«لسنا صادقين تمامًا إلا في أحلامنا»
«نيتشه»
كيف نفهم أعمال أمين صالح؟ أو بالأحرى، كيف نتذوقها جماليًا؟!
هل نفعل ذلك بشكل تاريخي متتابع زمنيًا، على نحو كرونولوجي خطي نحاول من خلاله كيف تطورت أعماله منذ بداياتها في «هنا الوردة .. هنا نرقص» 1973 ومرورًا بأعماله الأخرى وهي:
الفراشات (1977) وأغنية أ.ص الأولى (1982) وترنيمة للحجرة الكونية (1994) ومدائح (1997) وموت طفيف (2001) ورهائن الغيب (2004)، ووصولاً إلى «شمالاً، إلى بيت يحن إلى الجنوب» (2013)، ومرورًا خلال ذلك بكتاباته وترجماته عن السينما مثل: السينما التدميرية (ترجمته 1995) الوجه والظل، في التمثيل السينمائي (ترجمة وإعداد 2002) والنحت في الزمن: أندريه تاركوفسكي (ترجمة 2006) وحوار مع فيلليني (ترجمة 2007)، ثم عالم تيو أنجيلوبولوس السينمائي، الكتابة بالضوء (مقالات في السينما، وغير ذلك من الأعمال التلفزيونية والسينمائية والنقدية الأدبية والفنية.
لا نستطيع أن نكتفي بالقراءة التتبعية في ضوء التسلسل الزمني التاريخي الخطي لأعمال أمين صالح، فالكثير من بذور أعماله المتأخرة موجودة في أعماله الأولى، والبدايات تشبه النهايات، أو بالأحرى، تشي بها وتوحي إليها، وترهص وتنبئ وتشير.
وهكذا فإن القراءة الأنسب لأعمال أمين صالح هي القراءة المتزامنة، القراءة البصرية، ليست قراءة النصف الأيسر من المخ، المتتابع في نشاطاته، الخطي، الكلامي أو اللغوي المستمر عبر الزمن بمعناه المألوف المعروف، زمن الدقائق والساعات والسنين، الزمن التاريخي، القراءة الأخرى، القراءة في ضوء النصف البصري الخيالي المكاني المولع بالصور والأحلام والكليات والانفعالات والحركة والمكان والزمان، هذا ليس زمانًا متتابعًا، بل أشبه بالزمن الدائري، الزمن المائل أو البيضاوي، زمن يبدأ كي يصل إلى نهايته ثم يعود إلى بدايته، وقد يعود إلى هذه البداية قبل أن يصل إلى تلك النهاية. إنه زمن البدايات والبكورة، وزمن الغريزة والطقوس والأساطير.
بيد أن الأنسب من هاتين القراءتين: أي القراءة اللغوية الخطية والقراءة البصرية الحلمية، نوع ثالث من القراءات يجمع بين أبرز ملامح هاتين القراءتين وعناصرهما في بوتقة واحدة، وهو القراءة الشبكية التي تحاول أن تصل بين مكونات أعمال الكاتب وبين حضورها المتتابع والمتزامن أيضًا عبر أعماله المختلفة.
في كتابه «السوريالية في عيون المرايا» (2008) يتحدث أمين صالح عن مصادر السوريالية ويحصرها في: الواقع، والوعي واللاوعي، والمخيلة، والحلم، والحس، والصدفة، والهذيان والجنون، ويضيف إليها كذلك «عناصر السوريالية» التي عددها ومنها: الحرية والحب والرغبة والجمال والدعابة والعجيب أو المدهش، وهذه المصادر والعناصر والمكونات حاضرة في أعمال أمين صالح على أنحاء شتى.
صانع الأسطورة:
يكمن جوهر الأسطورة كما يقول بعض النقاد في تلك «اللغة السرية»، أي ذلك التصور الخاص للعالم والوجود، ولدى آخرين: الأسطورة محاولة متبصرة وخيالية، لتفسير الظواهر الحقيقية أو المفترضة التي تثير فضول واضع الأسطورة، أو هي سعي لبلوغ الإحساس بالإشباع بإزاء الحيرة القلقة في مواجهة أمثال هذه الظواهر.
ولسنا هنا بصدد التوسع في تفسير معاني الأسطورة، ولا الطرح المفصل لنظرياتها، ونكتفي مؤقتًا بالإشارة إلى أن الأسطورة ليست مرادفة للخيال أو الكذب، كما أنها ليست مقابلة للواقع .. إن قوتها كما أشار روز تتمثل في أنها تعيش مع الخط الفاصل بين الخيال الجامح والحقيقة الواقعة، وهي بالنسبة لمعتنقيها واقع وحقيقة لا يتطرق إليها الشك، وهي أيضًا اعتقاد جماعي تكونه تجربة الإنسان مع الطبيعة والكون، إنها عمل رمزي خيالي ونتاج للمخيلة البشرية .. وبشكل عام يحدد جوزيف كامبل أربع وظائف أساسية للأسطورة هي:
1- التوفيق:
أو حل الصراع بين الوعي والشروط السابقة على وجوده، وبخاصة ما يتعلق منها بالنواحي الغريزية والفطرية والمخاوف والاندفاعات وعمليات الشعور بالذنب والأسف والخزي التي يعانيها الإنسان بكثرة في حياته.
2- تشكيل صورة العالم وصياغتها:
إنها صورة كونية من خلالها وداخل نطاقها، تنتظم الأشكال والعناصر المتعلقة بالزمن والحياة كلها.
3- التصديق على نظام اجتماعي معين والمحافظة عليه:
إنها تؤكد السلطة العالية لرموز المجتمع الأخلاقية بوصفها تكوينات تقع فيما وراء النقد أو التصحيح الذاتي.
4- الوظيفة الأولى للأسطورة:
في حين أن هي وظيفة سحرية ــ أو ميتافيزيقية ــ والثانية وظيفة كونية، والثالثة اجتماعية، فإن الوظيفة الرابعة والتي تكمن جذورها في الأنواع السابقة، وظيفة سيكولوجية؛ وظيفة تتعلق بالكيفية الخاصة بتشكيل الأفراد وتركيبهم الخاص من حيث المثل والأهداف الخاصة التي يحملونها منذ الطفولة وحتى الموت وخلال مجرى الحياة.
ويعتقد كاميل أن الأنظمة الكونية والاجتماعية قد تغيرت كثيرًا عبر التاريخ، أما الجوانب السيكولوجية فيعتقد أن لها بعض الجذور البيولوجية المتأصلة الموروثة المستمرة منذ آلاف السنين، وهنا يصبح كامبل شديد الصلة بأفكار أستاذه كارل جوستاف يونج خصوصًا فيما يتعلق منها بفكرة اللاشعور الجمعي والأنماط الأولية، تلك المتعلقة بالأفكار الكلية الموجودة لدى الإنسان منذ القدم وحتى الآن، والخاصة بأمور مثل الحياة والموت والخير والشر، والله والشيطان، والأمومة والأبوة وغيرها .. يمكن التفكير في هذه الأنماط الأولية باعتبارها أدوارًا اجتماعية مستمدة من خصائص العمر والنوع (ذكر، أنثى) والاستعدادات والسمات الشخصية وعلاقات السلطة وغيرها من العلاقات.
عندما نحاول تطبيق أفكار كامبل ويونج هذه على أعمال أمين صالح سنجد أن عالمه يزخر بمصادقات كثيرة تدل على ذلك الحضور الكثيف للوظيفة الأولى السحرية أو الميتافيزيقية، المتعلقة بمحاولة التوفيق أو حل الصراع بين الوعي والشروط السابقة على وجوده، وكذلك الوظيفة الثانية الكونية، الخاصة بمحاولة تشكيل صورة العالم وصياغتها في إطار ما يجمع كل ما يتعلق بالأشياء والعناصر والزمن والحياة، ثم هناك أيضًا الوظيفة الرابعة (السيكولوجيا) المتعلقة بكيفية تشكيل الأفراد وتركيبهم ومثلهم وأفكارهم التي يحملونها منذ الطفولة وحتى الموت.
أما الوظيفة الثالثة والمتعلقة بمحاولة التصديق على نظام اجتماعي والمحافظة عليه، وتأكيد السلطة العليا لرموزه الأخلاقية، فهي الوظيفة التي تحتاج منا إلى توقف وتبين ومراجعة، فأمين صالح مؤمن بالتحولات، والتغير والتغيير للوعي الفردي والاجتماعي، ويتجلى ذلك في رصده العميق لعناصر الثبات والتكرار والجمود، كما أن التحولات لديه تتجلى على أنحاء شتى، تتجلى في الأحلام وفي الكائنات البينية، وفي عالم السينما، وفي غير ذلك من الأمور التي سنتعرض إليها في دراستنا هذه.
هكذا تتجسد في أعمال صالح هذه الوظائف السحرية والميتافيزيقية والكونية والاجتماعية والسيكولوجية للأسطورة، لكنها هنا أسطورة تتجلى من خلال الحكي والكتابة، وإنه لحكي مولع بالأحلام وتداخل الحدود وعوالم المخيلة والجنون والهذيان وانفصال الشخصيات وانفصالها، ومولع أيضًا بالطفولة والبدايات والعبور من مرحلة إلى مرحلة، وإنها لكتابة تعبر الحدود بين النثر والشعر، أو بالأحرى تقيم فيها، لغة سحرية خاصة، متدفقة، لغة سحرية، لغة أشبه بالرقي والتعاون وما قبل اللغة، لغة اللاوعي، اللغة التي تكمن في مستوى ما يوجد فيما وراء مستويات اللغة العادية، وإنها للغة تحكي حكيات خاصة وترددها أيضًا.
ليست هناك أساطير قديمة مستدعاة في أعمال أمين صالح، لكن هناك مكونات أسطورية تتكلم بالغرائز والبدايات والأوهام والأخيلة والأحلام، وقد تكون هذه المكونات سارة مبهجة، وقد تكون زاخرة بالآلام والأحزان.
الولادة الأسطورية للبطل:
تتجلى الولادة الأسطورية للبطل، للإنسان البسيط، الحوذي، حين يعود إلى غرفته متعبًا مطأطأ الرأس في قصة «من ذا الذي يهز قاربنا» (مجموعة ندماء المرفأ. ندماء الريح، 1987) يترك جياده في الخارج «تقضم الشارع حجرًا حجرًا»، يحاول النوم فلا يستطيع، ويتذكر طفولته ولحظة ولادته، وكيف أن الفراشات انبجست بأجنحة رصاصية «من سرة أنثى لا يعرفها ولا تعرفه، لكنها كانت تناديه بألف اسم ليطل برأسه ويستطلع».
أنثى أقرب إلى نساء الأساطير، تخبره أن لا أم له سواها، والفراشات ترفرف حوله «تحت تنانير عوانس قرمزيات ينشجن تارة ويزغردن تارة، والأنثى التي تلده من نسل قرصان عاشر حورية النار، ولما حن إلى موطنه ضربت عنقه بذيل قرش، إنه آخر سلالة الماء والنار. كان يعوي تحت ضوء القمر مع ذئبة كستنائية، وفي وضح النهار يتنزه مع سمندرة على حواف نهر».
