علي المخمري واحد من الشعراء العمانيين الذين لم ينالوا، كما نعتقد، حقهم من الناحية النقدية والتداولية العامة التي تمتع بها شعراء عمانيون دون غيرهم، مع أنه شاعر مهم في ضوء كل المعايير النقدية المعروفة. وديوانُه أو مجموعة أعماله الشعرية الصادرة هذا العام 2015م عن دار (مسعى للنشر والتوزيع) البحرينية تحت عنوان (ترميم الأعمال الشعرية كشجرة مقطوعة ترقب الغيم) شاهد على ذلك.
وهو أمر يبعث على الألم في النفس، ويؤكد ما كنا دعونا إليه غيرَ مرة عن ضرورة وجود ما أسميناه (تصفية نقدية) يُستبعد فيه الطارئون والمتطفلون على المشهد الشعري العماني، وينصف فيها المبدعون الحقيقيون من الأدباء العمانيين الشعراء وغير الشعراء، والعمل على وضعهم في المواضع التي يستحقونها من الناحية النقدية، وعدم بخس الناس أشياءهم فيما يتصل بالاهتمام الذي تُوجَّه فيه الأضواء بقصد أو دون قصد لمن يستحق ومن لا يستحق من هؤلاء الشعراء والكتاب .
والأمر المثير للحيرة والتأمل هو الطريقة التي تُستخدم فيها بعض المناهج النقدية الحديثة دون وجه حق في كثير من المناسبات وتطبيق آلياتها على نصوص شعريةدون أخرى، ودون معرفةهذه الأعمال معرفة مدققة، والاعتراف بقيمتها الفنية والإبداعية الحقيقية . وكأن ما يعني الناقد بالدرجة الأولى ولاسيما الأكاديمي، هو المنهج المطبَّق، وليس النص الشعري، وما يتصل به من منهج أو مناهج قابلة للتطبيق وفق رؤية الناقد، والحدود التي يسمح له النص المنقود بالتحرك فيها لبيان جماليات هذا النص وطرائق اشتغاله من النواحي الصوتية والتركيبة والدلالية جميعا.
وأنا أقول ذلك لأني لم أقرأْ عن علي المخمري الذي يكتب الشعر وقصيدة النثر منه على نحو خاص منذ ما يقرب من عشرين عاما، وأصدر بين عامي 1998 و2015م خمس مجموعات شعرية*، شيئا يقيّم تجربته الشعرية، أو يقوّمها ويشير إليهامن قريب أو بعيد، مع أن هذه التجربة في المجموعة الواحدة أو هذه المجموعات كلهاتستحق مثل تجارب أخرى غيرها شيئا خصوصيا من الاهتمام والقراءة، بل القراءات النقدية التي تضعها في مكانها الصحيح من خارطة الشعر العماني، وحتى العربي الحديث لما فيها من أصالة وتميّز .
وعلي المعمري، مثل العراقي محمود البريكان، لا يبدو حريصا علىالإعلان عن نفسه والترويج لأعماله، بل هو ينأى بنفسه عن هذا الذي أسماه مرة بـ (المركاض الشعري) الذي يركض فيه بعض الشعراء أو يتم (تركيضهم) فيه على الطريقة التي تجري للهجن هذه الأيام، وبرعاية دعائية معلنة من بعض النقاد العرب الذين تورطوا في الخضوع لمعايير (نقدية) غير تلك التي يبدو أن الشعر والشعراء العرب بحاجة إليها.
ومثل كل الشعراء الحقيقيين … الشعراء الذين نشعر أن لديهم ما يقولونه، ويتكلمون فيه بألسنتهم، لا بألسنة أخرى مستعارة من غيرهم، يملك على المخمري روحا شعرية نادرة وغير محددةبغير معرفته الضمنية أو الظاهرة بكون الشعر تعبيرا خاصا أو صوتا داخليا وعلامة على روح حيّة على غموضها وتواضعها أحيانا، ومتسائلة ومندهشة على الرغم من قناعتها وثبات رؤيتها أحيانا ثانية، وطائشة، وحتى رعناء رغم جديتها وعقلانيتها، أحيانا ثالثة .
