أولغا توكارتشوك
ترجمة: علي عبد الأمير صالح -كاتب ومترجم عراقي
تزوجَ أقبح امرأة في العالَم. بوصفه مُدير سيرك ذائع الصيت، قام برحلةٍ خاصة إلى ﭬيينا كي يراها. لم يكن ذلك عملًا مُتعمَّدًا على الإطلاق – لم يخطر بباله سَلَفًا أنه من المحتمل أن يتخذها زوجةً له. لكنه ما إن رآها، ما إن تعرّض للصدمة الأولى، حتى لم يعد في مقدوره أن ينتزع عينيه بعيدًا عنها. كان لديها رأسٌ كبير مغطى بالأشياء النامية والانتفاخات. أما عيناها الصغيرتان الدامعتان دومًا فهما قريبتان من جبينها المنخفض، المليء بالتجاعيد. من مسافة معينة تبدو عيناها أشبه بشقين ضيقين. ويبدو أنفها كما لو أنه مكسور في مواضع عدّة، طرفه أزرق شاحب، مكسو بشعرات خشنة مُتباعدة. فمها ضخم ومنتفخ، يتدّلى مفتوحًا دومًا، رطبٌ دومًا، وفي داخله بعض الأسنان المُدببة والحادة. وبالإضافة إلى هذا كلّه، كما لو أنّ ذلك غير كافٍ، أنبتَ وجهُها شعراتٍ حريرية، وطويلة، ومنتشرة دون نظام.
أولَ مرة شاهدها كانت قد ظهرت من وراء الخلفية الكرتونية العائدة لسيرك متنقل كي تُري نفسها للجمهور. صرخةُ دهشة واشمئزاز راحت تتدحرج فوق رؤوس الحشد وسقطت عند قدميها. ربما كانت تبتسم، غير أنّ تلك البسمة بدت أشبه بتكشيرة مُروِّعة. وقفت جامدةً من دون حراك، واعيةً بالحقيقة القائلة إنّ عشرات العيون تنظر إليها، تتشرب بطمع كلّ تفصيل من التفاصيل، كي يكون بوسع أعضاء الجمهور أن يصفوا هذا الوجه لأصدقائهم وجيرانهم أو لأولادهم، كي يكونوا قادرين على أن يتذكرونه من جديد، لمّا يُقارنون بينه وبين وجوههم في المرآة ــــ ومن ثم يتنفسون الصُعداء. وقفت بصبر، ربما بإحساس بالتفوّق، فيما كانت تنظر فوق رؤوسهم نحو سطوح المنازل وراءهم.
بعد سكون طويل الأمد، منتفخ بالذهول، صاح شخصٌ ما أخيرًا: “أخبرينا عن نفسكِ!”
حدّقت في الجمهور، في البقعة التي أتى منها الصوت. كانت تُفتش عن الشخص الذي قال تلك الجملة، إلا أنه في ذلك الوقت تحديدًا هرعت امرأةٌ بدينة، هي مديرة حلبة السيرك، من خلف الجزء الجانبي الكرتوني من خشبة المسرح وأجابت نيابةً عن (أقبح امرأة في العالَم): “هي لا تتكلّم”.
“إذًا أخبرينا أنتِ بقصتها”، ردّ الصوت، ولذلك تنحنحت المرأة السمينة وشرعت تتحدّث.
بعد الأداء، لمّا شرب كوب الشاي معها عند موقد قصدير صغير كان يُسخّن داخل بيت السيرك المتحرّك القائم على أربع عجلات، وجدها ذكيةً بكلّ معنى الكلمة. بطبيعة الحال بوسعها أن تتكلّم، وأن تكون مفهومةً بشكل مثالي أيضًا. راقبها عن كثب، مُتصارعًا مع افتتانه بفلتة الطبيعة تلك. كان في مقدورها أن تُدرك نواياه مباشرةً.
“ظننتَ أنّ كلامي سيكون غريبًا ومُثيرًا للاشمئزاز على غرار وجهي تمامًا، أليس كذلك؟” سألته.
لم يرد على سؤالها.
شربت شايها بالأسلوب الروسي، ساكبةً إياه من سماور في أكواب صغيرة من دون مقابض، قاضمةً قطعة سكّر كبيرة بين رشفةٍ وأخرى.
