إِلَىْ جِبَالِ القَلَمونِ الّتِي عِشْتُ فِيهَا أَجْمَلَ سَنَوَاتِ عُمْرِيْ وأَصْعَبَهَا…
فهر الشّامي
1
نَنْبُتُ فِي السَّمَاءِ
عَلَى مَقرُبَةٍ مِنَ الله..
الصَّخْرُ المنْغَرِزُ فِي الأَكُفِّ
الغَائِرُ حَتَّى الشَّبَعِ
يُغَادِرُ سَرْمَدَهُ الصَّامِتَ
يَبدَأُ رَقْصَتَهُ الجَبَلِيَّةَ
النُّوتَاتُ الذَّهَبِيَّةُ لَهُ وَحْدَهُ
يَرفَعُ قُبَّعَتَهُ وَيَرمِيهَا..
هَزِيمُ الرِّيحِ يَخْرُجُ مِنَ الأَورَاقِ
الرّعْدُ يُزَمجِرُ عَلَى العَتَبَاتِ
المَطَرُ يُوقِظُ النَّائِمِينَ
كُلٌّ يَأخُذُ حِصَّتَهُ مِنَ الأَمطَارِ الفِضِّيَّةِ
الجِرَارُ لَمْ تَمتَلِئْ بَعْدُ بِلُغَتِهَا
مَنْ يَشهَدُ أَنَّ الشّمسَ لَمْ تُسْرَقْ سَاعَةَ المَغِيبِ؟
الرَّبِيعُ القَادِمُ سَيَأْتِي بِالسّنُونُواتِ
هَلْ تَعلَمُونَ أَنَّهَا أَكثَرُ الطُّيورِ مَرَحاً؟
لَكِنْ حَتَّى المَعَاطِفُ لَمْ تَعُدْ تَتَّسِعُ لِعُصفُورٍ
سَنَخْرُجُ إِذَنْ مِنْ أَمسِنَا
سَنَنتَظِرُ شَمسَ تَمُّوزَ
الطَّرِيقُ لَيسَتْ طَويلَةً أَيُّهَا البَائِسُونَ
مَعَنَا كُلُّ مَا يَلزَمُ لِشَقِّهَا وَنَحْتِهَا
بَقَايَا التُّرَابِ العَالِقِ عَلَى الجَسَدِ
يَسْتَحِيْلُ جِلْداً ثَانياً
خَشِناً مِثلَ جِلدِ التِّمسَاحِ
لِمُقَاتِلٍ عَنيدٍ يَرْفَعُ رَايَةَ وَجَعِهِ
يَقْتَحِمُ مَا تَبَقَّى مِنَ الليَالِي
بِيَدِهِ صُورَةٌ نَدِيَّةٌ نَقَشَهَا مُنذُ أَيَّامٍ
نَحْنُ نُغَنِّي اليَومَ
شَوْكُ الأَقدَامِ المتْعَبَةِ
يُصِرُّ عَلَى أُغنِيَاتِهِ الصَّاخِبَةِ
إِنَّهَا ضَوضَاؤُهُ الّتِي تَعَوّدَ عَلَيْهَا
يَسْتَعِيدُهَا بَعْدَ كُلِّ مَعْرَكَةٍ
الجُدْجُدُ الّذِي يَصْفِرُ قُربَنَا
جِزْءٌ صَمِيْمِيٌّ مِنَ الكُورَالِ اليَومِيِّ
يُقِيمُ حَفَلَاتِ البَهجَةِ لِلجَمِيعِ
وَلَا يَلتَفِتُ إِلَى أَحَدٍ
تَحتَاجُ الموسِيقَى
تَحتَاجُ الرَّقْصَ حَتَّى تَلتَهِبَ الوُجُوهُ
تَحتَاجُ إِطْلَاقَ النَّارِ فِي السَّمَاءِ
تَحتَاجُ حُلُماً مُتْعِباً
احْتِفَالاتُ الفَرَحِ القَادِمَة
يُحَدِّثُونَ عَنِ القَمَرِ الّذِي حَبَسْتُهُ فِي الغُرفَةِ القِصَصَ الكَثِيرَةَ
لَيسَ النُّورُ فَقَطْ مَا يَرِيدُهُ لِيَكُونَ قَمَراً
يَحتَاجُ الحُبَّ لِيَكُونَ مَا يُرِيدُ
وَعَينينِ عَاشِقَتَينِ
وَقَصِيدَةَ حُبٍّ وَاحِدَةٍ
غُبَارُ الأَشْجَارِ الّذِي يَزكُمُ الأُنُوفَ
اقْتِرَاحٌ لِفَضَاءَاتٍ جَدِيدَةٍ..
