سمارة القوّتلي
“يا شام يا لطف الحجر”
كلام سوريّ قديم
…لا يعلم العصفور خدعة عن الحرب
يعلم أن المعركة تمرّ رائعة على الأبطال إذا ما هيأوا أنفسهم للنسيان
إذا ما انشغلوا بنايات أعناقهم الحزينة
يعلم العصفور كثيراً عن الوتر المأساويّ
يتهادى مثلا من الشبابيك المفتوحةِ على الحبّ والغفران
بينما لا يعرف العصفور أن الجبناء صلبوا تراتيل الحبّ على عري صدري لأنه عذبهم
تعذبهم امرأة تتوهّج أمام الموت ولا تتألّم
تصطكّ أسنانها وليس في فمها شطر شعرٍ لم يكتمل
أحبّ أن أموت شفافة
كأن أنهمر شِعراً
كأن أسقي عظام الخالدين في مشهد دافئ
ليورِق القمر كقلب أخي
يناجي مثلي يا رب أنت الذي تنتشلنا قطعةً قطعة
أيّ طريق ننبش لتحجّ إليك ذنوبُنا الصغيرة
ولا حجراً مقدّساً يقبل الوافدين من مدن الموتى
أولادي الكبار طرحوا أرواحهم بصمت وانكسروا
كسروهم قبل أن أحضنهم جميعاً وأحفر أسماءهم على جدران الكعبة
كسروني أنا
أولادي الصّغار كسروهم.. كسروهم أشلاء قبل أن توزع العصافير نوتة الجمال
قبل أن يتلمّظ أخي آخر برتقالة في الثلاجة
السّحب صفراء الليلة
مات أخي بقذيفة في الرأس
إحداهنّ في العالم الرقميّ تؤكد
أخاك أخاك/ من لا أخاً له كساعٍ إلى الهيجاء دون سلاح
أتذكر امرأة خمسينيّة تتحدّى المطلق بأغنية الزفاف
تتطاير خصلات شعرها فوق النعش
مرعبة تصرفات النساء أول الصدمة؛
قبل عامين خبّأتُ أذناً في جيبي
عبّأتُها سراً في إحدى وسادات المستشفى
لم أكن أشعر بالرعشة كما أشعر في النَصّ
كنت أُجنّ بكل قطعة مرصوفة في أجساد الرجال
أكتافهم.. رائحة آباطهم.. عروقهم الخشنة
الأذن الطريّة التي أكاد أبلعها وأخاف أن تسيل في جيبي
كانت حلوة كالزبيب لو دعتني لأسقط بين ركبتيها لامتثلتُ حتى آخر الاعتذار
لا ثورات دون حب
دون نشيد يعشقه العالَم حدّ الجنون
موطني..
رجُلي الذي يشبه تجاعيد يديك
كان عندما تصوَّب نحوه رصاصة تكبر روحه
يفتح صدره عاريًا يواجه المجنحات
رجلي النبيل يغني مثلي منطوياً في العالم الأكبر
يركل الأرض بقدميه
يركض حتى مقابض الأحزمة
يرى نفسه محمولا على أكتاف المشاة
يخوض الحرب بحبّ
يخوضها مسرورًا يراقص الطلقات
المقاتل علّمني أن الأغنية داخل القناطر لا تهزم أبداً
أنني مع مرور الوقت سأعلَم أن الأمان في الجموع
البطل من يناجيها عن سرّ خوفه
رجُلي المقاتل يقول إن الخوف ليس أكثر من كلمات مصنوعة من كسل الروح
صرّارٌ كالحكمة يهمس أن البرد قارس
يقول للنملة زمّليني لكي أتمّ النشيد
مخترقًا كل هذا الخوف الآمن
مهوّناً رصاص البراري
خمسون شهرًا وأنفاس هذا الجندب تنداح في كل ما أكتب!
