فخري صالح*
يمثل شعر أمجد ناصر (1955-2019) مختبراً نموذجياً لتحولات القصيدة العربية خلال ما يزيد على نصف قرن؛ فهو يلتقط دبيب التغير في الشكل الشعري والانشغالات التي ينجدل منها ذلك الشعر، وانزياحات الذائقة؛ والأهمُّ من ذلك كله أنه ينعطف باتجاه التصورات النظرية لمعنى الشعر وضرورته في مرحلة يمكن القول إنها نسفت الكثير من المفاهيم السائدة حول الشعر والشعرية. وعلى الرغم من أن قصيدة أمجد ناصر، في مجموعاته كلها، على ما أزعم، تحتفظ بنَفَسٍ غنائيٍّ ضاربٍ في أعماقها، إلا أن مشروعه الشعري مضادٌّ للغنائية بطبيعته، يحاول كسرَ تلك الشفافية العاطفيَّة والصوتِ الفردي الصافي الملتاع، الذي يسم معظم الشعر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.
من هنا تبدو تجربة أمجد اختباراً لصمودِ القصيدة العربية الجديدة، المتأثرة بالتيارات الشعرية الآتية من شعريَّات عالمية مختلفة، وتطورِ هذه القصيدة باتجاه فهم نظري وعملي للشعر يُسقِط الكثيرَ من التصورات التي تدَّعي أن شعرية الشعر تقع خارجه لا في بنائه الداخلي المخصوص، كما أنها تفصل بسيف بتَّار بين الشعر والنثر، وكأن هاتين الصيغتين الواسعتين من صيغ التعبير تمثلان ثنائيةً أبديةً يستحيل تذويبُها، بحيث يصبح بالإمكان تطعيمُ الشعر بلغة النثر أو تطعيمُ لغة النثر بالشعر، كما هو الحال في الممارسة اللغوية على مدار العصور. وقد أثبتت تحولات الشعرية، في الثقافة العربية في الوقت الراهن، كما هو الأمر في اللغات والثقافات الأخرى، أن سجن الشعر في قالبٍ ضيقِ الآفاق، محدودِ الاختيارات، فقيرِ الخيال، يهوي بالشعريَّة إلى هاوية الصنعة والتقليديَّة والترداد الببغاوي لصور واستعارات وعوالم تموت مع كثرة الاستعمال وتعجز عن استثارة خيال المتلقين.
يبدأ أمجد في مجموعته الشعرية الأولى “مديح لمقهى آخر” (بيروت، 1979) من قصيدة التفعيلة شكلاً محورياً لكتابته الشعرية في سبعينيات القرن الماضي. لكن ذلك الشكل يبدو مقلقلاً لا يعثر على الاستقرار في المجموعة، لأنه مُخترَقٌ بتأثيرات قصيدة سعدي يوسف الذي رغب أن يخلِّص القصيدة العربية من ثقل الاستعارة، والمجاز بعامة، ليكتب قصيدةً هي أقربُ إلى عالم النثر منها إلى عالم “الشعر”. لكن طموح سعدي يوسف أقربُ إلى الرؤية النظرية منه إلى التحقق العملي في قصيدته، فشعره ذو إيقاعات عالية، محتشدٌ بالاستعارات والمجازات التي تتسرَّب إلى قصيدته رغم محاولاته تنقيةَ تلك القصيدة من انزياحاتها اللغوية المجازية الفياضة.
يتغلَّب أمجد على هذا الفصام بين التصور النظري والتحقق العملي للكتابة الشعرية من خلال الانطلاق باتجاه قصيدة النثر، فمجموعة “مديح لمقهى آخر” تترجَّح بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، لا في القصائد المفردة فقط، بل في داخل القصيدة نفسها التي تبدو أحياناً مشقوقةً بين شكلي التفعيلة والنثر. إنها مثل وجهي جانوس ينظرُ كلٌّ منهما في اتجاه. لا شكَّ أن الشاعر بدأ بكتابة قصائد في بداياته الشعرية تستلهم شكل التفعيلة، لكنه استبقى منها ما اعتقدَ أنه يتساوق مع فهمه للشعر في تلك المرحلة، ما جعل مجموعته الشعرية الأولى تتضمن شكل التفعيلة وشكل قصيدة النثر في آن معاً.