روح غريبة، قد تتجاوز التخوم المألوفةولا تعترف بالمتعارف عليه من الحدود الأخلاقية والاجتماعية والفنية القارّة، ولذلك فهي تستخدم عبر كل قصيدة وكل كلمة لسانا غريبا تبدو معه أحيانا غير متأكدة مما تقول مع أنها تواصل القول، كما لو كانت تستخدم اللغة لأول مرة.
نعم روح تغنّي غناء داخليا مسكونا بفرح طفولي لا مصدر ولا مرجعية معروفة له غيرمجرد الوجود على هذه الأرض في زمان ومكان محددين وممتدين ومنفتحين في الوقت نفسه على الأزمان والأمكنة كلها .
نشهد في كثيرمن قصائد المخمري وفي كل واقعة أو مدوّنة من وقائعه ومدوناته الكتابية الطريّة تصادما بين الأشياء والكلمات، غرابة في الألفاظ والدلالات وما يخلقه كل ذلك من فوضى الحواس وتبادل الروائح والنظرات . نظرات الطفل الوليد الذي يخرج من (قماطه) ليكبر و(يخطو) خطوته الأولى كما في مجموعته البكر (الخطوة الأولى لاجتياز قماطي) لاكتشاف العالم من حوله دون أن يفارق طريقته الطفولية في التعامل مع الأشياء والكلمات والإحساس بطعم الحليب فوق الشفتين. الطفل الذي كبر حتى صار شيخا، والكبير الذي صغر حتى صار طفلا، يمارس الإحساس بالعالم وتجريب العيش فيه بطريقته الخاصة غير البعيدة عن طرائق الأطفال وأحاسيسهم . ومشكلته الكبرى أن الآخرين من الكبار يحاصرونه بعيونهم المعدنية ويصادرون عليه زمنه الخاص، زمن طفولته وفردوسه الأرضي الذي لا يتكرر ولا يستعاد.
«كان القماط يغطي معظم الجسد
ما عدا العنق
هذا العنق الذي لم أمدّه
طوال حياتي إلا ليذبح
غدت الرياح ملتهبة
والمدن مختزلة
والعميان أدلّة
لا شيء يرهقني غير هذا التواطؤ..
أين الحيواتُ المتجددة»
(من قصيدة «الخطوة الأولى لاجتياز قماطي» ص 26 )
هذا هو ملخص التجربة الأساسية في هذا النوع من الكتابة الشعريةإذا أمكن تخليصها من الشوائب. طفولة تتم ملاحقتها من قبل الشاعر باستمرار، وزمن ماكر مليء بالتواطؤ الذي من شأنه تطفيف الفرح المتصل بالرغبة في تجدد الحياة.
وهذا هو أيضا ما يتخلف في الذهن بعد الفراغ من تجربة قراءة قصائد علي المخمري في دواوينه المختلفة التي ضمّتْها هذه الطبعة ( المرممة).. صور وتعبيرات غريبة تتطاير كلماتها مثل ندف من الثلج أو البالونات الملونة التي لا تتوقف عن إجبارنا على معاودة القراءة ومعاودة النظر إلى الأشياء والكلمات ومحاولة إزالة الصدأ المتخلف على هذه النظرات بفعل العادة . استعادة الدهشة وما يرافقها من خوف وقلق ونشوة إزاء الأشياء والكائنات بعد ملامستها أو رؤيتها أول مرة . هذه النشوة التي شبّههاالسياب مرة بـ «نشوة الطفل إذا خاف من القمر!»
أقول إن هذه الاستعادة وما تستلزمه من تبدّل أو تبديل وإعادة نظر في الوظيفة اللغوية بشكل عام، والوظيفة الشعرية بشكل خاص، هو ما نواجهه ونحن نقرأ أغلب قصائد علي المخمري، هذه القصائد الضاجة بالحياة والحركة .. بروح الشعر وعلاماته الفارقة على الرغم مما يمكن أن تراه الملاحظة العابرة من خفة الوزن أو الاستخفاف به، وعدم العناية الظاهرة بالموسيقى، وغرابة الصور الشعرية، وتباعد الأخيلة العاملة والتصورات وتبعثرها أحيانا.
ولنلاحظ هنا، على سبيل المثال، الكيفية التي تمّ تركيب المقطوعة أو المقطوعتين السابقتين على أساسها .