: هَذَا الغُبَارُ الّذِي يَأخُذُنَا مِنْ حَنِينِنَا،
لَا بُدَّ يَستَعِيدُ آَخِرَ الذِّكْرَيَاتِ وَهوَ يَركَبُ مَتْنَ الرّيحِ المُهَاجِرَةِ..
سَنَعْبُرُ البِحَارَ الزَّرقَاءَ يَوماً مَا
نَبْحَثُ عَنْ مَرَاكِبِنَا الضَّائِعَةِ
وَنَرْسُمُ مَرَافِئَ جَدِيدَةً
وَنَصْنَعُ قَوَارِبَ وَرَقٍ بَيْضَاءَ
نَكتُبُ عَلَيهَا أَسمَاءَنَا
2
السَّيَّارَاتُ الجَبَلِيَّةُ لَا يُصِيبُهَا التَّعَبُ
وَأَيضاً مُقَاتِلُو الجِبَالِ لَا يُصَابُونَ بِهِ..
المُرَابِطُونَ لِاسْتِرْدَادِ المَطَرِ
يَقِفُونَ فِي وَجْهِ السَّحَابِ
يَغرِفُونَ مِنْهُ حَجْمَ أُمنِيَاتِهِمْ
وَيَثُورونَ حَتّى الرَّمَقِ الأَخِيرِ
3
الأَحذِيَةُ أَسرَعُ مَا يُوقَدُ فِي الجِبَالِ
فَقَطْ تُشْعَلُ بِعُودِ ثِقَابٍ وَاحِدٍ
لَكنْ عَليكُمْ أَنْ تَحتَمِلُوا راَئِحَتَهَا المزْعِجَةَ
لَا تُعَانِدُوا التَّارِيخَ الأَعمَى
وَسَجِّلوا مَا تُرِيدُونَ وَمَا تَشْهَدُونَ
الأَرْجُلَ الصَّدِئَةَ
الأَحذِيَةَ المهْتَرِئَةَ
شُقُوقَ الأَقدَامِ العَصِيَّةِ
الجُرُوحَ العَفِنَةَ المنْتِنَةَ
الدَّمَ المتَخَثِّرَ فِي الجَسَدِ التَّالِفِ
الطِّينَ الملتَصِقَ عَلَى الجُلُودِ الخَشِنَةِ
ضَحِكَاتِنَا المرسُومَةَ عَلَى الجُدرَانِ القَدِيمَةِ
لَوحَاتِنَا الملوَّنَةَ بِالأَبيَضِ وَالأَسْوَدِ فَقَطْ
هَمَسَاتِنَا المخْتَبِئَةَ في ثَنَايَا الوِديَانِ
بَينَ الشِّعَابِ العَمِيقَةِ
عَلَى القِمَمِ العَالِيَةِ
الرَّاكِضَةَ عَلَى الحُرُوفِ الصَّخْرِيَّةِ المُخِيفَةِ
4
فِي الجِبَالِ الكَسْتَنَائِيَّةِ
الزَّهْرُ البَرِّيُّ يَطْلُعُ مَعَ أَروَاحِنَا..