هكذا تكون الولادة الأسطورية للبطل الحوذي البسيط الذي يتغذى على الصبار وعلى فطريات الجبل والسمان، والقادر على تحويل الدجاجة إلى تنين وامرأة الفران إلى بقرة «… طفلاً خارقًا كان، لم يعرف أبًا ولا أمًا، والأنثى التي ولدته – يقال – خرجت لتبحث عن رجل زارها في الحلم، وفي الحلم اضطجعا على سرير العشق».
إنه يرتقي سلالم لا نراها، يقطف نجمة ويملأ جيوبه بشهب وديعة يوزعها في مسكنه لتضيء خطواته، وهناك أحاديث كثيرة وحكايات عن قوته وفحولته ومهاراته في التلاعب التي تفوق مهارات الحواة «وخيوله أسطورية تحمحم حممًا، أي متعة تبلغنا في صحبة ندماء المرفأ، هنا وليس في مكان آخر، يغسل الله بنباله أجفاننا».
يقول بعض الباحثين والنقاد إن أصل الأساطير هو الأحلام، فالإنسان يشكل رؤيته لعالم اليقظة في ضوء ما يراه في عالم النوم، بينما يقول البعض الآخر إن العكس هو الصحيح، وإن أصل الأحلام هو الأساطير والحكايات الخرافية والأسطورية التي تحرك خيال الأطفال وتؤججه وتجعله يجنح إلى رؤية ما سمعه قبل النوم في الأحلام .. والرؤية هنا ملتبسة، وتحتاج منا إلى مناقشة أكثر عمقًا، وهو ما سنفعله بعد ذلك.
في قصة «مواكب لساكنات التلال» (مجموعة الصيد الملكي) نجد ذلك العالم الأسطوري المبكر لدى أمين صالح، والذي تجسد في وصفه لذلك العالم الفطري البدائي البكر الذي تتناسل فيه الغزلان والزرافات والسناجب وبنات آوى وأشجار الصبار والسحالي والعرافات، وحيث التلال الفضية البعيدة التي تبدو مثل أميرات مكسوات بالثلج، وحيث الرؤى المعبأة بالسحر والغرابة والغموض وحيث قافلة من البجع تنبثق من جوف التربة وتهيئ كرنفالاً مكتظًا بالألعاب النارية والفكاهة والحلوى، وزوجان يستحمان عاريان في ضوء جسدهما، ودجاجات هائلة الحجم تمشي ببطء، وقوارب عديدة تغزو الصحراء وتعسكر أو تنام، وحيث الطقوس البدائية التي تدور وسط التلال وأرامل مجللات بالسواد يجلسن في صمت، لكنهن غير حزينات، بل أليفات، جميلات يتضوَّعن حبًّا، ونوع من الإيماء بالخصوبة والعشق والتجدد الذي يلف المكان ويتوالد من خلاله ويرتقي ويضرب في أعماق الذاكرة والطفولة والحلم والحنين.
ويتجلى هذا العشق للمرأة، للزوجة، للحبيبة، للبيت، للحدائق، والنعيم والوجود الأسمى في أحلام أمين صالح على أنحاء شتى نجده دائمًا لدى النساء اليائسات الفقيرات الشقيات في حياتهن أو في زواجهن. فالمرأة زوجة العامل الفقير في قصة «في مكان ما، بيت مهجور ومسبح» (مجموعة الصيد الملكي) تحلم بالكواكب التي ترافقها بين طوابير عظيمة من الأسماك «التي خرجت تتقافز وتنثر كنوز البحر تحت قدميها تتجه إلى مدائن تحكمها شعوب تحارب الحرب ولا تستغل بعضها بعضًا، تستقبلها الرايات وسعف النخيل، تصافحها الأيدي، يباركون زفافها، يبلطون مسيرتها بالأكاليل. تشكرهم وتودعهم، تجتاز جزيرة معزولة، موحشة، تحرسها خفافيش عمياء، نزلاؤها كهانُ حفاة، يطاردون صلواتهم فوق الصخور الوعرة آناء الليل والنهار»، وتستمر تنتابها الأحلام والكوابيس وتراودها، تستمر الرغبات في الفكاك من الأسرة والتحليق، وتستمر عمليات المطاردة والحصار والقتل والخنق والتعذيب حتى تنتهي هذه القصة.
وتستمر الأحلام، حتى إن بعض الشخصيات النسائية تحكي عن حلمها الذي قابلت فيه حبيبها، وعن الجمال الذي ظلل حياتهما لكنها تنهي حلمها بقولها له: «تزوجتك في الحلم، وحين صحوت ترملت»، وهناك كذلك كوابيس تسكنها الشياطين والثعابين والسم والرعب تهاجم الصبي .. وترتبط الأحلام في معظمها في مجموعة الصيد الملكي، وفي غيرها بالعلاقة بين الأبناء والآباء، أو بين الأزواج وبعضهم بعضًا، أو بين الذات الحالمة والآخر الكابوسي .. وفي الأحلام خيال وتحليق وهروب من الواقع، وثمة ما يشي في بعض القصص بنزعة أوديبية ما ترتبط بالتعلق الشديد بالأم والحاجة إليها، وكذلك الكراهية المبطنة الرمزية للأب، وكما يتجلى ذلك في قصة «بابا نويل لا يحب الدمى» وفي هذه القصة نجد أيضًا تلك التحولات الرمزية التي يجسدها الطفل، ذلك الذي يتوحد مع أبيه، الذي يكرهه، لأنه منعه من رؤية أمه، التي تزوجت برجل آخر غير أبيه، هنا يتوحد الطفل مع ذلك الأب، يصبح سلطة قاسية قاتلة مثله.
وتظهر جثث الغرقى الأحياء الذين يجمعون بين الموت والحياة وأمام البحر في قصة «للشهادة أيضًا مدارات» (الصيد الملكي)، كما تظهر حالات غياب الزوج في البحر أو اختفائه وراء الجدران وترمل الزوجات في هذه المجموعة أيضًا، ويظهر كذلك ذلك الولع المبكر بالصور والأخيلة وعالم السينما وشارلي شابلن، التداخل بين عالم الواقع وعالم الصورة وانهمار الصور وتتابعها منذ وقت مبكر لدى أمين صالح (كما في قصة «المصهر» مجموعة «الصيد الملكي» مثلاً).
كما يكثر الحديث لديه عن النوم والموت والأحلام والحب والمرأة، وعلاقة الكبار بالصغار فيها أيضًا، وتظهر صورة المرأة الأسطورية في قصة «ذات مساء.. صهلت الوعول، دخل الغجر» والتي تجسدها «وشام المرأة التي تحرك مثل موجة شهوانية، تسوق قطيعًا من الوعول روضتها بأناملها الممرغة بومض البرق والمبللة بالطهارة التي تزهو بنفسها»، ثم وصف لحضورها وطقوسها وخطواتها وعلاقاتها بالطيور والطبيعة والغابة، وعلاقتها بابن العبدة، ثم تلك الأعراس التي تعكس بدء مواسمها، وحيث يتعلم الهدهد لغة الأشجار ويعلم، وتجري الوعول في أرجاء الغابة في اتجاه أطراف مد البحر، وتعرض السناجب بضائعها المجانية، حيث الكل يعيش في رضاء دون نهب أو استغلال، وحيث لا موت دفاعًا عن النفس ولا انتحار، هنا تنشأ العلاقة الملتبسة بين «وشام» التي تنحدر في غابة أخرى تتوهج غبطة بينها وبين ابن العبد.
كما نجد كذلك ذلك الكهل الذي يتقافز كشحرور ويحلِّق رويدًا رويدًا في الفضاء، يطير، ينضم إليه في طيرانه سرب من الحمام، ويستمر الطيران حتى يختفي السرب عن حدود البصر .. وهناك شخصيات عديدة تحلم بالحرية وتتحدث مع وحوش أو ضفادع، كما أن بعضها يختفي في المرايا (قصة «كل شيء ليس على ما يرام»).
في «أغنية ألف صاد الأولى» (1982): نجد هذا الوعي المبكر بفكرة العناصر الأربعة (الماء والتراب والنار والهواء)، يقول الراوي: «لو استطعت لمزجت العناصر وصنعت عالمًا مغايرًا، آنذاك سوف أهتف: هذا عالم آخر قابل للتغيير في أي وقت»، هنا اهتمام بالبدايات، بعالم الطوفان وقصة سيدنا نوح، ثم اللغة السيريالية الأسطورية المتدفقة التي تمزج بين التحديق والتحليق والحلم والتوهم .. «أتوهم أنني سيد الحلم الذي يتمتع بذاكرة رائعة كذاكرة زهرة في قميص شاعر، أعبر جهات الريح، وأقبع في زاوية بين طرف الفرح وطرف الطفولة .. تطفو طفلة النهر وتتدحرج حتى تستقر بين ذراعي، أرفعها فوق منكبي وأتنزه معها فوق زنابق الحقول العاشقة، ندلف معًا إلى كوخ مضيء، أجلسها فوق مقعد خشبي وأشمر عن ساعدي لكي أحصد لها زهرة لوتس»، وأيضًا: «الآن بدأت أفهم، سوف أذهب بك إلى تلك الواحة المصابة بالأرق دومًا بسبب الأرامل النائحات ليلاً ونهارًا، واللواتي فقدن أزواجهن في حرب ما، الحرب قبعة، تتقافز فوق الرأس مثل الفقاعة .. أعني حمحمة جواد يركعن، وكالرغوة أنفاس المحارب الشجاع.
وتتوالى المشاهد السيريالية ومنها، تمثيلاً لا حصرًا، للمشهد الخاص بالمرأة التي تخرج من فم سمكة، وأيضًا الولع بالسينما وتقنياتها، اللقطات العامة وحركة الكاميرا واللقطات المتوسطة والمزج الآلي وتحريك الشخصيات وتصويرها ودخولها في الكادر أو خروجها منه. «وعندما قطفت – في الرؤيا – قبلة من عيني بنت الجيران، دلف القطار – في الرؤيا – داخل رأسي، وتقدم صوب حقيبتي الجلدية واضعًا حزمة الألوان فيها. في غمرة فرحي نسيت أن قاع حقيبتي مكتظ بالثقوب، فتسربت الأكواب، ثم هوت على الأرض، وكان صوت انكسارها مروعًا»، والأحلام، وكذلك الدخول في المتاهات وعبور المتاهات وعوالم الجنون والهذيان، وتحيد عن أحلام النوم وأحلام اليقظة أرهقتني أحلام اليقظة، وعن الفزع الذي هو «سيد الخلايا»، وعن الذات وعن الأرق، وغير ذلك من المكونات أو البذور الأولى لعالم أمين صالح الأسطوري.