النص الشعري الأول، الذي يفتتح به الشاعر “مديح لمقهى آخر”، يستلهم الأفق العام لما تحصَّل من إرثٍ لقصيدة النثر. إنه يُرجِّع صدى ترجمة أدونيس لقصيدة سان جون بيرس “ضيقة أيتها المراكب”. ورغم أن النص يبدو غيرَ متماسك على صعيد بنائه الداخلي، على عكس ما نجد في نصوص الشاعر التالية المبنية بحِرَفيَّة عالية، فإن هذه القصيدة الافتتاحية تنبئ بمنجزه اللاحق.
أرعنَ كان القلب،
صبيَّاً طائشَ الشعر،
يعثر في غصون الليل المتهالكة،
والمدينة لم تتحوَّل بعدُ
إلى حصان خاسر.
يرفد هذه الرغبة في اتخاذ قصيدة النثر شكلاً تعبيريَّاً وحيداً في الكتابة الشعرية استفادةٌ واضحةٌ من التيار الجديد في شعر السبعينيات، ممثلاً في عمل سعدي يوسف بصورة أساسية وترجمته لبعض قصائد الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس في المجموعة التي اتخذت عنوان “إيماءات”. أعني، بالكلام السابق، أن أمجد ناصر، من بين شعراء آخرين، يُسقِط من حسابه تلك النبرةَ العالية في شعر الستينيات والسبعينيات، ويتوجه إلى ملاحقة التفاصيل اليومية والأشياء العاديَّة، والاعتناء بالأمكنة، واستعادة تفاصيل حياة البداوة، ومن ثمَّ، الانتقال إلى لغة طقسيَّة تستعيد الحياة الصحراوية للشاعر.
من رفضه للشعريَّة الرومانطيقيَّة، والخطابِ المُفخَّم، تتوَّلد في شعر الشاعر ثيمةٌ تتردد في معظم مجموعاته، وهي ثيمةُ البدويّ الضائعِ في المدن، التائهِ وسط البنايات الإسمنتيَّة العالية.
إلى أين تأخذنا الأقدام،
المكونة من عشر أصابع
إنها أقدامنا ذات الأجراس العشرة
المبحوحة، صاعدة مدارج الكونكريت،
بمزيج من الألياف،
والخوف، وقليل من الدم
إنها أقدامنا،
صهوات واطئة،
تسبح
في براري الإسمنت
ما أريد قوله هو أن قصيدة أمجد في “مديح لمقهى آخر” تبحث عن شكل ورؤية وفهم للشعر يخلصه من الغنائية العالية التي كانت، وما زالت، تحتشد في الشعر العربي. وهو الشيء نفسه الذي نلحظه في مجموعة “منذ جلعاد كان يصعد الجبل” (بيروت، 1981) التي يشحب فيها الإيقاع ويتوارى الشكل التفعيليُّ، وتقع على قصيدة النثر كاختيار شكلي ورؤية تعبيرية وحيدة. في هذه المجموعة تتراجع تأثيرات سعدي يوسف، وحتى ترجماته لكوكبة من الشعراء من لغات مختلفة، قسطنطين كافافيس وفاسكو بوبا وفدريكو غارسيا لوركا ويانيس ريتسوس..، ليتلقى أمجد ناصر تأثيرات أخرى عديدة من الشعر العربي والعالمي يعلن عنها في مفتتح كتابه الشعري باقتباس مقطع شعري من أنسي الحاج ومقطع شعري آخر مترجم لراينر ماريا ريلكه قام بترجمته فؤاد رفقة.
