مقدمة وترجمة: أحمد المديني *
احتفت الأوساط الأكاديمية والأدبية في فرنسا وبلدان غربية اخرى بالذكرى الستين لرحيل الروائي والمفكر الكاتب الملتزم والإنساني ألبير كامو، وبهذه المناسبة نظمت عديد الندوات وأصدرت المجلات العامة والحوليات المختصة ملفات دراسية وأنجزت استطلاعات، وما تزال تتوالى، عن حياة وأعمال الراحل، التي تواصل الحضور بقوة في الببليوغرافيا الروائية، ومثار نقاش فلسفي بين مدارس شتى. ويعزز هذا الاهتمام كمّ مبيعات كتبه واستمرار الإقبال عليها بين جميع الأجيال، وهو ما يلحقه بالزمرة العظيمة للكتاب الكلاسيكيين. وعموما، فإن الحديث عن صاحب” الغريب” لم يخفت يوما، وتأثيره مستمر على كتاب الحاضر، ويعترفون له بتجديد الرواية وانغماسها في رؤية فلسفية عميقة.
بهذه المناسبة، نقدم في” ” عرضا موجزا لسيرة كامو ومساره الأدبي والفلسفي والحياتي أيضا. ويعنينا أكثر ترجمتنا للمحاضرة التي ألقاها في جامعة أوبسال السويدية، بمناسبة حصوله على جائزة نوبل للآداب(1957) نراها جامعة مانعة لمجمل تصوراته الأدبية والفكرية ومسيرة حياته الكفاحية، ولا غنى عنها لمن يريد الإحاطة بهذه السيرة. وقد اعتمدنا في الترجمة على النص الأصلي الصادر في كتاب بعنوان:
Albert Camus . Discours de Suède . Paris,Gallimard , 1958.
« وهي المعتمدة هنا. Folio وأعيد طبعه عن دار غاليمار(1997) في سلسلة»
* * *
– 1 –
عندما تُوِّج ألبير كامو( 1913 ـ1960) بجائزة نوبل للآداب سنة 1957، كان قد بلغ شأوا عظيما في تجربته الأدبية، ومنظومته الفكرية والفلسفية، مع مساره الحياتي المشحون والمركب. إن تركة كامو الروائي الفذ والمفكر المتمرد على أنساق وكبار زمانه، المنشق في مواقف شتى، عن الحزب الشيوعي بالذات؛ الصحفي المكافح ما يناهز ثلاثين عاما أمضاها، بين الجزائر مسقط رأسه، وفرنسا، باريس بالتحديد، مخلصا لنفسه ومعتنقا لقضايا عصره في أوضاع فريدة جلبت عليه غضب تفكير القطيع، وسخط من رفضوا نظرته الخصوصية إلى المسألة الجزائرية، ومفهومه لهذا الانتماء، بينما كان شجاعا في اقتحام الزمن الثقافي، ورفض توافقات الإجماع الإيديولوجي لنُخب ما بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ معها، واستقل عنها بوضع استثنائي.
بدأت حياة صاحب” الغريب” في مسقط رأسه بالجزائر العاصمة، بحي بلكور الشعبي الشهير فيها، وقاد خطاه الأولى في التعليم أستاذه Jean Grenier، انتبه للتلميذ اليتيم، من جهة أبيه، شبه المعوز تعيله أمه الخادمة في البيوت، وذو النباهة المبكرة، فكان أن فتح له الباب الأول للفلسفة بأن أرشده إلى أحد كبار آبائها في العصر الحديث( نيتشه)، معه تفتح عقله وتربى عنده فكر البدايات. إنما الأهم، هو ما عاش فيه وتشربه من محيطه، مزيج أرومة وثقافة فرنسية مهيمنة، وتربية وعيش مع (الأهالي) من بلد منزوع السيادة وخاضع، يعتبره أيضا بلده، فعاش توترا في علاقة إشكالية بينهما لم تكن قابلة للحسم بالكيفية التي تصورها من أنحوا عليه باللائمة بما اعتبروه موقفا ملتبسا من الاستعمار الفرنسي للجزائر، وكذلك ما لقيه من أبناء جلدته أنفسهم( الأقدام السوداء ـ Les Pieds Noirs) ممن كالوا له اتهاما معاكسا، أضيف إليه بعض ما تعرض له من سوء الفهم تجاه حركة التحرير الجزائرية لاحقا في المتروبول الفرنسي، وقد أصبح عضوا لامعا في النخبة عقب انتقاله إلى باريس بسبب خسرانه لعمله الصحفي بالجزائر( 1940). مع رفيقه باسكال بيا سيبدأ مرحلة جديدة خلالها ستتطور شخصيته وتغدو تلك التي نعرف ولا نعرف، إذ أن كامو وهو الشخصية العمومية بامتياز، بجّل العزلة واعتبرها شرط إبداع وحياة، كنا سنرى في محاضرة أوبسال التي نترجمها.
هي عديد روافد وعوامل اشتركت في تكوين مؤسس فلسفة العبث، وقادته إلى ذرى مجده الأدبي، خاصة. غير أن كامو، واستنادا إلى كتاب سيرته، نخص بالذكر منهم أوليفيي تود، وجان دنييل، صنع نموذج الكاتب الصحفي، أو الصحفي الكاتب. ففي باريس التحق بصحيفة (فرانس سوار) سكرتير تحرير. وفي سنة 1943 ارتبط نشاطه الأكبر بصحيفة(Combat) رئيس تحرير، وهي تخوض معركة وطنية شرسة ضد الاحتلال النازي، بعد اضطرار صديقه إلى التفرغ للمقاومة. لم يصرفه العمل الصحفي عما يمكن عدُّه نشاطه الأساس، إذ في الوقت نفسه عمل في موقع قارئ بدار النشر غاليمار، وتعرف على جان بول سارتر ( 1944) فتوطدت بينهما العلاقة عملا جنبا إلى جنب في صحافة المقاومة، وانتهت دراماتيكيا بعد النقد الذي وُجِّه إليه في مجلة (Les temps modernes ـ الأزمنة الحديثة) السارترية أخذت عليه أن مفهومه للتمرد” جامد بشكل مقصود”. من هذا المنبر، ومن مواقع أخرى، واصل كامو كتابة افتتاحيات نارية عن القضايا الساحنة لزمنه، يتقاطع فيها السياسي بالفلسفي، وهذا بأسلوب سيغدو ملكه، متميز بالدقة والتلميح والإيجاز وتنوع المقاصد، بيد أن شاغله الأكبر ظل الأدب، بالأحرى الكتابة الخلاقة، صناعة وتأملا.