فهناك، أولا، هذه المسافة الزمنية القائمة بين هذا (العنق) الطفولي المغطى بالقماط أو الخارج عنه بقليل، وبين ذلك العنق الآخر الذي لا يُمدّ طوال الحياة إلا ليُذبح بعد أن كبر الشاعر أو الراوي النائب عنه، وصار بينه وبين زمن الطفولة مسافة شاسعة افتقد فيها البراءة والإحساس بالأمن.
وذلك (الذبح) المجازي لم يمارسه في خيال الشاعر وروعه جلّاد أو إنسانٌ بعينه، بل أشياء أخرى أحاطت بحياة الشاعر واستبدلت القماط ويد الأم الحانية والحامية بالرياح الملتهبة والمدن المختزلة والطرق المظلمة التي لا يجد فيها الإنسان من دليل غير المبصرين الذين لا يرون لأنهم (عميان)، مع أن عيونهم مفتوحة عن آخرها . وكأن هناك من يتآمر عليه ويتواطأ ضدهمن أجل أن يرهق روحه الشاعرة، ويحملهاعلى الحيرة والتساؤل عن الحياة أو الحيوات المتجددة التي يمكن أن تخرجه من عزلته وعريه وتعيده نحو فردوسه المفقود وسط دفء ذلك القماط الطفولي الحالم.
الجزء الأول من المقطوعة يصف الحال ويقرره، والثاني الذي يبدو بعيدا من الناحية الشكلية أو المسافة الورقية يقوم بمهمة الإيضاح والتفسير ولحظة التنوير.
ولعل هناك نوعا من القرابة بين هذه الأمثلة الشعرية القصيرة وقصيدة الهايكو اليابانية بما فيها من اختزال وقدرة على التركيز، وما تشيعه من مناخ روحي وتأملي، مع أنها لا تخرج في مجموعها عن حكاية حالات وتفاصيل حياة يومية ومناظر وأشياء طبيعية دون أن تفقد وهج تميزها وغرابتها لأنها تتناول كل هذه الأمور من زاوية أخرى غير مألوفة يبدو معها الموصوف جديدا على المتلقي .
وربما كان هذا الانفصال أو التباين الدلالي الذي رأيناه بين جزءي مقطوعة المخمري السابقة هو ما يميز قصيدة الهايكو ويطبعها بطابعه الخاص، حيث هذا الحيّز الخيالي الذي يبدو فيه جزءا القصيدة منفصلين ومستقلين عن بعضهما من الناحية الشكل أو المسافة المكانية، ومتصلين من ناحية الدلالية بخيط رهيف يجعل أحدهما يغذي الآخر ويشير إليه ولا يكتسب وجودَه دون وجود جزئه الآخر .
ومجموعة الشاعر المسماة (غيابات الجب) الصادرة عام 2000م والتي صدّرها بواحدة من قصائد الهايكو هذه، للشاعر الياباني (موتسو باشو):
(«يأكل الأفاعي»
قيل لي عن طائر الحجل ؛
رهيبة تبدو الآن صرختُه»(ص 45)
تنطوي على مثل هذه القصائد .
ولنلاحظ هنا أيضا أنّ صرخة طائر الحجل في هذه القصيدة اليابانية تبدو (رهيبة) فقط لأنه يأكل الأفاعي . وهو أمر سمع به الشاعر أو قيل له عنه ولم يجربْه أو يتثبتْ منه بنفسه، ولذلك فإن هذه الصرخة (تبدو) (رهيبة)، أو هكذا ينبغي أن تكون بسبب هذه الأفاعي التي تؤلّف طعام هذا الطائروالتي لا يبدو للوهلة الأولى أن لها علاقة ما بتلك الصرخة الرهيبة.