كَلِمَاتُنَا المصْلُوبَةُ عَلَى جُذُوعِ الأَشْجَارِ
تُحَلِّقُ إِلَى مَلَكُوتِهَا
تُخْبِرُ عَنْ وُجُوهِنَا الحَمْرَاءِ الهِسْتِيرِيَّةِ..
تَرنِيمَاتُنَا فِي وَجْهِ الرِّيحِ
تَفْضَحُ صَلَوَاتِنَا كُلَّ صَبَاحٍ
بَرْدَ أَجسَادِنَا النَّحِيفَةِ
العُرُوقَ التِي تُخْرِجُ زُرْقَتَهَا كُلَّ يَومٍ
بُقَعَ الثَّلْجِ البَاقِيَةِ عَلَى الرُّؤُوسِ مِنْ شِتَاءٍ فَائِتٍ
الثِّيَابَ المُرَقَّعَةَ المُمَزَّقَةَ
قُلتُ لَكُمْ: مَا زِلنَا نَحْلُمُ
تَنمو هُنَا بَينَ الصُّخُورِ
أَحْلَامُنَا الّتِي رَسَمْنَاهَا فِي مُخَيِّلَاتِنَا العَجَائِبِيَّةِ
أَشْعَارُنَا الّتِي التَقَطْنَاهَا مِنَ البِحَارِ وَالجِبَالِ وَالفَيَافِي
أُمْسِيَاتُنا الّتِي بَنَيْنَاهَا مِنْ قِطَعِ الليلِ وَالنَّهَارِ
5
يَحْدُثُ أَنْ يَسْأَلَنِي أَحَدُهُمْ عَمَا زَرَعْتُ أَوَّلَ الرَّبِيعِ، قَرِيباً مِنْ جِبَالِ اللهِ
الذِي زَرَعْتُهُ عِنْدَ شَجَرَةِ البَرْقُوقِ حُلُمُ حُرّيّةٍ
وَأَيضاً زَرَعْتُ الكَثيرَ مِنْ (نَصْبِ) الكَرَزِ واللوزِ وَالمَحْلَبِ
وَعَمِلْتُ مُدَرَّجاً جَبَلِيّاً صَغِيراً أَجمَلَ مِنْ (تُرَّاسَاتِ) قَاسَيونَ
وَبَنَيتُ سُوراً حَجَرِيّاً أَجمَلَ مِنْ أَحجَارِ دِمَشْقَ
وَتَنَسَّمْتُ هَوَاءً عَلِيلاً أَنْقَى مِمَّا فِي الغُوطَةِ
وَرَكَضْتُ بَيْنَ الصُّخُورِ بِفَرَحٍ أَنَا وَصِغِيرَيَّ
وَرَسَمْتُ طَرِيقاً أَجمَلَ مِنْ كُلِّ مَا رَأَيتُ فِي حَيَاتِي
هَذِهِ الصُّخُورُ تُشبِهُنِي
التُّرَابُ كَائِنٌ يَتَّحِدُ بِي
أَرَاهَا بِعَيْنَي صَبَاحٍ
تِلْكَ الأُغْنِياتُ المَنثُورَةُ فِي الجِبَالِ وَالوِديَانِ
وَأَيْضا أُسْأَلُ عَنِ الأَهَازِيجِ الجَبَلِيَّةِ القَلمونِيَّةِ:
الأُهزوجَاتُ التِي سَمِعتُهَا كَثيرَةٌ،
لَكِنِّي لَا أَستَطِيعُ غِنَاءَ أَيّ وَاحِدةٍ مِنْها…
ثَمَّةَ هَاتِفٌ يَقولُ لِي: لَكِنَّكَ عِشتَهَا كُلَّهَا
لِمَنْ يَحْلُمُ بِأُهزُوجَةٍ قَلَمُونِيَّةٍ فِي حَفْلٍ كَبيرٍ،
عَلَيهِ أَنْ يَمْشِي الدُّرُوبَ التِي اخْتَطَّتْهَا أَقْدَامُ النَّاسِ هُنَا،
وَهُمْ يُغَامِرُونَ لِأَجْلِ رَغِيفٍ أَبْيَضَ.