– 2 –
ترجع بدايات كامو مع التأليف إلى سنة 1937 بإصداره كتاب(L’envers et l’endroit) عبارة عن نصوص ثيمتها الوحدة والصمت، لدى الأم خاصة، وفيها نجد نسغ أرضية المؤلف الفكرية. أتبعه بنصوص انطباعية(Noces). وليس إلا سنة 1942 سيبدأ عنده الجد في أول كتاب يطرح فيه تأملاته حول ما أسماه( فلسفة العبث) بكتاب ” أسطورة سيزيف” (Le mythe de Sisyphe). يعقبه العمل الروائي الذي سيضمن به كامو مبكرا مكانته روائيا أصيلا بين كتاب ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما سيتحول تدريجيا إلى منجم لفهم وتأويل مصادر تجربته من نواحيها كلها؛ نعني روايته الأشهر(الغريب) L’etranger” 1942، حيث نلتقي بشخصية( مارسو) في وضعه الإشكالي إزاء فعل القتل المجاني للعربي في شاطئ مدينة الجزائر ذات صيف قائظ. ينتمي هذا السرد إلى ما سُمِّي بمرحلة “حلقة العبث” وشملت مسرحيتيه “Le malentendu”( سوء التفاهم) و”Caligula”( كاليغولا) كلتيهما سنة 1944. تلاها ما سمي ب” حلقة التمرد” شملت على الخصوص روايته ذائعة الصيت” la peste” (الطاعون) (1947) وللمناسبة فإن انتشار جائحة وباء كورونا 19 جدد حياتها في العالم أجمع، أقبل عليها القراء وبيع منها من جديد رقم قياسي مدهش. تلاها مسرحية” Les justes”(العادلون)(1950) ثم “’Homme révolté “( الإنسان المتمرد) (1951). بهذه الإصدارات أمكن لكامو أن يُرسيَ الصرح الأكبر من أعماله، فرسخ قدمه في حقل الرواية الفرنسية، بل الغربية طرّاً، وفي حقل التفكير الفلسفي ولو لم يعد فيلسوفا بالمعنى الاختصاصي الأكاديمي إذ حالت إصابته بالسل من اجتياز شهادة التبريز بالمدرسة العليا للأساتذة، مشتل فلاسفة فرنسا لزمنه. إضافة إلى هذه الأعمال التي فرضته روائيا ومتفلسفا أصبح كامو وعُدّ صاحب موقف من كثير من قضايا عصر في ملء الأحداث والتحولات لعالم آنئذ، عبر عن الرأي الخصوصي للكاتب، الأخلاقي والإنساني، أساسا. لقد عاش كامو مرحلة انهيار وصعود ثقافات وقيم وإيديولوجيات، ورفض أن يبقى، كما يقال، في (البرج العاجي)، مع مثقفين وأدباء منهم (أندري جيد،، مالرو،، سارتر، ريمون آرون، وآخرون كثر، لا بد أن نذكر بأن نسبهم في الالتزام بدور الكاتب يرجع إلى جدهم إميل زولا(1840 ـ1902) الذي وضع مع صرخته(إني أتهم) لمؤازرة الضابط دريفوس، اللبنة الأولى لوضع الكاتب صوتا حاضرا في قضايا عصره، وبذلك اسس المفهوم العصري للمثقف)؛
وسواء بين كتابته السردية، وتأملاته وأطروحاته الفلسفية، كان صاحب” فلسفة العبث” يصدر، أولا، عن أخلاق، أخلاقية معينة(éthique) تقوده في الصحافة كوسيلة للتأثير المباشر في الراهن، منبثقة مما يتحلى به الإنسان في صميمه، بشجاعة الرأي، والتطلع إلى العدالة، لا عجب إذ قال:” في الحرب كما في السلم، فإن القول الفصل يرجع إلى الذين لا يستسلمون” ؛ وثانيا، عن مجموعة مفاهيم أطرت تجربته ككل، نظر لها بنفسه قبل أن يتبناها بعدها دارسو أعماله، تختصرها مقولتان: العبث( L’absurde)، والتمرد ( La revolte ). في الأولى، كما كتب معرفا في ” أسطورة سيزيف: ” يولد العبث من المواجهة بين النداء البشري وصمت العالم”. عنده أن الإنسان يعيش في عالم يتعذر عليه فيه فهم سبب كينونته ، وانعدام الجواب عن السؤال المطروح، عن المعنى الغائب اللهم يأتي من أفق البُعد الإنساني، لذا يقول: ” لا يقبل الإنسان العبثي أية آفاق إلهية، وإنما يريد أجوبة إنسانية”، ويضيف في ” أسطورة..” دائما: ” إن العبث هو الوعي الدائم عندي بوجود الشرخ بين العالم وبين فكري”. يتم الانتقال إلى المقولة الثانية أو نقيض أطروحة العبث، أي إلى ” الإنسان المتمرد” بما ينطوي عليه من أفكار، أملا، ثم أدبيا مع رواية” الطاعون” وهي عبور نحو الالتزام بفكرة أن التمرد يولد تلقائيا بمجرد إلغاء الإنساني وتعرضه للاضطهاد، وذلك في شكل ممارسة عملية تمكن من تخطي العبث. حتى وهو ينبع من القلب لا ينبغي أن يبقى مجرد مبدأ، أو في حالة فكرة، أو شعور تلقائي، بل يتطور إلى ” لحظة الثورة”، تمر هذه عنده بمراحل. لذا يؤمن صاحب” الغريب” بثورات نسبية، أي لانهائية، تتصالح فيها العدالة مع الحرية ويتحالف فيها الاقتصاد الجماعي مع الساسة الليبرالية، وتتطلب عنه حتما: ” نزاهة ثقافية وأخلاقية في كل الحالات”.
وقد أشاد سارتر رغم الخلاف النظري بهذه الأفكار، وبمواقف غريمه أيضا حين كتب ينوه به بعد رحيله العبثي في حادث سيارة( 4 كانون الثاني/ يناير 1960) قائلا:” لقد جسد[ كامو] في هذا القرن[العشرين]، وضد التاريخ، الوريث الراهن للسلالة الطويلة للأخلاقيين الذين تمثل أعمالهم ربما أفضل ما في الأدب الفرنسي أصالة. لقد خاضت إنسانيته العنيدة، الضيقة والخاصة، المتقشفة والحساسة، معركة مريبة ضد الأحداث الكثيفة والشائهة لزمانه. لقد كان يجدد في قلب حقبتنا، وضد الأسواق، والعجل الذهبي للواقعية، تأكيد الوجود الحي للفعل الأخلاقي”.
هذه الخِصلة، وميزات مناقب جليلة أخرى في شخصية ألبير كامو، يكشف عنها سلوكه الحياتي، الذي رغم هوية التمرد المعلنة، كانت تتسم بنسبة معينة من الاتزان والخطو السديد، مع ترجيح كفة الممكن، وبرفض التكلس المذهبي) انتسابه مثلا إلى الحزب الشيوعي لم يتجاوز العامين 1933ـ 1935)، مع إيلاء قيم العدالة والحرية والأخلاق صدارة نهجه، ومسعى أبطال رواياته ومسرحياته. هكذا ، كتب افتتاحية في العدد الأول من(Combat) الصادر في خضم تحرير باريس(21 أغسطس 1944) بعنوان:” من المقاومة إلى الثورة” قال قيها على الخصوص:” إن هذه الولادة الرهيبة لهي ثورة(…) وباريس التي تقاتل هذا المساء تريد أن تقود غدا. لا من أجل الحكم، ولكن من أجل العدالة. لا من أجل السياسة، ولكن من أجل الأخلاق، لا للسيطرة على البلاد، وإنما من أجل عظمتها”. يبقى الأعظم من تراث هذا الكاتب الأخلاقي والإنساني تراثه الأدبي، العميق والمتنوع، الغني لغة وأسلوبا وتخييلا، بوأه قلب فورة أدبية داخل محيطه وأبعد، إذ سريعا تردد صدى كتابته خارج فرنسا، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتوالى الرجع قويا بترجمة أعماله وقد تبنى نشرها غاليمار، وأصبح كامو بنفسه صاحب سلسلة نشر ضمنها، فاتخذ بذلك وضع الكاتب المرموق، الذي وإن غدا أكثر التصاقا بعالمه الأدبي، فهو لم يبتعد قيد أنملة عن قضايا عصره، فكان الفرد والجمع نسيج وحده.
لقد قلنا في البداية بأن الرجل وقد تُوِّج بجائزة نوبل، كان قد بلغ شأوا بعيدا في مساره الفكري وعطائه الأدبي، ولو لم يتصيده الموت التراجيدي مبكرا لمضى أبعد، خلافا لمناوئيه في الوسط الباريسي المعادي، ممن حكموا جورا بأن منحه الجائزة دليل على وصوله إلى المحطة الأخيرة. جاء خطاب كامو في حفل تسلم الجائزة التقليدي أمام الأكاديمية السويدية ذا نبرة تاريخية مهيبة، وقوة كفاحية وإنسانية عالية. لم يكن خطابا املته المناسبة، بل سجلا حافلا بمجمل الرؤية الفلسفية والإبداعية لكاتبه، وضع فيه يده على أخطر ما يواجه الإنسان في الزمن الحديث والمعاصر، متجاوبا مع ما كان متوقعا منه، ويرد في الوقت نفسه على السجالات المناهضة له، خاصة منها موقفه أو ما سُمِّي صمته تجاه الحرب الاستعمارية في الجزائر، وهو ابن البلد، وما انفك يعلن رفضه وتنديده بالعنف من أي مصدر جاء. في هذا الصدد هناك الضجة الهائلة التي أثارتها عبارات سجلت ضده في صك اتهام أراد أن ينهش سمعته، وهي مصدر سوء تفاهم كبير في الماضي وما زالت أيضا في الحاضر بنوع من التبسيط والعزل عن المسار الكبير والعام للكاتب. ففي حواره مع الطلبة في جامعة أوبسال عقب انتهاء المحاضرة التي نترجم لها هنا، سُجّل عليه ردا عن سؤال قوله:” أمام العنف، أفضل أمي على العدالة”، بينما هي وردت مجتزأة من سياقها ونصها، فقد قال كامو بالحرف، وأعلن مسؤوليته كاملة لاحقا عما فاه به:” في هذه اللحظة[ لحظة حديثه وهذا سنة 1957، وحرب التحرير الجزائرية مشتعلة] هناك من يلقي قنابل في ترامويات الجزائر. ربما توجد أمي بين الركاب، فإذا كانت هذه هي العدالة، فأنا أفضل أمي عليها”.
