تحكي لك بعض الروايات قصةً هائلةً ، بينما تجعلك روايات أخرى تغيّر وجهة نظرك نحو العالم المحيط بك . تستطيع رواية ( أمريكانا ) للكاتبة النيجيرية شيماماندا نغوزي أديتشي أن تفعل الاثنين معاً . وهي ، في الحقيقة ، قصة حب – حكاية صبي وفتاة أحب أحدهما الآخر ، عندما كانا طالبين في إحدى مدارس نيجيريا ، إلا أن حياتيهما تتخذان مسارين مختلفين ، حينما يسعيان وراء مصيريهما في أمريكا وبريطانيا – لكنها ( أي الرواية ) تقدّم لنا تأملاً عميقاً في المواقف الحديثة التي يبديها الناس تجاه العِرق ، وتمتد أحداثها على مساحة ثلاث قارات متباعدة ، وتتناول مواضيع الهوية ، والفقدان ، والعزلة .
إن ( أمريكانا ) هي الرواية الثالثة التي أبدعتها أديتشي ، ونشرتها في مطلع سنة 2013 .. هذه الكاتبة مدحها الكاتب النيجيري شينوا أتشيبي ، صاحب ( الأشياء تتداعى ) و( مضى عهد الراحة ) ، الذي فارق الحياة منذ مدة قصيرة ، قائلاً : « ليس من المألوف أن ترافق الحكمة الكُتاب المبتدئين ، لكن هي ذي كاتبة جديدة تتحلى بموهبة كُتاب القصة المتقدمين في السن . إنها تعرف ماذا تعني المغامرة ، وكيف تتصرّف حيال هذه المغامرة . إن الكُتاب المترددين وقليلي الخبرة يتحاشون التعقيد بكل ما تعنيه هذه الكلمة ، لكن أديتشي تتبنى هذا التعقيد لأن قصتها تحتاج إليه .. لقد تجلت لنا موهبتها كاملة لا تشوبها شائبة» .
في قلب روايتها الجديدة ( أمريكانا ) ثمة شابة نيجيرية تُدعى ( إيفيميلو ) ، تهاجر إلى أمريكا لتكمل دراستها بعد البكالوريوس ، وتحقق الشهرة بوصفها مؤلفة مدوَّنة تحمل اسم ( ريستينث Raceteenth ) ( كلمة Race الإنكليزية تعني : عِرق ) ، أو ملاحظات متنوعة عن سود أمريكا ( الذين كان يُطلق عليهم في ما مضى اسم [ الزنوج ] ) ، ولما كانت سوداء غير أمريكية ، تعلن مؤلفة المدوَّنة عن علاقتها بصديق أمريكي أبيض ، ومن ثم بصديق أمريكي أسود ، وتكشف من خلال مدونتها تعقيدات حياة جميع الأفارقة في ظل حكم باراك أوباما .
لكن هذه الشابة النيجيرية تتحرق دوماً للقاء حبيب طفولتها ( أوبينزي ) الذي لم يحصل على البطاقة الخضراء التي كان يتمنى الحصول عليها ، لكنه يستقر في لندن ، ويضطر إلى ممارسة الأعمال المنافية للقانون ، ويُبعد عن بريطانيا لأنه بات أجنبياً غير مرغوب فيه بسبب زيجة مزيفة . وعندما يؤوب إلى لاغوس تتحسن ظروفه المعيشية ، لكن ثروته الجديدة اعتمدت على تملّق رجال محليين ذوي نفوذ يسكنون هناك . ولا تبدأ حياته بالتحسن إلا عندما تعود ( إيفيميلو ) إلى نيجيريا ، وقد غدت الآن امرأةً أمريكية ( أمريكانا ) ، وهي نفسها كانت قد أُبعدت منذ عهد قريب عن بلدها ، لكنها أيضاً تدرك أنها أصبحت مؤخراً قادرة على سبر أغوار الأمور الجارية في بلادها .
تستخدم الكاتبة النيجيرية صاحبة ( نصف شمس صفراء ) قصة حب عتيقة الطراز كوعاء لأحداث روايتها الثالثة ( أمريكانا ) ، لكنها أبدعت عملاً استثنائياً ، أشبه بالأشكال الهندسية مختلفة الألوان ، التي يعرضها لنا المشكال ( الكاليدوسكوب ) . ينظر هذا النص الروائي إلى العِرق من جميع الزوايا : البراعة الشكلية للمواد المنشورة في المدونة تجيز لها بذكاء أن تكتب مقالات قصيرة تضاهي كتابات كونديرا ؛ كل واحدة من هذه المقالات القصيرة تثري ثيمات السرد الروائي ، أما وجهة نظرها الشخصية في معنى أن يكون المرء أسود في أمريكا ، فمليئة بالتبصر الجديد والحكمة العظيمة .