اللغة عند أمين صالح:
وكذلك نجد تلك اللغة التي فقدت طابعها الإشاري المحدد، ففي أعمال أمين صالح جميعها تقريبًا، نجد هذه اللغة التي تتأرجح ما بين النثر والشعر، التحويم والتحديق، الطيران إلى أعلى والهبوط إلى أسفل، لغة تتدفق خلال الوصف والسرد وتقوم بالحفر في أعمال النفس والواقع والوجود والإنسان، لغة تفتح بوابات الحلم وتدلف إلى عوالم الذاكرة وتهوم في المنطقة البينية الموجودة في تلك المسافة الفاصلة الواصلة بين الحضور والغياب، الحياة والموت، الصحة والمرض، الغفوة واليقظة، البحر واليابسة، الماضي والحاضر، الإنسان وعوالم الطيور والحيوان والملاحم والأساطير. هنا أطفال يولدون، وتكون الولادة انتقالاً من عالم مألوف إلى مكان غريب غير مألوف يسلمهم بعد حين إلى الموت، أطفال يولدون ويمرحون ثم ما تلبث يد المرض والردى أن تلحق بهم وتدخلهم في عوالم الغيب. ولعل موت الأطفال، ذلك الموضوع الذي حيَّر ديستوفسكي وقضَّ مضجعه، هو نفسه الموضوع الذي يتكرر ظهوره أيضًا في أعمال أمين صالح، ومنها، تمثيلاً لا حصرًا، «شمالاً، إلى بيت يحن إلى الجنوب»، وحيث بعده، بعد ذلك الموت، يتحول سلوك الوالدين ومن معهما من المألوف الأليف إلى الغريب الموحش، بعده تقع الشخصيات في براثن الشك والالتباس وفقدان اليقين، ولكن يبقى أيضًا ثمة أمل، فالدليل الذي يقود الخادمة الجميلة يظل يتأرجح بين الذاكرة والنسيان «يفقد ذاكرته يومًا ويستعيدها في اليوم التالي»، والدليل الذي قاد ذلك البواب الشاب الذي فقد هويته، يظل أيضًا «يعرف كيف يروض الجهات»، ودليل القاتل الأجير، فقد عقله لكنه لم يجن بعد، ودليل المشلول فقد الأمن في كل شيء، لكنه يظل قادرًا على رؤية «ملاكه الراحل في أحلامه»، وهكذا.
وحتى الراوي يتلاعب بالمصائر ويجهل الخاتمة، لكنه يظل يتبع ما يمليه عليه الحلم «متحاشيًا الواضح والمألوف»، ومثلما ظل الراوي يتحاشى الواضح والمألوف، فكذلك كانت كائناته موجودة في تلك المنطقة السديمية الضبابية الموجودة بين الحلم والواقع وبين الغياب والحضور، ويظل مكانه الأثير هو المرفأ، والكائنات التي تجتذبه هي الأطياف، ورحلات الأطياف كذلك ووجودها في المسافة الفاصلة بين الحضور والغياب، إنها ليست حية وليست ميتة، ليست جسدية ولا أثيرية، بل موجودة في المسافة بين المسافتين والمنزلة بين المنزلتين .. كذلك مثلما تكون الرحلة حالة موجودة بين المغادرة والوصول، لا هي المغادرة ولا هي الوصول، بل ما يوجد بينهما. كذلك تكون شخصيات أمين صالح موجودة بين عالمين: عالم غرائبي غريب، وعالم مألوف معروف، إنه عالم الوهم.
المكان عند أمين صالح:
غالبًا ما يتجسد الفقدان في أعمال أمين صالح مرتبطًا بالمكان، وفي رواية «شمالاً، إلى بيت يحن إلى الجنوب»، هناك أمل ما بالرحيل والغياب، من أجل الإيجاد والاكتشاف لنقيض هذا الغياب، هنا شخصيات غارقة في أحلام اليقظة أو مستمتعة بأحلام النوم، وفقدان الطفل قد يعني فقدان الأمن والأمل في الاستمرار والوجود، كما فقدان الأب والأم بالفقدان للهوية، والحماية والمعنى، هكذا تتحرك الشخصيات، وهكذا فإنه مثلما وجدنا من كان ينبغي لهم أن يقوموا بالإرشاد والهداية والسير بالشخصيات نحو الشمال في «شمالاً، إلى بيت يحن إلى الجنوب»، فإننا نجدهم، جميعهم، قد فقدوا شيئًا جوهريًا وأساسيًا في حياتهم، فهناك من فقد الذاكرة، ومن فقد الرغبة، ومن فقد الهوية، ومن فقد النطق، ومن فقد عقله، ومن فقد الأمل، ومن فقدت عالمها، ومن فقد أطفاله، ومن فقدت زوجها، لكنهم، جميعهم، لا يفقدون الأمل.
البحر والمرفأ وأسطورية المكان:
قد يكون المكان الذي يصفه أمين صالح في أعماله مكانًا عاديًا، بحرًا، ميناءً، مرفأ، قرية، لكنه وبفعل اللغة والحلم والتحويلات الفنية التدريجية للمكان، ينتقل من موقعه العادي إلى موقعه الجمالي، يضفي عليه صيغة أسطورية وجمالية خالصة، يصير مكانًا غير المكان موجودًا في زمان غير الزمان، على الرغم من ذلك الجانب المألوف والمحدد والمعروف له أيضًا، مكان بيني يجمع بين الماء واليابسة، بين الذهاب والإياب، بين الغرق والإنقاذ، بين الرجاء وخيبة الرجاء، بين الصيد الوفير والحظ العسير.
وهذا الاهتمام بالمرفأ موجود أيضًا في أعمال أخرى لأمين صالح مثل «مواكب لساكنات التلال» (مجموعة الصيد الملكي). وفي أعمال أمين صالح عامة دائمًا ما يرتبط البحر وأمواجه بالمطر والسفن والغيم والمصير الغامض للبشر، هنا نجد الغيوم التي لا تستقر على شكل والطقس الذي يحار الراصد في معرفة ما يخبئه، والبشر الذين لا يعرفون مصائرهم ولا يمكنهم التنبؤ بما قد يحدث لهم، هنا نجد عمال الميناء والصيادين والباحثين عن عمل والساعين وراء «بقايا أحلام زائلة ليست للسرد وسوف تتبدد بعد قليل»، لكن ومن قلب مثل هذه الأحلام الزائلة، وفي قلبها، يشكل أمين صالح الأحلام البديلة لهذه الشخصيات، الأحلام التي لم تتحقق في السرد، لكنها تحققت من خلال السرد، سرده هو وحكاياته الجميلة حتى لو كانت تلك الحكايات تدور، وهو ما يحدث في الغالب، حول شخصيات ليست سعيدة ولا متحققة بالمرة، بل شخصيات تشبه البحر والغيم والطقس والحياة، تفتقر إلى اليقين وتفتقد إلى الأمن والأمان، وتسعى دومًا من أجل استخلاص المعنى من داخل كل تلك الفوضى واللا معنى التي تحيط بها في تفاصيل حياتها كاملة.
في رواية «شمالاً، إلى بيت يحن إلى الجنوب» يصف أمين صالح ذلك البحر «الذي يطوي مياهه في زرقة المسافة ثم يبسطها موجةً موجةً، ثمة سفينة تشق السطح المائي متجهة صوب مرافئ تغير مواقعها لتضلل أي نهب محتمل، حاملة – السفينة – في جوفها مصائر ملاحين رهنوا أرواحهم المدهونة بالمجازفة، ثمة غيمة لا تستقر على شكل، تلهو بالألوان وتبلبل الطقس، فلا يعرف الراصد إلى أي توقع ينحاز، ليست حبلى بالمطر، مع ذلك هي تقذف رذاذًا شحيحًا بين وقت وآخر، كأنها تغيظ الأرض فحسب».
وثمة أحاديث تدور بين هؤلاء العابرين «هؤلاء الذين خذلتهم الحياة ولم تعطهم إلا القليل القليل»، وثمة مناوشات، وتبادل للأخبار والأحوال، وضحكات سريعة وأصداء زفرات مكتومة في الصدور، ثمة طيور تحلق وتطلق صيحات حادة، طيور تحوم في المكان حتى تحط في مكان قريب «على نتوءات صخرية» حيث تحتشد الأصداف والحلزونات، أو لتنقض على الفراغ بمناقير لا تلتقط غير الفراغ»، أو تجيء امرأة فتكسر الصمت، امرأة تبحث عن زوجها الذي غاب ولم تعرف مصيره بعد، بعدها يتغير العالم بالنسبة إليها وبالنسبة لهؤلاء الجالسين على المقهى القريب من ذلك الميدان، هنا تحضر حكايات ذلك المرفأ الأسطوري، مع البحر، هنا المرفأ أو الفرضة، هي الفاضل أو الفريق الفاضل القديم المرفأ المائي.
غالبًا ما يصف أمين صالح المرفأ وصفًا أسطوريًا، هنا المكان مكان أسطوري يجمع بين المألوف وغير المألوف، العادي والغريب، الحياة والموت، الأمن والخوف، هنا تداخل للأماكن والأزمنة والانفعالات والذكريات والبشر، هنا مكان بحري – بحري أو بري – بحري وثمة نزعة إحيائية تسيطر على الكاتب، وكأنه ينظر إلى هذا المرفأ على أنه كائن حي، بل هو الأكثر حياة من البشر، إنه باقٍ مستمر دائم خالد حتى بعد رحيلهم، «مرفأ يصطنع الزهد ويرغب في الغواية»، كأنه كائن آخر، كائن أسطوري، حاضر وغائب، يتحدثون عنه ويراعون مشاعره، نموذج أصلي للمكان المزدوج الذي «يؤوي السفن حينًا، ويطردها حينًا، الحليم والعنيف في آن، الذي يمسح كعبيه بالماء والملح فيما يشد المراس ويرخيها حسب مزاج المد والجزر.. إلا أنه عطوف على ندمائه، هذا المرفأ الطاعن في الوحدة إذ يمزح لهم الملهاة والمأساة في لب حكاية ما سمعوا لها مثيلاً، ويريهم قرابين البحر… «الفاجع منها والفكاهي، الأليف والبالغ الغرابة» هنا الغرقى والكمائن الرحيمة «لمن يأخذه الطيش وقت المد إلى لجَّ يهدي الطائش إلى عُنبّ لا مخرج منه»، سراطين تخلب الباب العابرين «وأسماك صغيرة مفتونة بالطيران ترى أنها أحق بالطيران بالأجنحة من طيور بليدة»، تقضي أوقاتها جماعة على النتوءات الصخرية. في وقت الليل يصبح مشهد المرفأ شديد الروعة، «هنا تتجاور الأضداد وتتعايش، حيث تداخل تضاريس المياه واليابسة فلا نعود نميز المواقع»، هنا تتوافد الكائنات من مختلف الأنوية والفصائل، تتوافد من كل حدب وصوب، هنا يحدث هذا «التناغم المدهش والانسجام العظيم، التآلف الذي لا يشهده التاريخ غير مرة كل ألف قرن»، ويظل المرفأ يرقب السفن المسافرة والمسافرين ويظل «يذرف حزنه لأنه لا يقدر أن يسافر»، وتأتي امرأة تبحث عن زوجها الغائب، تأتي فتهز ذلك السحر الكائن في المكان، وذلك الحلم الذي كان مهيمنًا فوق عالمه، هنا ينكسر السرد ثم يعود، يهدم ثم يعاد بناءه من جديد، هنا يبدأ الحديث عن الغرقى والغائبين، عن الموتى الذين لا يعرفون أنهم موتى، هنا تتداخل عوالم الموت بعوالم الحياة، فالموتى يعودون ويلهون ويمرحون، وإنهم عندما يحين الغبش يطفون على المياه في طمأنينة، يصنعون من الموج كرات مائية بحجم الليمون يتقاذفون بها في مرح صاخب» يعيشون اللحظة ذاتها، وكأن الزمن قد توقف عندها، لا يتحاورون ولا يتذكرون شيئًا أو وجهًا، لا شيء من الماضي يعبر ذاكرتهم، ذاكرتهم مفقودة ومستعادة، وكما تلهو الأسماك وتمرح عندما تخرج من الماء ثم تعود إليه، يمرحون، وكما هي ذاكرة الأسماك المفقودة تكون ذاكرتهم، وتكون رغبتهم في الهذيان، لكنهم: «محتفين باللهو وحده، ينثرون الصخب في الأرجاء ويرشقون أبواب العاصفة الموحدة بأحشاء صوت وبالعواء»، وعلى مقربة منهم أو مبعدة، يقف الموت «على سديم الأبدية» يرقبهم في حنان بينما يمرحون ويلعبون ويصخبون، إنهم غرقى وأحياء خلال الوقت نفسه، يمرحون في قبضة الموت وأمامه وفي مواجهته، فقدوا ذاكرتهم لكنهم يعودون كي يتذكرهم الآخرون، «مخلوقات الطيف» و»رهائن الغيب» كما يسميهم أمين صالح، والذين «فقدوا من بين ما فقدوا ملامحهم وهوياتهم وعاداتهم»، ثم إنهم عندما يعتريهم الوهن ويغالبهم التعب «يصيغون من الموج وسائد، ثم يعودون غوصًا إلى أماكن لا يقدر أن يصل إليها أحد، أغوار لا سلطة لأحد عليها، مشردهم الموت الحنون».