– 3 –
رغم أني أؤمن بان مبادئ أي كاتب توجد في نصوصه الإبداعية، وتُستخلص من صلب عمله الفني، وهو هنا الروائي والمسرحي، لكن كامو كان كاتبا وكائنا متعددا، كل كلمة يدونها ويفوه بها تندرج في سجل يمثل ملمحا وموقفا إبداعيا وفكريا ونضاليا وإنسانيا صرفا لوضعه المركب، أضف أن النصوص الموازية تزودنا بمادة وأدوات تحليل مهمة للأعمال الأدبية، تغني تلقّيها وتضيء مساربها، ومنها محاضرته في جامعة أوبسال حرص على إلقائها أمام جمهور واسع لعرض أفكار واقتناعات ليست الأكاديمية السويدية محفلها:
أحسب أن القارئ العربي واجد في هذه المحاضرة إحدى الخلاصات النادرة والشهادة الشافية عن ثقافة وأدب وتيارات حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، أولا، وتركيب مفرد للتيارات الصاخبة والخافتة للحقبة ذاتها. في قلبها الجدل حول الواقعية الاشتراكية، وموقف الكاتب، ووضع الكتابة بين مثلث أقطاب الجمال والحرية والالتزام، وباختصار، بين حدي الروح الإبداعية الطليقة وأي نزعة مذهبية حصرية ودوغمائية. سنرى كيف أن صاحب” ” العادلون” يعرض أفكاره التي تتسم بالشمول بنظر ثاقب، وأقل ما يمكن من السجال، إذ علينا أن نستحضر معه خلفية كاتب افتتاحيات، ذي القلم البتار، وهكذا كان. وسنلاحظ أنه بقدر ما يقرن أفكاره بالشروط التاريخية والزمن المعيش، لا يتنازل عن وضع الفنان الحر، الملتزم والمتمرد، في آن، من ظل رافضا لتحكم الشروط والقوانين القسرية لمصير الإنسان، وانتصر لناموس الحرية، باعتباره الدستور الملائم للفنان، وانطلاقا منه تُسَنُّ النواميس الأخرى، في مقدمها أخلاقياته التي ترعى مواقفه.
ما أكثر الأقوال الناصعة والقطعية المعبرة عن هذه الأفكار والناطقة بإيمان الفنان، لكَم تبدو حية وجهيرة في الحاضر، كأن مدادها لم يجف وهي دُوِّنت منذ أربعة عقود ونيف، معانيها واستدعاءاتها ملحة، في صميمها الحديث عن دور المبدع وحريته والتزامه الضمني والحر معا؛ أجل:” إننا في قلب البحر، والفنان، شأن غيره، عليه أن يجدف بدوره، بدون أن يموت ما أمكن، بمعنى أن يواصل العيش وهو يبدع”. وليس أفضل خاتمة لهذا التقديم من قوله يعني الكتّاب:” كيفما كانت نقائصنا الشخصية، فإن نبل مهمتنا سيتجذر دائما في التزامين ما أصعب الحفاظ عليهما: رفض أن نكذب حول ما نعرف، ومقاومتنا للاضطهاد”. أقول، من أجل مغامرة الحفاظ على هذين الالتزامين ترجمت هذه المحاضرة.
متن الترجمة
” في قديم الزمان كان ثمة حكيم صيني يلتمس دائما في أدعيته أن تُجنِّبه القدرةُ الإلهيةُ العيش في حقبة مهمة. وبما أننا لسنا حكماء، فهذه القدرة لم تجنبنا ذاك المصير، وها نحن نعيش حقبة مهمة. على كل حال، فهي لا تقبل أن نتمكن من التخلي عن الاهتمام بها، والكتاب يعلمون اليوم ذلك، وهم إن تكلموا تعرضوا للنقد وهوجموا، وإن تواضعوا لزموا الصمت، ولن يخاطبهم أحد إلا عن صمتهم، ليلاموا بصخب.
وسط هذا الضجيج، لا يستطيع الكاتب أن ينعزل بنفسه ليواصل تأمّلاته والصورَ الغالية عليه. فحتى الآن، ظل الامتناع عن الكلام، بشكل أو بآخر، ممكناً في التاريخ، والذي لم يكن يوافق كثيراً ما يلتزم الصمت أو يبقى له أن يتحدث عن شيء آخر. أما اليوم فقد تغيرت الأمور، والصمت ذاتُه بات شأنا مخيفا،إذ انطلاقا من اللحظة التي ُعدّ فيها الصمتُ نفسُه اختيارا، يُعاقب عليه أو يُثاب، أصبح الفنان، أحبّ أو كرِه، مُقلِعا(Embarqué). وهذا تعبير أكثر دقة من قولنا ملتزما. فهو ليس التزاماً إرادياً من قِبل الفنان، وإنما بالأحرى خدمة عسكرية. وكل فنان هو اليوم ُمقلِعٌ في مركب زمنه،عليه أن ينصاع لذلك، حتى ولو شمّ الزّفر، ووجد الرقباء على محابيس المركب كثر، وأن هذا الأخير لا يُبحر في الاتجاه الصحيح. إننا في قلب البحر، والفنان، شأن غيره، عليه أن يَجدِف بدوره، بدون أن يموت ما أمكن، بمعنى أن يواصل العيش ويبدع.
وما هو في الحقيقة بالأمر السهل، وأنا أتفهم لِمَ يأسف الفنانون على رفاهيتهم القديمة. فالتغيير نوعا ما عنيف، أكيد، فقد ُوجد دائما في سيرك التاريخ الشهيدُ والأسد، الأول يتحفّز بمواساة أبدية، والثاني بتغذيةٍ تاريخية طازجة. بيد أن الفنان حتى ذلك الوقت ظل في وضع فُرجة، يغني من أجل لاشيء لنفسه، وفي أحسن الأحوال ليشجّع الشهيدَ ويَصرِف الأسدَ قليلا عن شهيته.
أما الآن، فقد حصل العكس، إذ بعد انتقال الفنان إلى السيرك تبدل صوته وأصبح أقلّ اقتناعا.
بوسعنا أن نرى ما يمكن أن يخسره الفنُ جرّاء هذا الجَبر الدائم. اليسر أولا، والألوهية المنبعثة من أعمال موزارت. نفهم أفضل النزعة الساهمة والعنيدة لأعمالنا الفنية، قلقَها واندحارَها المفاجئين. نقول بأننا سنتوفر هكذا على عدد من الصحفيين أكثر من الكتاب، ومن هواة الرسم أزيد من واحد، كـ(سيزان)، وأخيرا على خزانة من قصص الحب والجنس، حيث الرواية البوليسية تأخذ مكان “الحرب والسلم”[لتولستوي]، أو (La chartreuse de Parme) [لستندال] . بالطبع بالإمكان دائما مواجهة هذه الحالة بالتباكي الإنساني، أن نصبح ما أراد ستيفان تروفيموفيتش أن يكون عليه بالقوة في رواية “الممسوسون”[لدوستويفسكي].