ومجموعة علي المخمري الصادرة عام 2003م تحت عنوان (نُفاث) تنطوي أيضا على هذا النوع من القصائد أو المقطّعات القصيرة، حيث الأسلوب القائم على ضربات لفظية وصور مجازية خاطفة قائمة على المفارقات الضدية والطباقات التي تصنعها الحياة دون أن ننتبه لها بغير هذه العيون الشعرية المتلصصة ، كما في هذه النماذج ذات العناوين المختلفة:
فقدان
« لم أجد بيتا
يلم بي
ولا عراء
يوقظني» ( ص 138 )
أنا
وُلِدتُ في الشارع الخلفي
في ظلٍّ صغير
ثم أرضعتني الشمس
حتى احترق لساني
وها أنا ألثغ
بمحبة صافية
دون أن يفهمني المارة» ( ص 137 )
مباغتة
«تتأرجح الروح
بين الاأمان والاأمان
من نقطة حبر مباغتة
تبدأ هواجسك
أيها الشاعر»(ص 144)
والخلاصة التي يمكن أن ننتهي إليها بعد الفراغ من قراءة هذه النماذج وغيرها، يمكن أن توضع في هذه العبارة التي كان رامبو يكررها أمام الجميع وهي: ( أن الحياة الحقيقية غائبة )، وأن هذا الشعر وكل التعب والشقاء الذي يرافق كتابته ما كان ليحصل لو أن الحياة الحقيقية .. الحياة التي نحلم بها موجودة.
وتحتلّ (الطفولة) التي «تشمها السماء فتعشق» كما يقول الشاعر، مكانة مركزيةوثيمة رئيسة في دواوين الشاعركلها، وتؤلف ما يُشبه الكلمة (البؤرة) إلى جانب كلمة (الأم) التي لا نكاد نقرأ القصيدة أو المقطوعة حتى تواجهنا هذه الكلمة بصورتها الصريحة أو المضمرة ناشرة ظلالها وروائحها المحببة في كل أجزائها، كما في هذه المقطوعة من تلك المقطوعات التي أسماها الشاعر بـ ( التعريفات) التي يلجأ إليها أحيانا من أجل إعادة النظر في دلالة بعض الأشياء والظواهر الطبيعية وفقا لطريقته الخاصة، لتكون أكثر وضوحا وأكثر قابلية للوجود والتحقق، كتعريفه للقمر والبحر والصحراء والليل وغير ذلك مما يرد في ديوانه الصادر عام 2002 تحت عنوان (رجل لا يفرّق بين السكين والوردة) .
وهو، على سبيل المثال، يقول في (تعريف القمر):
« تؤمن بأن القمر
كان أكثر استدارة ووضوحا
وبأن ابتسامته أكثرُ احمرارًا وعافية
يقترب منك إلى أن يضعَ خدَّك على خده
فتشعر بدفءٍ له حميميةُ الأمومة
وهدوء المتصوّف لحظة فروغه من الأذكار «(ص108)
فليس ثمة هنا من تعريف له علاقة بجغرافية القمر ولا بصورته الرومانسية المعروفة، بل كل ما له علاقة بجغرافية سيكولوجية نفسيّة تتمثل في هذه الوظيفة الأساسية التي يقترب فيها القمر منك ويضع خده على خدك فتشعر بدفء الأمومة وحميميتها !
وكغيره من الشعراء، لا بدّ من التأكيد أن لمدونة علي المخمري الشعرية مرجعياتها ومصادرها الذاتية والموضوعية، الثقافية العامة والمحلية الخاصة، الشعرية والفلسفية . غير أننا نشعر على الدوام أنه يظلُّ يمتح من مصدره الأول، أعني بئر تلك الطفولة الداخلية الخالدة التي يحاول ما وسعه الأمر أن تبقى بعيدة عن الضوء وفساد المياه والأمكنة، مع أنها تظل دائما مسكونة بالغرابة، والمصاعب الخاصة بتشوّش الذاكرة، أو انحراف بوصلة التركيز فيها:
« كلما نبشتُ الذاكرة
عن لحظة حميمة
فاجأني الغريبُ الذي في داخلي ! «(ص 262)
هذا «الغريب» الذي يسكن الشاعر ويفاجئه في كل مرة يبحث فيها عن «لحظته الحميمة» هو المسؤول فيما يبدو عن الخراب الذي يلحق بصورة اللغة والمفاهيم والدلالات المتولدة عنها وانعكاساتها في مرايا الكلام، حيث لا نكاد نمسك بصورة أو عبارة شاردة في قصيدة أو مقطوعة حتى تقابلنا أخرى أكثر إدهاشا وغرابة:
«أنا وترُ اللامبالاة
رحمُ الحرية» ( ص156 )
نعم، إنها هذه (اللامبالاة) الظاهرة التي تطفح على سطح النص دون أن تمنع النظر في بنيته العميقة وإيقاعه الداخلي المنظّم وغير القابل للإمساك به وتطويعه وفهم مساراته إلا بصعوبة، حتى ليبدو أن المنهج الوحيد الصالح لرؤية هذه القصائد هو الاستسلام لتيارها ورؤاها الخاصة غير القابلة للتأويل أو الوضع بين أقواس مسنّنةأو ضفاف نهائية .
