كتب (نيتشه) إلى صديق له:
أتمنى أن تجد لي منتجعًا جبليًا أكثر هدوءا من الموتى… أتذكر أمنية الفيلسوف الحرّى، حين أكون وسط قيامة الضجيج للآلات من حفارات ورافعات وفظاعات تعجز اللغة عن مقاربة وصفها، إذ تدير الرأس والكيَان وتطوح بهما إلى متاهة مرعبة من الألم والانسحاق.
أين أنت يا سكينة الغابة والموتى، بهجة الناظر والمتأمل في ضفاف الأعماق.
* * *
أرتشف القهوة من قعْر فنجاني الفارغ
أرتشف الفراغ العميق
في الطاولة المقابلة أمامي
آسيوية فارعة، يابانية
صينية ربما..
أسلافها قدماء الفلاسفة،
قدسوا الفراغ وأقاموا معه
صِلات التأمل والقداسة..
ما تبقى، وهو الجوهري، يؤسسه
الفراغ المظلم العميق.
* * *
يمرض الشجر، تشحب الأغصان والأوراق وتضعف الجذور. لقد غادر الأهل الأرضَ والبلاد ميممين شطر المحيط، تاركين الشجر والنافورة في صحن البيت الدمشقي القديم. الشجر الذي كان حصينا ومزهرا، يمكن أن تقتلعه هبة ريح خفيفة، وهو ليس بحاجة اليها، لقد اضمحل في قلوب الأحبة الغائبين والأطفال.
* * *
أولئك القلة الذين يضيئون الحياة بنور الحقيقة الخفي والجمال. أولئك المستحيلو الظهور اللامرئيون من فرط الشفافية ونكران الذات، يهبهم القديرُ لعباده عبر أزمنة ضوئية متباعدة على منعطفات أحقاب سوداء عجاف… ما تبقى من رأفة لم يجفّ مطرها بعد.
* * *
يحملون أيامهم وأحلامهم
كما تحمل السفن البضائعَ في عتوّ العاصفة
عمّال الموانئ
في غَبش الفجر البحري.
تبدأ جلبة الصفير والطيور المهاجرة
في استراحتها على الأعمدة والصواري،
يحملون تحويشة اليوم
إلى عائلات أنهكها الظمأ والفراق
* * *
الأوزّة الكبيرة
يهرع إليها الأطفال والطيور
وهي بشموخ جمالها
ملكةٌ على الغاب والغيوم
* * *
تقترب الأوزّة مني
محدقة في أعماقي..
إلى ما تنظرين أيتها الأبدية
للعابر في التخوم؟
* * *
العيش في الغابة
لساعات وأيام
بين البحيرات اللألأة والغيوم، وذلك المجهول الرابض
بين الأشجار والأكمات،
عودة الروح إلى سكينتها الأولى
قبل أن تُسال على أديمها
الدماء والنكبات
* * *
سناجب تحفر في تربة الجذور
وغربان تموج أسرابها في الحقول، لا تذكّر بالجيفة
ولا الفراق
وهذا العقعق من سقفه القرميدي
يتلو آية المرح والسلام.
* * *
في (شيروود) غابة
روبن هود الأسطورية، مشهد طلوع الشمس من بين تضاريس الأفق والأشجار العملاقة، التي تتوحد مع الطقس الغائم ، تذكرني بظهورها من بين الكثبان والجبال الرملية، في صحراء (بديّة) بعُمان على مشارف الربع الخالي.
ثمة صفات مشتركة بين أركان الطبيعة الكونيّة في تجلياتها وتمظهراتها المختلفة مهما شطّت المسافة والنأي الجغرافي والطقس بينهما.
برودة آخر الليل الصيفي الساطع في الغابة حتى تقترب الشمس بعد ظهورها الرحيم ، من كبد السماء، إذ تبدأ حرارة مقبولة يطرب لها ويصخب أصحاب البلاد.
أما على مشارف الربع الخالي وصحرائها العميقة فحال انبلاجها من خلف الرمال العالية، تبدأ بعد برودة الليل القاسية في انفجار حرارة لافحة.
هذا الاختلاف لا يغير صفة الجذور العميقة والميتافيزيقية، في تجليات طبيعة النجمة المركزية وظهوراتها المتباينة في عالم البشر.
الغابات صحارى، كثبانها الرملية وجبالها وتلالها ومنعرجاتها، وترّهاتها، هي هذا الغلاف النباتي البالغ الكثافة والغموض، كثافة الخضرة اليانعة بديم الأمطار المستمرة في كل الفصول. والصحاري غابات عارية، إلا من شجيرات تتوزع في أرجائها الموحشة وبأمطارها الموسمية النادرة والتي تأتي أحيانا على شكل طوفانات وعقاب وهي تبتلع الفصول في مدارها الخاص.
الخطر والإيحاء باللانهاية والدوار والوحشة الوجودية توحد بين الصحارى المجدبة والغابات الممطرة، بين أركان الطبيعة الخالقة والمخلوقة على هذا النحو من الإبداع الجمالي والتأمل والابتكار..
