مفيد نجم
كاتب وباحث سوري
على خلاف الاهتمام المتأخر للاستشراق الألماني الذي بدأ في ثلاثينيات القرن العشرين كان اهتمام الرحالة العرب باكتشاف ألمانيا في إطار الرحلة الأوروبية مبكرا، حيث تعود بداية هذه الرحلات إلى نهاية القرن التاسع عشر. إن أهمية هذه الرحلات تكمن في التعرف إلى ما كشفت عنه الرحلة العربية في مرحلة مبكرة من العلاقة مع الغرب عن مواقف وتصورات وأنماط وعي لم يكن بعضها يخلو من حمولات أيديولوجية دينية وسياسية لعبت وقائع الصراع الديني التاريخي دورا مهما في بلورتها واستمراريتها. لكن وبعيدا عن الدراسة المقارنة بين الاستشراق الغربي والاستغراب العربي فإن القيمة المعرفية والتاريخية والحضارية الهامة التي نجمت عن هذا الاتصال كما كشفت عنه نصوص الرحلة العربية إلى ألمانيا تجعل من المهم دراستها للتعرف أولا إلى ما أضافته إلى مدونة الرحلة العربية من تفكر وبحث وانشغال بأهمية اكتشاف الفضاء الأوروبي والعوامل التي ساهمت في تقدم الغرب ونهضته الحضارية، حيث كانت الرحلة الألمانية في بدايتها -كما سيكشف عنه هؤلاء الرحالة في مدوناتهم- جزءا من هذا الاهتمام المبكر بالتعرف إلى عوامل التفوق الحضاري الألماني الذي تجلى في التقدم العلمي والصناعي والاقتصادي وانعكس على حياة المجتمع ورفاهيته.
لكن قبل تناول هذه النصوص بالدراسة والبحث لابد من تسجيل ملاحظتين مهمتين أولهما أن نصوص هذه الرحلات كتبت بعد زمن من حدوث الرحلة ما جعلها تعتمد على ما حفظته ذاكرة الرحالة من صور ومعلومات ووقائع، خاصة أن بعض نصوصها كتبت بعد مرور زمن طويل على تاريخ الرحلة، الأمر الذي جعل الذاكرة تلعب دورا مهما في إعادة بناء تجربة الرحلة وترتيب وقائعها ومشاهداتها في سياق بنيتها النصية التي ظلت تتميز بطابعها الوصفي السردي. لقد تجلت وظيفة هذا السرد في الإخبار وتقديم المعلومة خاصة وأن الاهتمام بالقارئ كان في صلب اهتمام هؤلاء الرحالة كما سنلاحظ في عناوين بعض الرحلات أو فيما دوّنه الرحالة في مقدمة نصوص الرحلة، وهو ما سنجده سابقا على أية غاية أخرى كما ظهر في مقدمة كتاب الرحالة علي أحمد بدوي «مشاهداتي حول العالم» (آليت على نفسي منذ فكرت في إصدار هذا الكتاب أن يكون حافلا جامعا وبأبسط أسلوب حتى يتمكن أكبر عدد من القراء أن يقرأوا ويتعلموا ويعرفوا ما يجري خارج حدودهم) أو كما يظهر في عنوان كتاب الرحالة اللبناني فرح جبران الذي يخاطب فيه القارئ مباشرة «تعال معي إلى ألمانيا».
إن أهمية الرحلة العربية إلى ألمانيا تتمثل في تنوع دوافعها وأسبابها وغاياتها والفضاء المكاني الذي جالت فيه وسجلت مشاهداتها وانطباعاتها عنه. أما الأهمية الأخرى لنصوص هذه الرحلات فهي تتجلى في تعدد أنواعها بتعدد أهدافها، فإلى جانب الرحلة الرسمية كانت هناك الرحلة السياحية والرحلة الصحفية والمعرفية والرحلة الفكرية، ما يدل على التنوع والاختلاف في مقاصد هؤلاء الرحالة واهتماماتهم وشواغلهم التي كانت تحدد مسار رحلتهم، الأمر الذي سيكشف لنا عن تنوع وثراء مضمون هذه النصوص وقيمتها الحضارية والمعرفية والتاريخية. وتزداد هذه الأهمية إذا عرفنا أن هذه الرحلات امتدت على مراحل زمنية مختلفة، شهدت فيها ألمانيا والعالم أحداثا عاصفة تجلت في الحرب العالمية الثانية التي كانت هدفا لأكثر من رحالة عربي جاؤوا يتقصون وقائع هذه الحرب الكونية المهلكة، أو للتعرف إلى الآثار الكارثية التي خلفتها هذه الحرب على المجتمع والحياة في ألمانيا، وكيف استطاع الإنسان الألماني أن ينتصر على عوامل الهزيمة والضعف ويحقق معجزة البناء والتقدم السريعة التي عبرت عن حيوية هذا الشعب وطاقاته الخلاقة في الإبداع وتحقيق التقدم الذي جعل ألمانيا تستعيد دورها الحضاري الرائد على الرغم مما كانت تخضع له من احتلالات وتقسيم، ومن خراب وموت وجوع مخيف.