ولنا أن ينتابنا، مثل هذه الشخصية، بعضُ الحزن، وإن لم يغير من الواقع شيئا. أما من وجهة نظري، فمن الأفضل أن نحسِب حسابَ الزمن، بما أنه يتطلب ذلك بشدة، وأن نعترف بهدوء بأن عهد الأساتذة الأعزاء، والفنانين الباهرين، والنوابغ، قد ولّى. أن تُبدع اليوم معناه أنك تُبدع في خطر. كلُّ إصدار هو فعل، فعل يعرض لأهواء قرن لا يرحم شيئا. والمسألة ليست معرفة هل هذا مضرٌّ بالفن أم لا. المسألةُ بالنسبة للذين لا يستطيعون العيش بدون الفن وما يعنيه،هي فقط معرفة كيف بالإمكان وسط شرطة عديد الإيديولوجيات(والكنائس،أيّ عزلة هذه!)، الحفاظُ على الحرية الغريبة للإبداع.
لا يكفي في هذا الصدد القول بأن الفن مهددٌ من قِبل قوة الدول. ففي هذه الحالة يبدو المشكل بسيطا: إما أن يقاوم الفنان أو يستسلم. المشكل، أعقدُ من هذا، وأشدُّ فتكا، بمجرد ما نعي بأن المعركة تجري داخل الفنان نفسه. إن كراهية الفن التي يعطي عنها مجتمعنا أقوى الأمثلة ليست بفاعليتها القصوى اليوم إلا لأنها محمولةٌ من الكُتاب أنفسهم. كان شك الفنانين الذين سبقونا يمسّ موهبتهم، أما فنانو اليوم فشكُّهم يمسّ مدى ضرورة فنهم، وإذن، وجودهم ذاته. فلو كان راسين موجودا سنتنا هذه (1957) لاعتذر عن كتابة مسرحيته” Bérénice”
عوض الدفاع عن”l’Edit de Nantes”
[مرسوم الملك هنري الرابع لإنهاء الاقتتال بين الكاثوليك والبروتستانت، ومهد لللاّئكية في فرنسا،30أبريل 1598].
إن لتساؤل الفنان هذا حول الفن أسباباً عدّة، لن نُبقي إلا أعلاها. يمكن شرحها في أحسن الأحوال بالانطباع الذي قد يخامر الفنان المعاصر بأنه يكذب أو يتكلم عن لاشيء، إن هو لم يُدخل في حسابه مصائبَ التاريخ. ذلك أن ما يطبع عصرنا، في الواقع، هو انبثاق الجماهير من وضعيتها البئيسة أمام الحساسية المعاصرة. ونحن نعلم أن هذه الجماهير موجودة، في حين ملنا سابقا إلى تجاهلها. وإذا ما عرفنا ذلك فمردّ ذلك لا يرجع إلى أن النخبَ الفنيةَ وغيرَها قد غدت أفضل، كلاّ، وإنما لأن الجماهير صارت أقوى، وتمنعُ أن ننساها.
هناك أسباب أخرى، وبعضها أقل لياقة لتفسير استقالة الفنان. وهي على كلٍّ تذهب إلى الهدف ذاته: تثبيط الإبداع الحر بالتعرض لمبدئه الجوهري، الذي هو إيمان الفنان نفسه. يقول إمرسون [الباحث والشاعر الأمريكي] بعبارة بديعة إن”خضوع إنسان لنبوغه الشخصي لهو الإيمان بامتياز.” وأضاف كاتب أمريكي آخر من القرن التاسع عشر:” طالما ظل المرء وفيا لنفسه، فالكل سيشاطره الرأي، الحكومة، المجتمع، الشمس أيضا، القمر والنجوم.”. أين منا اليوم من هذا التفاؤل العظيم، والفنان في أحسن الأحوال يخجل من نفسه وامتيازاته، لو ملكها، وعليه أن يجيب قبل كل شيء عن السؤال الذي يطرح: هل الفن ترف وهمي؟
I
أول جواب مشرف يمكن تقديمه هو الآتي: أجل، يحدث أن يكون الفن ترفا وهميا، فعلى سطح المركب نستطيع دائما أن نتغنى بالمجرّات، بينما المحابيس يجدفون ويذوبون في قبوه. بإمكاننا دائما تسجيل الحوار المتحذلق الدائر فوق مدرّجات السيرك حين الضحية تُسحق تحت أنياب الأسد. ومن الصعب جدا الاعتراض بشيء على هذا الفن الذي عرف نجاحات باهرة في الماضي، اللهم أن الأمور تغيرت قليلا، وأن عدد المحبوسين والشهداء قد زاد فوق مساحة المعمور بشكل مهول. وأمام الكم الهائل من البؤس، فإن هذا الفن إن أراد أن يتواصل كترف فعليه القبول بأن يتحول إلى كذبة.
لنتساءل، سلفا، عن أي شيء تكلّم؟ فهو إن تطابق مع ما يطلبه المجتمع في غالبيته، فسيكون بلا مردود. وإن رفض ذلك بعماء، إذا ما قرر الفنانُ الانعزالَ في حلمه، فهو لن يعبّر سوى عن رفضه. عندئذ، سنتوفر على إنتاج أناس لاهين، وعلى نُحاةٍ شكليين، يفضي في الحالتين كلتيهما إلى فن منقطع عن الواقع الحي. ونحن، منذ قرن، نعيش في مجتمع ليس حتى مجتمع المال(فالمال والذهب قد يثيران شهوات جسدية)، ولكن ذلك المخصوص بالرموز المجردة للمال. إن مجتمع التجار يمكن تعريفه بوصفه المضمار الذي تختفي الأشياء فيه لفائدة العلامات. وحين تقيس طبقة اجتماعية ثروتها لا بما تملك من أراض وتَكنز من ذهب، وإنما بعدد أرقام عمليات المبادلات، فمعناه أنها هي من يجعل المخاتلة في قلب تجربتها وعالمها. إن مجتمعاً قائماً على العلامات لهو في جوهره مجتمع مصطنَع حيث الحقيقةُ الجسديةُ للإنسان تصبح مخدوعة. لن نستغرب، عندئذ، أن يختار هذا المجتمع كعقيدة له أخلاقا من مبادئ شكلية، وأن يكتب كلمات الحرية والمساواة على السجون كما يكتبها على معابده المالية. بيد أنه لا يمكن تَعهيرُ الكلمات بلا ثمن. تماما كما لا توجد قيمة استبيحت اليوم مثل قيمة الحرية. ثمة عقول جيدة ( لقد فكرت دائما بوجود نوعين من الذكاء، الذكي الذكي، والآخر الغبي) وأن هذه القيمة ما هي إلا عائقٌ في وجه التقدم الحقيقي. وما أمكن لترهات كهاته أن تنتشر إلا لأن المجتمع التجاريّ جعل من الحرية على مدى مائة سنة استخداماً حُكراً عليه، وأحادياً، واعتبرها بمثابة حق أكثر منها واجبا، ولم يخش من وضعها غير مرة، وكلما استطاع، ضحى بحرية مبدأ في خدمة اضطهاد فعلي. وإذن، ما العجب في كون هذا المجتمع لم يطلب من الفن أن يكون أداة للتحرر، وإنما تمرينا بدون نتيجة، ومجرد تسلية؟ هكذا، وجدنا بشرا غفيرا بهموم مادية فقط، وأحزان غرامية، ُيقبِل طيلة عشرات السنين على الروائيين المتحذلقين، وعلى الفن الأكثر سخفا، هذا الذي قال عنه أوسكار وايلد، وهو يفكر في نفسه قبل أن يعرف السجن، بأن الرذيلة الكبرى هي أن تكون مصطنعا.