اكتشف حالًا أنها تتحدّث لغات كثيرة، إلا أنه في الظاهر أيّ واحدة من هذه اللغات لم تكن جيدة جدًا. بين الحين والآخر كانت تنتقل من لغة إلى أخرى. لا مُبرّر للعجب- منذ طفولتها المبكرة نشأت في السيرك، في فرقة عالمية مليئة بالأشياء المتنافرة من الأنواع كلّها، لم يحدث أن حلّت في المكان نفسه مرتين.
“أعرفُ ما الذي تفكر فيه”، قالت ثانية، وهي تنظر إليه بتلكما العينين الصغيرتين المنتفختين الشبيهتين بعينيْ حيوان. بعد صمت قصير أضافت قائلة: “كلّ فرد ليس له أُم ليس له لغة أُم أيضًا. أنا أستعمل لغات كثيرة، إلا أنه لا واحدة منها هي لغتي”.
لم يجرؤ على الردّ. بغتةً شرعت تُثير أعصابه، مع إنه لم يكن يعرف يقينًا السبب. راحت تُعطي ملاحظات ذكية، وكانت هي متماسكة ودقيقة- لم تكن قطعًا كما توّقعها.
لذا ودّعها، وما أثار دهشته أعطته يدها- وهذه إيماءة أنثوية إلى حدّ كبير. إيماءة سيدة، في الواقع؛ وكانت يدًا محبوبةً بشكل مثالي، أيضًا. انحنى نحوها، إلا أنه لم يلامسها بشفتيه.
لمّا استلقى على ظهره في الفندق كان لا يزال يفكر فيها. حدّق أمامه في عتمة الفندق الرطب، فاسد الهواء- ذلك النوع من الظلام العميق دعا خياله كي يشرع في العمل بنشاط. استلقى هناك متسائلًا كيف يجب أن تكون هي، كيف تشعر هي من الداخل، كيف يُحتمَل أن يبدو العالَم من خلال عينين شبيهتين بعينيْ الخنزير، كيف يجب أن يكون الحال أن تستنشق الهواء عبر أنف مشوّه كهذا- هل تشمّ هي الأشياء نفسها التي يشمّها الناس الأسوياء؟ وكيف يكون الحال لمّا تلمسُ جسدًا كذلك الجسد يوميًا في أثناء الاستحمام، أو حَكّ الجلد، في أثناء القيام بالأشياء الصغيرة المألوفة كلّها؟
لم يشفق عليها مرةً. وإذا كان قد تعاطف معها، لم يفكر في أن يطلب يدها.
بعض الأشخاص تعوّدوا أن يرووا هذه القصة كما لو أنها علاقة غرامية تعيسة، قائلين إنّ قلبه نوعًا ما نظرَ مباشرةً إلى قلبها، وإنه وقع في غرام الملاك ذي الطبيعة اللطيفة الذي رآه في داخلها، على الرغم من وجهها المثير للاشمئزاز. لكن لا، لم يكن الأمر من هذا النوع- تلك الليلة الأولى بعد مقابلتها ببساطة لم يكن باستطاعته أن يتوقف عن تخيّل كيف يكون الحال لمّا يمارس الحب مع هكذا مخلوقة، لمّا يُقبّلها ويُجرّدها من ملابسها.
حام حول السيرك طوال الأسابيع القليلة التالية. كان يُغادر المكان ويعود دومًا من جديد. نال ثقة المدير، وتفاوض معه بشأن عقد للفرقة الفنية في برنو2. تبعهم إلى هناك، وبدأ أعضاء السيرك يعدّونه واحدًا منهم. سمحوا له أن يبيع التذاكر، ومن ثم أصبح مدير حلبة السيرك بدلًا من السيدة البدينة- وكان يجب أن يُقال إنه قام بهذه الوظيفة بشكل جيد، وكان يُلهِب حماسة الجمهور قبل رفع الستارة المطلية.