هذا مشهد رائع ووصف جميل بديع وتصوير بديع، وتأتي هذه المرأة فتكسر تدفق السرد وتهز استقرار الحدث وتصبح جوهر حلم من لا حلم لهم، لأنهم «مخلوقات حلم لم يحلم به أحد بعد.. ننتظر هاهنا حتى يفتح لنا أحد باب نومه». وتتوالى حكايات الحب والأحلام والأساطير والأحزان «الهاتف الذي يدعو الجميع للذهاب إلى الشمال»، الخادمة الجميلة التي تبحث عن زوجها ومصيره الغامض والمجهول، ويرافقها في رحلتها شخص يتأرجح بين الذاكرة والنسيان، والبائع المتجول الذي يحاول «بروحه المرحة» أن يتجنب الخصومة والعداء، ويصاحبه كدليل له رجل فقد الرغبة في الأشياء كلها. ثم هناك البواب الشاب الذي لا يعرف الأمكنة ولم يسافر بعيدًا عن منطقته المألوفة قط، ودليله رجل فقد هويته لكنه «يعرف كيف يرد من الجهات»، ثم شحاذة صغيرة «كانت تهفو لرؤية أمها الميتة»، ويرافقها دليل أخرس لا يعرف الطريق ولا يترجم إشاراته أحد، وهناك القاتل الأجير الذي يمقت نفسه بشدة وقد أكثر من القتل ويحاول أن ينقذ روحًا بشرية، ودليله رجل فقد عقله «لكنه لم يُجن بعد»، ومشلول يبحث عن العلاج ودليله رجل فقد الأمل، ورجل عجوز مهجور لا رفيق له سوف مخيلته ودليله امرأة شابة انهار عالمها مع رحيل أبيها، ومصورة «ينهشها إحساس مدمر بالذنب لشعورها بأنه لا تقل وحشية عن غيرها ودليلها رجل يخلط بين الجهات، ثم هناك ذلك الراوي الغريب الذي عايش الكتابة زمنًا فصار لا يميز بين الواقع والخيال، ويجد لذته في التلاعب «بمصائر البشر وفي المزج بين الجد والهزل، يسير عبر جغرافية كتابة وعرة بلا خرائط، يجهل الخاتمة يلهو بالحبكة وينسق الضمائر وفق فوضاه» كما أنه يتركنا في نهاية هذه الرواية وقلوبنا معلقة رهائن الشخصيات كلها، والتي كانت تتبع نداءات عقلها وحلمها وتتجه شمالاً، إلى بيت يحن إلى الجنوب»، لقد فقدوا جميعًا شيئًا، وأصبح مع كل واحد منهم دليل لكنه دليل فاقد لشيء ما، ولمعنى ما، أيضًا.
حالة المطاردة:
يؤدي الشعور بالمطاردة والقهر والاختناق في المكان في أعمال أمين صالح إلى حدوث حالات:
ــ التهويم والتحليق والأحلام.
ــ أو تفكك الشخصيات وتعددها.
ــ أو الموت والانتحار.
ــ أو غيرها من الحالات التي نرصدها في هذه الدراسة.
وفكرة العود الأبدي، والمطاردة، فكرة أساسية لدى أمين صالح تتجلى لديه في تغيير الفصول وتحولها وثباتها وعودتها دائمًا إلى سيرتها الأولى، الليل والنهار والجوع والشبع، الراحة والتعب، فالشخصيات تعود دومًا إلى المكان ذاته. هكذا يعود هذا الشخص، الراوي، في «شمالاً .. إلى بيت في الجنوب» إلى الميدان ذاته، «حاملاً حقيبته الجلدية المكتظة بالحكايات وبنفحات كائنات مرت خفافًا، وفي عبورها تركت شيئًا من سيرتها، وشيئًا من أطيافها»، كما لو كانت المطاردة والصيد لا تتم عند مستوى الواقع والطيور والحيوانات والأسماك فقط، بل على مستوى الذاكرة والخيال والأحلام والأمنيات أيضًا، كما لو كانت هناك دائمًا هذه المطاردة للماضي وهذا الإلحاح الخاص بالذاكرة.
وترتبط المطاردة بالتكرار، لأنها مطاردة مستمرة وطرائد تقع في المصيدة نفسها، وترتبط كذلك بالعود الأبدي، بالدورة المغلقة التي تقع فيها الشخصيات، ومنها ــ تمثيلاً لا حصرًا ــ شخصية أسير الحرب في قصة الملهاة السوداء الذي يتمكن من الهرب مرات عدة، لكنه وفي كل مرة ومهما حاول أن يتخفى أو يهرب يقع دائمًا في أسر مطارديه (مجموعة الطرائد)، لأنه دائمًا موجود في مكان ضيق، دولاب، أو درج مكتب في خيمة جنرال أو ما شابه ذلك. هكذا يقول الصياد لمن يتحدث إليه في قصة «الحانة» المجموعة نفسها «كل الفصائل الحية، كل ما يمرق أمام عيني، وإذا رغبت أن أضيف، سأقول: كل الطرائد تتشابه عند الهرب».
وتجسد قصة «استحواذ» (مجموعة الطرائد) كذلك هواجس وحالة الاضطهاد والمطاردة وهلاوسها التي تتجسد في رؤية الشخص المحوري في القصة لـ«شبح رجل» في أثناء مروره أمام المرآة، وقد كان ذلك الشبح متجسدًا في شكل إنسان قاسي الملامح يلقي بنظرات سامة، لكنه سرعان ما يخفي تاركًا الشخصية المحورية في القصة في حالة شديدة من الفزع والذهول والدوار والاختناق. كما أن حالته هذه قد امتدت حتى شملت المرئيات المحيطة به، حينها شعر بالأشياء تدور والسقف ينقلب رأسًا على عقب والجدران تتلوى، تتمدد ثم تنكمش، وساعة الحائط ترتج بعنف والبندول يرن كجرس هائل والعقارب تدور بسرعة رهيبة والمرآة تتهشم إلى شظايا. وتتبدد هذه الحالة أو تخفت عندما يفتح النافذة، لكن المطاردين له سرعان ما يعودون، يصبحون جماعات بدلاً من أن يكونوا أفرادًا، ويجمده الرعب، و«صار مسوَّرًا بظلال وأطياف تباغته بطعنات غادرة وراح يهذي، تأرجح بين الصحو والغيبوبة».
في «الطرائد» كذلك نجد تلك الشخصيات التي تطاردها أوهامها أو يطاردها الآخرون بسبب قدرها السيئ أو تشوهها الجسدي (قصة «أيها المسخ الجميل.. طاب مساؤك»)، إنها كائنات مطاردة ومطرودة من جنة الدنيا وربما الآخرة، وقد تطاردها أحلامها وذكرياتها وماضيها أو يطاردها حاضرها، وربما مستقبلها القادم أيضًا.
فكرة المطاردة أساسية لديه أيضًا: مطاردة الأحلام أو الطيور والأسماك والذكريات أو البشر أو الأمنيات أو حتى المظلات (مجموعة الطرائد، قصة «كم هو بعيد ذلك المرفأ»).
(البقية بموقع المجلة على الانترنت)
والبحر هو البحر، يرصف كالطفل مراياه الصقيلة ساعة يصفو وساعة يهدأ، ينفث على رعاياه الصاخبين والكسولين معًا نفحات من طيبة وسخائه .. رائق هو الآن .. نبيل ومتسامح، ولا أحد يعرف سر تحولاته وتقلباته، كم سطو حدث أمامه ولبث ساكنًا بلا حراك، وكم لهو بريء آثار غضبه وهيج عناصره، ومع ذلك لم يتهمه أحد بالجنون، إنما قالوا عنه: «ذلك الغامض الشفاف».
النزعة الإحيائية عند أمين صالح:
في قصة «وجه امرأة» (مجموعة العناصر) يتم رصد مشاعر الحب والكراهية وصراع الرجل والمرأة من خلال المشاعر التي تبديها الأشجار أو النوافذ أو البلابل، والتي تتعاطف كلها مع المرأة أو مع الرجل، هنا نوع من خلع الصفات الحية على غير الحي، تحريك الساكن ودفع الحياة في الجامد، كما لو كانت الخلايا المرآوية التي اكتشفها العلماء أخيرًا أو المسؤولة عن انفعالات التعاطف مع الآخرين والتوحد مع الطبيعة والكون، وعن فكرة المحاكاة في الفن والتقمص الوجداني؛ موجودة هنا على نحو شديد الخصوبة في أعمال أمين صالح.
في قصة «وجه امرأة» (مجموعة العناصر) يتم رصد مشاعر الحب والكراهية، وصراع الرجل والمرأة من خلال عين شجرة ترى وترصد وتتأثر وتعلق وتتحكم، وهناك ما يشبه السيناريو الداخلي والخارجي الذي يجسد من خلال الضوء والظل والإنارة والإعتام حياة البشر ومشاعرهم، هؤلاء الذين يدخلون إلى عالم العتمة من خلال مشاهد يتلو بعضها بعضًا، والنافذة تنام وتستيقظ «وتصغى إلى صدى نداءات النهار الذي ينقضي، بإجراء من ضوء، فلول الليل وتلك البلابل التي التهبت مناقيرها لتريح الحيرة عن ريشها وتأخذ في الصباح مغتبطة، إذ لا شيء يضاهي حضور المعجزة».