في “منذ جلعاد..” يستقر أمجد ناصر على تصورٍ محدد لشكل قصيدته وفهمه للشعرية والصيغ التعبيرية التي يستخدمها في كتابته. فهو يمزج في هذه المجموعة الشعرية بين أشكالٍ وصيغِ تعبير عديدة؛ بين القصيدةِ القصيرة التي تقترب من شعر الهايكو، والنفسِ الملحمي، والأنشودةِ الرعوية، والسردِ القصصي الموجز الذي سيصبح في مجموعات أمجد الأخيرة مكوناً أساسياً، بل ربما وحيداً، من مكونات قصيدته. ما يمكن قوله أيضاً بشأن مجموعة “منذ جلعاد كان يصعد الجبل” أنها تؤسس للثيمات المتكررة في شعر أمجد ناصر: سيرة البدوي الوافد إلى حضارة الكونكريت، تذكُّر الماضي بوصفه بلسماً شافياً من مرارة الحاضر، الشعور بحدَّة الاغتراب عن العالم المُحدِق بالشاعر، الإيروسيَّة بوصفها بلسماً مؤقتاً لشعور الاغتراب الحاد.. إلخ تلك الثيمات التي تصبُّ جميعاً في بحيرة الإحساس بعدم التلاؤم مع الأماكن الكثيرة التي ارتحل إليها الشاعر مبتعداً إلى الأبد عن مكانه الأول.
في قصيدة بعنوان “الأحذية”، من مجموعة “منذ جلعاد كان يصعد الجبل”، يتخذ الشاعر من الحذاء وسيلةً للتعبير عن اغتراب الإنسان في المدن الحديثة. يبدو الحذاء، بصورة غير متوقعة، مصدراً لقسوة وحنان مجدولين معاً، لصلابة موجعة وعونٍ على عبور هذا العالم المشيَّد من عظام الأسماك. قصيدة “الأحذية” تعبيرٌ عن قسوة حياة المدن التي يُعَدُّ الشاعر طارئاً عليها.
توجعنا الأحذية، وكيما لا نصاب بالجنون
من الجلود والبلاستيك الذي
يفل أقدامنا
نجترح لها الأشكال، والألوان.
ونثرثر حول أناقتها
في المقاهي
وبيوت الأصدقاء.
توجعنا الأحذية
ونحزن، لأننا في هذه المدن
المشيَّدة من عظام الأسماك
لا نستطيع الحياة
دونما أحذية.
في “رعاة العزلة” (عمان، 1986) نعثر على انعطافة حادة في تجربة أمجد الشعرية. ثمة بالطبع تخفف من الغنائيَّة المتحققة في صيغة المتكلم، التي تلازم مجمل الشعر العربي المعاصر، حتى ذلك الذي يتخذ من قصيدة النثر شكلاً أساسياً للتعبير، وتركيزٌ على الأشياءِ والأحداثِ والتفصيلاتِ الصغيرةِ، واليوميِّ والراهنِ، ومحاولةٌ لرؤية الخفيِّ والمتواري من الصلات بين الأحداث والوقائع والأشياء. ومع أن أمجد لا يهجر ثيماته التي أشرت إلى بعضها، ولا ينسى شعوره بعدم التلاؤم مع المكان الذي يحل فيه، إلا أن اللافت في هذه المجموعة المحورية في تجربته الشعرية، التي ستتكرر أشكالُ خطابها وصيغُها الجُمَليَّة، وطريقةُ توزيعها السَطريِّ في المجموعات اللاحقة، هو مركزيةُ الشيءِ في القصائد، وتواري الفاعلِ الإنساني إلى خلفية المشهد، واتخاذُ الشاعر صفةَ المراقب الذي يلاحظ ويؤوِّل ويسأل عن سر هذا العالم. إنه شعرٌ يقوم بإرهاف الحواس جميعها: العينِ والأذنِ واللمسِ والشمِّ والتذوقِ، في محاولة دؤوبة للتعرف على معنى الوجود في هذا العالم المستغلق على الفهم؛ ففي أمكنة الآخرين تعاني الذات من العزلة الخانقة بحيث يبدو العالمُ صعبَ التفسير، والعلاقاتُ بين الذاتِ والعالمِ، والأشياءِ والأشياءِ، والظواهرِ والظواهرِ، بحاجة إلى فك شيفراتها العصيَّة على التدبُّر.