* * *
أشرت إلى «الترهات» وهي الدروب المتشعبة في أنحاء الغابات والتي لا تفضي إلى شيء. دروب تتناسل إلى دوائر ومتاهات، لا تفضي إلا إلى الضياع والعدم.. ربما لهذا وسم الفيلسوف الألماني (مارتن هايدجر) أحد كتبه بـ«الترهات» وهو المقيم والمولع على نحو روحي عميق بالغابة السوداء، في ألمانيا ، إذ لا يرى في «المدينة» إلا زيف العلاقات والثرثرة، والوهم والعدوانية، على نقيض الإقامة في الغابة، إقامة الروح في جسده الطبيعي المتناغم الخلاق.
* * *
أمشي خطوات في حقل البيت الخشبي المجهز بكل أنواع الراحة الحديثة، أصطدم بجيفة حيوان صغير نافق ، فأرا أو سنجابًا ربما، أتجاوز ما يشبه الساقية التي تتكاثف فيها النباتات والأشجار الملتفة إلى خمائل وأكمات… أرى بَعراً ما زال على نحو من طزاجة ونضارة، أحيلُ النظر في أنحاء المكان ولا أرى أي حيوان في القريب.
أتذكر قول امرئ القيس..
(تَـرَى بَعَــرَ الآرامِ في عَــرَصَاتِـهَا
وَقِـيْــعَانِـهَـا كَــأنَّـهُ حَـبُ فُــلْــفُــلِ)
(ويوم نحرتُ للعذارى مطيتي
فوا عجبا من كورها المتحمّل)
ماذا لو نحرتها هنا يا أمرئ القيس، وسط هذه الربوع الخضراء الشديدة الخضرة ربوعنا أصبحت قاحلة أيها الملك الضلّيل، أصبحت مجدبة في كل شيء بعد طول خضرة ونماء، صعقها زلزال الجفاف..
قليلا… وتظهر الأوزة العرجاء التي أصابها مكروه ما ، لا شك هي الآن تحت الرقابة والعلاج وربما لها ملف يحتوي بدقة منذ الولادة على تاريخها الصحي. وفي مساء الأمس رأيت الأطفال يطعمونها الخبز والحبوب شفقة بحالها أكثر من بقية الحيوانات والطيور السليمة التي يستمتعون بإطعامها وملاعبتها. وهو سلوك لا يبتعد عنه الكبار ، خاصة أولئك الوحيدون وقد تقدم بهم العمر، في غياب الجليس والأنيس.
وتذكرت حكاية لألبير كامو، في إحدى رواياته، حول ذلك الرجل الوحيد ذي النزوع العدواني حين يستدرج الحمام أو القطط بإطعامها في شرفة منزله، وحين تتجمع مطمئنة إلى كرم الضيافة، يقوم بالبصق عليها..
* * *
مساء البارحة توغلت أكثر بمحاذاة البحيرة في الأماكن الأكثر غموضاً وجمالاً. وقد سمعت الأطفال يتحدثون عن منزل الشجرة الكبير، وانه كان مأوى (روبن هود) وبعض رفاقه، قبل أن يتكاثرون حوله مشكلين ما يشبه الجيش الذي يطمح إلى إحلال الحق والعدل، بسلب الأغنياء أموالهم، وإعطائها للفقراء والمعوزين..
بعض الحكايات والأساطير تتكرر بأشكال مختلفة في تاريخ الشعوب والجماعات البشرية مخلفة إرثا يضيئ ذاكرة الأجيال المتعاقبة.
لم أبحث عن منزل الأشجار المسيج بالخرافة، توغلت بمحاذاة البحيرة بعيدا عن الطريق المعبّد والمستأنس.. هناك في الدروب الصغيرة، و«الترهات» الوحشية، كلما أوغلت خطواتي وخيالي السارح في آفاق اللانهاية، أحسست بالاقتراب أكثر من ذلك الجمال الأكثر خطورة ورعباً وتقاطرت في وعيي ومخيلتي تلك الأسماء التي قضت انتحاراً باختيارها في مقاربة الحقيقة الأبدية المستحيلة.
وألمت بي تلك الهواجس الجميلة والمريعة التي طاف هاتفها على أفئدتهم وخيالاتهم البالغة الهشاشة والشفافية… حتى لامسني ما يشبه اليقين، أن الجمال في جوهره ، وبكل تموضعاته وتجلياته، في الطبيعة والمرأة، في الفكرة والبطولة واللغة والطفولة، لا بد يعود إلى أعماق هاويات سحيقة مظلمة ولا محدودة يتيه فيها الباحث والدليل.
* * *
حين تكون في قلب المشهد الجمالي، الحقيقة الجمالية الهاربة باستمرار، ازاء هذه الحالة في قلبها وعلى جوارها وتخومها حتى وهي تخترق كيانك بروح إشراقها وتطوح بك في غيبوبة العذوبة والانخطاف. هل تعيش الحالة أو تكتبها؟!.