يشعرني بروح فتاة سحروها في صدري
قوية لا تخاف
تتشبّب بعيون الجن
فتاة بعين واحدة وعصيٍّ ثلاث
شيطانها كالشعلة يتشقق ويتشكل من جديد
رقيق القلب
يعشق مشاعر الشباب المتآكلة
يعشق الفراغات في قلوبهم
روح امرأة مسعورة تمسكني من نحري!
تستعملني
تقبل أفلامي المرعبة
ترى في المنام هياكل أولادي.
تحدّق مثلي برجل عاشق
يفترش حفراً في الغابات
رائحته كالثلج
يعزف لكارمينا بورانا وجراحه لم تندمل
يرفع رايات الحب على عرش امرأة تحبه
واضحة في الأخيلة وضوح الشمس
تدلّي شعرها على الرخام
تقترب من صرار الليل لتأخذ قبلة
تصيّرها أكثر إغراء
يلدغها فيتعرق
تسقط دمعته
يعلّقها تحت قدمي
يمتلكني
يمتلك ناصية القصيدة بعد هذه السنين!
يعبّئ فيّ الفراغات
يرمقني من تحت اللثام
يلعق جرحي المختوم
يأكلني دون أن أشعر
يضاجعني في خيالاته المحمومة
ينسى مسالك الرجال
ينسى أنه منهم
ينساني أنا
ينسى المرأة البعيدة التي يحبّها
يلتصق بصدر شجرة
يقبل شيطانة
يناشد صرامته القصوى..
يرميني بعيداً
يرمي الفتاة التي ينزّ فراشها على فوهة البندقية
ينساني
أنا المملوءة بألف فراغ
ما كنت لأتشكل
لو أن أحدهم دعاني لأسدّ الخندق في ثغره
رجلي المقاتل
يعود إلى الجنود هكذا
مستسلماً عذباً..
تعصف به المراثي الحزينة والقرابين
يا إلهي كم بكى والمرأة المسحورة في صدري لم تستسلم
وهبني مسدّساً خرافيّاً قبل أن أغلق الباب
لأطلِق رصاصة الرحمة إذا راودني
لم يراودني ولكنّ قطعة الموسيقا اغتصبت ذلك الصباح
لم تصوَّب طلقة واحدة لتغسل عارها
مجرى الهواء اجتُثّ من قلب الرئتين
اطمئني يا معارك العسكر
القطعة المقدسة في جسدي بخير!
ماذا يعني أن الخراب غطّى الجموع
سوى أنّ الطفلة الصغيرة مسجونة بين فخذَيّ
آه يا مطر
ارحمهم يا مطر
اسقيني يا حٌبّ الحب
عانقني بأكاسيرك
أغرقني
حرام والله حرام
حرام أنك لم تعشّش طويلًا في قلوب الرجال
ّلم تمسّد خيط فتاة مشتهاة ترتل النشيد
يحتاج العازف إلى نفَس طويل
يحتاج إلى كورال رائع يهيّئ مقام دمشق
أيها الحب السلطان .. رحلت وبقي الأحياء منا يبحثون عن أي رائحة غسلتَ بها زبدك!