لكن التشديدَ على الأشياء، والرغبةَ في اكتشاف السر الكامن خلف العلائق بين الأحداث والظواهر، لا يمحو الذاتَ تماماً من المشهد الشعري، ولا ينحِّيها جانباً من الرؤية العامة للقصيدة. إن الذات الشعرية تطل بصورة مواربة من أعماق القصائد على هيئة تذكرٍ جانبي، أو استحضارٍ للماضي البعيد، أو تحويلٍ لضمير المتكلم إلى ضمير مخاطَب تختفي وراءه الذات وتسأل.
في “رعاة العزلة” يفتتح الشاعر النص بتساؤل استنكاري يحمل جوابه في داخله، كما يؤسس أيضاً التناقضَ بين قبل (البراءة الأولى)، وبعد (الرحيل إلى المدن).
من سيصف تحولاته
ويرسم بخنجر بدوي حدود الحكمة؟
من سيكتب في إنصاف
عن ولد قذفته المضارب
إلى قوة الكونكريت،
حيث لا متسع لنمو الأحلام،
حيث تتوج دائماً بالخسارة.
ينفتح النص على زمان آخر يحضن انتقال الشاعر من مضارب البداوة إلى إسمنت المدن. وفي وصف هذا الانتقال تكمن براعةُ أمجد ناصر وقدرتُه على إبداع لغة المفارقات وإقامة حد التناقض بين زمنين، مستخدماً صوراً شعرية ذاتَ مرجعيات متنوعة بعضُها يحيلُ إلى المعجم القرآني، وبعضها يحيلُ إلى القاموس الشعري الحديث، وبعضها يشير إلى أشياء تنتمي إلى حياة البداوة ..إلخ. والأهم من ذلك أن براءة الصور الشعرية وعذريتها (أقصد جِدَّتَها وطاقتَها الإيحائيَّة البكر) تتطابق مع معنى البراءة الأولى. ثمَّ إنه يمضي إلى تطعيم نصه بلغة العاديَّات اليومية والأحداث الطريفة التي تنتمي إلى تلك المرحلة من التجربة.
سيكون كثيراً علينا،
مثلما على الذين من قبلنا، أن نضرب كفَّاً بكف
فتسقط الوحدة من المشجب
إلى درج الخزانة.
يتواصل هذا النهج في الكتابة الشعرية في مجموعة “وصول الغرباء” (لندن، 1990) التي تبدو فصلاً آخر من فصول “رعاة العزلة”، ولعباً مستمراً على ثيمة الغربةِ، والاغترابِ، وعدمِ التلاؤم مع الأمكنة الجديدة التي يَحِلُّ فيها الشاعر. ويستخدم الشاعر لوصف البيئة الراهنة التي حلَّ فيها مزجاً بين القصائد القصيرة، التي قد لا يتعدى طولها سطرين، والقصائد الأطول قليلاً ولكنها تعتمد السردَ صيغةً تعبيريةً أساسيةً يتوارى فيها ضميرُ المتكلم ويحل محله ضميرُ الجماعة أو ضميرُ المخاطب في محاولة للتخفيف من غربة الغريب في بلاد الآخرين.
في المجموعة السابقة يجري التعبير عن الشعور بالاغتراب عن المكان – المنفى بإقامة عالم غير مألوف تختلط فيه صور الماضي بصور مستمدة من الكتب والثقافة، حيث يعمل الشاعر على تغريب صور البيئة التي تتناسل من الذاكرة، مُلقياً المزيدَ من الظلال على هذه الصور.
قصيدة “وصول الغرباء”، التي تأخذ المجموعة عنوانَها منها، تقوم برمَّتها على تغريب المشهد، وتحويل وصول الغرباء، إلى مدينة غريبة، إلى سلسلة من التذكُّرات المرفوعة إلى مقام غرائبي، أو أسطوري، أو لغة ساخرة تلعب على المشهد المألوف، لتعطي دلالة عكسية.