ماذا تستطيع أن تكتب ازاء هذا الفيض، ازاء هذا الإعصار المنفلت على كل منطق وقانون ومفهوم؟ وهل تعيش حالة الوَجْد والحب العميقة بكل إمكانات كيانك الروحي الذي ستتسع دائرة إدراكاته وحدوسه أكثر من غير كتابة ربما تعكر صفو هذه النشوة الاستثنائية الخاطفة، أم أن الكتابة تساعد على الاقتراب أكثر في إدماج حالة النشوة الراعدة، في سياق أكثر جمالاً وديمومة، وان كانت كلمة (ديمومة) ربما لا تناسب جوهر هذه البروق الخاطفة.
* * *
السنجاب أمامي يعدو على طول الحقل، بسرعة صاعقة، تخيلته فهد الشيتا، وهو يعدو في الفيافي الأفريقية أو الآسيوية وراء طريدته التي لا يعني لها الاستسلام أو الهدنة إلا الموت يمزقها شلواً شلواً بين فكيْ هذا المفترس الذي لا يرحم حين يرغب أو يجوع.
لكن لا طريدة قريبة أمام السنجاب ، انه يعدو لغريزة العدو فحسب، وربما لأسباب لا أعرفها تتعلق بصفات الحيوان.
هذا الحيوان الصغير الملغز في حياته وموته. بين أدغال آسيا الحارة أو غابات أوروبا الباردة كيف يدير حياته بين الضواري؟ حين يشتد البرد في هذه الأرض الصقيعية يحفر في جذوع الأشجار، منازله الشتوية بعد أن يكون قد أمن المؤونة ولم يعد يحتاج إلى الخروج في برد الصقيع القاتل.
أي حكمة أودعها الله في هذا المخلوق الصغير وسائر المخلوقات، خاصة تلك المهمّشة واللامرئيّة، في خضمّات الطبيعة والكون؟
* * *
تنزل الأوزة المريضة ، تجلس بقربي، محدّقة ولسان حالها يقول: أين الأطفال الذين يلعبون من غير تعب ولا انقطاع ويطعمونني برأفة وحنان.. أنت الغريب السادر في تخوم ضحاياك ومخلوقاتك الوهميّة.
الأوزة المستأنسة في حقولها وأدوات حضارتها، ليست هي الأوزة البرية التي اكتوت بمرارة المسافات والتجربة.
وربما حلقت فوق ساحات حروب ومذابح يرتكبها البشر في بعضهم بإيمان راسخ لا يلين.
* * *
البط والأوز والسناجب ما زالت نائمة على ما يبدو.. الساعة الرابعة فجراً أصحو. ثمة ألق راسخ في الأفق وذلك المترحل بين الأشجار والنباتات لا أعرف إن كان فجراً كاذبا أم ذلك الصادق الذي يتداعى بعده الصباح والضوء إن لم تكن هناك غيوم تلبد الجو بظلامها الخاص الشفيف. لا فرق بين الفجرين في هذا الغاب المولود من رحم المراحل الجوراسيّة والأسطورة.
ثمة بضعة أرانب برية تحفر بمرح في التربة وتتبادل الأماكن والكلام الذي يعبر عنه صمت النظرات. وذلك الطائر النشيط السحري الذي يحلق فوق الأرانب.. حيوات الحقل كأنما تلعب لعبة الغمّيضة الأثيرة على قلوب الأطفال والطيور…
وذلك البهاء، البهاء النظِر الباذخ بشآبيبه وثراء جماله المدهش، البهاء القادم من لدن الرّب مباشرة من غير وسائط وطقوس .. لو يأتي الموت في هذا المناخ المترف بالنعمة وألق الروح، لكان أجمل أو أقل فداحة من ذلك الرحيل القاسي بين الجدران وسط جَلَبَة (المكيفات) وأثقال الشموس:
وقبل أن أنسحب إلى مخدع النوم، تذكرت تلك البجعة الكبيرة التي تمخر مياه البحيرة، شبيهة بسفينة فضاء، ربما تلك التي صممها (استانلي كوبريك) في فيلمه (أوديسة الفضاء).. فقد كان ذلك المخرج المتماهي مع الطبيعة والعزلة بعيداً عن صخب الأضواء والشهرة والاجتماع، ربما كان يسكن غير بعيد عن هذا المكان، في بيته المنعزل النائي عن الجيرة والعيون، مسوراً بالكلاب البوليسية والأسلاك الشائكة من فرط رغبته في توفير شروط عزلته بعيداً عن فضول الصحافة والإعلام، خاصة لمثله من أصحاب البريق.. أمام تماهيه مع الطبيعة الحية، الذي لم يقتصر على مسلك حياته الشخصية، بل على أسلوب عمله في السينما. فقد كان لا يرغب في حدود الممكن حتى لو كان شاقاً، التصوير في الاستوديوهات بل في ربوع الطبيعة والجمال الحسيّ المباشر. يُروى أن المخرج الايطالي فريدريكو فلليني، المعجب بسينما كوبريك، رغم اختلاف أساليب العمل السينمائي، ومنها حب هذا الأخير العمل في الأستوديو، حيث يشيّد عمارته الفنية الباهرة. وكان يعلّق على طريقة كوبريك، بأنه حين يستدعي سير العمل تصوير عشّ طائر في ضوء الفجر. يعسكر كوبريك مع فريق العمل الضخم لأيام في إحدى المناطق، حتى يحصل على المشهد المناسب كما تجود به الطبيعة ووفق تصوّره.. يعلق فلليني أن تلك مشقة بالغة، فلو صمّمه داخل الاستوديو في ظروف مريحة، ووقت قصير، ربما يحصل على نتيجة أفضل.