6
يَستَحِقُّ الحُلُمُ كُلَّ هَذا المَوتِ
الحِرَابَ المغرُوسَةَ فِي الصُّخُورِ القَدِيمَةِ
رُؤُوسَ السِّهَامِ البَاقِيَةِ فِي الجُذُوعِ
الكَثِيرَ مِنَ الشَّظَايَا القَبِيحَةِ
وَأَسَاطِيرَ نَهَارَاتِنَا
7
الجِبَالُ المزْرُوعَةُ بالرِّيحِ
لَا تُحْدِثُ صَخَباً لِأَشجَارِ اللزَّابِ..
العَجُوزُ الثَّمَانِينِيُّ لَا يَتَكَلَّمُ عَنْ عُرْسِ الجَبَلِيينَ كَيفَ يَكْونُ،
وَلَا عَنْ صَهِيلِ الأَحصِنَةِ القَادِمَةِ مِنْ بَعِيدٍ..
: نَحنُ لَا نَسْتَطِيعُ إِلَا العَيْشَ مَعَ الوُحُوشِ
تِلكَ الذِّئَابُ الّتِي فِي الجِبَالِ
لَقَدْ أَلِفَتْنَا وَأَلِفْنَاهَا
وَنَرْقُصُ مَعاً حَتَّى الانْهَاكِ
القَلَمُونِيَّاتُ يَستَيْقِظْنَ فِي الرَّبِيعِ
وَيحتَفِيْنَ بِالأَثْوَابِ البَيْضَاءِ آَخِرَ الخَرِيفِ
حُورِيَّاتُ الجِبَالِ أَجْمَلُ مِنْ حُورِيَّاتِ البَحْرِ
كُلُّ يَومٍ يَتَزَيَّنَّ لِلرِيحِ وَالأَمطَارِ
يَتَّكِئْنَ عَلَى الصُّخُورِ
وَيُحَدِّثْنَ الأَنْسَامَ كُلَّ صَبَاحٍ بِأَحْلَامِ لَيَالِيهِنَّ
وَيُقَدِّمْنَ أُغْنِيَاتِهِنَّ قَرَابِينَ لِلْحُبِّ وَالحُرِّيَّةِ..
حَتَّى الجَبَلِيَّةُ تَضَعُ البُندُقِيَّةَ عَلَى كَتِفِهَا
وَتُغَنِّي لِلحُرِّيَّةِ بِشَجَاعَةٍ
وَتَرقُصُ رَقْصَةَ الذِّئَابِ
8
((دَفْتَرُ جَبَلِيٍّ ))
ــ الجَبَلِيُّ لَهُ عَينَا نَسْرٍ وَقَلْبَ نِمرٍ وَعَقْلَ طِفْلٍ صَغِيرٍ
لَعَلَّ العِنَادَ الّذِي يَشتَهِرُ بِهِ إِنَّمَا للطِّفْلِ الّذِي يَسْكُنُهُ وَيَرفُضُ المُغَادَرَةَ بِأَيِّ ثَمَنٍ..
ــ إِذَا آمَنَ الجَبَلِيُّ بِمَبدَأٍ فَإِنَّهُ يَمُوتُ دُونَهُ…
ــ مُنذُ سِنِينَ طَويلَةٍ وَهُوَ يَنْحَتُ الطُّرُقَ الجَبَلِيَّةَ بِأَظَافِرِ وَجَعِهِ..