أما الكلمة الأخرى (رحم الحرية)الواردة في هذا النص الصغير والتي تتكرر لدى هذا الشاعر العماني بهذه الكيفية أو تلك، فهي تذكرنا، ربما، بكلمة أخرى للشاعر الفرنسي رامبو. كلمة يتحدث فيها هذا الشاعر الأخير عن ( الحريّة الحرّة ) . وهي حرية لا تختلف لدى رامبو عن حرية الآخرين، ولكنها تضيف إليها حرية الشاعر ذات الطبيعة الداخلية غير المحدودة أو المتوقعة في تصرفاتها وردود أفعالها، أو تلك الخاصة بالكتابة الشعرية، وما تنطوي عليه من مفارقات وخروج عن المألوف على الصعيدين الفني والفكري.
وهكذا، لا يبدو أن علي المخمري يصدر عن (مجانية) شعرية، بل عن معاناة وإحساس قد لا يكون التعبير عنهما مباشرا أو حرفيا، وإنما هي (أعني تجربته) ممسوسة بعصاه الشعرية أو السحرية البعيدة عن الأساليب التقليدية الشائعة في المجاز والاستعارة وتشكّل الصورة . فهي كتابة قائمة على الابتكار لا التكرار، الإبداع وليس الاتباع .وما يبقى ثابتا ولافتا للانتباه في هذا الشعر هو طزاجة اللغة وحيوية القول الشعري غير المرتبط بنمط محدد من أنماط النوع على النحو الذي تتحول معه القصيدة أحيانا، كما لدى آخرين، إلى متوالية لفظية، أو مجرد ارتداد لفظي أو صدى لأصوات موجودة في قصائد أخرى سابقة الوجود .
هذه القصائد ليست موزونة في أغلبها، فهي تقع كما أسلفنا فيما نسميه قصيدة النثر، ولكن لها رنينها الداخلي الخاص الذي يغتني بتمايزاته وتفاعلاته اللفظية والدلالية، مهما تكن طبيعة الموضوع الذي يخرج من مطحنته الشعرية.
إنها تقوم في مجملها على هذا النوع من النثر الشعري الذي كان الشاعر الفرنسي بودلير يحلم بكتابته، وحاول أن يحققه في كتابه المعروف (سأم باريس) المكتوب عام 1869م،واضعا في مقدمته هذه الكلمات:
«من منا الذي لم يحلم في أيام طموحه، بمعجزة نثر شعري، موسيقى دون وزن ودون قافية، بالغ السلاسة والمرونة، بحيث يمكنه التكيّف مع الحركات الغنائية للروح ومع تموجات الهواجس وانتفاضات الوجدان» (بودلير، سأم باريس، ترجمة بشير السباعي، منشورات الجمل، 2007 م، ص 6 )
وعلى العكس مما نراه لدى شعراء شباب آخرين، لا يبدو هذا الشاعر العماني بحاجة إلى شحذ الحواس والشعور بالإرهاق وهو يمارس كتابة رقائقه الشعرية القصيرة أو الطويلة .
فهذه القصائد لا تنطوي على تجربة فيها شدة وتضييق على الروح والجسد، وصاحبها لا يبدو، كذلك، صاحب (رؤيا) على الطريقة الرامبوية التي شغف كثير من الشعراء العرب المحدثين بتقليدها بمناسبة أو بدون مناسبة.
نعم ليس لدى هذا الشاعر شيء من ذلك، فهو فقط رجل يبدو مهيأً بطبيعته لأن يكون شاعرا .
شاعر يملك عينا مراقبة ومفتونة بأشياء العالم من حوله، وحسا إنسانيا سليما له القدرة على رؤية المفارقات والتطابقات والمظاهر الزائفة في تفاصيل الحياة اليومية والأشكال والمظاهر الطبيعة والمواقف الإنسانية التي تنطوي عنده غالبا على نهايات مفاجئة أو غير سعيدة .