“أغمضوا عيونكم”، صاح. “بخاصة النساء والأطفال، لأنّ قُبح هذه المخلوقة يصعب أن تتحمّله العيون الحساسة. ما من أحد شاهد فلتة الطبيعة هذه يستطيع أن يخلد إلى النوم في أمان من جديد. وحتى أنّ بعض الأشخاص فقدوا إيمانهم بـ(الخالق) …”
عند هذه اللحظة علّق رأسه، على ما يبدو تاركًا هذه الجملة غير كاملة، مع إنها في حقيقة الأمر لم تكن كذلك- لم يكن يعرف ماذا يُمكن أن يقول أيضًا. حَسِبَ أنّ كلمة “الخالق” تضع كلّ شيء في مكانه الصحيح. بعض الأشخاص قد يفقدون إيمانهم في هذا (الخالق)، وهم ينظرون إلى المرأة التي تنتظر وراء الستارة، إلا أنه هو نفسه بات مقتنعًا بالعكس: بالأحرى، (الخالق) أظهَر وجوده من خلال اختيار مدير السيرك، مانحًا هذه الفرصة له. (أقبح امرأة في العالَم). بعض البُلهاء ينهمكون في نزاعات ويقتل أحدهم الآخر على النساء الجميلات. بعض البُلهاء يهبون ثرواتهم استجابة لنزوة امرأة. إلا أنه ليس على غرارهم. (المرأة الأقبح) شغلت عواطفه مثل حيوان مُرَوَّض، حزين. كانت مختلفة عن سائر النساء الأخريات، وحتى أنها زوّدته بفرص مالية كي يدخل المساومة. لو جعل منها زوجةً له فسوف يُعزَل- سيكون رجلًا استثنائيًا. سيمتلك شيئًا لا يمتلكه الأشخاص الآخرون.
بدأ يشتري الزهور لها- ليس باقات زهور خاصة، بل مجرد باقات صغيرة رخيصة ملفوفة بورقة معدنية مع عقدة فراشة من ورق رقيق شبه شفاف رديء النوع ؛ أو يُعطيها منديلًا قطنيًا، شريطًا لامعًا، أو علبة صغيرة من حلوى اللوز. عندئذ يراقبها، منوّمًا، فيما هي تربط الشريط حول جبينها، وبدلًا من أن تكون زينةً، عقدة الفراشة الملوّنة تغدو مصدرَ رعب. ويظل يُراقبها فيما هي تمصّ الشوكولاته بلسانها البارز، الأكبر من المعتاد، مُتسببةً في تكوّن لعاب بُني بين أسنانها المتباعدة ونزوله قطرةً قطرة على ذقنها المكسو بالشعرات الخشنة.
كان يحلو له أن ينظر إليها عندما لا تعرف أنه يُراقبها. يتسلل صباحًا ويختبئ وراء الخيمة أو وراء بيت السيرك المتحرّك القائم على أربع عجلات، ينسل كي يترّصد عن كثب ويُراقبها على مدى ساعات من دون انقطاع، حتى عبر الشقوق الكائنة في السياج الخشبي. كان من دأبها أن تأخذ حمامًا شمسيًا، وفي أثناء ذلك تمضي دهورًا وهي تمشط ببطء شعرها المنتشر من دون نظام، كما لو أنها في نشوة، تجدله في ضفائر رفيعة جدًا وبعدها مباشرةً تحلّه من جديد. أو بخلاف ذلك تُحيك بإبرتين معقوفتين، الإبرتان تلمعان في نور الشمس فيما هما تطعنان الهواء الصاخب للسيرك. أو، في قميص فضفاض، وذراعين عاريتين، تغسلُ ثيابها في طست. الجلد الذي يعلو ذراعيها والجزء العلوي من صدرها مُغطى بفراء شاحب. يبدو جلدها حلوًا، ناعمًا، كجلد حيوان.
إنه يحتاج إلى هذا التلصّص، لأنّ اشمئزازه يتضاءل يومًا بعد يوم، يذوب في الشمس، يتوارى مثل بُركة صغيرة في ما بعد ظهيرة حارة. شيئًا فشيئًا تعوّدت عيناه على لا تناسقها المُوجع، اتساقاتها المُحطمة، كلّ عيوبها وزياداتها. وغالبًا حتى يحسبُ أنها تبدو طبيعية.