ــ لَنْ أَتَنَازَلَ عَنْ عَادَاتِي، وَسَأَبقَى مُرَابِطاً عَلَى ضِفَافِ الفَجْرِ
9
أَخِيراً يُوَشّيهَا بِآَخِرِ الآَهَاتِ قَبْلَ الرّحِيلِ
تَارِكاً حَفنَةَ تُرَابٍ نَدِيّةٍ فِي يَدِهِ
وَعَلَماً يُرَفرِفُ فَوقَ ظَهرِهِ
العَينَانِ تَصطَدِمَانِ بِنَظَرَاتٍ حَنُونَةٍ
تَقتَحِمُ مَوتَهُ الأَوَّلَ وَالأَخِيرَ
تُفَارِقَانِهِ كَغَمَامَةٍ مُسْرِعَةٍ
يَمْضِي بِدَمِهِ وَاقِفاً عِندَ العَقَبَةِ
10
الذي يُنشِدُ قَصِيدَتَهُ فِي الأَودِيَةِ المقَدَّسَةِ
عَلَى مِنْبَرٍ صَخرِيٍّ..
أَمَامَهُ مَدَى الرِّيَاحِ الرَّحْبِ
صَدَى الأَودِيَةِ المُسَافِر
11
كَتَبَهَا عَلَى عَجَلٍ
ذَلِكَ القَلَمُونِيُّ الفَظُّ الذِي كُنْتُ أَظُنُّهُ
: لِأَقْطِفَ كَرَزَ شِفَاهِكِ
خِلسَةً عَنْ أَعيُنِ الجِبَالِ المَهِيبَةِ
بَعيداَ عَنِ الذِّئَابِ الرَّمَادِيَّةِ
أُعطِي النَّايَ أَنغاماً كَثيرَةً
يُرسِلُهَا فِي الأَودِيَةِ وَالسُّهُولِ..
أَمْلَأُ الدِّنَانَ بِالمَاءِ النَّازِلِ مِنَ الوَشْلِ،
سَأَبْعَثُ لَكَ بِدَنٍّ تَلَوتُ عَلَيْهِ آيَاتٍ كَثِيرَةً
وَبَعْضَ قَصَائِدِ الغَزَلِ
فَقَطْ اغْسِلِيْ عُيُونَكِ بِالمَاءِ البَارِدِ
وَاستَيْقِظِي لِيْ
وغَنِّيْ
هَذَا الليلُ صَقِيعٌ
يَصْلُحُ لِلجُلُوسِ قُرْبَكِ،
لَنْ أَتَرَدَّدَ بَعْدَ اليَومِ فِي إِجَازَتِي
سَآَتِيكِ عِنْدَ الفَجْرِ
وَبَاقَةُ الوُرودِ البَرِّيَّةِ تَعْبُقُ بَيْنَ يَدَيْ
12
التَقَطَ أَلْفَ صُورَةٍ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ وَرَاءَ الشَّمْسِ
: الجَسَدُ قِبلَةُ الرِّيَاحِ
الأَمْطَارُ الهَاطِلَةُ مِنَ العُيُونِ
لَنْ تَجِدَ أَجْمَلَ مِنكَ
بَينَ الزُّهُورِ البَرِّيَّةِ تَفُوحُ الأَنْفَاسُ الأَخِيرَةُ،
ثَمِلَةٌ حَتّى آَخِرِ قَطْرَةِ حَمرَاءَ..