الغرباء الذين جاءوا من الضفاف الأخرى
تمركزوا في قلاع تشرف على طرق البريد.
فكر في أغرار يترصدون السعاة في الأزقة
ويجبرونهم على الاعتراف بالمصادر الغامضة للعناوين.
فكر في عارضي الأحوال ومدبجي الرسائل
وهم يعملون على دكك خشبية، وبين فينة وأخرى
يطلقون صبيانهم إلى أسواق الجملة لاصطياد فلاحين
وبدو
ضلوا الطريق إلى دوائر العدل والإغاثة.
ثمة التحامٌ في شعر أمجد بين البنيةِ والدلالةِ، الشكلِ والمعنى، الأداةِ التعبيرية والرؤيةِ التي يسعى الشاعر إلى توليدها. ولعل اختيار قصيدة النثر، بمروحة الأشكال والتنويعات في صيغها التعبيرية، وبوصفها الطريقةَ المثلى لوصف هذا المغتَرَب الأبدي للشاعر، يفسر انقطاعَ الشاعر تماماً عن محاولة تجريب الطاقات التي يفجرها شكل التفعيلة، وإيمانَه، الذي لا يتزحزح، بأن شكل قصيدة النثر يمثل مستقبل القصيدة العربية وشكلها الذي ما زال يزخر بوعود كثيرة. وهو الأمر الذي نتبيَّنُه في مجموعة “سر من رآك” (لندن، 1994)، التي تستخدم التوزيعَ السطريَّ المتنوعَ غيرَ المتساوي، والبياضَ، والكتلةَ أحياناً، لكتابة نص إيروتيكي لافت. إن أمجد ناصر واعٍ، في هذا الكتاب الشعري، بالإمكانات التي يتيحها شكلُ قصيدة النثر، والتمازجُ بين الشعري والنثري، وطريقةُ توزيع الكلمات على بياض الصفحة، لإعطاء إيقاعٍ لاهثٍ في نص يتخذ من الرغبة موضوعاً لوصفه.
إننا نعثر في المجموعات السابقة للشاعر، وكذلك اللاحقة، على هذا البعد الإيروتيكي الذي يضرب بجذوره في أعماق التجربة الشعرية. لكننا في “سر من رآك”، وفي بعض قصائد “حياة كسرد متقطع”، نعثر على مشاغل الجسد في أقصى حالاته شغفاً ورغبة وغلمةً واشتهاءً. وهنا يعود المجاز، والتعبير الموارب عن الرغبة، وتحققِها أو عدم تحققها، ليتسيَّد اللغةَ التي يستخدمها النص. وفي الوقت الذي كان أمجد في بداياته ينشدُ التخفُّفَ من لغة الاستعارة والتعبير المجازي، دار الزمانُ دورتَه وصار المجازُ، والتعبيرُ الاستعاريُّ، نوعاً من التقيَّة والوقاية من الهبوط إلى مستوى الكتابة البورنوغرافيَّة المكشوفة.
الرائحة تذكر بأعطيات لم يرسلها أحد
بأسرة في غرف الضحى
بثياب مخذولة على المشاجب
بأشعة تنكسر على العضلات
بهباء يتساقط على المعاصم
بأنفاس تجوب مسالك جديدة إلى مرتفع الهواء
بمياه الأصلاب
مسفوحةً على الدانتيلا
بالترائب
بأكباش يهيِّجها البول
في “مرتقى الأنفاس” (بيروت، 1997) ثمة انعطافٌ باتجاه الواقعة التاريخية للتعبير عن حاضر الذات وهزائمها. هذا بالفعل كتابٌ شعريٌّ اشتغل عليه صاحبه من أوله إلى آخره (وأنا أفضل التعامل مع قصائد هذه المجموعة بوصفها قصيدةً طويلة قام الشاعر بتوزيعها على فصول) مستفيداً من الطاقة الخلاقة للنثر مضافاً إليها خصائصُ قصيدة النثر وطرقُ توزيع الكلمات على الأسطر، وتوازنُ المساحاتِ البيضاء والكلامِ المطبوع على الصفحة، أو عدم توازنه، مع ما يليه من كلام على الصفحة المقابلة؛ كل ذلك لإعطاء إحساس بالنهاية والسقوط الذي يبدو فيه أبو عبدالله الصغير وغرناطتُه مجردَ واقعة تذكر بفعل الهزيمة والخذلان والذهاب إلى الحتف الأخير.