إن بطلة الرواية ( إيفيميلو ) شابة موهوبة ذات أفكار قوية ، أما صديق طفولتها ( أوبينزي ) فقد كانت له انطباعات وآراء رومانسية عن الغرب ، هذه الانطباعات والآراء تشكلت تحت تأثير قراءاته لأدب غراهام غرين ، ومارك توين ، وجيمس بولدوين .
وحين تنال ( إيفيميلو ) الموافقة على إكمال دراستها العليا في فيلادلفيا ، تغتنم هذه الفرصة . وبعد مضي سنوات عديدة ، يمضي حبيب طفولتها ( أوبينزي ) ، هو الآخر ، بعيداً ، باحثاً عن حياة أفضل ، لكن ليس في أمريكا ، بل في بريطانيا .
في هذه المرحلة تحديداً تبدأ أوديتشي فعلاً في فتل عضلاتها كروائية : الإحساس بالانسلاخ الذي يشعر به الاثنان في بلدين يمتلكان تاريخين مختلفين تمام الاختلاف ، ولهما بنيتان طبقيتان متباينتان ؛ هذا الإحساس تصفه الكاتبة النيجيرية بصورة تنم عن الدراية والخبرة ، فشيماماندا التي نالت جائزة الأورنج سنة 2007 ، تمتلك عيناً استثنائية ، فريدة ، تؤهلها لسرد تفاصيل التفاعل الاجتماعي في إطار نوع محدد من النخبة الليبرالية .
وتتخلل الرواية حوارات بين الأفارقة المهاجرين والغربيين تنم عن سعة إطلاع الكاتبة النيجيرية الشابة وبراعتها السردية وذكائها الحاد . هي ذي تكتب لنا في الرواية التي نتناولها الآن ، متحدثةً عن الأجانب الذين صار الأفارقة يعيشون إلى جوارهم ، وبينهم : « إنهم يفهمون الفرار من الحرب ، الفرار من ذلك النوع من الفقر الذي سحق أرواح البشر . لكنهم ما كانوا ليفهموا لماذا يلجأ أناس على شاكلة أوبينزي ترعرعوا في أسر ميسورة الحال ، وكانوا حسني التغذية ، لكن الاستياء هو الذي استوطن ذواتهم ، وكان مقدّراً لهم منذ الولادة أن يوجهوا أنظارهم إلى مكانٍ آخر غير وطنهم الأم ، لماذا ينزعون إلى ممارسة الأفعال غير المشروعة ، والمحفوفة بالمخاطر ، مع أنهم لم يجوعوا ، ولم تتعرض النساء منهم للاغتصاب ، ولم يهربوا من المدن المحترقة ؛ بل كانوا منساقين وراء رغبتهم المتأججة في اختيار أسلوب العيش الذي يروقهم ، وسعياً وراء الحقيقة التي لا غبار عليها . «
عندما تهاجر هذه الشابة إلى أمريكا ، تجد صعوبةً في الحصول على عمل جزئي يستغرق بعض ساعات اليوم ، ويرفضون طلبها العمل في مهن وضيعة من مثل نادلة في مطعم أو مقهى ، أو ساقية في حانة ، أو أمينة صندوق في شركة أو متجر . ويتحدث زملاؤها في الجامعة معها ببطء موجع ، كما لو أنها لا تتمكن من فهم اللغة الانكليزية الأصلية .
وفي النهاية تبدأ ( إيفيميلو ) بالكتابة عن تجاربها في المدوَّنة التي تنشئها . وتضيف الرسائل الالكترونية التي تصل إلى مدوّنتها بُعداً آخر للخطة التي رسمتها ، وتجعل القارئ قادراً على فهم الطريقة التي تنظر فيها ( إيفيميلو ) إلى ذاتها ، وكيف ترغب أن تقدّم نفسها إلى العالم الخارجي .
يوجد موضوع يتكرر في المدوّنات ألا وهو تسييس الشَعر الأسود – كيف كان الناس يتوقعون من النساء أن يسرّحن تجاعيد شعرهن الطبيعية بالمواد الكيمياوية السامة ، أو يحبكن خصلات شعر غيرهن مع شعرهن كي يجعلن أنفسهن مطابقات لنماذج بيضاء تبعث على الارتياح .
في الحقيقة ، كُتبت معظم وقائع الرواية بطريقة الاسترجاع ( الفلاش باك ) ، عندما ضفرت ( إيفيميلو ) شعرها في صالون تجميل في نيوجيرسي استعداداً للذهاب إلى وطنها الأم نيجيريا ، بعد أن أمضت خمس عشرة سنة في أمريكا ؛ هذه الحقبة الزمنية شهدت فوز باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية .
