انسكبت دموع أمينة بغزارة حين وضعت رأسها على الوسادة وأدركت بأن أحلامها التي رسمتها في بداية حياتها الجديدة كانت احلاما بسيطة ومشروعة ولكن كل تلك الاحلام تحولت في لحظة واحدة إلى فقاعة كبيرة امتصت كل طاقاتها وحولتها إلى صورة مشوهة تجمع شتات ضحكتها بين الوجوه والحضور.
اليوم بالذات أمسكت أمينة ورقة وقلما وكتبت في أول سطر من الورقة حلمها الأول:
1- زوج يملك قلبا يفيض حبا وشهامة.
مزقت الورقة بسرعة لأنها إلى اليوم لم تستطع أن تعي الأفكار الغريبة التي تنبعث من عقل زوجها الذي يعيش بجسد رجل شاب وأفكار شيخ في الثمانين من عمره ، هنا الغصة كانت كبيرة حتى بعد أن مزقت أمينة الورقة فهي طالما حلمت برجل يشاركها أفكارها وأحلامها ومازال لقب الفراشة معلقا بأحرفه الجافة في نهاية دفتر مذكراتها اليومية.
2- زوج يمتلك سيارة وبيتا.
لم تحلم أمينة سوى بسيارة متواضعة وبيت بسيط يضمها مع زوجها لكنها صدمت بالواقع وأجبرت على التعايش معه بعد أن ادركت بأن السيارة لم تكن سوى سيارة أجرة عتيقة وان البيت لم يكن سوى غرفة لم تذق طعم السيراميك ولا الأصباغ الجديدة وأجبرت في النهاية على خط ورود متنوعة في الجدران مازالت تحس ببشاعتها إلى اليوم وبالطبع لم تركب في السيارة إلا في مشوارها إلى عملها لأن زوجها كان يجبرها على تغطية وجهها بأكمله بينما كانت السيارة تصدر صريرا طويلا وتتوقف بين كل لحظة وأخرى.
هنا كانت دمعة أمينة حارقة لسعت وجهها الأسمر لأنها مازالت تتذكر وجوه زميلاتها في العمل والسيارات الفارهة التي تنقلهن من مكان إلى آخر مع ابتسامات واسعة ووجوه لم تغط .
3- زوج يجيد التعامل مع الآخرين.
مازالت تصرفات زوج أمينة تثير في قلبها الحنون عاصفة من الغرابة والحزن في آن واحد ، فقد قاطع اهلها وأهله والجيران ، وأجبرت في لحظات كثيرة على عدم السلام على هذا أوذاك اشباعا لرغبته ، كما أنها تذكر بأنها أحصت عدد ضحكاته وابتسامته خلال خمسة أشهر فوجدتها قليلة لاتتجاوز أصابع اليد الواحدة.
تذكرت أمينة أيام طفولتها حين كانت تقص لصديقتها عائشة حكاية أسرة متحابة تملك قلوبا متآلفة ودائما القصة تنتهي نهاية سعيدة لكنها اليوم ما زالت تبحث عن بداية مناسبة لقصتها والأحداث فيها تزداد تعقيدا حتى تحولت إلى رواية من النوع الذي تتشعب تفصيلاته حتى يغرق القارئ ويخرج منها صفر اليدين.
بمصطلح اليدين تذكرت أمينة كل الأشخاص الذين تقدموا لخطبتها كانوا كثرا يملكون مؤهلات وبيوتا وسيارات ولكنها إلى الآن لم تدرك السبب الذي جعلها توافق عليه دون أن تتمحص وتفتش عن كل التفصيلات وكيف صدقت كلام أخواته حين تحدثن عن سيارته وبيته ، هل كان لرفض ابن عمها الذي وعدها بالزواج لمدة ثلاث سنوات ثم تركها في مفترق الطرق دور في تسرعها ومحاولة إثبات أنها مازالت مرغوب فيها ، لكنها اليوم تتمنى أن تبقى كما كانت في بيت أهلها وتذهب إلى عملها دون قيود تحد من حريتها وانطلاقها في الأرجاء، خاصة بعدما لاحظت السعادة الكبيرة التي ترتسم على محيا ابن عمها وزوجته ، والغصة التي تنمو في حلقها عندما تقابلهم والتي تتحول إلى مجموعة من الخيوط تكبلها وتحتجزها في شرنقة ، تمنعها من الكلام والتنفس ، ويبقى صوت أمها وهو يتحدث يوميا عن بنات الناس وحالهن والسعادة والمال والبيوت وفي النهاية تصمت وتتخذ قرارا دائما بأنها لن تكلمها حتى تغير من حالها وحال زوجها ، تشعر أمينة في تلك اللحظات بأنها تخوض غمار حرب ضروس ، وأنها دخلت حلبة صراع لمعركة طويلة فتنساب دموعها بغزارة المطر الذي هطل في تلك الليلة ، تلك الليلة التي راقبت فيه أمينة المطر وتذكرت أنشودة المطر ورددت أكثر من مرة قول السياب:
أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟!
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟!
وكيف يشعر الغريب فيها بالضياع؟!
وتنهمر دموع أمينة لتشارك المطر بكاءه المتواصل على خطايا البشر.
لخمسة أشهر لم تتوقف دموع أمينة كما لم تتوقف أصوات الشجار والصراخ الصادرة من الغرفة ، اليوم أمينة تحاول أن تتخذ قرارا حاسما يعيد لها جناحي الفراشة الحالمة التي فقدتها ، اليوم ستكلمه عن شروطها عن رغبتها في استعادة حريتها ، ستواجه ستعلمه من هي أمينة ولن تسمح بعد الآن بأي عقبة تحد من إنطلاقها في الأرجاء ، خاصة بعدما ضحك عليها أخوها الصغير وصرحت أختها الكبيرة بسلبيتها وعدم قدرتها على الوقوف في وجه زوجها.
اليوم لن تطبخ أمينة وجبة العشاء كعادتها ، كما أنها لم تكنس الغرفة وترتبها ،وظلت تنتظره لتناقشه في كل المواضيع ، هي موظفة وتملك راتبا ووجها حسنا ، لن تخاف من وجهه الغاضب دائما ، المتشائم من كل شيء وأي شيء، ارتاحت أمينة لكافة الأفكار التي طافت في رأسها ، انتظرت قدومه إلى البيت ، الدقائق والساعات تمر ، تسمع اهتزاز جهازها ، تقرأ رسالته «أنا تعبان ومعصب وقبل شوي تنازعت مع الوالد ، جهزي العشاء ، أريد أنام».
أحست أمينة بارتباك شديد ، خافت من ردة فعله ، تخيلته كمارد هائل يزمجر في وجهها بينما الزبد يتطاير ليجعل من جسدها ورقة جافة تتكسر تحت أقدام الناس ، توجهت نحو المطبخ العتيق ، حاولت أن تجعل ذهنها صافيا لتحدد وجبة العشاء لتنتهي منها في أسرع وقت ، تصورت وجهه المكفهر ، شياطين الغضب تتقافز منه ، شعرت بالخوف ، اليوم قررت أن تكتم كل تلك الافكار في صدرها ، خشيت من ردة فعله الغاضبة ، أمسكت بحبة بصل ، بدأت في تقطيعها ، تمنت أن يتأخر لبعض الوقت ، حتى تنتهي من إعداد العشاء ، وضعت البصل في المقلاة وحين بدأت في إشعال الغاز ، سمعت صوت الباب وهو يفتح ، وسقط قلبها إلى أسفل سافلين.