كلّما يبدأ يشعر بالقلق، يُخبرهم كلّهم أنه ذاهب بعيدًا في مشاريع مهمة، لديه اجتماع مع فلان وفلان- ويذكر اسم شخص غريب، أو، للتباين، اسمًا معروفًا. إنه يعقد صفقات، يُجري محادثات. يُلمّع جزمتيه، يغسل أفضل قمصانه، وينطلق في حال سبيله. لم يذهب بعيدًا. كان يتوقف في أقرب بلدة، يسرق محفظة جيب شخص ما، ويسكر. إلا أنه حتى حينها لم يتحرر منها، لأنه يبدأ في التحدّث عنها. لم يكن بمستطاعه أن يفعل شيئًا من دونها، حتى خلال هذه الأعمال الطائشة.
والشيء الغريب هو، أنها أمست أثمن ممتلكاته. وحتى إنه كان بوسعه أن يدفع ثمن الخمر الذي يشربه مع قبحها، لمّا يُريد- و، أكثر من ذلك، كان بمستطاعه أن يسحر النساء الجميلات من خلال وصف وجهها، وهؤلاء النسوة يطلبن منه أن يستمر في التحدّث عنها حتى ساعة متأخرة من المساء، حين يستلقين عاريات تحته.
ولمّا يعود تكون لديه على الدوام قصة جديدة عن قُبحها جاهزة لأن يرويها للجمهور- مُدرِكًا تمامًا أنه ما من شيء يوجد فعلًا إلى أن تكون له قصته الخاصة. في أول الأمر جعلها تحفظها عن ظهر قلب، إلا أنه سرعان ما أدرك أنّ (أقبح امرأة في العالَم) لم تكن بارعةً في سرد القصص: كانت تتكلّم بشكل رتيب وتنفجر باكيةً في النهاية، لذا شرع يرويها هو نيابة عنها. يقف بجانبها، يُشير بيده إليها، ويحكي قائلًا: “أُمّ هذه المخلوقة التي ترونها أمامكم، صاحبة المظهر الرهيب للغاية كي تتحمّله عيونكم البريئة، أقامت في قرية عند حافة (الغابة السوداء)3. وهناك، في يوم صيفيّ، فيما كانت تجني التوت في الغابة، اصطادها خنزير بريّ، هجم عليها في نوبة شبقٍ مجنونة، همجية.
وفي هذه اللحظة كان يسمع باستمرار صيحات مكبوتة، مشلولة بسبب الرعب، وبعض النسوة، اللائي كن يرغبن أن يُغادرن أصلًا، يبدأن بجرّ أكمام أزواجهن المُعارضين.
كانت لديه نسخٌ عديدة أخرى:
“هذه المرأة تأتي من بلاد لعنها الله. هي سليلة عِرق شرير، متحجر القلب لم يُظهِر رحمةً تجاه مسكين خشن الطباع، ولهذا السبب عاقب (ربُنا) قريتَهم كلّها بهذا القُبح الموروث الرهيب”.
أو: “هذا هو المصير الذي يُصيب أولاد النساء الساقطات. هنا ترون نتائج السفلس، وهو مرض مُريع يُعاقِب النجاسة حتى الجيل الخامس!”
لم يشعر بالذنب. وأيّ واحدة من هذه القصص قد تكون صحيحة.
“لا أعرف من هُما أبواي”، قالت له (المرأة الأقبح). “كنتُ على الدوام بهذه الصورة. وجدوني طفلةً عند السيرك. لا أحدَ يتذكر ما حصل قبلها”.
وعندما انتهى موسمهما الأول معًا وسافر السيرك في منعطف كسول عائدًا إلى ﭬيينا من أجل سباته السنوي، طلب يدها. توّردت خجلًا إلى أقصى الحدود وارتعشت. ومن ثم قالت بهدوء، “حسنًا”، وبرقة أراحت رأسها على ذراعه. كان في مقدوره أن يشمّ عبقها- كان عبقًا لطيفًا ومُشبعًا بالصابون. تحمّل هذه اللحظة، ومن ثم تراجع وبدأ يُخبرها بخططه لحياتهما معًا، وراح يُعدد سائر الأمكنة التي سيزورونها. وفيما هو يذرع الحجرة جيئة وذهابًا أبقت نظراتها مُثبتة عليه، إلا إنها كانت كئيبة وصامتة. وفي الختام تحديدًا أخذته من يده وقالت إنها تُريد العكس تمامًا- كانت تُريد أن يستقرا في مكانٍ ما في الريف، بعيدًا عن البلدات والمُدن، وألا ينبغي لهما أن يذهبا إلى أيّ مكان أو يُزورا أيّ فرد. وإنها سوف تطهو الطعام وسيكون لهما أولاد وحديقة.