وتتجدد الطبيعة وتتجلى على أنحاء شتى، فبعد أن كانت الأرض تغطيها الأعشاب والسحالي، تظهر مكانها «شجرة شاهقة كالجبل»، وتثمر الشجرة أصنافًا من الفاكهة، وتتلألأ بين أغصانها وجوه معروفة، وتصبح أوراقها مرايا تعكس تلك الوجوه المتلألئة التي تقطن الثمار، ويقارن الفلاح بين تلك الشجرة المغوية وبين الحية التي أغوت آدم في الجنة، وحدهم الأطفال يصدقون المعجزة ويمدون أيديهم لقطف بعض ثمارها، ويحتفلون مع الطيور والحيوانات بهذه الشجرة المتلألئة، لكن عندما يحضر الكبار بقسوتهم ومطاردتهم وأمراض عقلهم وجفاف خيالهم تستل الشجرة جذورها من الأرض، وتغادر المكان بعد أن قامت بهزة هزات مرعبة.
فعل النظر والمشاهدة
التفكير البصري والذي هو محاولة لفهم العالم وتفسيره من خلال لغة الشكل والصور موجود بكثرة في أعمال أمين صالح، ويتجسد من خلال فعل النظر من وراء النوافذ أو الكاميرات أو نحو الأفق؛ موجود في معظم أعمال حسن صالح، النظر والإبصار أساسي لديه، حتى إننا نجد مثلاً أن الفعل يبصر يتكرر خمس عشرة مرة في صفحة واحدة من رواية «المنازل»، والضوء أحد مكونات عالمه البارزة أيضًا، هكذا نجد أن القزم في «ذراع امرأة» يرشو الضوء كي يشق ستائر الصفحة ويشعل النافذة ليرى بجلاء رنين الأنوثة، وتتجلى أحلام القزم بالحب والنساء من خلال أفعال المشاهدة والنظر، فمن خلال النظر من وراء النوافذ والشاشات، تبدأ عوالم الصور والأخيلة في التدفق والجريان «لن يأسر هذه الأرواح الرهيفة سوى ذلك الذي يتقن شعائر التناسخ».
هكذا يقول الراوي في «ذراع امرأة»، وكذلك و«ما أنا إلا حمحمة ظل»، هكذا يقول القزم. وفي القصة رؤية سيريالية خيالية متدفقة تفتقر للترابط المنطقي ولا تفتقر للجمال الخيالي، فالقزم يرى «شعبًا من الأشجار تعوي وحولها أفراد من البشر يتحركون كما لو كانوا نيامًا، موز ينهمر من أعلى، تفاحات تهرول مذعورة، ورجل يجثو في خشوع أمام امرأة تجلده بسوط لاهب وتعوي عويل من ناحية: أرامل ينشرون مراتبهن على صنوبرات كفيفة ويومئن له أن يتقدم ليغرزن في ذراعه مرثية مهيبة، لكنه لا يتقدم بل يتقهقر راجعًا».
وفي «ذراع امرأة» يغفو البحر مسدلاً أهدابه على كائنات مكتنزة بالطين والجلبة والأرض المرشوشة بالقواقع وحلى البحر، لينة ناعمة كما كانت، ومن كهوف الحلزون تقبل حوريات مبللات بالسحاق تدحرج أثداءها، و«على صارية السفينة رجل ينادي الريح مثل مخبول مؤجج بالسفر»، يتجسد التفكير البصري في أعمال أمين صالح على مستوى الأفعال والحركات والإيماءات والصور والأحلام.
وفي «ترنيمة للحجرة الكونية» «نوافذ مطفأة تطل على الغياب الحجري .. قطط لا تكف عن الصلاة وصدى جلبة أليفة .. وقبرة تحلم كثيرًا، إيمانًا بأن من يحلم له حظوة عند النباتات .. وثمة مخطوطات بلون القهوة تنسج حوارًا غامضًا لشعب غامض».
وهناك احتشاد في «باب مفتوح على الخاتمة» (والمنازل التي أبحرت أيضًا) لأفعال النظر: يرنو، يحدق، ينظر إلى زوجته الشابة، «كم ناضل حتى يتقرب إليها ويلفت نظرها». يرنو إلى الثمرة الساطعة وقد نال منها العطب وتفشت فيها الهولة، ينظر إلى وجهه في المرآة؛ فلا يبصر تلك الوسامة التي كان يتباهى بها ويتغطرس .. يحدق الآن فلا يبصر غير تجاعيد محفورة بأصابع زمن لا ينقطع عن الحركة، ينظر إلى بيته الذي شاخ معه عامًا بعد عام .. ينظر إلى بابه الذي اصطفق فصلاً بعد فصل حتى احتل الصدأ مفاصله فصارت تطلق صريرًا حادًا كأنها في النزاع الأخير.. ينظر إلى شبابيكه .. ينظر إلى شرفته .. إلخ، وهكذا حتى يظهر له القرين.
وفي العناصر (1989) هناك امرأة ذات حضور آسر تتجول تدريجيًا إلى ما يشبه الشجرة، وهنا اهتمام بتفاصيل الحياة اليومية، حياة البسطاء الفقراء المشغولين بأحلامهم الصغيرة في عالم يكيد لهم ويدبر المؤامرات، رجل يعتقد أن امرأة ما معجبة به، ويستمر في أوهامه حتى يكتشف أنها عمياء، عالم تمتزج فيه براءة الأطفال بقسوة الكبار وانهيار الأحلام وحضور القسوة والقتل الحضور الكثيف للنساء، لامرأة ذات ملامح أسطورية، للبحر والماء والدم، وإشارات إلى الخبز والقمح والزراعة والأرض والنار والماء والعمل والحياة والصيادين والطيور وعمليات صيد اليمام، وصبر الصيادين المتربصين بين الشجيرات لهبوط اليمام، ومن خلال عين يمامة يتم رصد تفاصيل الحياة وعلاقات البشر وانفعالات الحب والكراهية والصراع والتحولات والصياد الذي يصبح طريدًا مطاردًا، ضحية حزينًا، يصبح كسير القلب عزوفًا عن الصيد، بينما تصبح اليمامة مطاردة له بنظراتها الحادة الجسورة القوة (قصة جذع امرأة).
ذلك السحر الخفي
وأمين صالح مولَع بالسحر الخفي، سحر الطبيعة وسحر البراعة وبراعة السحر، بالكائنات الفذة الخارجة على النمط التقليدي والأطر، بالصيادين المهرة والسحرة، بعازفي الموسيقى، والحالمين والمتوهمين وصناع السينما، صناع الأحلام أبناء الأساطير ونسل أصحاب الملاحم. وهو مولع كذلك بفنون الفرجة والحواة وأصحاب الحيل، بالخاطفين للأنظار والعقول والمؤثرين على سلوك البشر، المتلاعبين بهم وبمشاعرهم والمحققين للبهجة والمتعة لهم أيضًا. هكذا يتجلى ولعه في «وجه امرأة» (مجموعة العناصر)، بذلك الحاوي الذي ما أن جاء إلى البلدة، حتى «بدأت الأشجار تخاطب البشر، وفتحت العصافير أقفاصها وطارت، والأقفال أصبحت تتفتت عندما تلامسها اليد كأنها مصنوعة من طين والفوانيس تنتقل من مكان إلى آخر. وقاسم حداد الضرير أقسم – وهو لا يكذب أبدًا – بأنه شاهد بقرة في غرفته، وعندما دنا منها، ضحكت واختبأت في الجدار»، وتأثير الساحر في هذه القصة يشبه كثيرًا تأثير عازف الساكسفون في رواية «رهائن الغيب»، وهكذا يتساءل الراوي هنا: «من كان يصدق أن بلدتنا الآمنة يمكن أن تتزلزل هكذا؟ دخل الساحر وفتح صندوقه، فخرجت منه كل الشرور والفتن. وينبغي علينا، نحن سادة البلدة، أن نمنع الكارثة قبل فوات الأوان».
ويصف الراوي بمهارة، براعة الحاوي وخفة يده، فيقول: «بأنامله يبتكر حركة خفية، مراوغة، مرنة، تبهر أنفاس جمهوره، وبأدواته البسيطة يعلمهم أن كل شيء ممكن لو نفضوا الغبار عن الأعين».
والذاكرة أخطبوط، والملاحون يرحلون، لا يرون غير ظلال جزر محلقة تتساحق في مخادع العاصفة» ورأينا كل شيء يطفو في ملاعب الهواء: الحجرات، المقاعد، الماعز، المحاريث، الأشجار، أكوام القش، الملاعق، الأطفال العراة، الطواحين، المشاعل، الينابيع، الحالبات مع أبقارهن الخضراء، الزنابق (الأفران، الأشرعة، الأخشاب، السلال المليئة بالرمان، رأينا كل شيء يطفو فيما عدانا)، «فسيقاننا مغروسة في شريان الأرض، وعروقنا قد تغلغلت في الأغوار، وليس بمقدور سلطة أن تزحزحنا عن مواقعنا».
وتحضر الطبيعة البرية، الزراعية، والبحرية والحدائق والغابات والحقول والأشجار، ويتزاوج البشر مع الأشجار والظلال كي يتدرجون «منازل السبات» لتبلل بمناقيرها العذبة بذرة الحلم النباتية، وأبهى من أحلام الأحلام «أحلام الواقع» التي تشبه الأحلام، النساء الأحلام، المرأة التي يصفها الراوي في «ترنيمة للحجرة الكونية» بأنها حضور أبهى من الحلم، «عشيقة الماء المجنون، الغريبة التي اعتنقت الغرابة، وأسجرت، كالحلزون المتطفل في معاقل أسرارنا».
الكائنات البينية:
هنا ــ في أعمال أمين صالح ــ يواجهنا أيضًا الإنسان الحيوان أو الحيوان الإنسان، الكائن البيني الذي يبدو كالبشر وما هو بشر، الذئب أو الشيطان الذي يتحول إلى امرأة جميلة و بالعكس (وصف لعملية التحول العنيفة الشرسة المخيفة)، امرأة تلتهم الرجال، لكنهم لا يكفون أبدًا عن رغبتهم فيها، وكأنهم يلقون بأنفسهم طواعية إلى التهلكة في نوع من العود الأبدي والتكرار الغريب، وهنا أيضًا نوع من الحس الشعبي الجمعي، وحكي من خلال ضمير الجمع ولغة أقرب إلى التعاويذ والرقي والطلسمات والسحر. آمال وآلام، واعترافات وأحلام، لغة أشبه بلغة الاعتراف أمام الطبيعة وأمام الذات، وشعور ما بالذنب والقهر والخوف والخواء والعنف واللاجدوى وجمال خفي، جمال مستحيل يشبه حديث السيرياليين عن الفاكهة المحرمة.
في أعمال أمين صالح هناك أيضًا الكائنات البينية أو المهجنة وغيرها من أشكال الكائنات، هنا يكون للاعتراف «لون الوحشة وطعم الخطيئة» وشعور بأن المتاهة والمصير الغامض ينادي البشر ويكرر نداءه ولا يستطيعون أمامه مقاومة، والكلاب تتدافع على حافة الجسر لتختبر لذة الانتحار، وهناك أيضًا «تلك المغوية التي أغوتنا جميعًا، ثم طرحتنا فريسة حقد هائل».
