمكن أن تكون بحسب رأيه نافعة ومُفيدة لتغذية الجدل بين الشيوعيين حول مختلف القضايا.
لكن لماذا تتطلع الطبقة العاملة في غالب الأحيان إلى أن تكون لها نفس القيم التي تختصّ بها الطبقة البورجوازية، مثل السعي إلى الإثراء، وإلى الملكيّة الخاصة، وإلى الاستهلاك؟ عن هذا السؤال أجاب غرامشي في الكراسات قائلا بأن هذه المجموعة الاجتماعية (العمال) لأسباب تتصل بالرضوخ وبالهيمنة الثقافية، استعارت من طبقة أخرى التي هي البورجوازية، تصورا مخالفا لمفهومها، ومُتناقضا معه. وهي تعتقد أنه من صالحها اتّباع هذا التصور لأنها تقوم بتطبيقه في الأوقات العادية، أي خارج أوقات الاضطرابات والاحتجاجات. ويعني هذا أن الطبقة البورجوازية هي المسيطرة والمهيمنة. لذا هي قادرة على فرض قيمها وقوانينها وسلطتها وتصوراتها.
في ربيع عام 1935، اشتدّ المرض على أنطونيو غرامشي خصوصا بعد أن أصيب بالنّقرس. وبعد نقله إلى مصحّة في روما، أطلق سراحه لأسباب صحية وذلك يوم 21 أبريل- نيسان 1937 . وكان يفكر في العودة إلى سردينيا ليواصل العمل في الصمت والعزلة. وفي رسالة لزوجته في صيف 1936 ، كتب يقول: «وعندما أقول أن اعتزالي في سردينيا (بقطع النظر عن فوائده على صحتي) سوف يكون نقطة انطلاق لمرحلة جديدة في حياتي، فلأنني واع شديد الوعي بما سيكون عليه وضعي في مثل هذه الظروف إذ إنني سأكون في عزلة تامة، وسأعيش فقرا ثقافيا أشد وطأة وعمقا من الآن، وانصرافا ربما نهائيا عن هذا الشكل من الانتظار الذي رغم أنه كان خلال السنوات الأخيرة مصدرا للعديد من الاضطرابات والقلاقل، إلاّ أنه منحني مع ذلك معنى لحياتي». لكن بعد مرور ستة أيام فقط على إطلاق سراحه، تدهورت صحة أنطونيو غرامشي فجأة ليفارق الحياة في روما. ولم يحضر جنازته سوى أخيه كارلو وتاتيانا أخت زوجته جوليا التي لم تتمكن من القدوم بسبب التعقيدات الإدارية. ولم يعد أنطونيو غرامشي للواجهة ليكون في قلب الجدل حول الماركسية إلاّ بعد الحرب الكونية الثانية. وبمرارة كتبت الإيطالية ماريا-أنطونياتا ماكيوشي تقول: «بعد الحرب، وتحرير البلاد من آثار الفاشية، كانت صورته الغريبة (تقصد صورة غرامشي) تنظر إلينا من خلال جدران مقرّات الحزب الشيوعي، انطلاقا من القرى الجنوبية البعيدة وحتى مدن الشمال الكبيرة، بشعره الكثيف، وبعينيه اللتين تُشعّان ببريق عيني الشهيد. عندئذ اكتشفنا آثار العذاب الذي تركه الجلادون الفاشيّون على جسده، والمرض الذي كان يُكابده والذي كان يُروّضه بإرادة فولاذية تكاد تتجاوز إرادة البشر». وأضافت ماريا-أنطونياتا ماكيوشي تقول: «عندما رأى قضبان سجنه تنفتح، عاين غرامشي في الحين الريبة والشكوك السياسية، والخلاف بينه وبين الحزب الشيوعي. وعندئذ مات حقا.
وإجمالا ليس لغرامشي أي شيء من سقراط، الذي قد يكون انشغل بنقل صورته للأجيال القادمة. عنده نحن نعثر على السخرية المرة لمصيره وهو منعزل، ولوضعه كمناضل سياسي هُزم في ظرف تاريخي مُحدد. لذلك كتب يقول: «أنا مهزوم، لكن مع مرور الزمن، سوف تكون قوة الأشياء إلى جانبي، وسوف تنتصر لي».