خلاصة الأحداث العربية العاصفة ومسارها المتقلّب، لكن الثابت على سياقٍ ضارٍ من المجازر والتدمير المادي، الروحي، المعنوي يتجاوز الصعوبة والمشقة التي هي من طبيعة الحياة والكتابة، إلى الكارثة. من هنا ينبثق سؤال الكتابة في ضوء كارثة الراهن العربي التي تتناسل فصولاً وأوجهاً متعددة لحرب ضروس وإبادات مستمرة…
بومة «منيرفا» التي لا تُحلق إلا في الظلام، عبارة الفيلسوف الألماني (فريدريك هيجل)، وكان يقصد بها الفلسفة، فقد كانت البومة عند الإغريق القدماء، ترمز الى الحكمة أو الفلسفة ، حتى ساءت سمعتها في القرون الوسطى الأوروبية، إذ تحوّلت إلى رمز للشؤم والخراب. وكذلك في الوعي العربي الذي يتطابق واقعاً ورمزاً مع تلك الحقبة السوداء في التاريخ الأوروبي التي سبَقت ومهّدت للانعطافات الحضاريّة الكبرى اللاحقة.
في المنحى العربي الشرقي، نجد البومة في أسوأ صورها حتى لدى حيوانات «ابن المقفّع» حيث يقوم (الغراب) بقذف البومة بأقبح الصفات صورةً وصوتًا وسلوكًا.
ما يعنينا في هذه العجالة، أن الفيلسوف الكبير كان يقصد أن الفلسفة تزدهر أكثر في خضمّ الأزمات والمحن ، التي تعصف بالبشر والحياة. وفي هذا السياق أستأنس بمقولة الفيلسوف وإن لم أقصد الفلسفة تحديدًا، والظلام تحديدا هو الظلام العربي، وإنما أقصد طرح سؤال الكتابة بصورة عامة في زمن الانحطاط القيمي والسلوكي، أزمنة الحروب في شتى أوجهها والاستبدادات القصوى. زمن الثورات والانتفاضات التي تنقلب إلى نقيضها الحادّ عنوةً وقسراً وتدميرًا، يتضافر فيه الداخل الأعمى عن رؤية التاريخ والذي لا يعرف إلا لغة القتل والاستباحة لمن يرفع إشارة اعتراض على «منظومة» أصبحت خلف الزمن والتاريخ وخارج الصيرورة بقرون… والخارج عبر التدخل العنفي المباشر ساحقاً في طريقه المُدن والحياة والأمل. أو عبر تكتيكات الدهاء المعروف والمناورات.
المهم أن لا تقوم قائمةُ نهضة حضارية حقيقية في هذه المنطقة المفعمة بتاريخ الحضارات، العمران ، المُدن ، المعرفة والأديان التوحيديّة جميعها، على هذه الأرض التي تتوالى على أديمها الزلازل والنكبات.
(تيودور ادورنو) وهو فيلسوف ألماني آخر من أصل يهودي ، طرح في أعقاب الحرب الكونية الثانية سؤاله حول معنى الكتابة بعد (اوشفيز) والمجازر التي ارتكبها المتحضّرون تجاه بعضهم ؟. وثمة مفارقة مأساوية لكن أضحت بديهيّة، كون ضحايا الأمس أصبحوا قتلة اليوم، في احتلالهم أرض فلسطين وتشريد شعبها. ونمط الجلاد الضحية والعكس، يستمر حتى في الحروب العربية – العربية المتألقة على قدم وساق..