“لن يكون بوسعكِ مواجهة هذه الحال”، ردّ عليها بسخط. “لقد ترعرعتِ في سيرك. إنكِ تُريدين، إنكِ تحتاجين إلى أن يُنظر إليك. سوف تموتين إن لم تقع عيون الناس عليكِ”.
لم تحر جوابًا.
تزوجا في عيد الميلاد (الكريسماس)، في كنيسة شديدة الصغر. القس الذي أدار الطقس كاد يغيب عن الوعي. ارتجف صوته فيما هو يتلو. وكان المدعوون أشخاصًا من السيرك، لأنه أخبرها أنه ليس لديه أسرة وأنه وحيدٌ في العالَم على غرارها.
ولمّا كانوا كلّهم دائخين في مقاعدهم، حين فرغت الزجاجات وآن أوان الذهاب إلى الفِراش (مع إنها كانت تجرّ كُمّه بانتشاء)، قال للجميع أن يمكثوا وأرسل في طلب مزيد من النبيذ. لم يكن بوسعه أن يسكر، مع إنه بذل أقصى جهوده. شيءٌ ما في داخله ظلّ يقظًا بكلّ معنى الكلمة متوترًا كالسلك. ولم يكن باستطاعته حتى أن يُرخي كتفيه أو يلف ساقًا على ساق، بل ظلّ جالسًا هناك باستقامة، وجنتاه متوّردتان وعيناه لامعتان.
“دعنا نمضي الآن، حبيبي”، همست في أذنه.
إلا إنه أمسك بحافة المنضدة، كما لو أنه مُثبت فيه بواسطة مسامير غير مرئية. ربما تصوّر الضيوف كثيرو الملاحظة أنه ببساطة خائف من أن يختلي بها، وهي عارية- خائف من المعاشرة الإجبارية بعد الزفاف. هل كانت تلك فعلًا هي الحالة؟
“المس وجهي”، طلبت منه في العتمة، إلا إنه لم يفعل ذلك. رفع نفسه فوقها مستندًا إلى يديه بحيث أنّ كل ما يستطيع رؤيته هو صورتها الظلّية، أَفتَح قليلًا من ظلام بقية الغرفة، رقعة فاتحة من دون حافات بارزة. وبعدها أغمض عينيه- لم يكن بوسعها أن ترى الأمر- وأخذها، مثلما يأخذ أيّ امرأة أخرى، من دون أن تخطر في باله فكرةٌ واحدة، كالعادة.
بدآ الموسم الثاني بمفردهما. كان بحوزته بعض صورها الفوتوغرافية التي أخذها ووزعها على النطاق العالمي. جاءت طلبات الحجز عبر التلغراف. كانت لهم حالات ظهور عديدة وسافرا في مقاعد الدرجة الأولى. كانت تعتمر على الدوام قبعة مع خمار رمادي سميك، من ورائه شاهدت روما، وﭬينيسيا، والشانزليزيه. ابتاع لها فساتين عديدة، وزخرف الكورسيه العائد لها بنفسه، بحيث إنهما لمّا كانا يقطعان الشوارع المزدحمة في المدن الأوربية، ظهرا أشبه بزوج وزوجة لائقين. إلا إنه حتى في ذلك الحين، في أثناء الأوقات الطيبة، كان ينبغي له مع ذلك أن يهرب من حينٍ إلى آخر. هو من هذا الصنف من الرجال تحديدًا: الهارب الأبدي. يتصاعد في داخله فجأةً نوعٌ من الرعب، نوبةٌ من القلق الذي لا يُطاق. يبدأ بالتعرّق والاختناق، ويأخذ رزمةً من الأوراق المالية، يقبض على قبعته، وينزل درجات السلّم مُسرِعًا، وفي التو يجد نفسه، بنحو لا يُخطِئ، مُسترخيًا في حانةٍ سيئة السمعة بالقرب من الميناء. يسترخي في هذا المكان، يغدو وجهُه رخوًا، وشعرُه يُصبح مُشوّشًا، والرقعة الصلعاء التي كانت تختفي عادةً تحت خصلات شعره المصقولة إلى الأسفل تبرز بوقاحة كي يراها الجميع. ببراءة وسعادة يجلس ويشرب، ويسمح لنفسه بأن يهيم على وجهه، إلى أن، أخيرًا، تنصب عليه عاهرةٌ مُصرّة بمبلغ كبير.