«تحرقني الشمس حافيا
تناديني الغابة:
بأمومة غائبة
تضمني بحنان أشجارها الوارفة
وعندما أشعر بخفقة الظل
وحضنه المتماوج
تطعمني مطمئنا ودافئا
لأحفادها..
الوحوش الضارية»
(قصيدة (وجبة) من ديوان غيابات الجب الصادر عام 2000م ص61)
إلخ إلخ…….
وهكذا، فالصورة أو الصور المتلاحقة التي تحتشد بها قصيدة علي المخمري ليست نقلا أو استنساخا لأشياء موجودة في هذا العالم، وإنما هي محكومة برؤية [ رؤية، وليست رؤايا ] يتم التقاطها من زاوية أخرى يجري فيها إدراك هذه الأشياء بطريقة مغايرة . وهو أمر يجعل هذا الشعر في مجمله غير بعيدة عن الوظيفة العامة للفن الذي لا ينسخ الواقع أو يعيد إنتاجه، وإنما يهدف إلى تصحيحه وتغطية النقص فيه أو الاعتراض عليه ضمن هذا الإحساس العام ذي الطبيعة الغنائية المحمولة على تيار من التدفق العفوي، والبساطة، وصدق عاطفة، والبعد عن الابتذال في التذوق والتصور ؛ والبعيد كذلك عن الانكفاء على الذات وسبر الأغوار واجترار الذكريات واسترجاع الماضي أو التوقف بطريقة سلبية عند نقاط محددة فيه، بالاعتماد على ما يشبه ما كان يسميه الشاعر الانكليزي وردزورث (بقع زمنية spots of time) يتم فيها استعادة ما في الذاكرة من أحداث وتجارب، خصوصا تلك الخاصة بمرحلة الطفولة وزوال عهد البراءة الأولىوأيام المراهقة والشباب والتحولات التي تصيب البشر في مراحل العمر المختلفة، وما يمكن أن تؤديه النظرةالخبيرة للحياة من الإيمان بحقائق تتجاور وتختلط فيها الألوان والمصائر البشرية:
«لا فرق بين الفرح والمأتم
في عالم لا يفهم
موسيقى الحياة
ولا رقصة الموت»(ص 141 )
علما بأن قصيدة النثر التي يكتبها المخمري قد تفقد بعض وهجِها وألقِها وتتحول إلى عبارة نثرية في مثل هذه النماذج التي تُشبه التوقيعات، لما تنطوي عليه من حكمة ووثوقية تقفان على مسافة من روح الكتابة الشعرية التي تواصل فيها الكلمة اهتزازها وصمتها وتقطّع أنفاسها وقلقها الدائم بحثا عن مرفأ مناسب لليقين.وهي، في الواقع، ليست قليلة في مجموعاته المختلفة.
وعلى الرغم من كل ذلك، يمكن القول إنه لا يوجد في قصيدة على المخمري النثرية هذه زمن ماضٍ بالمعنى الدقيق للكلمة. هناك فقط هذا الحاضر الراهن واللحظة المعيشة، وكذلك ما يمكن أن نسميه (حاضر الماضي) الذي يجعل من حياة الشاعر الممتدة بطريقة أفقية أو عمودية على طول هذا الزمن، موضوعا لانثيالاته وتدفقاته الشعرية أو تعليقاته المقتضبة على واقع الحال في الوضع البشري الخاص به أو بالبشر والطبيعة من حوله .
والعودة إلى الماضي أو حاضر الماضي لا تعني لدى هذا الشاعر عودة متكررة في سياق الزمن، بل هي عودة للمحور أو المحاور الأساسية في زمن الشاعر الشخصي والتي تبدو ملازمة لكل كتابته الشعرية . وهو كما نرى كتابة ملتصقة بالوجود اليومي المنطلق من نقطة التوتر والإشكالية الزمنية الراهنة والحية، هذه الإشكالية التي يتغذى شعرُه منها ويقيم معها حوارا من شأنه أن يبعث الأشياء والكائنات من رقادهاويكسوها بحلة جديدة .