عِنْدَ الأَقْدَامِ تَغْرُبُ الشَّمسُ بِخَجَلٍ
الكَلِمَاتُ قَافِلَةٌ بَاذِخَةٌ
لِمُسَافِرٍ مَا زَالَ عَاشِقاً حُرِّيَّتَهُ
13
يُحْكَى أَنَّ رَاعِياً جَبَلِيّاً سُرِقَتْ مِنْهُ عَبَاءَتُهُ، فَطَلَبَ مِنْ أَقْرَانِهِ عَبَاءَةً تَقِيهِ المَطَرَ الّذِي رَاحَتِ السَّمَاءُ تُرْسِلُهُ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً، وَتُجَنِّبُهُ البَرْدَ الّذِي بَدَأَ يَنْخُرُ العِظَامَ، فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ مَا طَلَبَ، فَحَلَفَ بِالأَيْمَانِ الغَلِيظَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ عَبَاءَةً فَخْمَةً، وَأَنْ يُشْعِلَ الحَطَبَ فِي حَرِّ تَمُّوزَ القَادِم، ثُمَّ يَجْلِسُ قُرْبَهَا وَهُوَ يَتَدَثَّرُ بِعَبَاءَتِهِ الجَدِيدَةِ أَمَامَ أَهْلِ قَرْيَتِهِ انْتِقَاماً مِنْ أَقرَانِهِ، وَهُوَ مَا كَانَ فِي الصَّيفِ التَّالِي..
14
لَيْسَتِ النَّارُ الّتِي تَحرِقُ وَإنَّمَا الآَثَامُ وَالخَطَايَا،
يَقُولُ شَيخٌ طَاعِنٌ فِي السِّنِّ، وَهُوَ يُمْسِكُ جَمْرَةً كَبيرَةً بِيَدِهِ،
ثُمَّ لَا يُصِيبُهُ أَذَى لَهَبِهَا!
تَحْتَ الرَّمَادِ يَحتَفِظُ الجَمْرُ بِغَضَبِهِ
النَّارُ الّتِي تَلتَهِمُ الحَيَاةَ خَارِجَ الكُوخِ
بِاسْتِطَاعَتِهَا أَنْ تَنْتَظِرَ قَليلاً
رَيثَمَا نَنْتَهِي مِنْ كِتَابَةِ رَسَائِلِنَا الأَخِيرَةِ لِلْمَطَرِ..
بِاسْتِثْنَاءِ الحُرُوقِ الّتِي أُصِبْنَا بِهَا
الضَّحِكَاتُ مَلَأَتِ الوِدْيَانَ فَرَحاً
15
عَليهِ أَنْ يَجْلِسَ خَارِجَ الكُوخِ الخَشَبِيِّ
هَذَا العَاشِقُ القَلَمونيُّ!
لِأَلسِنَةِ نِيرَاننَا شَوقُهَا الّذِي يَعلُو الوُجُوهَ
سَأَقُولُ لَكُمْ اليومَ
:العُشَّاقُ الجَبَلِيُّونَ يَحتَرِقُونَ حُبّاً
إِنَّهُمْ لَيسُوا قَسَاةَ القُلوبِ
بَلْ يَذُوبونَ وَجداً
وَيُقَاتِلونَ بِشَرَاسَةٍ
أَمَامَ المَوقِدِ الحَجَرِيِّ
نَرصُدُ تَفَاصِيلَنَا اليَومِيَّةَ المحتَرِقَةَ..
لَا مَكَانَ نَذْهَبُ إِليهِ لِنُقَدِّمَ قَرَابِينَ عِشْقِنَا
فَقَطْ هُنَا يَبُوحُ لَنَا الزَّمَنُ بِكُلِّ شَيءٍ
وَنَبُوحُ لَهُ بِمَا نُحِبُّ
غَنَّيْتُ قَصَائِدِي أَمَامَ حَبِيبَتِي القَلَمُونِيَّةِ مَرَّةً وَاحِدَةً!
16
عَصَرَ يَدِي بَقَبْضَتِهِ الثَّمَانِينِيَّةِ:
حِينَ تُقَاتِلُ لَا تَنْسَى جُعْبَةَ الأَحْلَامِ
مِنْ دُونِهَا لَنْ تُحْرِزَ حَيَاةً
وَلَا حَتَّى أُهْزُوجَةً جَبَلِيَّةً وَاحِدَةً
نَحنُ هُنَا وُلِدْنَا مَعَ الجِبَالِ
نَعِيشُ مَعاً وَنَمُوتُ مَعاً
اعتَنِ بِحُلُمِكَ مِثلَمَا يَعتَنِي الرَّاعِي بِشِيَاهِهِ
الأَحْلَامُ لَا تُبَاعُ وَلَا تُشتَرَى
إِنَّمَا تُقتَنَصُ فِي الليَالِي
بِقَوسٍ وَنِشَابٍ وَهِمَّةٍ عَالِيَةٍ..