هكذا وجدنا، أيضا، ُصنّاع الفن (انتبهوا أني لم أقل الفنانين بعد) في أوروبا البورجوازية
قبل وبعد 1900، يقبلون اللامسؤولية، لأن المسؤولية تفترض قطيعة منهكة مع مجتمعهم (الذين قاطعوا فعلا هم رامبو، ونيتشه، وستريندبرغ، ونعلم أي ثمن أدوا). إلى هذه الحقبة يعود تاريخ نشوء نظرية الفن للفن، التي ليست سوى اعتناق هذه اللا مسؤولية. الفن للفن، تسليةُ فنان متوحد، هذا بالضبط الفن المصطنَع لمجتمعٍ شكلاني ومجرد. ومصيرهُ المنطقي هو فن الصالونات، حيث يتغذى الفن الشكلي من الحذلقات والمجردات وينتهي إلى تدمير كل حقيقة. وفيما تبهِج بعضُ الأعمال أفرادا معينين، فإن غيرها فجّةٌ كثيرة تفسد عديدين، والنتيجة أن الفن يتشكل بمعزل عن المجتمع وينقطع عن جذوره الحية. وتدريجيا، فإن الفنان، حتى المحتفَى به جدا، يغدو وحيدا، أو على الأقل لا تعرفه أمّته إلا عن طريق الصحافة واسعة الانتشار، أو الراديو، ُيعطيان عنه فكرة ُمرْضية وُمبسّطة. كلما تخصص الفن إلا أصبح من الضروري إشاعتُه. وسيتهيأ لملايين الناس أنهم عرفوا هذا الفنان الكبير أو ذاك لاطّلاعهم عبر الصحف على هوايته في تربية الطيور، أو لكون زواجه لا يستمر أكثر من ستة أشهر. وأعظم ُشهرة اليوم هي أن ُتمحَض الإعجابَ أو تُبغَض، دون أن يقرأك أحد. لذا، على كل فنان يطمح للشهرة في مجتمعنا أن يعرف أن من سيشتهر ليس هو بالضرورة ، لكن شخصا يحمل اسمه، سيفلت منه في نهاية المطاف، وربما يقتل ذات يوم الفنانَ الحقيقيَّ فيه.
كيف نستغرب، والحالة هذه، أن كل ما أبدع من إنتاج لائق في أوروبا التجارية للقرن التاسع عشر والعشرين، في الأدب مثلا، قد نهض ضد مجتمع زمانه! وبوسعنا القول أنه إلى مشارف الثورة الفرنسية كان الأدب المتعاطي في مجمله أدبَ ترضية. وانطلاقا من اللحظة التي استقر فيها المجتمع البورجوازي، وليدُ الثورة، سوف يظهر، على العكس، أدبُ التمرد. سيتم عندنا مثلا التنكرُ للقيم الرسمية، إمّا من حَمَلة القيم الثورية والرومانسيين على طريقة رامبو، أو من المحافظين على القيم الأرستوقراطية، خير من يمثلهم فنيي وبلزاك. في الحالتين، الشعبية والأرستقراطية، اللذين هما مصدر كل حضارة، سيواجهان زيف زمانهما.
بيد أن هذا الرفضَ المتواصلَ والصلبَ أمسى مصطنعا بدوره، وأدّى إلى ضرب من العقم. إن ثيمة الشاعر الملعون، المولود في مجتمع تجاري ( أحسن من يمثله الشاعر شترتون Chatterton”شاعر إنجليزي،1752ـ 1770″)، تقوّت في صورة حكم ُمسبق انتهت إلى القول بأنه لا يمكن لك أن تصبح فنانا عظيما إلا إذا وقفتَ ضد مجتمع زمنك. لقد كانت تسمية “الشاعر الملعون” مشروعة حين عَنَت أن الفنان الحقيقي لا يتوافق مع عالم المال، ليغدُوّ المبدأ زائفاً حين تقرر أن الفنان لا يصبح قائم الذات إلا وهو ضد كل شيء على العموم. هكذا تطلّع كثيرٌ من شعرائنا ليصبحوا ملاعين وأشقياء إن لم يفلحوا في ذلك، وهم يبغون الإعجابَ والاستنكار في آن واحد. وبالطبع، فالمجتمع بحُكم أنه إما متعب اليوم أو لا مُبالٍ، تَراه لا يصفّق إلا بالصدفة، ومن تم لا يتوقف مثقف زماننا عن التصلب ليَعُظم. لكن، وبكثرة ما يرفض كل شيء، حتى إلى تقليده الفني، يتوهّم الفنان المعاصر أنه يخلق قواعده الخاصة، لينتهي به الأمر إلى أنه إله، ثم ليعتقد بعد في قدرته على خلق حقيقته هو، فيما لن يخلق بمعزل عن مجتمعه سوى أعمالٍ شكليةٍ أو مجردة، مثيرةٍ في حد ذاتها كتجارب، لكن مفتقرة إلى الخصوبة القرينة بالفن الحقيقي، الذي من طبعه التجميع. ولنختم، نقول إنه سيوجد كمٌّ من الفروق بين التدقيقات والتجريدات المعاصرة وبين عمل تولستوي أو موليير بقدر ما يوجد بين المعالجة المحسوبة لقمح غير مرئي والأرض السميكة بأخاديدها المحروثة نفسها.
II
هكذا يمكن للفن أن يكون خادعا/ وهميا. ولن نستغرب إذن إن وجد أناس أو فنانون أرادوا الرجوع إلى الوراء والعودة إلى الحقيقة. من هذه اللحظة، أنكروا أي حق للفنان في الوحدة، وأعطوه كموضوع، لا أحلامه، وإنما الواقع المعيش والذي يعاني منه الجميع. هؤلاء الأشخاص، وإيمانا منهم بأن الفن للفن، مواضيع وأسلوبا، أبعد من فهم الجمهور، أو لا يعبر في شيء عن واقعها، فإنهم أرادوا من الفنان التعبير عن ومن أجل الجمهور العريض. بأن يترجم آلام وسعادة الجميع بلغة الكل، وأن يكون مفهوما كونيا. وكتعويض عن هذا الوفاء المطلق للواقع سيحصل على التواصل التام بين جميع بني البشر.
إن مثال التواصل الكوني لهو في الحقيقة مرام كل فنان عظيم. وخلافا للحكم المسبق السائر، إن كان هناك من ليس له الحق في الوحدة، العزلة، فهو الفنان بالذات.لا يمكن للفن أن يكون مونولوغا،والفنان المتوحّد مجهول بذاته، وهو حين يدعو إلى المستقبل فليؤكد نزوعه العميق. وإذ يعتبر الحوار مستحيلا مع معاصريه الصم أو الساهين، تراه يدعو إلى حوار متكاثر مع الأجيال.
لكن، ومن أجل أن يتكلم عن الجميع وكل شيء، فينبغي أن يتكلم عما يعرفه جميع الناس، والواقع المشترك بيننا. عن البحر، والأمطار، والحاجة، والرغبة، عن مصارعة الموت، فهذا ما يجمعنا. إننا نتشابه في ما نراه جميعا، في ما نتألم له. والأحلام تتغير حسب الأفراد، أما واقع العالم فهو وطننا المشترك. من هنا فإن طموح الواقعية مشروع، لأنه مرتبط بعمق بالمغامرة الفنية.