بدايات الرحلة العربية
تعد رحلة محمد أمين فكري بك من مصر إلى ألمانيا (إرشاد الألِبَّا إلى محاسن أوروبَّا- 1889) هي الرحلة العربية الأولى في مدونة الرحلة العربية إلى ألمانيا، في حين ستكون رحلة حمد الجاسر -من السعودية- في مطلع ستينيات القرن الماضي هي المدونة الأخيرة في هذه المدونة. لكن ما يميز هذه الرحلات أنها كانت جزءا من الرحلة العربية والعالمية التي قام بها هؤلاء الرحالة. وسيظهر ذلك جليا في مسار الرحلة الذي انطلق من دول الجوار الألماني وكان له أثره في تحديد حركة الرحالة داخل الفضاء الألماني. وباستثناء رحلتي المصري عبد المنعم حسن «مغامراتي قي أوروبا الحائرة- 1941، واللبناني فرح جبران «أوروبا الحائرة- 1949»، فإن الرحلات الأخرى خصصت حيزا محددا للرحلة الألمانية لم يتجاوز حدود المدن القليلة التي زارها هؤلاء الرحالة، لكنهم أبدوا دهشتهم وإعجابهم الكبير بما شاهدوه من تقدم حضاري وعمراني وثقافي ظهر في دقة الهندسة وفي التنظيم والجدية في العمل والتفكير، إلى جانب تمجيد للأبطال، والاهتمام الكبير بالفن الحديث والتراث الحضاري الإنساني، والتعريف بالتاريخ السياسي للعائلات الحاكمة قديما، وما تتسم به الشخصية الألمانية من خصائص وصفات ميزته وجعلته في مقدمة الشعوب الأوروبية من حيث التقدم والعلم.
لقد شكلت التجربة الألمانية وما تميزت به من تقدم صناعي وعلمي حافزا كبيرا للرحلة العربية الأولى بهدف استخلاص العبر من تلك التجربة في تحقيق النهضة والتقدم في مصر، وستكون الرحلات التالية استمرارا للرغبة في المعرفة والاطلاع، في حين أن الرحلات التي حدثت في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين ستتمحور حول متابعة وقائع الحرب العالمية الثانية والتعرف إلى تداعياتها الكارثية على المجتمع والحياة والإنسان هناك، لاسيما في ظل الاحتلالات التي تعرضت لها وكانت سببا كبيرا في المآسي والمعاناة التي عانى منها الألمان. لكن هذه المدونات سرعان ما كانت تستحضر قدرة الإنسان الألماني العجيبة على النهوض من تحت ركام الحرب ومآسيها الرهيبة بقوة عكست إرادته الصلبة وروح الخلق والإبداع التي جعلته يستعيد موقع بلده الحضاري الرائد بجدارة واقتدار.
لقد تجلت الأهمية الخاصة لهذه الرحلات في سعي الرحالة العرب من خلال الوصف السردي الذي قدمته إلى تعريف القارئ العربي بعظمة الإنجاز الحضاري والصناعي والعلمي الذي حققه الشعب الألماني وبجمال وروعة العمران الذي شاهدوه هناك. لذلك سنجد اهتمام الرحالة العرب الكبير بتدوين ما شاهدوه من مظاهر التقدم والدقة في الهندسة والصناعة التي ما كان لها أن تتحقق لولا ما تتصف به الشخصية الألمانية من صفات العبقرية والجد والنظام . لقد ساهم تعدد أزمنة الرحلات العربية إلى ألمانيا في إكساب القارئ العربي معرفة كبيرة بأحوال تلك البلاد في أوج مرحلة صعودها الحضاري والعلمي وانكسارها بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية ومن ثم صعودها الجديد المذهل الذي كشف عن عظمة الشعب الألماني وما يمتلكه من طاقات خلاقة جعلته يتفوق على نفسه ويستعيد مكانته الحضارية والعلمية المتقدمة.