اختلاف الأسلوب والرؤية بين كبيرين في تاريخ السينما العالمية.
ثمة حكاية أخرى من الطرائف العميقة يرويها (فلليني) حين أخرج فيلمه (السفينة تبحر) وهو من أواخر أفلامه العظيمة، بنى وصمّم السفينة ببحرها ومخلوقاتها باستثناء الممثلين بالطبع، وحيواناتها، حيث نشاهد وحيد القرن في ردهة في السفينة.. حين أكمل عمارة مناخاته وعناصره التي تتحرّك في مساحتها الشخوص والأحداث، جاء منتج الفيلم (كارلوبوتي) صديق المخرج وزوج الفنانة (صوفيا لورين) واقترب من فضاء السفينة، أخذ في رفع بنطلونه كي لا تغمره مياه البحر الخيالي..
المُتخيّل والفنطازي أحياناً أكثر حضوراً وواقعيّة من الواقعي والطبيعي، وتلك فضاءات، لها سياق جدلها ووقائعها.
* * *
أعشاش في ضوء الفجر البهيّ المضيء، أو الشاحب الكئيب، أعشاش في غسق الغروب، أعشاش وأعشاش بطيور وديعة مسالمة، طيور البر والبحر، أعشاش لتلك الضواري التي تندفع إلى الأعالي والمرتفعات الوعرة. بسمو غرائزها الافتراسية وبطبيعتها، تجافي المنخفضات وحضيض الأمكنة والأشجار والتلال، تذوقتْ وأدمنت منذ ولادتها هواء القمم الصافي، فلم تعد تستسيغ أي هواء آخر، حتى لو كان دونه الموت الزؤام والانتحار. هناك فصيل من نسور الأعالي حين تلحق بها إهانة أو ضعة، لا تستطيع ردها، تنتحر بمحض إرادتها وتغادر مسرح الحياة البائس..
في هذا المنحى، يمكن التشبيه بالبشر الأحرار الذين أدمنوا شعور الحريّة، طعماً وفضاء، حتى ولو كانوا داخل سجون الطغاة، لا يستطيعون الحياة كيانيًا، في حظائر العبودية ومستنقعاتها. ويفضلون الانتحار بأكثر الطرق نجاعة وفتكاً..
طيور تحرس أعشاشها عن اعتداء طيور أخرى وغدْرها او تترك مهمة الحراسة للأنثى، حين الذكر يجول ساعياً لجلب الرزق والطعام لصغاره في الأعشاش.. على عكس عالم الأسود خاصة، اللبؤة، هي التي تسعى ليلَ نهار، لتوفير أساسيات الحياة للصغار، بينما أسد الغابة يتولى الحراسة، حيث يطوح به كسله أحياناً ويغرقه في نوم مستمر، لتأتي الضباع الماكرة وتفترس الأشبال بفكيها الأكثر قوةً وقذارةً بين فصائل الحيوان.
حين كنا صغاراً كانت الأعشاش في الوديان والهضَاب، فوق الأشجار وفي جذوعها وأحياناً في جروف الصخور الجاثمة، هي مهوى رغباتنا الطفولية. نسعى إليها منذ الصباح الباكر، حين ينبلج ضوء الجبال فوق الأعشاش المضمّخة برائحة الأعشاب البرية، ورائحة الطيور والنيازك المتساقطة ليلاً وتلك الظباء الجفولة.
يذهب بنا جنون الطفولة أحياناً إلى تكسير الأعشاش وتحطيم حياة الصيصان الخارجة تواً من بيوض الأمهات، بلذة غامضة وجموح.. أي فَقد وجراح تحسّه الأمهات المحلقات حول الأعشاش من غير قدرة على الدفاع الحاسم عن صغارها، فلو كانت من الكواسر لانقضت علينا ماحية كل أثر لوجودنا في تلك البريّة النائيّة.
أي المشاهد يرصدها ويختارها (استالي كوبريك) لأفلامه وفي أي سياق درامي، وأي درجة لانعكاس ضوء الفجر على الأعشاش وحيواتها النابضة المتفتحة على حياة مقبلة ستكون بذلك العمر الزمني المصحوب بكثافة الجمال والبراءة؟
* * *
أخبرني (عزّان) وكنا نتنزه في الغابة، بأنه ذات يوم صباحي حين كان منزلنا في منطقة (العذيبة) بمسقط، رأى صوصاً يسقط من عشه في غدير الشجرة، كان الفصل شتاء وفق طبيعة الطقس في بلادنا، ولم تكن أم المخلوق الصغير الذي ما زال يرى النور منذ قليل، ذاهبة لجلب الغذاء لأفراخها «زغب الحواصل لا ماء ولا شجرُ»- حسب الحُطيئة.