وتصبح الأشياء غير الحية مفعمة بالحياة ضاجة بالحركة، وتقوم المرايا والأسقف بالمراقبة والرصد والتسجيل والالتقاط للبشر وتصبح المغوية «الملتقى الموثوق للأفراد والأشباه، للشهود والأشباح، للفكرة ووصيفاتها، للثمرة ورموزها… إلخ»، وتفتح المغوية مصراعيها لاندلاق الصورة واندلاعها، حينئذ «لا يعود الرائي رائيًا، بل قافزًا إلى شفق المجازفة، غائصًا في ضباب يؤرجح شرفات ماضيه – كهوف مثقلة بالأشباح ويداعب أشبال حاضرة المزمجرين، عاقدًا صفقة الانبعاث الخاسر مع نفسه المعلقة»، والسرير «وشاح الغفوة وحرير الحلم والراوي: كان يفتح باب الحلم قليلاً، في غفلة من الحلم، ويسترق النظر إلى مخلوقات صغيرة تتدافع مهتاجة في فوضى عارمة، لتعتم مسرح الحالم وتنخرط بعشوائية في سديم المشهد. وكان أيضًا يزيح الغطاء، آناء العناق، كاشفًا عرى الأجساد ليسعر شهوة المساء وليضمحل فك فمه من امتقاع المساء».
صيانة الذاكرة وخيانتها:
في رواية «رهائن الغيب» (والذين هبطوا في صحن الدار بلا أجنحة) سرد لحكاية طفل يتنبأ بميلاده، بحياته القادمة، بعد إقامة، يبدأ الحكي قبل أن يولد، ويرصد توترات أبيه وطيران الطيور وهمهمات النساء وآلام أمه يكتب هنا ما تمليه عليه الذاكرة وما لا تمليه، ويقول: «فإني أصون الذاكرة وأخونها في آن»، ويشبه عملية التذكر بحركات الصياد، لكنه هنا ينصب المرايا لاصطياد أطياف خياله. ويسرد البازغ من «أيام راوغت فخاخ النسيان، ولا تحتكم إلا إلى مفاتيح تتقرى أقفال الأمس»، إنه يسرد هنا ــ كما قال ــ «صدى الفكاهة، .. والجسد الكامن خلف براءة الأشكال.. وأنقاض خرائط خلفتها حروب وديعة وضوضاء أعمار تهرق لبنها في دلاء الفصول»، إنه يسرد «مرايا حي الفاضل في العام 1963»، يتحدث عن الطرقات المرشوشة ببقايا نهار تسرب من شق الزمن، عن الأزقة الأفعوانية الضيقة والمخاوف والكوابيس والبيوت التي من طين والتي تجاور بيوتًا من سعف، والمصابيح المعلقة على أعلى الجدران، والكلاب الهزيلة التي تبعثر أكوام القمامة، والأبواب التي تفضي إلى الأحواش، والدراجات الهوائية والصناديق الخشبية وأدوات النجارة البسيطة وإخوته ووالديه والأشباح التي تتلألأ في مرايا الصور، يجلي عن صدى الطيور بالمقلاع، عن المصائر التي كانت «رهائن غيب سافر يسور أعمارنا بالكمين تلو الكمين، ويقهقه كالرعد»، عن الأطياف والذاكرة والحلم عن عالم الأطفال والبراءة والخيال والانطلاق والبكورة والحنين والحزن، عن كريم الذي يعرج في خطاه وعزوز الذي يتأتئ في كلامه، وبركات الرجل النحيل الذي يتوهم ويكلم نفسه كما لو كان يجادل أشخاصًا حقيقيين أمامه، عن زكريا والوالدين والإخوة والمشاهد الطبيعية والقوارب ولعب الأطفال والنوارس التي تحط «والصيادون» يصنعون الأقفاص الكبيرة لاستدراج السمك وعن السمك الذي يلهو والنوارس التي تحط على الصخور الناتئة، عن الذاكرة وأطياف الأصدقاء وذكريات عالم مضى وانقضى، عن عالم مخزون شديد الحضور، عالم موجود هناك في أعماق الماضي، بضحكاته ودموعه ومآسيه، عن التذكر والمحو، عن الأشياء والماضي والنسيان، عن الصداقة وما يعتريها من تبدلات وتحولات، عن العمر الذي يمضي وينقضي، والأطفال الذين يهرمون، عن الشيخ الضرير الذي يقود شيخًا ضريرًا وبعكازيهما يجسان كمائن الأرض لئلا تغدر بهما الحفر»، عن الحلم، عن «سلطان» الأسطورة الحية المتحركة الذي يقتدي به حميد، ويعجب به ويحاكيه عن النظر والتساؤلات عن تقمصات الكائن وتحولاته، عن إيوائه للأدوار وانتحاله للأدوار، عن الرحلة المجهولة في غابة المرايا، حيث كل إقليم يسن شرائعه وعاداته، وعن القدر الذي يترك آثاره أمامنا دون أن نراها، والصدفة التي تلهو بنا لكي نلهو بها، عن نحن والآخرين والعالم، وكذلك عن عالم السينما والأحلام، «لكنه لا يزداد بعد تساؤلاته تلك إلا جهلاً والتباسًا».
وفي رهائن الغيب، يتم الحديث عن الماضي من خلال الحاضر، وعن الحاضر من خلال الماضي، وهناك حضور كثيف لآليات التذكر والتوقع والاستعادة والاستباق لأحداث كانت رهينة غيب لكنها لم تكن كذلك رهينة مستقبل ولم تعد كذلك، رهينة أحلام وأفلام وأخيلة، لكنها لم تكن كذلك رهينة مياه كالغرقى لكنها لم تعد كذلك. وعفاف تختفي ولا يعرف أحد عنها شيئًا ومفتاح يجن بعد أن أحرق بيت أبيه الذي طرده منه، هنا مرثية للصداقة ونوستالجيا للشجن وحنين للصيد، صيد الماضي والذكريات والصداقات.
الأحلام والكوابيس عند أمين صالح:
لدى أمين صالح تجسيد واضح لمقولة نيتشة «لسنا صادقين تمامًا إلا في أحلامنا» ولا يخلو عمل من اعمال أمين صالح من وجود تيمة ما من تيمات الأحلام، ولديه أيضًا الأحلام أنواع:
1ــ ترتبط الأحلام بحالات العزلة والوحشة والكآبة والوجود الشقي (إذا استعملنا لغة هيجل).
2ــ ترتبط الأحلام أيضًا بالفقدان والفقد، هنا الشخصيات تحلق وتهوّم عساها أن تجد في أحلامها ما تجده في واقعها وحاضرها، والفقدان أنواع منها:
ــ فقدان للأبناء والأزواج والزوجات والأصدقاء والفقدان المادي للإنسان، هكذا يحلم الأب في قصة مساحات بيضاء للذاكرة (م. الطرائد بابنه المفقود).
ــ فقدان لليقين والمعنى والدلالة بسبب الحضور الكثيف للموت أو المرض أو التحقق أو المال.
ــ فقدان للهوية وللتماسك وللوجود معًا، الهوية بالمعنى الفردي أو بالمعنى الجمعي.
هكذا تحقق الشخصيات ذاتها ووجودها بالأحلام، ففي «شمالاً … » يعدو كريم وهو طفل يعرج ويدور بحركات راقصة، والمرأة التي جاوزت السبعين في «المنازل التي أبحرت» ترى نفسها شابة في أحلامها التي ترويها لملك الموت، كما أنها تطير أيضًا، ويحلم الأرمل بالطيران أيضًا، بالذهاب إلى عالم البدايات والخلو من الهموم، بل إنه هو نفسه يتحول إلى طائر، لكنه يخشى السقوط.
وتقابل الشخصيات أحباءها في الأحلام، بل إن امرأة تقول لحبيبها «تزوجتك في الحلم، وحين صحوت ترملت»، وتكثر لدى أمين صالح أحلام الحركة والطيران المرتبطة بالحرية أو الطموح أو الجنس أو التحقق مع آخر أو الاستعادة لآخر مفقود، وهي – كما قلنا – أحلام تعبر دائمًا عن تلك المعاناة الخاصة بالفقدان للأمن والافتقاد لليقين والوحدة والوحشة والخوف والشجن في الأحلام، كتلك الموجودة في مجموعة «الصيد الملكي» وفي غيرها، نوع من الولع باستكشاف العلاقة بين الآباء والأبناء، أو بين الأزواج والزوجات، أو بين الذات الحالمة والآخر الكابوس، في الأحلام خيال وتحليف وهروب من الواقع، وأحيانًا ما تكون هناك نزعة أوديبية ما في الأحلام (كراهية مبطنة أو صريحة للأب وتعلق شديد بالأم، قصة «بابا نويل لا يحب الدمى» «الصيد الملكي» مثلاً) .. ثمة آخر دائمًا في الأحلام، لكنه غائب دائمًا.
وترتبط الأحلام بحالات العزلة والوحشة والكآبة والوجود الشقي، هكذا تحلِّق الشخصيات وتهوم في عالم الأحلام عساها تجد فيه ما تفتقده في واقعها وحاضرها، وترتبط الأحلام في أعمال أمين صالح كذلك بالرحيل، وبالفقدان، بالموت بالفقدان لليقين، هكذا يتذكر الأب في قصة «مساحات بيضاء للذاكرة» (مجموعة الطرائد) ابنه المفقود، يتذكره وهو يلعب ويضحك ويحلم أحيانًا، كما أنه وفي الحلم «يستعير وجوهًا ملائكية عديدة، عندئذ أدرك أنه غادرني – مؤقتًا – وسافر إلى قارات السماء النائية الملأى بالنجوم والكواكب»، كما أنه يتخيل ابنه الذي عرف أنه مات، ويرفض أن يعترف بهذه الحقيقة، ويقرأ رسالة متخيلة متوهمة مرسلة منه، تحكي له عن نجاحاته وسعادته وذكرياتهما الجميلة معًا.
في الأحلام نشهد تحولات الرجال إلى أطفال وبالعكس، وتحول عالم اللعب والإيهام إلى عالم يرتبط بالموت الحقيقي والقتل في قصة «الهدية» (مجموعة الطرائد) مثلاً، ونجد كذلك وحدة الطبيعة والغرائز البدائية الجامحة (قصة «عاجلاً ينتهي كل شيء» مجموعة الطرائد).
والصياد الذي يعود جهمًا ووحيدًا، ووصف لمهارات الصيادين وطقوسهم وأحلامهم وأفراحهم وأحزانهم. عن حالاته وأحواله ورؤيته قدرته على أن يبصر أحوال الصغار والكبار الرجال والنساء، المدن والمهرجين، عن المقهى الزجاجي والزجاج والمرايا، والمرأة التي جاوزت السبعين من عمرها ترى نفسها راقصة شابة في أحلامها التي ترويها لملك الموت، بل إنها ترى نفسها تطير أيضًا.
وحديث عن المرفأ وأسراب البلشون والبحر والنمل الذي يبعثر زرقته والبواخر الطافية على الزغب المائي تشدها المراسي الثقيلة إلى أحواضها فتمكث ناعمة أو هكذا تبدو، وبواخر أخرى شاردة، منفلتة من مرابطها، فتنظر ثمار البحر وتشيع الفوضى والاضطراب بين القواقع والأصداف.
