بدر العبري
كاتب عُماني
المكتبة البارونيّة في جزيرة جربة بالجمهوريّة التّونسيّة تعتبر من أهم المكتبات العائليّة الإباضيّة في جربة خصوصا، ومن المكتبات العريقة عند إباضيّة المغرب، وهي وإن كانت حديثة زمنا، إذ لا تزيد عن قرنين من الزّمن؛ بيد أنّها تعتبر من المكتبات الرّائدة والمهمّة في الفكر الإباضيّ خصوصا، والإسلاميّ عموما، بما يحتفظ فيها من نفائس ومخطوطات.
تعود المكتبة إلى الشّيخ أبي عثمان سعيد بن عيسى بن يعقوب البارونيّ الفسّاطويّ النّفوسيّ ثمّ الجربيّ (ت 1281هـ/ 1865م)، وفي زيارتي الشّخصيّة إلى جزيرة جربة زرتُها مساء الجمعة 5 ربيع الثّاني 1445هـ/ 20 أكتوبر 2023م، والتقيت بالقائم عليها من أحفاد المؤسّس الشّيخ سعيد بن يوسف بن محمّد بن يوسف بن عليّ بن أبي عثمان سعيد البارونيّ، وكان لي معه حديث حول المكتبة، فأخبرني أنّ الشّيخ أبا عثمان أصله من جبل نفوسة من مدينة جريجة، ثمّ ذهب إلى مصر ليدرس في جامع الأزهر في نهاية القرن الثّامن عشر الميلاديّ، تقريبا عام 1792م، وبقي في القاهرة عشرين سنة، وتولى التّدريس أيضا في وكالة الجاموس في حيّ بن طولون بالقاهرة، وفي تلك الفترة كوّن نواة المكتبة البارونيّة من نسخه وشرائه للمخطوطات، فقد قام بنسخ العديد من الكتب في القاهرة، كما اشترى غيرها، وأغلبها من نسخه أي باسم سعيد البارونيّ الأزهريّ، وأول كتاب نَسَخه يعود إلى 1795م تقريبا.
ثمّ رجع إلى موطنه جبل نفوسة بليبيا عام 1811م، وهنا أرسل إليه الشّيخ صالح بن أبي مسور الجربيّ القائم على المدرسة المسوريّة، أو الجامع الكبير، [نسبة إلى جامع أبي مسور الّذي بني في القرن الثّالث الهجريّ وتحوّل إلى مدرسة كبيرة للتّعليم في المدرسة، واستمر التّدريس فيها إلى أواخر القرن التّاسع عشر الميلاديّ 1898م]؛ حيث إنّ الشّيخ أبا الرّبيع سليمان الشّماخيّ (ت 1234هـ/1819م) خرج لأداء مناسك الحجّ وتوفي هناك، فطلب من الشّيخ سعيد أن يحلّ محلّ الشّماخيّ في التّدريس في المدرسة، وهذا هو السّبب الّذي جعله ينتقل من جبل نفوسة إلى جربة، ولهذا استقر في جربة من عام 1811م، حيث طاب له العيش في جربة، فقرّر الإقامة فيها.
ثمّ عاد إلى مسقط رأسه –أي جبل نفوسة– عام 1819م، ليجلب كتبه معه، وضمّ إليها كتب ابن عمّه موسى البارونيّ، لهذا يمكن اعتبار عام 1819م نواة تأسيس المكتبة البارونيّة في جربة، وقد كانت في محلّ سكناه بجربة، حيث أصبح شيخ الجزيرة، وتولى الإمامة في الجامع الكبير، وكان محلّ الفتوى، وإليه يرجع في تعيين بداية رمضان ونهايته.
ولمّا توفي عام 1865م ورثها من بعده ابنه عليّ، وأضاف إليه ابنه مجموعة من الكتب، وتوجد بعض المخطوطات بيد ابنه عليّ، وجاء من بعد عليّ ابناه يوسف وأحمد، فقسّمت المكتبة بينهما، وأغلب كتب المكتبة اليوم ممّا ورث من قسم يوسف، وأمّا قسم أحمد فلم يحافظ عليها ورثته، وما بقي منها فهو قليل، وبعد يوسف جاء ابنه محمّد، ثمّ ابنه يوسف، وهو والد الشّيخ سعيد، لهذا حاليا هو من يقوم عليها.
وأخبرني أنّ جدّه محمّدا كان مغرما بجمع الكتب، فاشترى العديد من المخطوطات والكتب، وسأله أنّ بعض الكتب نجد أطرافا من أجزائها، إمّا الأجزاء الأخيرة أو الأولى أو الوسط، فسأله عن باقي الأجزاء، فقال: هذه وزعت على الورثة وقد بيعت، وما بقي فهي هذه الأجزاء الّتي حافظنا عليها، وأضاف الشّيخ محفوظ دحمان -وكان حاضرا معنا، وهو من مشايخ جربة وخطبائها والمعنيين بالمخطوطات أيضا- أنّ بعضهم يقسّمون حتّى أوراق الكتاب أو الجزء الواحد إلى أجزاء بين الورثة، فتضيع الكتب بهذا.