إن إحدى غوايات ( أمريكانا ) هو فؤادها العميق ، الخافق ، ذو العواطف غير المكبوتة . فبوسعك أن تتحسس عاطفة أديتشي وإيمانها ينبضان تحت كل فقرة من فقرات هذه الرواية المكتوبة بقدرٍ متساوٍ من الغنائية والمعرفة الواسعة .
إن ( امريكانا ) رواية عن تجارب الشتات الأفريقي – وهي أمور يمكنها أن ترويها طالما أنها عاشتها وخبرتها ، هي التي تقسم وقتها بين الولايات المتحدة ونيجيريا . وأروع اللحظات هي عندما تكتب أديتشي بتفاصيل باهرة عن وقائع ربما جرت لها بوصفها امرأة نيجيرية مقيمة في أمريكا . لكن بطلة روايتها ( إيفيميلو ) تتخذ قراراً واعياً ، وتعود إلى وطنها ، متخليةً عما يُسمى بـ ( الحلم الأمريكي ) .
وهكذا تمزج أديتشي في روايتها هذه بين تيار ما بعد الحداثة ، وتيار ما بعد الكولونيالية ، من خلال موضوعات أصبحت شائعة في روايات كتابنا المعاصرين ، وهي موضوعات الهجرة ، والاغتراب ، والهوية ، والآخر ، والاندماج الثقافي في المجتمعات الجديدة ، واكتساب القيم والمبادئ الغربية ، أو كما يسميها هومي بابا ( الهجنة ) ( التي من شأنها أن تذوّب الأفكار العنصرية والشوفينية ) ، والبحث عن الذات ، والحاجة إلى فهم الآخر ، والتمزق بين العوالم المختلفة ، والتمسك بالجذور ، والتأقلم .. تلك الموضوعات التي صرنا نجدها في كتابات الروائيين العراقيين المعاصرين ، من مثل رواية إنعام كجه جي الأخيرة ( طشاري ) ، ورواية دنى غالي ( عندما تستيقظ الرائحة ) ، وكذلك روايتي علي بدر ( مصابيح أورشليم ، رواية عن إدوارد سعيد ) ، و ( حارس التبغ ) . كما يجدها القارئ في كتابات الأدباء الذين ينحدرون من أصول آسيوية وأفريقية وعربية ، ومنها مجموعتا الكاتبة الهندية جومبا لاهيري ( ترجمان الأوجاع ، 1999، ترجمتها المترجمة المصرية مروة هاشم ، ونُشرت في مشروع كلمة ، 2009) ، و ( أرض غير مألوفة ، 2008 ) ، وروايتها ( السمي ، 2003 ) ، التي تحولت إلى فيلم سينمائي سنة 2007 ، أخرجته المخرجة الهندية ميرا نير ، وكذلك في رواية ( بريك لين ) للكاتبة البنجلاديشية مونيكا علي ( أبوها بنغلاديشي وأمها انجليزية ) ، التي صدرت ترجمتها العربية عن سلسلة ( إبداعات عالمية ) / الكويت ، سنة 2009 ، بترجمة الكاتب والمترجم المصري عبده الريس .
***
كانت أديتشي تكافح طوال سنوات حياتها كي تتم مقارنتها بشينوا أتشيبي . كلاهما نيجيري ، وكلاهما ينتمي إلى قبيلة ( الإيبو ) ، وكلاهما تلقى تعليمه في معاهد متشابهة ، على الرغم من أن أديتشي أصغر منه بسنوات كثيرة ( أديتشي الآن في السادسة والثلاثين من عمرها ، بينما كان أتشيبي في الثانية والثمانين حينما توفي سنة 2013 ) . ومن الغريب أنهما أقاما في المبنى السكني نفسه – فقد انتقلت أسرة أديتشي للإقامة في الدور السكنية التابعة لجامعة نسوكا التي كان أتشيبي قد أقام فيها من قبل ، ومن ثم غادرها . أن يتقاسم كاتبان شهيران من بلد سكانه 163 مليون نسمة الحجرات نفسها هو نوع من المصادفة لا يستطع أي منهما أن يفلت منها في كتاباته .
قالت شيماماندا عندما ضيّفتها ( جمعية الكتاب الأمريكان ) سنة 2008 : « أصبحت حقيقة إقامتي في المنزل الذي سكنه أتشيبي قبلاً أهم حقيقة يعرفها الناس عني . يسألونني دوماً ما هو شعورك وأنتِ تسكنين في منزل أتشيبي ؟ وكنت أجد نفسي أتذكر الأمور : أفيق من النوم ليلاً ، وأذهب إلى الحمام ، وأقف بالقرب من السلّم ، وأنصت إلى الأشباح التي تهمس في أذني الأسرار ، أسراراً عن حبكة الرواية ، وشخصياتها ، وتراكيب جملها . حسناً ، لقد أنجزتُ ذلك . فهذا جزء من خيالي ، لكن الشيء الذي لا ينتمي إلى خيالي ، والذي كنت متأكدة منه هو إنني لن أكون كاتبة إن لم أكتب من أجل أتشيبي» .