و«هذه الحياة التي تخرج بين الفينة والفينة
هذه الحياة التي تختبئ بين الفينة والفينة» (حصاد، ص 70)
هي الموضوع الأثير لهذا الشعر . والظهور والاختباء في هذه الحياة يمثل رؤية داخلية للوجود، وليس فقط رؤية مباشرة أو عيانية . وهي تشبه من بعض الوجوه ما كان يقول به الفيلسوف الألماني هيدغر عن الوجود بوصفه احتجابا وانكشافا دائمين، وعن الشعر بوصفه كشفا لحقيقة الوجود، أو هو بعبارة هيدغر «ترك الوجود يوجد، والحقيقة تلتمع وتظهر «
وقد يكون في كل هذا الكلام شيء من الفلسفة ؛
هذا صحيح، ولكن قيمة الشعر – أي شعر- تكمن في أنه لا ينظر إلى الوجود نظرة عقلية مجردة لا تحتك بأشياء العالم إلا من خلال عملية معرفية منفصلة ومجتزأة، كما يفعل الفلاسفة .
فهو، على العكس من ذلك، شعر يُكتب عن الحياة فيما هو يمارسها، سواء تمثلت بالمرأة، أو بصديقه الليل الذي «لا يعرف ليلا غيره»، أو البحر الذي يمكن أن يتحول إلى «وجه طفلة ملطّخ بالجاتهوه» أو بالجمل الذي يود الشاعر «لو يعرف من الذي خان الصحراء وأعطاه خرائط المدن» لأن الجمال، كما يقول في مكان آخر، تبقى «تحن لمواطنها»، أو بذلك (العصفور) الذي يراه الشاعر من نافذته «ينقر في عذق الرغبة» ..إلخ….
ومن بين هذه المواضيع تبقى صورة المرأة هي الأبرز والأشد كثافة وحضورا في شعر علي المخمري . وحديثه عنها يكتسب ألوانا وأشكالا مختلفة تتراوح بين العلاقة الرومانسية التي تملأ برقتها وعطرها وعذوبة الكلمات المكتوبه فيها صفحاتٍ عديدة من الديوان، إلى العلاقة الحميمة التي لا أكاد أجد لطعمها الحريف وجراءتها أمثلة كثيرة في الشعر العماني الحديث، كما في هذا النموذج المأخوذ من قصيدته الطويلة المكتوبة إلى (هـ م):
المرأة
« المرأة حيّة ناعمة وملساء
تتلوى على تلذذك
وأنت تهمس:
افعلي
افعلي
افعلي
وعندما تقعد على مستقرٍّ منك
توشوشك بهدوء سليط
سألسعك
إن لم تفعل» ( ص 117)
وحين يضطر الشاعر في بعض مراحل حياته إلى الصمت أو يدخل فيما يسميه «بيات شتوي» ثم يعود إلى الكتابة، لا يجد شيئا يستحق العناء، كما يعبر في هذه القطعة تحت عنوان (نفاث)**:
«بعد بيات شعري
أعود
مثلما أنا
كيفما كان
والحياة هي الحياة
لا تستحق أكثر» ( ص 223)
والسبب الكامن وراء ذلك هو ( الإفلاس ) ! نعم الإفلاس الذي لا يتصل بالشاعر نفسه، وإنما بكل شيء من حوله في هذه الحياة . ولذلك فإن الحكمة التي تقول ( إذا كان الكلام من فضة، فإن السكوت من ذهب ) لم تعد صالحة للعمل عند الشاعر لأنه:
«لم يبق لدينا في هذه الأرض
فضة لنتكلم، ولا ذهب لنصمت»! (ص222)
وأيضا لأن «الشاعر الذي لا يكتفي بقصيدة واحدة
سيدلق حبر العالم على لاشيء» (ص205)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– صدر لعلي المخمري قبل هذه ( الأعمال الشعريةالمرممة ) المجموعات الشعرية التالية:
– الخطوة الأولى لاجتياز قماطي 1998م
– غيابات الجب 2000م
– تعريفات رجل لا يفرّق بين السكين والوردة 2002
– نُفاث 2013
– لا اعرف ليلا غيرك 2015
**حول كلمة (نُفاث) التي وردت عنوانا لهذا النص وعنوانا للمجموعة الشعرية نفسها، جاء في المعجم العربي ما يلي:
« وأما النفث فتفسيره في الحديث أنه الشعر. قال أبو عبيد: وإنما سُمّيَ النفث شعرا لأنه كالشيء ينفثه الإنسان من فيه مثل الرُّقية «. والنفاث صيغة مبالغة من نفث .
—————
ضياء خضير