تعود أقدم هذه الرحلات إلى نهاية القرن التاسع عشر، وتعد رحلة محمد أمين فكري بك التي قام بها في عام 1889 هي أولى هذه الرحلات العربية التي ستمتد حتى بداية العقد السادس من القرن العشرين مع رحلة السعودي حمد الجاسر، والتي نشرت في مرحلة لاحقة في مطلع ثمانينيات القرن العشرين. لقد شهدت ألمانيا خلال هذا التاريخ حربين عالميتين مدمرتين لم تمنعاها من النهوض بقوة من تحت رمادهما واستعادة عناصر قوتها وتقدمها الحضاري. لذلك فإن أهداف الرحلة ودوافعها سوف ترتبط في مرحلة ما قبل الحرب أو ما بعدها بالظاهرة الحضارية الألمانية إضافة إلى الأحداث الكونية المروعة التي كانت ألمانيا محورها، وهو ما سيظهر جليا من خلال زمن الرحلة وشواغلها. وكما تختلف المدة التي استغرقتها كل رحلة وزمنها فإن دوافعها التي كانت تكمن وراءها سوف تختلف أيضا، فهناك الرحلة الرسمية التي تمت بدعوة من الحكومة السويدية للمشاركة في مؤتمر عن الاستشراق (رحلة إرشاد الألِبَّا إلى محاسن أوروبَّا- 1889 للقاضي المصري محمد أمين فكري بك) وأخرى لأجل الاطلاع على المخطوطات العربية التي تزخر بها مكتبات براين (رحلة حمد الجاسر- دون تاريخ). وهناك الرحلات السياحية والرحلة الثقافية للتعرف إلى الدور السياسي والفكري والثقافي الذي لعبته ألمانيا في العصر الحديث (رحلة علي أحمد بدوي)، إضافة إلى الرحلة الصحفية التي كانت تهدف إلى تغطية أخبار الحرب العالمية الثانية مثل رحلة الصحفي المصري عبد المنعم حسن (مغامراتي في أوروبا المحتلة- 1941) والتي تمت على ثلاث مراحل واستمرت كل رحلة منها عاما كاملا، أو للتعرف إلى واقع ألمانيا في ظل الاحتلالات الأجنبية التي خضعت لها بعد هزيمتها في هذه الحرب أو لمعرفة مصير هتلر الذي شكل لغزا كبيرا للعالم، كما في رحلتي اللبناني فرح جبران (أوروبا الحائرة- 1948 وتعال معي إلى ألمانيا- 1950-1951) أو من أجل التعريف بالدور الفكري والسياسي الذي لعبه على مستوى العالم فلاسفة ألمانيا وفي المقدمة منهم ماركس من خلال فكره الثوري الذي اجتاح العالم. وكانت رحلة السعودي حمد الجاسر، هي الرحلة الوحيدة التي كان هدفها البحث عن المخطوطات العربية في المكتبات الألمانية التي ما زالت تحتفظ بالكثير منها حتى وقتنا الحاضر.
بين تاريخين
يحمل زمن الرحلة دلالة مهمة يجب التوقف عنده لأنه يعكس في أسبابه ومراميه طبيعة التحول الذي كان يطرأ على الوعي في نهاية القرن التاسع عشر بعد الصدمة الحضارية التي شكلها الاتصال الأول مع الحضارة الغربية خلال الحملة الفرنسية على مصر وما تولد عن ذلك من رغبة في الاتصال مع الحضارة الغربية بغية استخلاص العبر من هذه التجربة والاقتداء بها من أجل النهوض بالمجتمع وتحقيق التقدم. ولما كانت مصر هي أول دولة عربية شهدت على يد محمد علي أول محاولة للتحديث فإن ذلك انعكس على واقع الرحلة العربية إلى ألمانيا في إطار الرحلة الأوروبية حيث يشكل الرحالة المصريون الغالبية الساحقة منهم. إن هذه الدوافع التي عبرت عن التحول في الوعي العربي في الموقف من الآخر الأوروبي والعلاقة معه سنجدها ظاهرة في الأسباب التي ذكرها أكثر من رحالة في مقدمة مدونات رحلاتهم. لقد اختصر الرحالة محمد لبيب البَتَنوني الذي زار ألمانيا في العام 1899 في مقدمة مدونة رحلته هذه الأسباب (ورأيت من كمال الفائدة أني لا أقتصر فيها على شرح ما شاهدته من الماديات بل سموت إلى البحث فيما مكنتني فيه فرصتي القصيرة عن تلك المعاني التي صعدت بالقوم إلى مراتبهم القصوى مما استنبطته من خلالهم وأحوالهم وعوائدهم وطبائعهم وأعمالهم وقارنت بين ما كنت أنظره من كمال فيهم ونقص عندنا مراعيا في ذلك التحقيق والتدقيق حتى إذا عرفنا الصفتين ووقفنا على الطرفين تحققنا من نهايتي الطريقين).