رآه عزان يسقط من العش إلى الأرض، أخذه إلى أمه وذويه الذين اخذوا يعتنون بالفرخ الصغير، ويسقونه ويطعمونه حتى شبّ قليلاً، ثم ذهب به عزّان إلى شجرة ولادته التي طار اليها منطنطا من غصن إلى غصن حتى وصل العش فكان في رعاية الأم مع اخوته، التي أخذت ترفرف نشوة وفرحاً.
وحين كنا صغاراً، كنا نرى الأعشاش الكثيرة تتدلى كبيرة وصغيرة من أشجار النخيل والسدر والغاف والمانجو وأشجار مختلفة. ولا يتورع الصيادون الملفّعون بالبنادق عن توجيه الرصاص اليها لتسقط الأم مع أفراخها، مثلما تبعثرها رياح الغربي أحيانًا، وتذروها في الجهات. وإذا سلمت الأم أحياناً بسبب غيابها المؤقت عن العش وحصلت الواقعة المأساوية، فيمكنك أن تراها، تطلق من على صخرة في الوادي أو داخل أرخبيل النخيل، صوتاً يشبه النواح والنشيج.
* * *
جيفة الحيوان الصغير، في آخر مراحل تحللها حتى التماهي الكامل، ذرةً من تراب الحقل الذي شهد ولادتها منذ زمن قصير.
* * *
موكب غمّة وغمام.. خطرت لي هذه العبارة إثر سماعي أخبار بلدان عربيّة، أو البلاد العربية النائية في المسافة، لكن القلوب مأهولة بجراحاتها ونحيبها الذي لا تقطعه المسافة والزمان.. شلال دماء ودموع.. فقد كان زحف الغَمَام وتكاثف السُحب والغيوم بعد أيام صحو وسطوع، يريح النفس القلقة، لكن مثل هذه الأنباء الحزينة تقلب الطبيعة والطقس من إنعاش للروح إلى كآبة ودوار..
* * *
من المبدأ ذاته بغية تهدئة القلق والاضطراب دخلت منذ أيام مقبرة تقع على سفح المدينة، في منحدرات جبلية تسلمك في نهاية مطافك الجنائزي إلى حي مليء بمطاعم ومقاه تركيّة وأثيوبية. كلمة «جنائزي» غير دقيقة في سياق زيارة مقبرة أوروبيّة على جاري العادة، ثمة جنة أشجار كثيفة وارفة النعمة والظلال تغطي عموم المقبرة الأنيقة دائما. لكن هذه الأناقة لم تستطع إخفاء الطابع «الطبقي» للمقبرة، فهناك قبور الأثرياء المترفة بالرخام والقبب والنقوش ، تبدأ من قمة الهرم الاجتماعي حتى أدناه. كأنما الموت والتراب لا يستطيع تذويب التفاوت الاجتماعي، لكن أرواح الموتى جميعها تنعم ببهجة الخصب، ونماء الطبيعة وجمال الطقس. بحيث أن مخيلة الأحياء يمكن أن تذهب بأن موتاها ينعمون في أعماق حفرهم الأزليّة، ولا تبعث ذلك الرعب والقشعريرة التي تبعثها المقابر في البلاد الأخرى، مثل بلادنا، التي تقصفها الشموس والقحالة على مدار الأزمان، من غير علامة ولا اسم ، عدا شاهدة يتيمة تضمحل بعد أيام من رحيل الفقيد. طبعا الأحياء لا يعلمون ما وراء الحُجب والغُيوب لكن الخيال، له قوانينه الخاصة، أو بالأحرى كسر القوانين المتبعة بتسلسلها المنطقي، الأخلاقي والديني.
ما أثار انتباهي أكثر أن حافة بوابة الخروج مليئة ببراميل الزبالة الكثيرة المليئة بالفضلات.
فالمقبرة لا يقطنها أحد، مثل مقابر القاهرة، التي يسكنها ملايين الأحياء، وعلى طريقة ابي العلاء المعري، حيث الهواء يشهد تزاحم الأضداد في احتقانه وتتطايره برفات الموتى المتراكمة منذ بدء الخليقة، هناك في المقبرة العربية تزاحم الأحياء والأموات على بقعة الأرض المخصّصة للمقابر والتُرَبْ. في المقبرة الانجليزية لم أشاهد، ليس ساكنة فحسب، وإنما حتى حارساً أو زائراً بالصدفة الذي ربما يأتي أيام الآحاد.