ما يجري ويُرتكب على أرض العرب، أكثر هولاً وفظاعة من الأمثلة الآنفة. فكل يوم (أوشفيز) وكل يوم مذبحة تنجب أخرى. مما يجعل الكتابة تجرجر أثقالها مرتبكة، باحثة عن معنى وجدوى إبحارها في هذا الليل الطويل لبحار الدم المُراقة.. إزاء هذا الجفاف والقحالة المُظلِمة. جفاف ساحق أدى إلى موت الضمير واضمحلال مشاعر التعاطف الإنساني، الذي ساهم في إطفائها هيمنة «الصورة» المكررة النمطيّة التي محتْ الفروق بين الوقائع الدامية على الأرض وبين خيال الأفلام والمسلسلات الفنطازيّة. صار تفجّر الدم البشري في ساحات الحروب العبثيّة، نوعاً من فرجة لا تختلف غريزياً عن مشاهدة حفلات المصارعة وألعاب الفيديو. وتفقد إبادات البشر الجماعيّة وقتل الأطفال والإجهاز على الجرحى والعُزّل بعدها الإنساني البديهي، ويفقد الموت جلاله، وهيبته الأزليّة.
إزاء هذا الهول القيامي، كأنما الشاعر المجري ينفجر صوته الغاضب، من أعماق الضحايا المنسيّة كما من ضمير كل كاتب حقيقي وانساني:
«ليتني أحفر الكرة الأرضيّة
من القطب إلى القطب
وأحشوها بالدينميت
ثم أفجرّها»..
هذه الصرخة المعبأة بعواطف الثأر من قتلة الحياة والإنسان والقيَم، يستشعرها «المتوحّد» وهو مكبّل بالعجز وعدم القدرة على اجتراح أي فعل ذي معنى، أمام رُعب المشهد والاستباحة.
اللغة تتبدى وكأنما أصيبت بالعقم لغة خرساء عاجزة، عن المقاربة واللحاق بمواكب الجزّارين وما راكموه من فجائع وانحطاطات مُفْحمة بليغة، أين منها لغة الضاد الأكثر عراقةً وثراءً بين لغات العالم . بلاغة الحدث أربكت اللغة والتعبير وتكاد تخرسهما.. لكن هل الصمت ملاذ، حتى لو كان معبراً ودالاً، أمام فداحة الحدث والمشهد؟!
وهل يستطيع الصامت أن ينام ويمارس حياته العادية في مثل هذه البرهة التي يجري فيها سحقُ ما تبقى من قيم انسانية وجماليّة التي استعار خطابها القتلة لتكريس قبح الانهيار الشامل وبشاعته؟
هل يمكن الصمت والانسحاب إلى غابة آسيوية بعيدة تتأمل فيها المارة الغرباء وتماثيل البوذا بحياد بارد، الانسحاب الهادئ في أي ركن قصي من العالم؟
إنها اللحظة الفارقة، العارية تماما من غير صفات ولا مرجعيات، لحظة الزوغان في قلب المتاهة التي لا يعود أحد منها سالماً.
اللحظة الباحثة وسط الأنقاض والحطام عن أفقها التعبيري الخاص كي تستطيع ملامسة الحدث وقيامة الدم.
* * *
مطلع سبعينيات القرن المنصرم، وما تلاها، كان ثمة سجال حول هيمنة الخطاب السياسي بمختلف اتجاهاته وأهوائه وصراعاته، على الخطاب الأدبي- الفني وتبعيّة هذا الأخير، مما يفقده ماهيته الجمالية والدلالية، التي تتولّد وتنمو في مناخ الحرية والاحتمالات.. وليس من قسْر المفاهيم المسبقة، خاصة إذا كانت سياسية مؤطرة في نُظم وأحزاب وتكتلات. كان عنف الخطاب السياسي، صخَبه وتبشيريته اليقينيّة يناقض جوهر الثقافة الأدبية والإبداعية عامة.
الأدب وفضاء فرديته وبحثه القلق، على عكس خطاب الجموع الذي يصل لدى الفرقاء أحياناً أو غالبا في بيئة مفعَمة بقيم القمع والإقصاء الى قطيعية نابحة وطاردة لما عداها.