بينما ستختلف الحوافز التي دفعت بالرحالة العرب إلى ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، كما ستختلف معها أنواع هذه الرحلة وتضيف إليها رحالة من لبنان سيكون موضوع الحرب وتداعياتها الكبيرة على المجتمع والحياة هناك سببا مباشرا في قيام هذه الرحلة كما سيتضح ذلك من عناوين أكثر من رحلة، إضافة إلى الرغبة عند هؤلاء الرحالة في اكتشاف معجزة النهوض الألماني بعد الهزيمة الساحقة التي لحقت بها في هذه الحرب والقدرة على إعادة البناء والتطور الحضاري الذي جعلها على الرغم من الاحتلالات التي كانت تخضع لها تستعيد مكانتها المتقدمة صناعيا وثقافيا وعلميا في أوروبا والعالم.
الوظيفة الدلالية للعنوان
تنبع أهمية العنوان من خلال الوظيفة التي يقوم بها كرمز وواجهة دلالية تدخل مع النص في علاقة تبادلية يحيل فيها كل من العنوان والنص على بعضهما البعض. ولذلك فإن وظيفة العنوان الذي يتوج العمل ويتصدر واجهته تكمن في إكساب القارئ معرفة بالعمل من جهة ومن جهة أخرى تكشف عن مقاصد الكاتب التي تكمن وراء اختياره. تتعدد وظائف العنوان التي يمكن إجمالها كما يحددها جيرار جينيت في الإغراء والإيحاء والوصف والتعيين حيث تتداخل وظيفة العنوان مع الوظيفة الإيحائية. إن قراءة عناوين نصوص الرحلة العربية المختلفة يكشف عن استراتيجية بناء العنوان في هذه المدونات وما تنطوي عليه من مقاصد يسعى الكاتب على مستوى بنيته الدلالية أن تكون تكثيفا واختزالا لمضمون العمل أو لحركة الرحلة أو حكم قيمة تدل على عظمة البلاد، ما يجعل أغلب هذه العناوين ذات دلالة مكانية. أما على مستوى بنيته اللغوية فيتألف من جملة اسمية (الوصول إلى كولونيا- حي العرب في برلين- ألمانيا بلد الفخامة- الطريق إلى ألمانيا- ألمانيا خلاصة تاريخية). أو شبه جملة (في ألمانيا المحتلة- في الطريق إلى بون- من فيينا إلى بون).
تتوزع عناوين كتب الرحلة العشرة على عناوين رئيسة وأخرى فرعية لكل فصل من فصول الكتاب نظرا لتعدد البلدان التي زارها هؤلاء الرحالة. وإذا كان العنوان الرئيس يحيل على الفضاء المكاني العام للرحلة، فإن العنوان الخاص بالرحلة الألمانية ظل -إلى جانب دلالته المكانية- يحمل حكم قيمة خاصًا، يدل على زمن الرحلة، كما في عنوان رحلة محمد ثابت (ألمانيا بلاد الفخامة) أو يحمل دلالة مكانية تشير إلى الطريق الذي سلكته الرحلة كما في رحلات (من فيينا إلى كولونيا، في الطريق إلى بون، حي العرب في برلين- ألمانيا، الطريق إلى ألمانيا، بين خرائب ميونخ) أو يحمل دلالة تاريخية (ألمانيا خلاصة تاريخية).
لقد تنوعت دوافع هذه الرحلة وغاياتها، فقد كان بعضها لغايات معرفية، مثل رحلة حمد الجاسر -من السعودية- للاطلاع على المخطوطات العربية في المكتبات الألمانية، أو للمشاركة في مؤتمر للمستشرقين كرحلة محمد أمين فكري بك، أو بهدف التعرف إلى الدور الفكري والسياسي والثقافي الذي لعبته ألمانيا في العصر الحديث (رحلة علي أحمد بدوي)، أو من أجل التعرف إلى أحوال الأمم الحية (رحلة محمد لبيب البتَنوني)، أو التعرف إلى معجزة العبقرية الألمانية التي حققت قيامتها بعد الحرب العالمية الثانية (رحلة فرح جبران -تعال معي إلى أوروبا). وهناك رحلات كانت تهدف للتعرف إلى القيمة التاريخية لألمانيا الحضارة (رحلة نجيب حسين الجندي- ألمانيا في منظر أوروبا العجيب) أو كانت بغرض التدرب على التحقيق الصحفي (رحلة عبد المنعم حسن- مغامرتي في أوروبا المحتلة).