وإذن، لنكن واقعيين، أو بالأحرى لنحاول ذلك لو أمكن، فليس أكيداً أن للكلمة معنى، وليس مؤكدا أن الواقعية حتى وهي مأمولة ممكنة. لنسأل أولا، هل الواقعية الخالصة ممكنة في الفن. استنادا إلى أقوال رواد الحركة الطبيعية في القرن الماضي فهي إعادة الإنتاج الدقيقة للحقيقة، فيصدق على الفن ما يصدق على التصوير الفوتوغرافي بالنسبة للرسم: الأول يعيد الإنتاج فيما الثاني ينتقي. لكن، ما تراه يُعاد إنتاجه؟ وما هي الحقيقة أو الواقع؟ فأفضل الفوتوغرافيات ليست بالرغم إعادة إنتاج مطلقة، غير واقعية كليا. أيّ شأن أكثر واقعية، مثلا، في عالمنا من حياة إنسان، وهل أفضل من فيلم واقعي لنراها تعيش أمثل؟ إنما بأية شروط يصبح هذا الفيلم ممكنا؟ بشروط خيالية خالصة. يلزم بالفعل افتراض كاميرا مثالية مثبتة ليلا ونهارا على هذا الشخص، وهي تسجل حركاته بدون انقطاع. وستكون النتيجة شريطا يتطلب عرضه حياة إنسان، ولا يستطيع مشاهدته إلا جمهور قابل ليضيع حياته كي يهتم تخصيصا بتفاصيل وجود كائن آخر. ومع هذه الشروط ذاتها فإن هذا الفيلم صعب التخيّل لن يكون واقعيا، وذلك لسبب بسيط هو أن واقع أو حقيقة حياة إنسان لا توجد دائما حيث هي. توجد في حيوات أخرى تعطي شكلا لحياته، حيوات أفراد محبوبين، ينبغي تصويرهم بدورهم، وكذا أشخاص مجهولين، أقوياءَ وبؤساء من مواطنيه، شرطة ومدرسين، رفاق مناجم وأوراش، دبلوماسيين ودكتاتوريين، مصلحين دينيين، فنانين يخلقون أساطير لتوجيه سلوكنا، وأخيرا ممثلين للصدفة المهيمنة على أكبر حياة منظمة. وإذن، لا يوجد إلا فيلم واقعي واحد، ممكن، هذا عينُه المعروض بلا توقف أمامنا بواسطة جهاز غير مرئي على شاشة العالم. والاله الواقعي الوحيد سيكون هو الله. أما الفنانون الواقعيون الآخرون فهم حتما غير أوفياء للواقع.
منذئذ، فإن الفنانين الذين يرفضون المجتمع البورجوازي وفنّه الشكلي،الذين يريدون الكلام عن الواقع، عنه فقط، يوجدون في طريق مسدود بضراوة. يريدون أن يكونوا واقعيين ولا يستطيعون. يريدون إخضاع فنهم للحقيقة ولا يمكن وصف هذه دون القيام بانتقاء يخضعها إلى أصالة الفن. إن إنتاج السنوات الأولى من الثورة الروسية يبين لنا هذا المنعطف. وما أعطتناه روسيا وقتئذ مع بلوك، والشاعر الكبير باسترناك، مع مايكوفسكسي، وإيسنين، والروائيين الأوائل للإسمنت والفولاذ، مختبر بديع للأشكال والثيمات، انشغال خصب، وطفرةٌ مجنونة من الأبحاث. إنما لزم الاستخلاص وقتئذ والقول كيف يمكن أن تكون واقعيا والحال أن الواقعية كانت مستحيلة، ذلك أن الدكتاتورية هنا وفي كل مكان، كانت قد حسمت أمرها بقوة: الواقعية بالنسبة إليها ضرورية أولاً، ثم هي، ثانياً، ممكنة، شريطة أن تصبح اشتراكية. ما هو يا ترى معنى هذا المرسوم؟
معناه أنه يعترف صراحة أنه لا يمكن إعادة إنتاج الواقع بدون إنجاز اختيار، ويرفض نظرية الواقعية كما صيغت في القرن التاسع عشر. ولا يبقى أمامها سوى العثور على مبدأ اختيار يتنظم حوله العالم، وهو يعثر عليه لا في الحقيقة التي نعرف، وإنما الحقيقة التي ستحدث، أي في المستقبل، إذ من أجل إعادة إنتاج حسنة لما هو قائم ينبغي رسم ما سيصبح. بعبارة أخرى، فإن الموضوع الحقيقي للواقعية الاشتراكية هو بالذات ما ليس واقعا بعد.
إنه لتناقض بديع، لكن ألم يكن تعبير الواقعية الاشتراكية نفسُه متناقضا، وإلا كيف يمكن عمليا وجود واقعية اشتراكية بينما الواقع ليس كله اشتراكيا في الماضي ولا في الحاضر بما يلزم؟ أما الجواب فبسيط : أن يتم الاختيار من واقع اليوم أو أمس ما يهيئ ويخدم المدينة الكاملة للمستقبل. هكذا سوف يُعمد إلى نفي وإدانة ما ليس اشتراكيا في الواقع، ومن جهة ثانية إلى تمجيد كل ما هو كذلك وسيصبحه. سنجني من هذا حتما فنا للدعاية (البروباجاندا)، بالناس الأخيار والأشرار، وخزانة وردية، منقطعة شأن الفن الشكلي عن الواقع المركّب والحي. في النهاية، إن هذا الفن لن يصبح اشتراكيا بالقدر نفسه الذي لن يغدو واقعيا.
بذا فهذه الإستطيقا التي ابتغت الواقعية مطلبا تتحول إلى مثالية جديدة، هي عقيمة بالنسبة لفنان حقيقي شأنها شأن المثالية البورجوازية. وما إبراز الواقع بجلاء في مرتبة عالية إلا لتصفيته بشكل أنجع. هنا يتقلص الفن إلى لا شيء؛ إنه يخدم، وبخدمته يمسي خادما. ووحدهم الذين سيتجنبون وصف الواقع سيسمّون واقعيين وسيمجّدون، فيما الآخرون سيتعرضون للرقابة بتصفيقات الأوائل. والشهرة التي كان عمادها في المجتمع البورجوازي، أن يكون الكاتب مقروءا أو بشكل ضعيف، ستعتمد في المجتمع الشمولي(التوتاليتاري) على منع الآخرين من أن يُقرؤوا. هنا،أيضا، سيتشوّه الفن الحقيقي، أو يُكمّم، وسسيستحيل التواصل الكوني بسبب من أرادوه حاميا أنفسهم.
سيكون من الأيسر إزاء فشل كهذا، الاعتراف بأن الواقعية المسماة اشتراكية واهنة الصلة الفن العظيم، وأن على الثوريين، لمصلحة الثورة، البحث عن إستطيقا أخرى، في ما يصرح المدافعون عنها أنه لا يوجد أي فن ممكن بعيدا عنها، فيما أعتقد بعمق أنهم غير مقتنعين بهذا، وقرروا إخضاع القيم الفنية لزاما لقيم العمل الثوري. لو كان هذا الكلام يُصرّح به بوضوح لسهُل النقاش. فبإمكاننا احترام التنازل العظيم لدى أناس يعانون بشدة من المفارقة القائمة بين شقاء الجميع والامتيازات المرتبطة أحيانا بمصير فنان، والذين يرفضون المسافة الشاسعة التي تفصل بين من يخنق صوتَهم البؤس، وعلى العكس منهم الذين يتيسر لهم التعبير دائما. نستطيع عندئذ فهم هؤلاء الناس، ومحاولة محاورتهم، بالقول، مثلا، بأن القضاء على حرية التعبير ليست ربما الطريق السليم للانتصار على الاستعباد، وبأنه في انتظار التحدث باسم الجميع فمن السخف نزعُ حق التكلم للبعض على الأقل. نعم، على الواقعية الاشتراكية الاعتراف بقرابتها، بتوأمتها للواقعية السياسية. فهي تُضحِّي بالفن من أجل غاية أجنبية عنه، ولكنها في سُلّم القيم يمكن أن تظهر رفيعة. إجمالا، فهي تُلغي الفن مؤقتا لإقامة صرح العدالة أولا، وعندما ستستتب هذه في مستقبل غير محدد سوف يُبعث الفن. هكذا يطبق على أشياء الفن القاعدة الذهبية للذكاء المعاصر المعتمدة منطق أنه لا إمكانية لصنع عجّة بيض إلا بكسر البيض، بيد أن هذا المنطق الراجح لا يجب أن يستبد بنا، فلا يكفي كسرُ آلاف البيض لصنع عَجّة جيدة، وليس بعدد القواقع المكسّرة تُقدّر خِبرة الطباخ. على العكس، فإن الطباخين الفنيين لزماننا مدعوون أن يخافوا من إسقاط طبقات البيض أكثر مما رغبوا، وعندئذ فإن عجّة الحضارة لا تتماسك أبدا، والفن لن يُبعث. ليست البربرية مؤقتة أبدا، لا يُحسب حسابُها، ومن الطبيعي أن تمتد إلى أنماط السلوك. عندئذ، نرى كيف تولدُ من شقاء ودماء البشر آدابٌ لا قيمة لها، ولوحاتٌ فوتوغرافية ومسرحياتٌ لأرباب العمل تَحلُّ فيها الكراهية محلَّ الأديان. هنا يبلغ الفن وهو في أوج تفاؤله أسوأ ترف بالضبط، وأنكى أنواع الكذب.