أولَ مرة وبخته (المرأة الأقبح) على سلوكه، نَخَسها في بطنها، لأنه حتى في هذه الآونة كان يخاف من لمس وجهها.
لم يعد يسرد القصص المتعلّقة بالسفلس أو الخنزير البري في الغابة حين كانا يؤديان عملهما الروتيني. كان قد تلّقى رسالة من أستاذ جامعي في الطب مقيم في ﭬيينا، وفي هذه الأيام أراد أن يُقدّم زوجته بمصطلحات طبية:
“سيداتي وسادتي، هنا لدينا فلتةٌ من فلتات الطبيعة، مُتحوّلةٌ وراثيًا، خطأٌ من أخطاء النشوء، الحلقة المفقودة الحقيقية. نماذج من هذا النوع شديدة الندرة. إن احتمال أن يُولد شخصٌ من هذا الطراز نسبةٌ غاية في الضآلةً مثل احتمال أن يضرب نيزكٌ هذه البقعة بالذات فيما أتكلّم الآن!”
بطبيعة الحال تعوّدا أن يزورا بروفيسور الجامعة مرةً في كلّ حين. في الجامعة كانا يتخذان وضعًا ما كي تؤخذ لهما الصور الفوتوغرافية، هي جالسة وهو واقف خلفها، ويدُه على كتفها.
ذات مرة، فيما كانت (المرأة) تُفحص بدقة، أجرى البروفيسور محادثةً قصيرة مع زوجها.
“إني أتساءل ما إذا هذا التحوّل هو تحوّلٌ وراثي؟” قال الأستاذ الجامعي. “هل فكرتما في إنجاب الأطفال؟ هل أن زوجتك … ؟ هل أنتَ فعلًا …؟”
بعد مدةٍ غير طويلة، ربما بنحو لا صلة له بهذا التبادل الكتوم، أخبرته أنها حامل. ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا أصبح رجلًا منقسمًا إلى قسمين. كان يُريد أن يكون له طفل مثلها تمامًا- عندئذ سيحصلون على مزيد من العقود، وحتى مزيد من الدعوات. إذا ما ازدادت الحاجة سيضمن أسباب رزق طويلة الأمد، حتى إذا تُوفيت زوجته في أثناء ذلك. أغلب الظن سوف يُصبح مشهورًا؟ إلا أنه في ذلك الحين وعلى الفور خطرت بباله الفكرة القائلة إنّ الطفل سيكون مَسخًا، وأنه في الحقيقة يُفضّل أن ينتزعه من بطنها كي يحميه من طبيعتها البشرية المسمومة، المليئة بالعيب على أن يراه وقد حُكِم عليه بحياةٍ كحياتها. ورأى في منامه أحلامًا أنه هو ذلك الطفل في بطنها، حبيسًا هناك، حُكِم عليه أن تُغرم به امرأةٌ كهذه، وأنه من خلال سجنه في داخلها كانت تُغير وجهه شيئًا فشيئًا. أو بخلاف ذلك يحلم أنه خنزير بري في الغابة، يعتدي على فتاة بريئة. يفيق من النوم مُبللًا بالعرق ويُصلّي لها كي تجهض الطفل.
منح بطنُها الشجاعةَ للجمهور، وسهّل عليهم أن يسامحوها على قبحها الهائل. شرعوا يطرحون عليها الأسئلة، وكانت تُجيب عنها بحياء وبطريقة هادئة، غير مُقنعة. وبدأ معارفهم المُقرّبون يعقدون الرهانات على نوع الطفل الذي تحمله في أحشائها وما إذا سيكون صبيًا أم بنتًا. وكانت تتقبّل ذلك كلّه بخنوع كما لو أنها حَمَلٌ وديع.