وكريم الأعرج لا يعرج في حلمه، بل يعدو ويدور بحركات راقصة، لكنه في أحلامه كان يعاني الوحدة والوحشة والخوف والشجن وفقدان الأمن والافتقار إلى اليقين، هنا أحلام الحركة والطيران المرتبطة بالحرية والجنس والغريزة المقموعة أو المكبوتة أو غير المتحققة .. وهناك أحلام الطيران، طيران الأشياء وطيران البشر.
والرؤية الشبحية في أعمال أمين صالح شديدة الغرابة، فهناك تلك المرايا المتخيلة وتكرار الدخول إلى المكان والخروج منه، سطوة المكان، الشبحية والشخص الذي لم يعد هو ذاته، وكائنات منظورة وغير منظورة، وشخصيات تنتحل شخصيات أخرى وتتقمصها، والمرآة لم تعد تعكس المرايا أو حتى الصورة والطيف، والشخص صار خفيًّا، غير منظور، أو محض روح بلا جسد، محض شبح .. «وعندما يحاول الشخص التأكد من ذاته ويمد يده لتلامس الزجاج يجد أنها تنفذ إلى الداخل، دون أن تمس أو ترتطم بشيء؛ إذ لا يوجد هناك أي سطح أو حاجز، مجرد فراغ أو مدخل، وفي الخلفية البعيدة لا تزال الشجرة تحترق».
و»يدخل الشخص في المرأة عابرًا الرواق الذي لا يعرف إلى أين يفضى به» ويتوالى ظهور الشخصيات، وتتابع عمليات اختفائهم داخل المرأة.
ويحلم الأرمل بالطيران، والذهاب إلى عالم البدايات والخلو من الهموم، أحلام الطيران والخوف من السقوط في طيرانه، الأرمل الذي لم تهبه زوجته العاقر المتوفاة طفلاً، يحلم بالأطفال، يتحول بالفعل إلى طائر، ويطير، ثم يصحو من حلمه عندما يرى صيادًا في حلمه يصوب بندقيته إليه، ويحاول أن يواصل الطيران، لكنه يسقط من حالق أو يخاف.
السينما والأحلام:
في «رهائن الغيب» وصف بديع من خلال الذاكرة الفوتوغرافية الحية للراوي لصالة السينما التي ذهب إليها حميد وكريم وزكريا ومفتاح وعزوز، وكيف كانت تلك الصالة مكتظة بجمهور غير متجانس «جاء ليحلم في نوع من الحضور الاحتفالي الذي يشبه العيد، حيث الفوضى المغوية والاختلاط المترف لشتى الأمزجة والطبائع والأذواق».
وحيث لا أحد يحتج أو يتذمر، كأنه طقس موروث ينبغي عدم المساس به «ثم إنه ما إن تُطفأ الأنوار وتعم الظلمة المكان حتى تنزاح فلول الفوضى فجأة ويخيم صمت كصمت فضاء مهجور فلا يعكر السكون كلام ولا همس، ويصير كل من في الصالة أشبه بناسك معتزل، هنا تحضر أشباح الصور ويعم السحر ويكون هذا التحول الطقس المفاجئ هو سفر جماعي في الزمان والمكان معًا.. هجرة لا تكتمل إلا بمصادرة الوعي وتحييد الإرادة»، إنها حالة من التعليق للحكم المنطقي العقلاني والتصديق لما لا يصدق، تعليق لحالة عدم التصديق، خلاله تكون الأعين كلها شاخصة إلى مرآة الأشباح والظلال مأخوذة بما ترى. الأفواه فاغرة كنوافذ صغيرة تطل على نبع الصور. ومع تتابع الصور السريعة، المتلاصقة في هذيان بصري، تتقلص عضلات الوجه وترتخي، تنفرج الشفة وتنطبق، تتغضن الجباة وتنبسط، تترقرق المقل وتجف، تختلج القلوب وتهدأ».
أما حميد فينسى أنه حميد، يتماهى ويتوحد مع الشخصيات «إذ ينسلخ من جلده منتحلاً هيئة أخرى وهوية أخرى، ويذهب وينأى ويغيب ويتماهى مع ذلك الكائن السماوي، القاطن في فضاء الحكاية أو الأسطورة، الذي يشد قوسه ويشبك بسهامه صدور الأعداء، وفي لمحة يصل المغامرة بالمغامرة، وذلك البطل في العراك والحب ينتحل الآن وجه حميد»، هنا الراوي متأرجح بين الحضور والغياب، حميد الذي كان موجودًا في الماضي والأنا الخاصة بالراوي أو الكاتب الحاضر الذي يستعيد الآن تلك الذكريات والصور ويرويها «هنا عالم آخر، آسر، أكثر دفئًا وتشويقًا، ينتزعني من الرحم المظلم ليلقم صدفتي رخاء الصور، ومن حَلَمة المشهد أرضع حليب الحلم».
من قاعة السينما والظلمة وظلمة الرحم والقبر هناك موضوعات وكتابات في كتاب الخيال، هناك تداخل العوالم التذكر والسينما والتوهم. وتحضر لغة السينما ومفرداتها، يحضر الحديث عن الخيال والتمويه والتحولات والإيهام حتى للمشاعر، بل وللمشاعر والضغينة خاصة، وهنا أيضًا رصد لعلاقة السينما بالذاكرة «كنا نخرج عصرًا من صالة السينما كمن يخرج من سبات .. بأجساد مسلوبة أو مغمورة في خليط من عصارة اليقين وكحول الوهم، وفي المسافة التي تفصل خروجنا من القمة ودخولنا في الضوء، تتحرك الذاكرة في سرعة خاطفة لتفسح أمامنا ما اخترناه من صور متلاحقة ومتداخلة فتحاكي في جذل ما شاهدناه من عراك».. «ساعات قليلة كنا فيها رهائن شاشة أشبه بنافذة جوالة تطل على حقول وبيوت وجبال، وفيها تتزاحم الصور والأصوات والحركة .. وها نحن نزاحم أشياء الواقع بحضور جناح، دليلنا حواس مرتبكة لا يزال يتجاذبها يقين الواقع من جهة، ويقين الوهم من جهة أخرى».
وهنا في هذه الرواية رصد لمرحلة العبور من حالة إلى حالة، من الطفولة إلى المراهقة ومن مرحلة الحلم في أثناء المشاهدة للأفلام إلى مرحلة التذكر لها بعد الخروج من الظلمة إلى النور، ومثلهما مرحلة التوقع والفضول، ثم مرحلة الحركة والمحاكاة لما تمت مشاهدته .. وعبور أيضًا لواقع ومجتمع من المرحلة القديمة إلى المرحلة الحديثة أو الحاضرة هنا محاكاة الشخصيات الأطفال لأبطال الأفلام والروايات، وبخاصة أرسين لوبين.
وهكذا نجد أن فقدان زكريا للأب يدفعه إلى الحلم والهوية والشعور بفقدان الأمن والأرض الثابتة والأمان، هكذا يتوهم رؤيته لرجل يشبه والده يأتي من البحر «قادمًا من تخوم المد، حيث حركة الأموال أقل عنفًا، وحيث يلفظ البحر أحيانًا رهائنه من الغرقى». وعزوز يشعل النار في والده الذي كان يسيء معاملته ومعاملة والدته ويحرق بيتهم.
ازدواج الشخصيات والفصام:
عيد شخص غريب الأطوار ومتناقض، ولم نكن نعرف أنه مصاب بانفصام في الشخصية، هو أقرب للشخصية الدورية المتقلبة منه للشخصية الفصامية، فقد كان يتأرجح بين حالتين متناقضتين تمامًا، «فمرة هو غائص في السكينة والهدوء، مستغرق في التأمل، وإن تحرك فبرزانة، وإن تكلم فبرصانة، ومرة تراه يتصرف كالطفل وبعقل فالت لا يقدر التحكم فيه، فيشاغب ويشاكس ويطلق هذيانه هنا وهناك، مبعثرًا الكلام المبهم كيفما اتفق، تاركًا الجمل الناقصة تتخبط بعشوائية، ويكون نقيض حالته السابقة، وكأنه شخصان يتعايشان في جسد واحد، ويتناوبان في التعبير عن ذاتيهما ودون تدخل أو اعتراض من الذات الأخرى، وفي كلا الحالتين لم نرَ عيدًا يجنح إلى العنف أو إلحاق الأذى بالآخرين، بل كان مسالمًا وطريفًا حتى في مشاكساته».
عن المسوخ والغيلان والأشباح والكائنات الليلية المخيفة
في «رهائن الغيب» حديث عن الغيلان التي تسعى في الأرض، الموهوبة في التقمص، التي تلعب بمهارة أي دور يحلو لها مع مسرح طافح بالدعابة الشيطانية والمسوخ تخرج فرادى وبلا اندفاع، باحثة عن عابر في مملكة الليل لتستفرد به وتبث في أحشائه الذعر الذي لن يختبر له مثيلاً، والمسوخ مزيج من أشكال البشر والبهائم، لها جسم إنسان ورأس حيوان، ولحوافرها صوت يشبه الجرس، قادرة على أن تحدث الهلع في الأفئدة، وتحول العروق إلى ما يشبه الهشيم، يخاف الناس من النظر أو حتى اختلاسة إليها».
ومع المسوخ والغيلان هناك الأشباح الذين لفظتهم أجسامهم بمجرد أن مسها الموت، فأضحوا يجوبون عبر الأثير في أشكال هلامية غير مرئية ولا تخضع لقوانين فيزيائية .. باحثين عن أجسام أخرى قابلة للانتحال، لكن لا أحد يعير جلده لمن لم يعِن بدنه على البلى والتلف، لذا يهيمون بلا كلمة ولا غاية .. موتى في عالم لم يعد يتعرف عليهم ولم يعد يقبل باستضافتهم أو يرحب بهم. صاروا غرباء ودخلاء في بيوت وملاعب شهدت يومًا ما حضورهم وضجيجهم. وها هم يرتادون الأماكن التي ألفوها وأقاموا فيها حينًا، يشدهم الحنين المعذب إلى مراتع الأمس، ودون روية يتركون القرائن التي تدل على سرورهم وإقامتهم العابرة كي يتذكرهم الآخرون بالدرجة ذاتها من الاشتياق، ولا يعلمون أنهم بذلك يفتحون للخوف مداه».
ثم هناك الجنيات اللاتي يرفلن بالغواية، «وإذا عرجنا صوب البحر، صادفنا وحوشًا ومسوخًا لا تحصى، غير أن أخطرها وأكثرها إرعابًا ذلك المخلوق العملاق، المفرط في الوحشية والطاعن في البشاعة، والذي يخرج من مسكنه في الأعماق مرة في النهار ومرة في الليل، مغطى بالطحالب والسراطين ليبتلع من تسول له نفسه السباحة في محميته المائية، ثم يعود غائصًا مع وجبته بعد أن يتفقد بعينه الواحدة المدى الشاسع في المياه».
إنها كائنات الخرافة التي لا يكل الخيال الشعبي من خلقها وإعادة إنتاجها على مر العصور.