أو نستغرب لهذا؟ إن حزن البشر لهو موضوعٌ من الضخامة حدّاً لا يستطيع أحدٌ أن يقترب منه، اللهم أن يكون مثل كيتس[John Keats]الشاعر الإنجليزي الكبير1795ـ 1821 من أكبر ممثلي الرومانسية الإنجليزية بلغ من الحساسية مرتبةً حتى قيل إنه كان بمقدوره أن يلمس الألم نفسَه. وهو ما نراه حين يخوض أدبٌ مُوجّهٌ في تقديم المواساة الرسمية لهذا الحزن. لقد تظاهر خداع الفن للفن بتجاهل الألم وتحمّل بذا مسؤوليته، لكن الخداعَ الواقعيَّ إذا ما تحمل الاعترافَ بشقاء ء الحاضر للبشر، فهو يخونه بفداحة، مستعملا إيّاه لإثارة سعادة آتية لا يعلم عنها أحدٌ شيئا، تسمح بكل المخادعات.
ومع ذلك، فإن الإستطيقتين[مُثنى استطيقا] اللتين تواجهتا طويلا، تلك الداعية إلى الرفض الكلّي لما هو راهن، والأخرى المحرّضة ضد كل ما ليس راهنا؛ إنهما ينتهيان رغم كل شيء إلى الالتقاء بعيدا عن الواقع حول خداعٍ واحد، وفي القضاء على الفن.، فأكاديمية اليمين تتجاهل بؤسا تستعمله أكاديمية اليسار، لكن، وفي كلا الحالتين، يستفحل البؤس بتزامن مع إلغاء الفن.
III
هل علينا استخلاص أن الخداع هو جوهر الفن نفسه؟ أقول، على العكس بأن الأوضاع التي تحدثت عنها إلى الآن ليست خداعات إلا بقدر ما لا علاقة لها تُذكر بالفن. فما هو الفن، إذن؟ ما هو بالشأن البسيط، بكل تأكيد، ومن الصعب أكثر معرفته وسط صراخ عديد البشر المعاندين في تبسيط كل شيء. يراد، من جهة، أن تكون العبقرية بديعةً ومتوحدة، ومن جهة ثانية، يُطلب منها أن تشبه الجميع، ومن أسف فالواقع أكثر تركيبا مما يظن، وهذا ما عبر عنه بلزاك في عبارة واحدة.:” العبقرية تشبه الجميع، ولا أحد يشبِهها.”. كذلك الفن الذي ليس شيئا بدون الواقع، والذي بدوره قليل قيمة بدون الفن. وبالفعل، كيف يمكن للفن أن يستغنيَ عن الواقع، وكيف يخضع له؟ إن الفنان يختار موضوعه بقدر ما هذا يختاره. إن الفن نوعا ما تمردٌ ضد العالم بما فيه من هارب وغيرِ مكتمِل: إنه لا يقترح شيئا إلا ما يعطي شكلا آخر لواقع مضطر، بالرغم، للحفاظ عليها لأنها مصدر شعوره. بهذا الصدد، فنحن كلنا واقعيون ولا أحد، في آن. فما الفن رفضٌ تام، ولا قبولٌ كلِّيٌّ بالموجود. هو رفضٌ وقبولٌ، معاً، ولذا لا يمكن أن يكون إلا تمزقا مستمراً، متجدداً. والفنان يوجد دوما ضمن هذا الالتباس، عاجزاً عن إلغاء الواقع، وهو في الآن مدفوع لمعارضته في وجهه الناقص أبدا. فمن أجل رسم طبيعة ميتة، ينبغي أن يتواجه رسام وتفاحة. وإذا لم تكن الأشكال لتتحقق من غير ضوء العالم، فهي تضيف بدورها لهذا الضوء. إن الكون الحقيقيّ الذي بجماله يثير الأجساد والتماثيل ليتلقى منها ضوءا ثانيا يُثبت الذي في السماء. وهكذا، فالأسلوب العظيم يوجد في منتصف الطريق بين الفنان وموضوعه.
لا يتعلق الأمر، إذن، بمعرفة هل على الفن أن يهرَب من الواقع أو يخضَع له، ولكن بأي نسبة لكي لا يتبخر في السحب، أو بالعكس يتعثّر بنعال من رصاص. هذا مشكل يفضّه كل فنان كما يحس به، وحسب استطاعته. وكلما كان تمردُ الفنان قويا ضد حقيقة العالم، جاء كبيرا ثقلُ الواقع الذي سيقيم توازنه، بيد أنه ثقل لا يمكن أن يخنق الوحدة الضرورية للفنان، أبدا. وكلما كبُرت ثورةُ الفنان ضد واقع العالم، كلما جاء أكبرَ ربما ثقلُ الواقع الذي عليه أن يُعيد توازنه. على أن هذا الثقلَ لن يخنق أبدا ضرورةَ الوحدة بالنسبة للفنان.
إن العمل الأكثر رِفعة سيكون دائما، كما في التراجيديات الإغريقية، وعند ملفيل [هرمان1819 ـ 1891 ]، وتولستوي [1883 ـ1945] أو موليير[1622 ـ 1673]، ذلك الذي يصنع توازن الواقع والرفض الذي يواجه به الإنسان هذا الواقع، كلّ واحد منهما يثير الثاني في انبثاق متواصل هو ما يميز الحياة الفرِحة والمتمزقة. هنا ينبجس، من بعيد لبعيد، عالمٌ جديد، مختلف عن عالم كل يوم وهو ذاته في الآن عينه، خصوصي لكن كوني، مليء بمخاوف بريئة تثيرها لبضع ساعات قوة وعدم رضا العبقرية. شيء من هذا القبيل، وليس هو كذلك، ما العالم بشيء، والعالم هو الكل، هذه هي الصرخة المزدوجة والمتكررة لكل فنان حقيقي، الصرخة التي تبقيه واقفا، والعينان دوما مفتوحتان، والتي، من بعيد لبعيد، توقظ لدى الجميع في قلب العالم النائم الصور الهاربة والملحة لواقع نتعرف عليه دون أن نكون قد التقينا به أبدأ.
كذلك، فإن الفنان وهو أمام القرن الذي يعيش فيه لا يستطيع لا أن يشيح عنه، ولا أن يضيع فيه. فهو إن أشاح سيتكلم في الفراغ، ولكن، وفي الحالة المعاكسة، وبحدود اتخاذه لهذا
القرن مادة، فهو يعلن عن وجوده الخاص كموضوع، ولا يستطيع أن يخضع له كليا. بعبارة أخرى، ففي اللحظة التي يختار فيها الفنان أن يتقاسم مصير الكل، عندئذ يؤكد الفردَ فيه. ولن يقدِر على الفكاك من هذا الالتباس. يأخذ الفنان من التاريخ ما بوسعه أن يراه بنفسه، أو يتألم منه بنفسه كذلك، مباشرة أو بشكل غير مباشر، أي الراهن بالمعنى الدقيق للكلمة، والناس الذين يعيشون اليوم، وليس التقرير عن هذا الراهن في مستقبل غير منظور من الفنان الحي. أن تحكم على إنسان معاصر باسم إنسان غير موجود بعد، فهذا دور النبوءة. أما الفنان، فليس بوسعه إلا أن يقدر الأساطير التي تقترح عليه حسب انعكاسها على الإنسان الحي. نحن نعلم أن النبي، الديني أو السياسي، قادر أن يحكم مطلقا وهو لا يتورع عن ذلك، أما الفنان فلا يستطيع. فلو حكم مطلقا، لقسم الواقع بين الخير والشر بدون أي تمايزات، وهنا سيصنع الميلودراما. وهدف الفن، على العكس، ليس أن يُشرِّع أو يسود،هدفُه، أولاً أن يفهم. نعم، يَسود أحيانا من شدة الفهم، لكن لا يوجد أيّ عمل عبقري قام على الكراهية والاحتقار، ولذا تجد الفنان في خاتمة مساره يُسامح عوض أن ُيدين. هو ليس حكَما ولكن مسوِّغا. إنه المحامي الدائم للمخلوق الحي لأنه حيّ. يدافع حقا عن محبة القريب لا محبة البعيد الذي يحط ّ قيمة الإنسانية في صورة التربية الدينية للمحاكم، بل العمل العظيم هو ما ينتهي إلى خلق التشويش في أذهان كل القضاة . بواسطته يعطي الفنان، في آن واحد، الاعتبار لأرفع إنسان، وينحني أمام أعتى المجرمين. كتب أوسكار وايلد[1854ـ1900]، وهو في السجن: “لا يوجد في السجن شخص واحد من الأشقياء المحبوسين معي في هذا المكان البئيس ممن ليس على صلة رمزية مع سرّ الحياة.”، أجل، فسِرُّ الحياة هذا يلتقي مع سر الفن.