في الأمسيات كانت تُخيط ثياب الطفل.
“إنكَ تعرف”، تقول، وهي تتوقف لحظةً وتُثبّت عينيها على بقعة بعيدة، “البشر ضُعفاء للغاية، وحيدون للغاية. أحس بالشفقة عليهم لمّا يجلسون هناك قبالتي، يتفرّسون في وجهي. يبدو كما لو أنهم هُم أنفسهم فارغون، كما لو أنه ينبغي لهم أن يُلقوا نظرةً فاحصةً على شيء ما، أن يملأوا أنفسهم بشيء ما. غالبًا ما أفكر أنهم يحسدونني. في الأقل أنا شيءٌ ما. أما هم فمحرومون للغاية من أيّ شيء استثنائي، محرومون للغاية من أيّ خصوصية عائدة لهم وحدهم.
كانت عيناه ترمشان فيما هي تقول ذلك.
وضعت طفلها في أثناء الليل، من دون أيّ ضوضاء، بهدوء، شأنها شأن أيّ حيوان. القابلة أتت فقط كي تقطع الحبل السرّي. أعطاها رزمةً من الأوراق المالية كي يحرص على ألا تنشر القصص في وقت مُبكر جدًا. قلبه يدّق، وأشعل جميع القناديل مرةً واحدة، كي يكون قادرًا على تفحص الوليد عن كثب. كان الطفل رهيبًا، وحتى أسوأ من الأم. وتعين عليه أن يغمض عينيه كي يمنع نفسه من التقيؤ. ولم يُقنع نفسه إلا بعد وقت طويل بأنّ الطفل الوليد هو بنت، كما صرّحت الأم.
إذًا هو ذا ما حدث: دخل المدينة الكئيبة، ﭬيينا، أو ربما برلين. كان الثلج يهطل خفيفًا. فردتا حذائه تدوسان بنحو يُرثى له على كبار الحصى. أحسّ من جديد أنه مُنقسم داخليًا- أنه سعيد، إلا أنه يائس في الوقت ذاته.
شرب وظلّ صاحيًا. رأى أحلام يقظة وشعر بالخوف. ولمّا رجع بعد مضي أيام معدودات، كانت لديه أفكار جاهزة أصلًا حول خط رحلتهما والتزاماتهما الترويجية. كتب إلى الأستاذ الجامعي ورتب من أجل دعوة مصوّر فوتوغرافي، الذي سجّل، بيدين مرتجفتين، وعبر ومضة بعد ومضة من المغنيسيوم، القُبح الهائل لكلتا المخلوقتين.
حالما ينتهي فصل الشتاء، وحالما تزهرُ شجيرة (الفورسيثيا) من الفصيلة الزيتونية، وحالما يجفُ حصى المدن الكبيرة، فكّر. بطرسبورغ، بوخارست، براغ، وارسو، أبعد فأبعد، على طول الطريق نحو نيويورك وبوينس آيريس … حالما تمتدُ السماءُ بإحكام فوق الأرض مثل شراع لازوردي هائل، العالمُ بأسره سيكون مفتونًا بالزوجة والابنة، وسيتهاوى على ركبتيه أمامهما.
في هذه اللحظة تقريبًا قبّلها على وجهها لأول مرة، إذ لم يسبق له أن فعل ذلك. لم يُقبّلها في شفتيها، لا، لا، إنما في جبينها. نظرت إليه بعينين لامعتين، إنسانيتين تقريبًا. ومن ثم عاوده السؤال- السؤال الذي لم يطرحه عليها من قبل: “مَن تكونين؟ مَن تكونين؟ من تكونين؟” ظلّ يكرر السؤال مع نفسه، عاجزًا عن الانتباه إلى مسألة متى شرع يطرح هذا السؤال على الآخرين أيضًا، وحتى على نفسه في المرآة فيما هو يحلقُ ذقنه. بدا كما لو أنه اكتشف سرًا- أنّ الجميع في لباس تنكّر، وأن الوجوه البشرية هي مجرّد أقنعة، الحياة بأسرها كرةٌ زجاج ضخمة، تُستعمَل للزينة، على سبيل المثال. في بعض الأحيان يشطح خياله بثمالة- لأنه لم يسمح لنفسه بهذا النوع من الهُراء حين يصحو- إنه ينزع الأقنعة، وبفرقعة خفيفة للورقة الملصوقة تتكشف … تتكشف عن ماذا؟ لم يكن يعرف. بدأت هذه تزعجه إلى حدّ كبير بحيث إنه لم يكن بمستطاعه أن يكون في منزله معها ومع الطفلة. كان يخاف من مسألة أنه في يوم ما سوف يستسلم لغوايته الشاذة ويبدأ يحاول أن يخدش القبح من على وجهها. أصابعه تنقّبُ في شعرها، باحثةً عن الحافات المخفية، عن أحزمة وأشرطة الصمغ. لذا كان يتسلل إلى الخارج من أجل الشرب، وبعدها يُفكر في خط الرحلة القادم، يصمم الملصقات ويسطّر برقيات جديدة.