في أسلوب الرحلة
يتميز نص الرحلة بأنه نص هجين أو نص غير أجناسي أو عابر للأجناس، ولعل ما يميز نصوص هذه الرحلة أنها ذات بنية سردية واصفة يتولى فيها السارد/الرحالة مهمة سرد وقائعها ومشاهداتها وما يتولد من انطباعات عنها أو التعليق عليها خلال حركة انتقاله في الفضاء المكاني باستثناء (رحلة الألبَّا) التي تولى ابن الرحالة كتابتها نيابة عن والده بسبب المرض الذي ألمّ به. لقد حافظت أغلب هذه الرحلات على الأسلوب التقليدي المتبع عادة في تدوين الرحلة، فهي تتوزع بين السرد والوصف وتدوين الانطباعات أو التعليق على المشاهد والمواقف الطريفة التي كانت تحدث مع الرحالة في عالم غربي. لكن قبل كل هذا كان الرحالة في بداية الرحلة يحددون الأسباب التي دفعت بهم للرحلة ومن ثم مكان انطلاقها وحركة سيرها والوسيلة التي استخدمت في هذه الرحلة وهي القطار غالبا وما واجهوه من صعوبات بسبب الجهل بلغة البلاد أو الجهل بالطريق الذي كانت تسلكه هذه القطارات. ويحتل وصف الطبيعة الساحرة والمدن التي زاروها والشخصيات التي التقوا بها الحيز الأكبر في هذه الرحلات، حيث تمتد حركة هذه الرحلات من شمال غربي ألمانيا وحتى جنوبها. وتظهر دهشة الرحلة وإعجابهم الكبير ودهشتهم بما كانوا يرونه من خلال انطباعاتهم التي دونوها حول جمال الطبيعة ومظاهر التقدم والرقي الحضاري وعظمة البنيان وحيوية الحياة وتقدم العلوم والهندسة التي عكست عبقرية الشخصية الألمانية، وما تميزت به من جد ودقة في النظام والتنظيم والاهتمام الكبير بالفنون والثقافة.
إن وصف الأمكنة وما تتميز به من عظمة في البنيان ومن دقة وروعة في الهندسة يأتي متصلا مع وصف الإنسان والحياة الزاخرة بالحيوية والرقي والحركة والجدية في العمل. إن هذه العظمة التي تثير إعجاب الرحالة ودهشتهم الكبيرة تبدو من خلال وصف الشوارع والساحات والحدائق الواسعة والمتاحف التي تحتوي على مئات الكنوز الأثرية الهامة من مختلف الحضارات القديمة إلى جانب أحدث الأعمال الفنية العالمية التي يتسابق الألمان على اقتنائها. كذلك يسهب الرحالة في الحديث عن المكتبات التي تحتوي على آلاف المخطوطات ومنها المخطوطات العربية القديمة التي جاء الرحالة حمد الجاسر -من السعودية- بحثا عنها، إضافة إلى القصور الفخمة والكنائس الضخمة والنوادي والأنهار والجسور الضخمة، والسفن الكثيرة التي كانت تعبر هذه الجسور والأنهار. لقد ظل البحث في هذه الأمكنة عن روح الإنسان الألماني وعبقريته وإبداعه الذي صنع هذه الحضارة بتجلياتها المختلفة هاجسا دائما عند هؤلاء الرحالة الذين حاول بعضهم التعرف إلى طبيعة هذه الشخصية وخلفياتها التاريخية والثقافية التي لعبت دورا حاسما في تشكيلها وإكسابها صفاتها الخاصة من حيث منطقية التفكير والجدية والبسالة وعبادة الأبطال والصرامة.
لذلك فإن أهمية هذه المدونات للرحالة العرب في مراحل مختلفة من تاريخ ألمانيا الحديث تتجاوز استخلاص العبر من التجربة الألمانية كما يقول صاحب رحلة «إرشاد الألبَّا إلى محاسن أوروبَّا»، إلى الترحال في التاريخ الألماني القديم كما في رحلة المصري إدوار بك إلياس، أو في عظمة الفكر الألماني التي تجسدت في فلسفة ماركس التي غيرت العالم، أو في رحلة علي أحمد بدوي، أو في محاولة الرحالة فرح جبران أن يجعل من رحلته درسا يتعرف منه القارئ العربي -من خلال بساطة الأسلوب- على ما يحدث خارج حدود بلاده من تقدم وتطور حضاري، يدفعه إلى العلم والاجتهاد من أجل نهضة بلاده.