إذن ما سرّ براميل الزبالة الكثيرة في حيّز المقبرة وليس على حوافها أو خارج أسوارها المرصودة يقينا مثل بقية أركان المدينة بالكاميرات والحراسات الالكترونية؟
* * *
«… كأنّ القلبَ حين يُقال يُغدي
بليلى العامريّة أو يُراحُ
قطاة عزّها شرك فباتت
تجاذبه وقد عَلِق الجناح
لها فرخان قد تُركا بقفر
وعشّهما تصفّقه الرياحُ
اذا سمعا هبوبَ الريح نصا
وقالا: أمنا تأتي الرواحُ….»
ماذا لو قرأ (ستانلي كوبرك) هذه الأبيات المحتشدة بالفقد والحنين والجراح بين أفراخ الأعشاش الوليدة والأم العالقة في أشراك الخطر وهي تنازع شبح الموت الجاثم والشوق وحلم العودة المكسور… ماذا لو قرأها المخرج وهو في غمرة تصوير أعشاش الفجر، كيف سينقل هذا المشهد المأساوي الفريد الذي نسبه الرواة إلى أكثر من شاعر «عذري» من لغة الشعر والكلمة، إلى فضاء السينما وإمكاناتها المتعددة ، ربما لغة الشعر والأدب أحياناً تكون أكثر غنى، دلالة وتعبيراً، عن لغة السينما والفنون الأخرى؟!
* * *
قبل انفجار الحركة في أنحاء المدينة، أذهب إلى المقبرة، الضوء ما زال يزحف على المكان ضوء غائم معجون باللطافة والمسرة، نور أمل في حياة ممكنة قادمة. على الأرجح هذه المرة لم اذهب إلى ديار الموتى لتأمل الوجود والعدم، الموت والحياة، وإنما كحديقة شاسعة، هي الأقرب للمنزل الذي أقيم فيه أجد ذلك أجمل قبل الاندماج بحركة الجموع كغريب في مدينة غريبة. أتطلع شارداً في الأشجار السامقة المختلفة، خاصة أشجار السرو «حارسة أرواح الموتى» وقد طردت قبل قليل فكرة ثنائية الموتى والأحياء. فنحن كلنا موتى وفق تنفيذ مؤقت، لثوان او ساعات أو ربما لعقود وسنين… مع تعاقب تلك الفصول على حياة المرء وتسابق الأعوام وأثقال الذكريات يكون الموت خاتمة طبيعية. أما خطف الكائن منذ الطفولة، أو في مقتبل الحياة، عنوة وقسراً، فذلك ليس إلا اعتداء صارخ ووقح على برعم حياة يمكن أن ينمو ويزدهر في مسار هذا الخضم من الاحتمالات والاختيارات التي يجود بها الخالق والزمان.
* * *
من الرائع أن تبدأ يومك بمعانقة الظلال والأطياف الخضراء لطبيعة أزلية، وُجدت قبل الانسان والحيوان، وستستمر بعدهما، من هنا تلك الثقة والطمأنينة والصلابة، الغائرة كبيئة وجود لتلك الكينونات والحيوات الروحيّة والجمالية من غير زهو ولا ادعاء ولا شعارات ولا نشيد، عدا نشيد الأزل الصامت العميق.
وإن لم تجدْ السماءُ بمثل هذه الحدائق والغابات القائمة، فربما سيكون هناك البحر، أن تلقي النظرات الأولى والتحية، بعد صحوك من نوم ثقيل، إلى البحر الموصول بالمحيط والأبديّة، فذلك نوع من عزاء، خاصة إذا استحال عليك السكن على ضفاف الكون الوحشي بعيداً عن تلك «المُدن» التي بناها السماسرة والمقاولون، على عجل. لتكون نقيضة للجمال والأحلام. أفكر في المُدن العربية، فتلك الأضرحة، من كتل الطوب والأسمنت والحديد ، على غير معمار جمالي وعقل هندسي محكم، تكون الطبيعةُ والخيال جزءاً من كينونته ووجوده. المدينة العربية الكلاسيكيّة دُمرت، وما تبقى منها ليس إلا علامات فلكلورية لجولات السياح والعيون الفضوليّة العطشى إلى كل ما هو غرائبي اكزونتيكي. المدينة العربية الحديثة التي بُنيت على أنقاض القديمة لم تحقق أي شرط من شروط الحداثة، إنها تجميع عشوائي تجاري لعناصر لا يجمعها إلا القبح ورداءة الذوق والانحطاط. انها أضرحة الأحياء بامتياز.