إلا أنه في مطلع الربيع أتى وباء الأنفلونزا الإسبانية الرهيب، والاثنتان كلتاهما أُصيبتا بالمرض. رقدتا محمومتين، كلّ واحدة منهما بجانب الأخرى، وباتت أنفاسهما ثقيلة. بين الحين والآخر انطلاقًا من غريزة مذعورة تضمّ الطفلة إليها، وتحاولُ أن تُغذّيها وهي نفسها في حالة هذيان، من دون أن تعرف أنّ الطفلة لم تعد تملك قوةً باقية كي ترضع وكانت تحتضر. ولما ماتت أخيرًا، أخذها ووضعها على حافة الفراش، وبعدها أشعل سيجارة.
في تلك الليلة استعادت (أقبح امرأة في العالَم) وعيها، لمجرد أن تشرع في النحيب والتأوّه بيأس. كان ذلك أكثر مما يستطيع أن يتحمّل- إنه صوت الليل، صوت الظلام، آتٍ مباشرةً من أكثر الفجوات عتمةً. غطى أذنيه، إلى أن أمسك بقبعته وهرب أخيرًا ، إلا أنه لم يذهب بعيدًا. مشى جيئةً وذهابًا تحت نوافذ شقته السكنية حتى الصباح، وبهذه الطريقة ساعدها كي تموت هي بدورها. حصل ذلك بنحو أسرع مما توّقع.
حبسَ نفسَه في حجرة النوم العائدة لهما ونظر إلى الجثتين؛ فجأةً بدتا ثقيلتين، مُرهِقتين، حقيقيتين. تعجب من مسألة كيف بدا فِراش النوم مرتخيًا تحتهما. لم يكن يعرف ماذا يفعل، لذا لم يُخبر أحدًا باستثناء البروفيسور، وصار يشرب مباشرةً من الزجاجة، جلس وراح يُراقب فيما كان الغسقُ يطمس تدريجيًا مَعالِم الهيئتين البشريتين عديمتي الحراك على السرير.
“أنقذهما”، توّسل بنحو غير مترابط ما إن وصل البروفيسور كي يفحص الجثتين بعد الموت.
“هل جُننت؟ هما في عِداد الأموات”، قال الرجل بسرعة وحِدّة.
بعدها سلّمه البروفيسور قصاصة ورق ووقع عليها الأرمل بيده اليمنى، آخذا المال بيده اليسرى.
غير أنه في اليوم نفسه، قبل أن يغيب عن الأنظار في الميناء، ساعد البروفيسور كي ينقل الجثمانين بواسطة عربة إلى عيادة الجامعة، وبعد ذلك مباشرةً حُنّطا سرًا.
على مدى زمن طويل، نحو عشرين عامًا، ظلت الجثتان في السرداب البارد للمبنى، إلى أن حلّ وقتٌ أفضل ومضتا كي تلتحقا بالمجموعة الرئيسة، بما فيها الجماجم اليهودية والسلاﭬية، طفلان رضيعان مقطوعا الرأس، وتوائم ملتصقون من كلّ عِرق ولون. لا يزال يُمكن رؤيتهما اليوم في مخازن المتحف الفيدرالي لعِلم الأمراض -علم التشريح- أٌم وبنت بعيون خالية من التعبير، مُجمدتان بلا حراك في وضع مبجل بشكل نموذجي، على غرار بقايا نوع بيولوجي جديد، فاشل.