تكتب أديتشي في أكثر من جنس أدبي ، فقبل ( أمريكانا ) ، نشرت النيجيرية المولودة في الخامس عشر من أيلول ( سبتمبر ) 1977 روايتين ؛ الأولى ( الخبازى الأرجوانية ، 2003 ) التي فازت بجائزة أفضل أول كتاب في سنة 2005 ضمن جوائز كتاب دول الكومنولث ، كما وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر البريطانية ، أما روايتها الثانية (نصف شمس صفراء ، 2006 ) فقد حازت جائزة الأورنج الخاصة بالسرد الذي تبدعه النساء سنة 2007 .. هذه الرواية صدرت بالعربية سنة 2009 ، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، بترجمة الشاعرة والمترجمة فاطمة ناعوت .
فضلاً عن ذلك ، نشرت شيماماندا سنة 1997 مجموعة شعرية حملت عنوان ( القرارات ) ، ومسرحية واحدة بعنوان ( من أجل حب بيافرا ، 1998 ) ، وكذلك مجموعة قصصية حملت عنوان (الشيء الذي يخنقك ، 2009 ) . نالت هذه المجموعة الاستحسان ، وجعلتها تتبوأ منزلتها اللائقة بوصفها واحدة من الكتاب الأفارقة الواعدين جداً ممن ينتمون إلى جيلها ، فيما عدّتها جريدة ( النيويوركر ) واحدة من أفضل المؤلفين ممن تقل أعمارهم عن أربعين سنة .
تضم هذه المجموعة 12 قصة قصيرة ، تدور معظم أحداثها بين نيجيريا والولايات المتحدة الأمريكية ، تُظهر الكاتبة من خلال سردها القصصي البارع أقدار الأبطال الذين يختارون المزاوجة بين حياتين مختلفتين ، وهويتين متباينتين . وعبر صفحات هذه المجموعة كانت عينا الكاتبة مفتوحتين دوماً على المفارقة الساخرة بين الوضع المتردي والفاسد في بلدها نيجيريا ، حيث يعاني المواطنون من غياب الحرية ، وتدني التعليم . فالنيجيريون الطموحون ما إن يحصلون على تأشيرة الدخول حتى يغادرون بلادهم ذاهبين إلى بريطانيا أو الولايات المتحدة ، أو على الأقل يقصدون غانا لمواصلة تعليمهم هناك ، فحال المدارس فيها أفضل نوعاً من المدارس النيجيرية . إن إبطال وبطلات أديتشي في مجموعتها هذه أشخاص متعلمون حالمون ، شديدو التناقض ، لكن الصوت الحاضر في جميع قصص الكتاب هو صوت المرأة ، حيث آثرت الكاتبة أن تروي قصصها بصيغة الشخص الأول ؛ أما نهايات قصصها فمفتوحة على احتمالات وتأويلات لا حصر لها ، كما تركت المؤلفة الكلمات والمصطلحات بلغة اليوروبا والإيبو ، لتتيح للقارئ حرية فهم المعاني على وفق ما يشاء .
أما رواية شيماماندا الثانية ( نصف شمس صفراء ) فقد تناولت ( حرب بيافرا ) التي استمرت بين سنتي 1967 و1970 ، وأُزهقت خلالها أرواح أكثر من مليون شخص . وبيافرا هي إحدى ولايات الجنوب الشرقي من نيجيريا ، حاولت الاستقلال عن الدولة الاتحادية ، وإعلان جمهورية بيافرا ، التي اتخذت من رمز « نصف شمس صفراء « شعاراً وعلماً لدولتها المرتقبة .
وعن مبررات كتابة هذا العمل الروائي ، تقول شيماماندا في حوارٍ معها : « كنت أريد أن أتذكر الحرب . أريد أن أتذكر الناس الذين لقوا مصرعهم . أريد أن أتذكر تلك الحقبة الزمنية العصيبة من تاريخنا . لا أريد أن أفعل ذلك وحدي . أود أن نتذكر جميعاً تلك المأساة الرهيبة . لقد شوّه الإعلام صورة أفريقيا . لكن هذا الإعلام عينه اهتم بحرب بيافرا ، ولأول مرة شاهد الناس الأطفال الأفارقة على شاشة التلفاز . إنه شيء مقلق وموجع عندما لا يستطيع الأفارقة أنفسهم أن يساعدوا بعضهم.
—————-
علي عبد الأمير صالح