لهذا ما بقي من عدد الكتب والمخطوطات تصل إلى حوالي ألف ومائتي مخطوط، وعدد المجلّدات 574 كتابا، فلمّا فكّكت أجزاؤها وصل إلى حوالي ألفي كتاب وزيادة قليلا، ولمّا زار سماحة الشّيخ أحمد بن حمد الخليليّ –مفتي عُمان الحاليّ– المكتبة في مقرّها القديم عام 2012م، أي بعد أربعين عاما من زيارته الأولى، حيث زارها عام 1972م، وعام 1974م، والقصّة كما أخبرني الشّيخ سعيد أنّ الشّيخ الخليليّ شاهد في زيارته الأخيرة أي عام 2012م مخطوط “وشي الحلل في شرح أبيات الجمل” [لأبي جعفر اللّبيّ ت 691هـ]، والنّاسخ لها سعيد بن عبد الرّحمن، وكتب في جمادى الأولى 974هـ، والمشهور بأبي جناح، وتملكه قاسم بن عبد الله البارونيّ، حيث وجد الكتاب قد تحلّل وتفتّت بين يديه، فطلب أن تخرج هذه المخطوطات من محلّها القديم، بسبب توفر الرّطوبة فيها ممّا لا يجعلها بيئة جيّدة لحفظ المخطوطات.
من هنا ساهمت عُمان في بنائها الجديد في حومة السّوق بجزيرة جربة، وافتتحت في 25 جمادى الأول 1437هـ/ 5 مارس 2016م، وتضمّ قاعة استقبال، وقاعة المطالعة والرّقمنة والفهرسة والتّنظيف والتّعقيم، ومكتب المسؤول عن المكتبة، وقاعة للمحاضرات، وقاعة المطبوعات، وقاعة قسم الإهداءات، وفيها أيضا كتب باللّغتين الفرنسيّة والإنجليزيّة بجانب العربيّة، وتوجد فيها كتب في مختلف الفنون، ومنفتحة على كتب المذاهب الأخرى، فلم تقتصر على المذهب الإباضيّ، بجانب المجلّات والدّوريات، ففيها مثلا غالب أعداد مجلّة العربيّ الكويتيّة، وفيها كتب معاصرة أيضا، وفيها قاعة لورشة ترميم المخطوطات والصّيانة والفهرسة، ومخبر أو قسم خاصّ للتّجليد.
ومن أهم قاعاتها قاعة المخطوطات، حيث تجعل في خزائن حديديّة، جعلوا المخطوطات الإباضيّة في قسم، والأقسام الأخرى مختلطة على المذاهب الأخرى، وموزعة على التّفسير وأصول الدّين واللّغة والفقه، والفلك والحساب والطّبّ، ورسائل وأجوبة وردود، والتّأريخ والسّير، والتّوحيد والتّصوّف، والأدب، والمنطق والفلسفة والحكم، وعلم الفرائض، ووثائق العائلة البارونيّة، ويستخدمون لحفظ المخطوطات موادّ للتّقليل من الرّطوبة، وموادّ للقضاء على التّسوس.
وبعد تعقيمهم وتنظيفهم للمخطوطة يعملون لها مذكرة فنيّة، يحصون فيها عدد الورقات، وبيان الفقرة الأولى والأخيرة منه، مع ذكر المؤلف والنّاسخ، والعام الّذي نسخ فيه المخطوط، ومكان النّسخ، وحجم المخطوط، ومقاس الورقة طولا وعرضا، وعدد الخطوط فيها، ثمّ يقومون بتصوير المخطوط، من خلال آلة خاصّة يرتبط بها جهاز حاسوب للتّثبت من صحة التّصوير، وأن يكون كاملا متناسقا كما هو، ثمّ يحال إلى حاسوب آخر مرتبط به للمراجعة، ثمّ يحال إلى حاسوب آخر لتمكينه للباحثين، ممّن يريد الحصول على صور رقميّة، ويمكن الحصول عليها عن طريق الحافظة المحمولة (الفلاش أو الهاردسك).
وعندهم حاليا قسم خاصّ للمخطوطات العائليّة الخاصّة، لمن يريد أن يحضر مخطوطاته، حيث يقومون بتعقيمها وإصلاحها، كما أطلعني الشّيخ سعيد على الهدايا وشهادات التّقدير الّتي حصلت عليها المكتبة، ومنها من عُمان، من جامعة السّلطان قابوس، ومن كليّة العلوم الشّرعيّة مثلا، كما أطلعني على الكتاب الذّهبيّ، وفيها يدوّن الزّائر انطباعه حول المكتبة، فَمِمّن زارها مثلا عمرو النّاميّ (مرّتين) عام 1968م وعام 1969م، والشّيخ إبراهيم بن عمر بيّوض (ت 1401هـ/ 1981م) (مرتين) أيضا، والشّيخ عليّ يحيى معمّر (ت 1400هـ/ 1980م)، والشّيخ ناصر المرموريّ (ت 1432هـ/ 2011م)، ومن عُمان زارها العديد، منهم أمير البيان عبد الله الخليليّ (ت 1421هـ/ 2000م)، وأحمد بن سعود السّيابيّ، ووزير الأوقاف السّابق عبد الله السّالميّ، والعديد من الباحثين، كما أخبرني الشّيخ سعيد أنّ أغلب أو جميع سفراء عُمان في تونس زاروا المكتبة، والجانب المهم أنّ الكتاب والمخطوط العُمانيّ أيضا حاضر في المكتبة، ومن فترة مبكرة جدّا.