هكذا، كان خطاب تلك المرحلة التي يلتقي فيها تصور الأنظمة الحاكمة «الثوريّة والرجعيّة». مع الأحزاب المعارضة، حين كانت هناك أحزاب تحلم بالتغيير ونوع من سوية حياة سياسية، تلتقي في عدائها للأدب والثقافة باستثناء الثقافة التابعة الملحقة بأجهزة هذا النظام أو ذلك الحزب. يتواصل هذا التصور للثقافة مع مرجعيات عالميّة، على رأسها المنظومة الاشتراكية وطليعتها الاتحاد السوفييتي وفق رطانة تلك المرحلة من التاريخ. هكذا جرى إفقار الخطاب الأدبي الثقافي إفقاراً مدقعاً، وما تبقى من أدب حقيقي حمل توقيع تلك الفترة وكافة الفترات والحقب، تَشكّل بمعزل عن ذلك التصور المضاد لجوهر الأدب ومنافٍ له ..
في الفترة الراهنة التي نعيش ونشاهد ونسمع، تتبدى تلك المرحلة، أقل بكثير في قطيعيتها واستحواذها الاستبدادي على كل ما هو مختلف عن النسق السائد. تتبدى في نزوعها الايديولوجي القومي اليساري واليميني، على نوع من لطف وأقل جلافة من هذا الهول البركاني لخطاب الانحطاط وقد بلغ العتوّ والذروة بمساندة حاسمة لتطور تقنية التواصل الاجتماعي الشعبوي التي لا تترك شاردة أو واردة إلا وأحصتها ووضعتها في عجلة هيمنتها السريعة. العامة هنا هم الضحيّة الأكثر مثاليّة لهذا السحق.
الأحلام والأوهام الدامية، إذ يمكن لهذين اللفظين أن يتبادلا المواقع بيسر وسهولة في الحالة العربية ومآلاتها، والتي كانت تتمحور حول الوحدة والاستقلال والعدالة ومواكبة العصر الحديث الذي تخطانا بمسافات شبه ضوئية.. ورغم مآلات الخيبة، لا تخطئ عين الناظر لتلك المرحلة وما قبلها، ربما يمتد لمطالع القرن الماضي، من نبل للمقاصد والأهداف، وتلك التضحيات الفردية والجماعية الجسيمة الصادقة. أما البرهة الراهنة فالنقيض الفادح هو المتربّع على عرش الخراب والانهيارات. الحروب الطائفية والأهليّة حلت محل أحلام التغيير والتحول الحقيقيّين وتسويق القيم والخطابات ان صحّت هذه الأخيرة، التي تعجز أبالسة الجحيم عن تخيّلها. لقد تفوق أبالسة انحطاط العرب والعالم على أساطير الشر والقبح التي ابتكرها خيال البشر في تاريخه..
الفضاء جهْم، تتخثر فيه الدماء وتطفو أفواج الجثث والمشرّدون. واللغة عاجزة عن وصف ومقاربة ما يحدث على الأرض العربيّة النازفة..
عدا لغة الاعلام، مصادره وتقنياته التي صنعها الآخرون لتضخّ كل هذه الأكاذيب والقيم المضادة للحياة والانسان ، الحريّة والجمال.
في ضوء هذا الانكشاف والخواء، الذي هو نقيض لرؤية الخواء والفراغ العميق في الفلسفات الآسيوية، تحطمت كل الأقنعة في سطوع هذا العري الدموي.. ولم يعد هناك أدنى احساس بالخجل والحياء، من تدبيج المدائح للمجازر والاستباحات التي يرتكبها أهل الداخل والخارج. الاستقطاب القطيعي على أشده وهذا الجزء من العالم يوغل في عذابه وانحداره. الملايين ترزح تحت آلة الحرب الإجراميّة قتلا وتشريدًاً في خضمّ تيه الصحاري والمحيطات.