المدينة الأوروبية على سبيل المثال، التي بلغت فيها معايير الحداثة الحقيقية طوراً أعلى ورفيعا، أشبعها فلاسفة وفنانون وشعراء، هجاء مفزعاً في معاداتها لانسانية الانسان ولفظاظتها ورأسماليتها الوحشية. إذ لا شيء يعلو على النقد حتى لو توسل الرفعة والجمال. من هنا استمرار حضارة الغرب، وأمريكا جزء من هذه الحضارة- بقوتها ومتانتها على صُعُد ومستويات شتى. ظلت هي مركز الكون ومتنه الحصين. تلك الحضارة التي تنبأ فلاسفة ومفكرون منذ القرن التاسع عشر بانهيارها واضمحلالها. يقف كارل ماركس ومدرسته ، في طليعة المحللين اقتصاديًا واجتماعيًا وآليات اشتغال، لانهيار تلك الحضارة القريب. وقد هاجمتها التناقضات والأزمات المريعة الخانقة التي كادت أن تودي بها أو تضعفها ، لكنها في كل مرة، خاصة مطالع القرن العشرين حتى نهاية الحرب الكونية الثانية، تستطيع تخطي الأزمات والانهيارات، بفعل قدرتها الديناميكية على المراجعة والنقد والتجديد والإصلاح ، لدرجة أن لو عاد ماركس في البرهة الراهنة لأعاد النظر في الكثير من اطروحاته الأساسية، حول الطبقات ورأس المال، والمؤسسات المدنيّة، والنقابيّة، التي عملت على ضخ الدماء المتجددة في عروق الحضارة ودولها وتجمعاتها ومؤسساتها… الخ.
وربما ساهم ماركس نفسه في طرح تلك الحلول والأفق البديل.
هذا على صعيده الداخلي، أما دول العالم الأخرى، العربي هنا، فأي محاولة جديّة للخروج من عهود الظلم والطغيان المطلق، الغرب الحضاري أول من يصادره، بالمكر والخداع والاحتواء التدميري، أو بالقوة الضاربة..
أما القوى الأخرى مثل روسيا الراهنة والصين مثلاً، فلا تناقض بين داخلهم الطغياني على النمط الآسيوي الاستبدادي، وبين رغبة جرّ الخارج على مثالهم. هناك انسجام وتناغم كاملان.
* * *
أشرتُ إلى (النزل الذي أقيم فيه) الشقق الفندقية المؤقتة في الحالة العائلية، الهوتيل و(الموتيل) بلغة الخواجات. الأول بنجومه ومقاماته المختلفة. والثاني أكثر ملاءمة للمتسكعين بين المدن والأرياف المختلفة.. كيف تستقيم الإقامة التي تعني الثبات والاستقرار مع المؤقت والعابر؟. هناك تناقض سطحي يتبدى في اللغة والدلالات التي يحملها ظاهر القول، والنطق ، لكن في حقيقة الكائن والوجود الأعمق، ليس من تناقض وأن العابر والراسخ المستقر، يتبادلان المواقع والأدوار، حتى العابر والأبدي، لا يندرجان في ثنائية متناقضة، بقدر ما يتحدان اندماجاً وهياما في ضوء تلك الحقيقة الخصبة المتشردة بين أزقّة الأفكار والوقائع باستمرار.
في حكاية ذلك الصوفي الذي نزل ضيفا على أحد الملوك العابرين الذين تصفهم الحكايات دائما بالحكمة والتأمل والثقافة. أعجب الملك بالصوفي ومعارفه ورؤاه العميقة، فطلب منه أن ينتقل من اقامته المؤقتة، إقامة الضيوف العابرين إلى جناح في قصره الشامخ الشاسع، ليكون جزءاً من هذه المنظومة الملكية القارّة والمكينة. رفض الصوفي طلب الملك وحين سأله عن علة رفض هذا الكرم الباذخ، الذي لم يسبق لأحد أن رفضه، أجاب صوفي الحكاية والسرد: إن القصر والمضافة السريعة العابرة لا يختلفان في جوهرهما، وإنك أيها الملك العظيم لست إلا ضيفاً وعابراً في هذا القصر المنيف الذي يحمل تاريخ أشباح الغابرين من أقيال سلالتك الذين لاينقصهم المجد والعظمة. أنت ورثته عن أبيك، عن جدك ، عن جدك …. الخ، كلكم ضيوف في هذا القصر، تأتي برهة من الزمن المقدر لك وترحل. إقامة ورحيل، رحيل وإقامة، هكذا لا فرق بين القصر، والمضافة أو الفندق، لا فرق بيننا أيها الملك، نحن كلنا ضيوف عابرون. ولا نعرف من هو المقيم الحقيقي الأبدي في مهب عواصف الموت والفناء التي تغمر الأجيال المتعاقبة بشلال محوها الذي لا ينقطع…
* * *
حين أجلس منتشياً في ركن من أركان الغابة ، أو البحر أو الصحراء.. أحرص أن يكون هناك حاجز بيني وبين الفضاء اللامتناهي للفراغ المهيب.. انه يخيفني أكثر من أشباح المفترسات البشرية والحيوانية والضباع. ترعبني دواماته وهوامّه، أخاف أن يبتلعني في تضاريس أعماقه السحيقة.