أي امرأة تراقص الأشلاء في الممرّات
ترمّم الجرحى وتزرعهم في البراري
أقسم لك يا حب
كل يوم أمشي إلى بداية الزمن
هكذا وحدي
دون رجال
لا يحضر صرّار واحد ليمسح دمعاتي
أسقي الموتى في الأحلام
أصل إلى الفراش مهدودة
أنثى مطروحة على سرير
أناشد الله
فظييع ما يجري
كونك كله يحنّ إلى العود الأبديّ
أناشد الحب.. أيا سلطاني
اكفني شباك القسوة
اقفز نحو السماء
أغني..أغني بكل طاقتي
يا الله
ما لنا غيرك يا الله
يا الله .. يا لطفك بسبّابات الرجال المتعبين يا الله
ألهم أحدهم أن يرسم علمًا لاستقلال الحب
أرسِ علامة النشيد
اغسل الموسيقا من الكبريت
قبل أن يُشطب ذلك الحسّ الجميل من السجلات إلى يوم الحشر
يا الله .. مالنا غيرك يا الله
أحلّفك بانتظار العصافير
بظلال الشجر
دع الموسيقا تعيش
دع الحب يعيش
بائسون كلنا
يائسون كلنا
لا يتوقف النزيف بينما يعود الثوار إلى ظلالهم
ما لنا غيرك يا الله
يا لطفك بأباهِم الرجال المتعبين يا الله
“ياشام يا لطف الحجر”
أيّ ثورات دون حبّ؟
أي ربيع دون الندى الرطب بين النهدَين
دون رجال تنام النحلات على بطونهم
قلوبهم ملاجئ
تنهار لتنشد للآخرين
أحيانا يتهيأ لي أن النسيان ثقيل جداَ
هل أنا الوحيدة التي حولتُ مفهوم الخسارات إلى شيء عابر؟
يبكيني ظفْرٌ مكسور!
هل أنا الوحيدة التي علمتُ الدوري خدعة الحرب
علمته أن ينتصر للحبّ قبل وقوعه
ثمّ يبكي زمن حدوث الشيء وينساه
الحزن شغل لا يجب أن يؤجل للغد أبداً
المعركة تمرّ رائعة إذا ما هيأوا أنفسهم للنسيان
يقبض أكثرهم على الموت في لحظة حب
تتذكرها جميع النساء عندما يلجأ إليهنّ الدوري ليعرف عن الحرب خدعة
مالي غيرك يا الله
مالي غيرك
دعه يعانقني في الوهم
دع الدواري تلملم تحت ألسنتها دماء أولادي
رجالي الذين ماتوا قبل أن أعشقهم
ثوراتي التي تنشر جدواها على حبل الغسيل
أطيافي
برتقالاتي
حشراتي المجنحة
خساراتي الضّاجّة بين قبابي
عصافير شرّي التي جانبها الشاعر الملعون
تجرني لأعاركها ككلبة مسعورة
تشوهني في رأس العناوين:
صبيّة عاشقة تذبح العصافير وتجامعها
يا ما وياما غيّرت شرفتي لأضلّلها
طمرتُ القمح لأنسى خرافة القتيل الذي يسكن الحمَامة
كل ليلة أسأل ترى كيف ينام الذين ليس لهم أشِقّاء على الأعراف
أكيد أن وجوههم هي التي تنعكس على الزجاج
حرفياً لا أرى إلا الوجوه التي ترسلها السماء في إطار العندليب
ترفد يومي الطويل بألف وافد
هناك من يرسم آذانهم على شباك بيتي
يطبع سبّابته وإبهامه على كل الأبواب
يدبّ الرعب كالنمل
يحمل برتقالاتي
يصنع لي قلباً من البرتقال
لكي لا يرى رجل واحدٌ في عالم البرزخ
أنني بعد رحيله بكيت
أن قلوب البرتقال لم تنسني أبداً أن أتصور
كيف لشكل الحياة دون رائحة الموت أن تكون؟
لأولئك الذين يأكلونني وأنا أقشر البرتقال
الذين لم تأت الأمهات بمثلهم
لم أتزوج لأنجبهم بعد
تركوني
تركوا فَقدي المستعصي في الحنجرة
أشتهيه من قلب رقادهم
يا خيبة قلبي
لماذا كل هذه الخسارات في الدنيا؟
نبقى لأجل تلك الروح التي تملأنا ولا نعانقها
عانقني في الوهم
تلطف
تلطف بأهل البرتقال
أهل البرتقال مساكين! مساكين جداً
يا الله مالنا غيرك يا الله
كل ليلة أسأل ترى كيف ينام الذين ليس لهم أشِقّاء على الأعراف