* * *
أتذكر حلم ذلك الكاتب الفرنسي… وكان أطفال كثيرون يتامى وموتى، يتجمعون حول السيد المسيح ، يطلبون العون والحنان . فما كان من المقتول صلبًا وغدرًا، إلا أن أجابهم والانكسار يلف صوته: يا أطفالي كلنا يتامى جريحون ومغدورون، يا أطفالي المساكين الجميلين.. أود عمل شيء لإنقاذكم لكن… كأنما كل القوى الخارقة عاجزة أو متواطئة إزاء هذا المشهد، الذي يفوق مآسي الماضي «البربري» ألماً وتنكيلاً .. وصوت المذابح والميديا يخنق كل صوت عداه..
إزاء هذا ، كيف سيكون صوت الأدب والفن، صوت المعرفة الحقيقيّة والضمير.. وكيف ستكون الارتدادات البركانيّة لملايين الضحايا والمغدورين الذين اغتُصبت طفولتهم وأحلامهم الغضّة، يتناسلون في الجوع والعراء واليأس؟
إزاء هذا، هل ثمة مشروعية منطقيّة للسؤال البديهي، حول أسباب «الإرهاب» الجاثم على الأفئدة والصدور؟
والذي صار يشفط الوقائع والحقائق كما يشفط الثقب الأسود في خضم هيجان جاذبيّته الكواكب والشُهب والأجسام … جاذبيّة اطروحات الإرهاب، لأن الأقوياء صنعوا أسطورته لتبتلع الصغار والكبار، كل بحجمه ومستواه وفق الأهواء والمصالح. وصار أعتى المجرمين والقتلة، على اختلاف مواقعهم ينخرطون في عملية «مكافحة الإرهاب» التي لا يطالها الشك والمساءلة طالما هي تنعم بالرعاية الخاصة للمرضعة «الأعظم» للقوة والسيطرة في العالم وسائر المرضعات صغيرات وكبيرات (مرضعات الفقر والموت)، متحلّقات كالضباع الكاسرة حول المأدبة الكونيّة الضخمة.
وبشَبق الافتراس، الذي لا يترك للآخرين من ثرواتهم ومصائرهم إلا العظام والنفايات. تلك الشباك الجهنمية التي لا يفلت منها أحد مهما سعى وتذاكى، لا بد أن يسقط في متاهة (الميناتور) انها العولمة. وما يتجاوز بكثير، ذلك التحليل الماركسي اللينيني حول الامبريالية العليا، وأقصى مراحل الرأسمالية. العولمة، الغولة الكونيّة التي تلف القارات والآفاق والبلدان. من أقصى قرية بائسة في جزيرة العرب وعالمهم، إلى آخر قرية في غينيا بيساو وتشيلي أكثر بؤساً. الكل يدفع دمه وحياته ويرهن مصيره، أتاوة وجزية وجعالة، إلى غيلان العولمة التي تتواضع أمامها الأساطير والخرافات. لعل تلك المحاورة الحميمة المعبّرة للامبراطور العربي هارون الرشيد، وهو في قمة زهوه. متأملاً من شرفة قصره البغدادي ، غيمته العابرة «امطري حيث شئت فخراجك لي».. نبوءة على وجه من وجوه الهيمنة العولميّة الماثلة.