هَكَذَا قَالَ جَدِّي مَرَّةً
17
يَقُولُ وَالِدِي: الأَحْلَامُ مِثْلُ الأَجْنِحَةِ..
مُنذُ ذَلكَ اليومِ وَأَنَا أُحَلِّقُ بِقَصَائِدِي فِي كُلِّ مَكَانٍ
ـــ القَصِيدَةُ مِثْلُ النَّارِ فِي هَذَا المَوقِدِ،
كَلَّمَا اضْطَرَمَتْ وَزَادَ أُوَارُهَا كُلَّمَا كَانَتْ عَظِيمَةً.
وَكَذَلِكَ القَصِيدَةُ العَالِيَةُ
ـــ وَأَنْتَ تَكْتُبُ الشِّعْرَ لَا تَستَأْذِنْ أَحَداً، فَقَطْ قَلَمَكَ وَحُرُوفَكَ وَخَيَالَكَ الجَّامِحَ.
تَقُولُ أُسطُورَةٌ جَبَلِيَّةٌ
: إِنَّ الكَلامَ كَانَ مَمْلُوءًا فِي جِرَار كَبيرَةٍ أَعَالِي الجِبَالِ، فَوقَ القِمَمِ العَالِيَةِ، ثُمَّ حَدَثَ زِلزَالٌ فَانْكَسَرَتْ كُلُّ الجِرَارِ وَتَنَاثَرَ الكَلَامُ فَوقَ القِمَمِ الرَّمَادِيَّةِ وَالبَيضَاءِ وَالحَمرَاءِ، وَرَاحَتِ الرِّيحُ تَذرُوهُ فِي السُّهُولِ وَالوِدْيَانِ وَالبَرَارِي، إِلّا جَرَّةً وَاحِدَةً بَقِيَتْ لَمْ يَكْسِرْهَا الزِلزَالُ كَانَتْ مَمْلوءَةً شِعراً، وَرَاحَ النَّاسُ يَتَنَافَسُونَ عَلَى هَذهِ الجَّرَّةِ، وَلَمْ يَنَلْ مِمَّا فِيهَا إِلّا قِلَّةٌ سُمُّوا بِالشُّعَرَاءِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَالَ مِنْ حَظِّ الشِّعْرِ وَمِنَ المَجْدِ بَمَا نَهَلَ مِنَ الجَرَّةِ.
المَدِينَةُ الّتِي حَمَلتُهَا مَعِي
تَسَاقَطَتْ فِي الطُّرُقِ الجَبَلِيّةِ الّتِي مَشَيتُهَا
وَالبَاقِي مِنهَا نَثَرْتُهُ فِي الوِديَانِ العَذْرَاءِ
أَمَّا القَصَائِدُ فَزَرَعْتُهَا هُنَا إِلَى جَانِبِ أَشْجَارِ اللزَّابِ وَالبُطْمِ
18
فِي كُوخِ الرِّيحِ
أَعَالِي الجِبَالِ الحَالِمَةِ
أَلْفَ مَرَّةٍ أَوْقَدْتُ الحَطَبَ
أَلْفَ مَرَّةٍ نَفَخْتُ فِيهَا كَي لَا تَنْطَفِئَ
أَلْفَ مَرَّةٍ غَسَلَ الدُّخَانُ عُيونِي
وَمَرَّةً وَاحِدَةً فَقَطْ
نَسِيتُ إِرسَالَ قُبْلَتِي لَكِ مَعَ الرِّيحِ الثَّمِلَةِ.
فهر الشامي