هناك رحلة عبر الخوف والرعب ومواجهة العفريت أو الغول يمر بها حميد حتى يواجه في النهاية العيون التي لا تحصى التي ينبعث منها الشرر، والتي تظهر فجأة من بين الكوات لتحدق به وتحدق إليه، وعندما يهيمن عليه الهلع يتوهج الموقع ويرى شيخًا سمح الوجه ذا لحية طويلة بيضاء وعليه رداء أبيض يغطي قدميه ويقول له بصوت مهيب: «تعالَى يا فتى، تعالى إلي»، فيطلق حميد صرخة الفزع التي خالها لن تنتهي أبدًا»، ثم وصف للنهاية، للشتاء والليل والمطر والطرقات الخالية وأحوال الأطفال بعد أن دخلوا في مرحلة المراهقة والرشد.
عن الثبات والتكرار
ويعود شبح ما في العديبد من أعمال أمين صالح إلى الحياة كي يتذكر حياته الماضية، فهناك المغادرة للمكان وهناك العودة للمكان، العودة الشبحية للمكان الذي يبقى كما هو: الجغرافيا نفسها والهندسة نفسها والقرميد نفسه، والبشر الذين يتوافدون الآن على الميدان هم أنفسهم الذين يتوافدون قبل ثلاثين سنة إلى هذا الميدان، الوجوه نفسها، الملابس نفسها، الباعة الجوالون، العاملون في المحلات، الموظفون، الزبائن، المتسكعون.. هم أنفسهم ما تغيروا، ما شاخوا، ما حل بهم يحل بمن يداهمه الزمن، لذلك باتوا رهائن وقت ثابت يرفض أن يتزخرح ولا يقدرون الفكاك منه، لا يقدرون الخروج من زمن كف عن الحركة، وربما كف عن الوجود، وما يحدث ليس سوى انعكاس أو ظل أو صدى لزمن انحدر حثيثًا نحو الأفول.
ومثلما يهتم أمين صالح بالثبات والتكرار والجمود في عالم الواقع، فهو يهتم كذلك بالتمثيل والتجسيد لعالم التحولات والتغيرات الإيجابية والسلبية عوالم الأحلام والأوهام والكوابيس، وتحول البشر إلى طيور أو الرجال إلى أطفال أو الذئاب والعفاريت إلى نساء جميلات،
في «نزيل العزلة» هناك رصد لحالة خاصة، حيث كان الأعمى يتحرك في عالم خاص، محكم البني متماسك الوشائح، اخترعه لنفسه، شيده من عناصر المخيلة وما تمليه عليه الحواس من إشارات وعلامات ورموز، دافعة أن يحصن ذاته من رتابة الواقع وابتذال الحاضر وعادية الأماكن. لقد انفصل عن العالم الواقعي بصريًا لكن اتصل به غريزيًا ومن خلال بوابة الخيال، أضحى يعيش في عالمين في وقت واحد، أحدهما يراه عبر مخيلته والآخر يدركه عبر الحواس.
ثم إنه عندما يستعيد بصره بعملية جراحية يجد أنه قد خان مخيلته؛ فالصور التي خلقتها مخيلته للطرقات والأرصفة والشرفات المأهولة بطيور ملونة والفضاءات القرمزية، كل هذه الصور وغيرها تلاشت كالومض ما إن آثر ملامسة اليقين ورؤية ما كان محرومًا من رؤيته، لذلك فإنه يفضل أن يعود إلى عالمه الخيالي ولكن من خلال فعل عنيف، يفقأ عيني شبيهه الذي كان يتفرس فيه مبتسمًا تلك الابتسامة المبهمة التي لا تشف عن شعور أو عاطفة أو تعبير محض إيماءة لا يعرف كنهها وباعثها». ويراقب أفعال قرينه الذي يفرط في التهور والرعونة، ويتعرى تمامًا ويرقص في الميدان، ويقوم بأفعال كثيرة يتمنى الراوي أن يقوم بها لكنه لا يستطيع، وينتهي الأمر بالراوي إلى أن يقتل زوجته (باب مفتح على الخاتمة).
ويحلم بأنه موجود وحده في جزيرة صغيرة لا ماء فيها ولا شجر، ينتظر سفينة تنتشله، ثم يرى قاربًا يحاول أن يتحرك به مغادرًا الجزيرة، لكن القارب يرفض الحركة، وعندما يغادره يتحرك بخفة ورشاقة ويشق المياه ويسأله صديقه: وماذا يعني حلمك هذا؟ فيجيب: «الأحلام لا تعني شيئًا، لهذا السبب نراها عندما نغمض أعيننا، لو كانت واضحة ومفهومة لرأيناها في اليقظة». وهناك أيضًا تلك المرايا التي تبتلع البشر، المرآة التي تبدو وكأنها محض ذاكرة شخصية تستدعي ما اختزنته لسنوات في بئر ما اجتاحها من نسيان، وما إن تتلاشى الصور حتى تبدأ المرآة في إصدار صوت خافت أشبه بالشهيق والزفير.
في الكثير من أعمال أمين صالح، إن لم يكن فيها كلها، نوع من البحث عن الذات، عن الهوية، عن الاكتشاف لأمر ما يظل مفقودًا، وتظل هناك رغبة قارة عميقة في استكشافه واكتشافه، هنا تجسيد لانقسام الهوية وفقدان الهوية وتفكك الهوية وتكامل الهوية وتناغمها الخفي الذي لا يدركه من يعيشون خارج هذه العوالم الإبداعية الخصبة المتدفقة من الحب والوجدان والأحلام، هنا الهوية أقرب بحالة شبحية، حالة موجودة بين الحضور والغياب، بين كل الثنائيات الضدية التي تجمعها سماء واحدة وتضمها أرض واحدة، هناك البواب الشاب يسير مع رفيق سفره الذي يرفع مظلته عاليًا على الرغم من غياب المطر «فلا نعرف إن كان يحتمي من شيء ما أم يشهرها ليعلن للملأ حضوره»، وعندما يسأله البواب عن هويته يقول له إنه لا يدري من هو، وإنه وقد فقد هويته منذ سنة، وإنه لم يعد ينتمي إلى أي مكان، وإنه لا يحمل أي وثائق، وإن اسمه وشكله قد انمحيا من السجلات كلها، وإنه حاول أن يبدأ من جديد، وأن يشكل لنفسه هوية جديدة، لكنه فشل في ذلك، وظل فردًا بلا حقوق، كأنه لا وجود له ولا كينونة، يتحرك، كما قال على ذلك «الحد الفاصل بين عالمين لا يقبلان أن أنتسب إليهما، كأني جالس على جرف شاهق ولا أعرف أين أضع خطوتي التالية». مع مرور الوقت يشعر أنه يعيش في كابوس، وأنه مخنوق، وأنه غائب وحاضر، «كأنك شبح أو فراغ أو عدم، كأن لا وجود لك، تنطق ولا أحد يسمعك، تلمس ولا أحد يشعر بك، تصير خفيًا، غير مرئي، مجرد ذرات تمتزج بالهواء، بالهباء، وتصل إلى القناعة المرعبة: إنك ميت بين أحياء لا يبالون بك».
عندما يحاول أن يبحث عن هوية جديدة، عندما أراد أن يكون مرئيًا، موضعًا للنظرات العدائية والودودة، جسمًا يرتبط به الآخرون فيعتذرون أو يغضبون، عندما حاول أن يحاكي الآخرين ويقلدهم في هوياتهم؛ وجد أنه أشبه بكائن من الفضاء، كائن غريب لا ينتمي لمكان لا يشعر به أحد، لذلك قرر أن يذهب مع البواب الشاب إلى الشمال.
والتحولات نتيجة أساسية في أعمال أمين صالح، وهي تجسد ذلك النزوع السيريالي لديه، وأيضًا ذلك الولع بالخيال والأحلام واللا شعور والتدفق الذي يكاد يقترب من الكتابة الآلية والذي تجسد في معظم أعماله (انظر قصة «في الحديقة الحجرية» مجموعة الطرائد) وترتبط التحولات بالحضور والغياب.
وتحضر الأوهام والأحلام كثيرًا في أعمال أمين صالح، والوهم غير الحلم، الوهم خداع إدراكي، الحلم شيء آخر، هكذا تتوهم زوجة البائع المتجول في «شمالاً، إلى بيت يحن إلى الجنوب»، تتوهم، لدقيقة، حيث تصحو كل فجر، أن لها أبناء، وتظل تنادي عليهم اسمًا اسمًا، أولادًا، وبنتًا، لقد اخترعت أسماءهم وأشكالهم وأعمارهم في الأحلام». كذلك يضع «نديم اللون» اللون على القماش، ويتحدث معه كما يتحدث مع صديق له، بحميمية ومودة وبوح واهتمام؛ فتتشكل من اللون لوحات وعوالم وتحولات وتشكيلات لا تحصى، بل إنه يصغي إلى اللون ويظن أنه يستمع إليه وهو يحادثه وأنه ينطق هو أيضًا ويكلمه». والبواب الشاب الذي لم يسافر قط يسافر في أحلامه الليلية «ربما تنتقل عبر العوالم في أحلام يقظته، لكن ذلك السفر يختلف، إنه انتقال تخيلي صرف»، وذات ليلة وقبل أن يغمض عينيه لينام يسمع هديرًا في الخارج يقترب منه شيئًا فشيئًا، ثم فجأة تندفع مياه غزيرة هادرة نحو نافذته وتتدفق إلى داخل غرفته «في شكل موجة زرقاء هائلة بدت له متجهمة وغاضبة ليتضح فيما بعد أنها مجرد موجة زرقاء هائلة بدت له متجهمة وغاضبة».
هكذا تتوالى التجارب والتغيرات والتحولات والرغبات في المغادرة والقيام برحلات متخيلة أو حقيقية لدى الشخصيات، إنها تحن إلى بيت موجود هناك في الشمال، لكنه بيت يحن أيضًا إلى الجنوب.
فالشخصيات تعود دومًا إلى المكان ذاته «ها ثانية يعود، بعد سبع سنوات إلى الميدان العام ذاته، الذي كان يعج بأنفاس تهب لتتلاطم وتهوى على القرميد، ويعج بمصادفات تعرف كيف تموِّه غموضها وفيه لا تهدأ الحركة»، هكذا يعود هذا الشخص الراوي إلى الميدان ذاته، حاملاً حقيبته الجلدية المكتظة بالحكايات وبنفحات كائنات رمزية مرت خفافًا، وفي عبورها تركت شيئًا من سيرتها، وشيئًا من أطيافها».
ومثلما يهتم أمين صالح بالثبات والتكرار والجمود في عالم الواقع، فهو يهتم كذلك بالتمثيل والتجسيد لعالم التحولات والتغيرات الإيجابية والسلبية عوالم الأحلام والأوهام والكوابيس، تحول البشر إلى طيور، أو الرجال إلى أطفال أو الذئاب والعفاريت إلى نساء جميلات…إلخ.
مع عالم أمين صالح نجد بوتقة القراءة البينية، تلك التي تتأرجح بين عوالم شتى وتتراوح بين عوالم فريدة، وتحاول أن تحدث نوعًا من التكامل بينهما، وهذه محاولة للاقتراب من عالم أمين صالح من خلال هذه القراءة، ومن خلال إبداعاته التي صنع منها أسطورته، كتابته الخاصة الفريدة الخصبة النادرة المتميزة.
—————
شاكر عبدالمجيد