* * *
إذ كانت الدول والتكتلات السياسيّة والاقتصادية لها مصالحها الصماء أمام صوت الضحية. وتعرف أن استمرار وجودها يرتبط لا بد بتلك اللعبة الكونيّة (الكارتلات والتروستات) التي صنعها وصمّمها الكبار (أمريكا والغرب) بالدرجة الأولى. وهي عاجزة عن تصميم وصنع أي دوائر ومجالات حيويّة لوجودها ضمن العالم واستمرار هذا الوجود، خارج تلك (اللعبة) ومتاهة مسالكها وتشعباتها المدوّخة- فما هو مبرر (الأفراد) خاصة أهل الثقافة والفن. أي مبرر مهما كان واهياً يصمّ الآذان ويعمي القلوب عن سماع صوت الضحايا الذي يلجم الآفاق والكواكب بنحيبه الهادر الجريح؟
* * *
مضى ذلك الزمن الذي كان فيه السجال على أشدّه حول خطاب تبعيّة الأدبي للسياسي او طغيانه عليه، انتقل السّجال إلى مستوى آخر تماماً.. صار خطاب المذابح الذي يلبس (من غير حياء) لبوساً طائفياً متداخلاً تداخلاً عضوياً مع جَلبة (الميديا) بأفرعها ورؤوسها المتعددة، تعدد رؤوس (الهيدرا) في حكايات الاغريق…، إلا اذا اعتُبرت الغرائز السوداء الوحشيّة التي يغذيها تاريخ متوهّم وملفّق على هوى لحظة الانحدار الراهنة.. خطاباً تغذّيه القوى ذات المصلحة في استمرار تدمير المنطقة، فكأنما التاريخ العربي في برهته «المعاصرة» و«الحديثة» يمضي باندفاع القتلة القهقرى استطراداً وتصاعداً. فحين تبلغ مرحلة من مراحله ذروة تحللها يقول القائلون والشهود ها هو العد العكسي للتخلف والظلام والشرذمة، قد بدأ. إذ لا قعر ولا قرار أبعد من هذا الدَرك الذي وصلنا إليه. وإذا بالتاريخ أكثر مكراً من شهوده ومحلليه، إذ أن هناك أعماقا أكثر ظلاماً وغلظة وألماً نبلغها تباعاً متذكرين على نحو دنيوي، الآية الكريمة (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا).
فكأنما ذلك الجحيم الذي أنذر الله به الكفرة ومرتكبي المعاصي الكبيرة والجرائم، جحيم المآل والمصير والرمز، ينسحب على الراهن العربي… هل ثمة فرق في هذا السياق الملتبس المتفجّر بين الحقيقة والواقع وبين المجاز والرمز والخيال؟!
* * *
ماذا تعني الكتابة في بلاد الخليج العربي، بَذخ السلعة والاستعراض الذي يتساوى تحت قبّة مُطلقهِ، الأغنياء مالكو الثروات الماديّة، والفقراء الذين يكدسون ثروة الوهم والاستسلام لنهم الاستهلاك وقيمه وأنماط سلوكه؟
ميلاد الكائن المشوّه
رغم هذا الجو الاستثنائي الغائم في العاصمة العُمانية، أراني مأخوذاً بالتفكير في ظاهرة العنف والشر البشريّين التي أصابت الكثيرين بدوار الجحيم، هذه الفضاءات والحقول الشاسعة الممتدة في أصل الوجود وكائناته الحيوانيّة، البشريّة منذ «طفولة» البدء الموغلة في القدم.. أليس الوجود البشري على الأرض وفق الديانات التوحيديّة وُلد من أعماق خطيئة وصُلب قاتل؟!
هذا المنحى الدموي العنفي، مع الأسف، هو الأكثر أصالة وعمقاً في تاريخ الكائن السحيق وصفاته الكيانية، نزوعِه وسلوكه، وعيه ولا وعيه، من نزعة الخير والسلام المُقصاة والمحاربة، رغم التشدّق بشتى أنواع التنْظيرات والشعارات .. وهي مُقصاة ليس من الدول والتكتلات المصلحيّة الكبرى عبر حروب السلاح، الاقتصاد والسياسة والثقافة، وإنما حتى في الحياة اليوميّة بين الأفراد والجماعات بأشكال شتى، تبدأ بالحساسيات والمصالح الصغيرة لتنتهي أحياناً بالسلاح. خاصة في البلدان التي لا يحكمها الدستور والقانون بمؤسساتهما الحقيقية وليست الشكلية كما في أماكن كثيرة ضمنها البلاد العربية…
هذا الفضاء المشحون بالتناقضات والآلام والمجازر هو الملهم الأول للآداب والفنون، والفلسفة، أكثر من نقيضه بنسبة لا تستدعي مقاربة ولا قياساً من فرط شساعة الهاويات المليئة بالهوام والضحايا بينهما. في ضوء هذه الطروحات التي نجد مصداقيتها وتطبيقها الصارم شبه اليقيني في تاريخ البشر الطويل وسلوكه، أو في تاريخ الأدب والفن، يعجز الخيال الابداعي العربي مهما كانت طاقته وحيويته عن مقاربة المجازر الناطقة المباشرة، وتلك الصامتة الضمنيّة واللحاق حتى من مسافة ضوئية بقطار الدماء المُراقة في أرجاء هذه الأرض الثكلى.