اعتقد كتاب المجتمع التجاري على مدى خمسين عاما، وباستثناءات قليلة، أنهم قادرون أن يعيشوا لا مسؤوليةً سعيدة، وقد عاشوا فعلا، ثم ماتوا وحيدين، كما عاشوا. أما نحن كتاب القرن العشرين فلن نكون أبدا وحيدين. بل علينا أن نعرف، على العكس، بأننا لن نستطيع الفرارَ من البؤس الجماعي، وأن مبررنا الوحيد، لو وُجد، هو أن نتكلم حسَب قدراتنا لأولئك الذين ليس بإمكانهم ذلك. إنما علينا فعلُه من أجل ما يعانون في هذه اللحظة، كيفما كانت عظمة البلدان والأحزاب التي تضطهدهم، في الماضي والحاضر، فلا يوجد عند الفنان سفاحون جيّدون. من هنا، تجد الجمال، اليوم أيضا، بل اليوم خاصة، لا يمكن أن يخدُم أيّ حزب، إنه لا يخدُم على المدى البعيد أو الوجيز، إلا الألمَ أو حريةَ الإنسان. إن الفنان الملتزم الوحيد هو ذاك الذي، ومن غير أن يرفض المعركة، لا يقبل على الأقل الانضمام إلى الجيوش النظامية، أعني وضع المقاتل المستقل. من هنا، فالدرس الذي يجده في الجمال، لو استخلص بنزاهة، ليس درس الأنانية بل الأخوّة القاسية. بهذا التصور لم يستعبِد الجمال الإنسان أبدا، بل على العكس، ومنذ آلاف السنين، وفي كلِّ يوم، كلِّ الثواني، خفّفَ من عبودية الملايين، وأعتقَ البعض منهم أحيانا.
ونحن، بصدد الختام، ربما كنا نلمس هنا عظمةَ الفن، في التوتر الدائم بين الجمال والألم، محبة الناس وجنون الإبداع، الوحدة غير المحتملة والحشد المتعب، الرفض والقبول. نراه يمشي بين هاويتين، النزق والدعاية. في هذا الخط الفاصل الذي يتقدم فيه الفنان فإن كل خطوة تُعدّ مغامرة، بل خطراً مهولا، والذي بالرغم يحتضن وحده حرية الفن. وهي حريةٌ صعبةٌ وتشبه انضباطَ النُّسك، أيُّ فنان حقا سينكِر هذا؟ وهل هناك من سيدّعي إعلانَ كونه في مستوى هذه المهمة الملحة؟ إنها حرية تفترض عافيةَ القلب والجسد، وأسلوبا يشبه قوة الروح ومواجهةً متحفزة. وككل حرية، فهي محذورٌ مستمر، مغامرةٌ منهِكة، ولذا نهرب اليوم من المحذور كما نهرب من الحرية اللازمة لنرتمي في كل أنواع الاستعباد، ونحصُل في الأقل على رفاه الروح. لكن، ما هو الفن إن لم يكن مغامرة، وأين يوجد مبرُّره؟ كلاّ، الفنان الحر، شأن الإنسان الحر، ليس إنسانَ الرّفاه. الفنانُ الحرُّ هو الذي يخلُق بتعب شديد نظامَه بنفسه. وكلما انعتق ما يريد تنظيمَه، كلما جاءت قاعدتُه دقيقة، وأكّد حريته. هناك عبارة لأندري جيد[1869ـ1951] كثيرا ما أيدتُه فيها رغم ما قد تثير من سوء تفاهم:” يعيش الفن من الإكراه، ويموت من الحرية.”. وهذا صحيح، من دون أن نستخلص بأن الفن يقبل أن ُيوجّه. كلا، الفن لا يعيش إلا بالإكراهات التي يفرضها هو على نفسه، بينما يموت من ضغط سواها. وبالمقابل، فإن يَخضَع لإكراه ذاتِه فسينساق إلى الهذيان ويتسخّر للظلمات. عندئذ، فإن الفن الأبلغَ حريةً، والأشدَّ تمرداً، سيُمسي الأكثرَ كلاسيكية؛ سوف يُتوّج الجهدَ الأكبر. وطالما أن مجتمعاً وفنانيه لا يصادقون على هذا الجهدِ الطويل والحرّ، وما داموا مأخوذين بالتسليات أو بالشكليات، بلعب الفن للفن، أو عِظات الفن الواقعي، فإنهم سيبقون في العدَمية والعقم. بكلامنا هذا، فنحن نقول إن النهضة اليوم تتوقف على شجاعتنا وإرادتنا في التنوير.
بلى، إن هذه النهضة ملكُ أيدينا. وإنه ليتوقف علينا نحن أن ُيقدم الغرب على ربط عُرَى جديدةٍ للحضارة بعد أن قُطعت بضربة سيف بتراء. ومن أجل هذا نحتاج إلى كل المخاطر وأعمال الحرية . لا يتعلق الأمر هنا بمعرفة ما إن كنا باتّباعنا لخُطى العدالة سنحافظ على الحرية، وإنما بمعرفة أنه بدون الحرية لن نحقق شيئا وأننا سنضيع في آن واحد عدالةَ المستقبل والجمالَ القديم. إن الحرية وحدَها ما يسحب الناس من العزلة، والسّخرة، وهي لا تنشر جناحيها عاليا إلا فوق حشد من العُزْلات. والفن، بسبب هذا الجوهر الحر الذي حاولت تعريفه، يجمع هنا حيث يفرق الاستبداد. لا عجب، والحالة هذه، أن يكون العدوَّ الذي تُسدَّدُ إليه كلُّ أشكال الاضطهاد، ولا غرابة، منذئذ، إن كان الفنانون والمثقفون الضحايا الأوائل لنظم الطغيان الحديثة. إن الطغاة يعرفون أنه توجد داخل العمل الفني قوةُ التحرر، والتي ليست غامضة إلا لمن يفتقدون حسَّ التّعبد. كلُّ عمل عظيم يجعل وجهَ العالم أجملَ وأغنى، هنا السِّرُّ كلُّه. لن تكفي آلاف المعتقلات والقضبان للتشويش على شهادة الكرامة المثيرة هاته.. لذا ليس حقيقيا أن بالإمكان ولو مؤقتا إيقاف الثقافة لإعداد أخرى جديدة، فلا أحد يوقف الشهادة الدائمة للإنسان عن بؤسه وعظمته، لا نوقف عملية التنفس، لا ثقافة بدون ميراث، ولا نستطيع كما لا ينبغي أن نرفض شيئا من موروثنا، ميراث الغرب. وكيفما كانت أعمال المستقبل فستحمل كلُّها السرَّ ذاتَه، ومصنوعةً من الشجاعة والحرية، مغذّاةً بجرأة آلاف الفنانين من كل القرون وجميع الأمم. نعم، حين يبين لنا الطغيان الحديث أن الفنان، حتى وهو منفردٌ في حرفته، يبقى العدوَّ العمومي، فهو على حق. بيد أنها بهذا المذهب تكرِّم عبرَه وجهَ الإنسان الذي لم يستطع أي شيء إلى الآن سحقَه”.