* * *
هل رعب الفراغ المظلم الممتد من غير بداية ولا نهاية، هو الذي دفع قدماء فلاسفة الصين واليابان، إلى إقامة ذلك الحوار العدمي، لكن الخلاّق كون فلسفة الشرق فلسفة عدم ، مقابل فلسفة الكينونة لدى الغرب كما عبر باحثون. هل كانت نظرية الفراغ، هي الجذر العميق الذي انطلق منه أولئك الفلاسفة الشرقيون الرؤيويون بامتياز. وهل تستقيم هذه الثنائية على خط زمني طويل من غير تقاطعات أم نشهد اختراقات كبرى وتبادل أدوار واختلاط لا يمكن تحديده وفرزه على هذا النحو.
الفيلسوف الياباني (ناشيدا) بعد الحرب العالمية الثانية وفي أثنائها، حاول الجمع في متنه الفلسفي ، بين روحانية الشرق وماديّة الغرب في مركّب فلسفي واحد. ربما يفضي إلى دمج «العدم» والكينونة في سياق يطمح إلى إنارة الأفق الكارثي المدلهم أكثر.
هناك فلاسفة في الغرب أكثر تعقيداً وجوديًا وتركيبيًا من هذا ، الضيق ، انهم عدميون كبار وان لم يكونوا على صلة مرجعيّة أو تفاعلية واضحة مع ذلك الشرق البعيد ورؤاه.
وأشار (هايدجر) في أحد حواراته أو كتبه، إلى أن تطور الغرب الحضاري التكنولوجي العلمي والفلسفي ومعطيات هذا الانعطاف النوعي يفجِّر مفاهيم وأنماط تفكير نابعة من عمق مساره الصعب، ولا تمدّه الروحيّة الشرقية بأي زادٍ حاسم لحل إشكالاته ومساراته التي لم تحظ البشرية الأخرى بما يماثلها.
الروح العدميّة ربما، لا يحدّها شرق أو غرب، انها عابرة تاريخ وجغرافيا ومفاهيم، وان ارتبطت بمسار تاريخها الخاص. فهي مترحلة على الدوام بين الثقافات والفلسفات، وربما الأكثر دقة بين أفراد ونخب بعينها، كما كان ارتطامها بوقائع التاريخ في انعطافاتها الحادة بالمفاهيم والمعارف القارّة المكرسّة، بجانب روحها المرهفة المتأملة في الباطن والأعماق، هباء الكائن العابر متنَ التاريخ وهامشه ان صحت العبارة؟!
مسألة ثنائية الشرق ، في تعيينه بفلسفة العدم، والغرب بالكينونة، مسألة نظرية تكثر فيها النماذج والأمثال المخترقة لجهاز هذه الثنائيّة وإن لم تلغه بالكامل:
البوذا ولاوتسي كانا عدميين على رغم نزعتهما لإصلاح العالم من خلال إصلاح الخلل الجوهري والانحطاط القيمي في كل صُعُده. وفي نفس السياق بعد قرون ابوالعلاء المعري وابن سبعين الذي صرخ (اكفروا بعصركم…) والسهروردي والحلاج على رغم صوفيتهم التي ترشح منها أثقال يأس من العالم.
حتى نتيشه ، هايدجر، سارتر ، كامو… والقائمة تطول وتطول، عصر العَدميّة يمتد ويشمل أنحاء شتى حضورا وفلسفات وآداب شتى مختلفة.
* * *
كان يتوسل يتضرعُ بانكسار:
أيتها الكراهية
امنحيني مزيداً من هباتك
وحناك
كي أستطيع إبادة هذا العالم
* * *
هذا المتضرع إلى صحراء الكراهية التي يقينا لا تنبلج منها ورود وينابيع، وإنما ضراوة السحق والتدمير..
لم يكن إلا متيما بالحياة والقيم الانسانيّة والجمال. وحين شاهد وعانى مرآى الصيرورة البشرية في فظاعات قسوتها وجموحها الغريزي التصفوي الذي تخجل كائنات الغاب الوحشية منه. ولاشك ستدمع لها عين ويرتجف قلب وتخجل حتى أن تكون ماضياً لهذا الجنس الباغي المدعو بالبشر أو الانسان.
* * *
أطاردكِ بالنظرات المتعبة نفسها ، التي ودعتك بها في العام الماضي، إلى آخر
الزقاق المؤدي إلى شارع الخسارات..
فرجكِ ، هو الانتصار الوحيد،
قوس قزح يلّوِن سماء المدينة المقفرة
مرتجفاً منذ الطعنة الأولى
بنشوة مياه البحيرة الوحشية
* * *
كان قبل رحيله من مكان إلى آخر ، من بلد إلى بلد وقبل أن تقله العربة إلى المطار أو الميناء، يتمشى في الصالة جيئة وذهابا سارحاً إلى آفاق لا حدود لها أو ضفافاً… كان يتمشى معتمراً قبعة تشبه قبعات رجال المافيا والعصابات، كأنما على وشك تنفيذ جريمة تقتضي إبادة الخصوم، فكّر أن كل رحيل جريمة في حق شخص مجهول كان هو الأقرب إلى الروح والعاطفة، اختطفه الرحيل الحتمي والغياب. وما زالت روحه تلاحق الحي العابر في الأزقة المظلمة والتخوم.