وصل الغريب
بلا بارحة أو غد
وصل
الغريب
على آخر
نفس
إن “مرتقى الأنفاس” هي مجازُ كبيرٌ للنهايات، مهما كانت تلك النهايات: نهاية إمبراطورية، نهاية شعوب تهيم على وجوهها في غياهب التاريخ، نهاية حكايات شخصية، نهاية عشق عاصف أطلق صاحبُه زفرتَه الأخيرة مثل أبي عبدالله الصغير. ولعل هذه الطاقةَ المجازية التي ينطوي عليها النص، والقدرةَ الإشارية التي يتضمنها، والمزجَ بين شعريَّات قصيدة النثر، كما هي لدى رامبو ولوتريامون ووالت ويتمان ومحمد الماغوط وأنسي الحاج، هو ما يعطي “مرتقى الأنفاس” أفقَها التخييليَّ الواسعَ الممتدَ، ويمنح قارئها مفاتيحَ متعددةً للدخول إليها.
“حياة كسرد متقطع” (بيروت، 2004) انعطافةٌ حادة، لكنها متوقعة في مسار التجربة الشعرية لأمجد ناصر؛ فهي تقترب إلى حد الالتصاق من لغة النثر المباشرة، وتقلِّد النثر حتى في توزيع الكلام على الصفحة في معظم نصوص الكتاب، وتكتفي في عدد كبير من النصوص بالسرد والوصف والحكاية دون أن تحاول بناء طاقة مجازية للكلام. فأين تقع المسافة بين الشعر والنثر في هذه النصوص؟ لا مسافةَ البتة بل استفادةٌ أحياناً مما تعارفنا عليه بأنه من علائق الشعر: من ورود بعض الاستعارات، أو توزيع الكلام على الصفحة ليتشبَّه النص بالسطور الشعرية.
من إشبيلية إلى صالحية دمشقَ التي خضتُ في روائح
مطابخِها وأصواتِ باعتِها الملحاحةِ حتى اهتديتُ إليك قد تكون السماءُ يا سيدي واحدةً بغيوم تمطرُ هنا تُمسكُ هناك، بملائكةٍ منهمكةٍ بتدبير رحمةٍ لا تصلُ، أو بطيورٍ تهاجرُ مثقلةَ الحواصلِ بخُردُقِ البنادق المطارِدةِ، وأخرى بقش مواطنها الأولى في مناقيرها تصلُ الشتاءَ بالصيف.
النجومُ التي مشيتَ على شمالها
تسهرُ على فضتها المتربة.
ثمة من يعدُّ بيديه نقود اليقظة
ومن ينامُ جنبَ عين الليل المترعة.
لكن الإيحاء بالشعريَّة التقليدية، حتى تلك الخاصة بقصيدة النثر، هو من قبيل القصد والوعي التام بضرورة عدم الانجراف وراء نسف تعريف الشعر والقصيدة بحيث تنعدم المسافة بين “الشعر” و”النثر”. قد يسمي البعض هذا النوع من الكتابة الشعرية “قصيدة الكتلة”، انطلاقاً من طريقة توزيع الكلام على الصفحة التي تحتشد بالكلام كما هو حال النثر تماماً. لكن المهم في “حياة كسرد متقطع” هو أنها تعيد وضع قصيدة النثر العربية على مسارها الصحيح، أقصد أنها تعيدُ وصلَها بمنابعها الأورو-أمريكية، فهذه هي قصيدة النثر التي قوَّضت الشعرية العتيقة في عدد لا يحصى من اللغات وابتنت لنفسها شعريَّة جديدة تقتات على الحالة والحدث والاستقصاء الدقيق للظواهر، كما على الشاعرية المتخفية في البسيط والعادي واليومي.