* * *
أترك الدخول في التفاصيل التي هي ماثلة وناصعة، وأحدّق في الغيوم المتدافعة أمامي على غير العادة، في سماء مسقط، تلك الغيوم التي هي أحلامنا، وهي هباء الكائن وهو يتأمل شريط العمر الهارب، ولا يستطيع القبض على أي مفصل منه أو هنيهة راحةٍ وسلام..
أترك التفاصيل، بحر التفاصيل الهائج في الواقع والمخيلة السحيقين، وتهجم عليّ شذرات من السلوك الواقعي لأفراد مروا علينا في خضمّات الزمن المتقلب والحياة. ومن فرط إلحاح الشر والعنف المصلحي الإقصائي الصامت. الذي يستحوذ عليهم، يتطوّح الناظر من مسافة، أو ذاك المكتوي بنار شرهم وانحطاطهم ويرتبك في المقاربة والتساؤل بما يفوق ذلك التراث النظري الضخم، الذي قارب حدّ الاستقصاء والاستيعاب (النسبي طبعاً) لتلك الظواهر والأرواح الجهنميّة التي يموج بها تاريخ الكائن على هذه الأرض الهرمة..
هل الشر والعنف حتى عبر مظاهر الخبث الصغير.. إذ ثمة فرق رئيس بين الدهاء في المواقف التي تستدعي ذلك، وبين الخبث المراوغ الصغير.. على الأرض العربيّة الدامية يسود الأخير حتى في المجازر والإبادات الجماعيّة.. فأي دهاء لدى هذا النظام أو تلك الميليشيا، المدجّجة بكل أنواع الأسلحة الجويّة، البريّة والبحريّة، والتي تغذّت وتراكمت من أرزاق تلك البشريّة المدقعة الفقر، في إبادة شعب أعزل يطالب ببعض حقوق وكرامة، وأي شجاعة؟! ونفس هذه القوى تتفادى أي احتكاك أو اشتباك (غير لفظي) مع عدو حقيقي أذاقها الخزي والعار، تواجهه بمزيد من التنازل والتطمين، وهي التي رفعت بيارق القومية والمستقبل عالياً، وعلى مسافة عمرها المديد.
ما ينطبق على «الأنظمة» تلك، ينطبق بشكل ما، على الأفراد، أولئك المشبعين بالحقد الصغير وخبث الوضاعة، حتى من غير هدف مصلحي واضح محدّد أحياناً، حتى ليخال المتأمل في هذه الظاهرة المتشعّبة المترامية في هذه الساحة اليباب، انها إرث «جيني» مثل الكثير من الأمراض والأوبئة، التي تفترس الكائن جسداً، ومعنى، واقعاً وقيماً، وليس فقط مكتسبات البيئات الاجتماعية وقيمها الفاسدة السائدة.
أو أن هذه الظاهرة تُولد من جُماع هذه المنجزات الجينيّة والبيئيّة ليستوي الكائن، المسخ مواصلاً مسيرة الخراب الشامل الذي لا سقف له ولا قرار…
* * *
صـوت غـراب البيْن ينعقُ فـي أعمـاقه منذ ما قبل الولادة..
بين الأغشية التي يتخبط في أنحائها الجنينُ، يتناهى صدى الطائر السحيق، وهو يقرأ سورة الغياب القادم بين أوديةٍ نائيةٍ وجبال..
(للموضوع تتمة …)
سيف الرحبي