حاورتها: لورين إيلكِن
علي عبد الأمير صالح – مترجم عراقي
في العام 1999، وأنا أُقيم في فرنسا أول مرة، التقطتُ نسخة من (شغف بسيط)، وهي رواية من تأليف آني إرنو، في شركة (Fnac) التي تبيع بالمفرد. لغتي الفرنسية لم تكن قوية، إلا إنّ المفردات اللغوية كانت بسيطة، مثلما كان عليه موضوع الرواية: هوس امرأة ما بعشيقها الروسي. “من سبتمبر العام الفائت”، تكتب إرنو، “لم أفعل شيئًا باستثناء انتظار رجلٍ ما: أن يتصل بي هاتفيًا وأن يأتي إلى منزلي”. أيامٌ كاملة تنقضي في هذه الحالة المتصاعدة: دائرة الانتظار، وبعدها أخيرًا سماع صوته، أو رؤيته، ومن ثم الشعور بالفراغ مجددًا، الذي أعقبه التعطش المباشر لأن أكرّر التجربة. علّمتني تلك الرواية كثيرًا جدًا فيما يتصل بعدم تحقيق الرغبة. أحببتُ الطريقة التي كان فيها النثر مقتصدًا وغير عاطفي، وطوال الوقت تستدعي التجارب التي استحوذت عليها العاطفة، وفي الوقت المناسب، فيما أنا أقرأ روايتها الأخرى، أصل إلى الفهم بأنّ هذه الـ (plate écriture)، أو (الكتابة المُسطحة)، هي واحدة من أقوى ميزاتها، ولعلها ميزة استثنائية إلى أقصى حدّ. من كتب مثل (المكان، 1984)، الذي نالت عنه جائزة رينودو الأدبية، وهي جائزة فرنسية رفيعة المستوى، أو (امرأة، 1988)، التي تتناول وفاتيْ والد إرنو وأمها، على التوالي، إلى (السنوات، 2008)، التي ترجمها مؤخرًا إلى الإنكليزية أليسون أيل. ستراير، تعرض إرنو قدرةً لافتة حيث تأخذ التجارب المُوجِعة جدًا وتجعلها بلا تردد، خاليةً من الحُكم الأخلاقي.
وُلدت إرنو في العام 1940 في (نورماندي) لأسرة تنتمي للطبقة العاملة؛ كان والداها يعملان في مصنع ومن ثم توليا إدارة مقهى صغير ومحل. هذه الخلفية أفادت جميع أعمال إرنو في أعمالها الروائية التجريبية(1) مثل (الخزائن الفارغة، 1974)، (ما يقولونه أو لا شيء، 1977)، إلى تحفتها المتأخرة (الحدث، 2000)، حول حالة إجهاض غير شرعي، أو روايتها (مذكرات فتاة، 2016)، التي تجري أحداثها في صيف العام 1958، حين عملت مستشارة أو ناصحة في معسكر صيفي في (نورماندي)، وتكشف العار الذي أحست به عقب تجربتها الجنسية مع مستشار آخر هناك. إليزابيث بوين(2) وصفت نفسها ذات مرة باعتبارها كاتبة “تُخيّم عليها الأمكنة”، هذا الشيء ينطبق أيضًا على إرنو، التي كان الماضي بالنسبة لها مكانًا، الطبقة مكان، الصور الفوتوغرافية أمكنة، الكتابة مكان. ربما يرجع هذا إلى الطريقة التي تنقلت فيها بين الطبقات الاجتماعية، كما وَصَفتها لميشيل ﭘورتيه(3) في فيلم وثائقي أُنجز حول أعمالها: “والداي عاشا في خوف من الانكفاء إلى عمل المصنع”، كما عبّرا، إلا إنه خوفٌ أكبر بكثير، أقدم بكثير، أعمق بكثير، وهو تأكيد على قيودهما. لقد مررتُ إلى عالَم لا يمتلك روح الجماعة(4) ذاتها، طرائق الكينونة ذاتها، أو التفكير. هذا الاختلال ظلّ يسكنني، حتى على المستوى الجسدي. كانت هنالك مواقف أحسستُ في أثنائها… لا، هو ليس حياءً، أو عدم ارتياح. إنما هو مكان. كما لو أنني لم أكن في المكان الصحيح… المكان الذي لا يوجد فيها أيّ واحد من هذين هو الكتابة. الكتابة مكان، مكانٌ خالد”.
إذًا، كي تضع ما توشك أن تقرأه: جلسنا في منزل إرنو الجميل، متجدّد الهواء في (المدينة الجديدة) (ville nouvelle) من (بلدية سيرجي) التابعة للقسم الإداري (بونتواز) في الضواحي الشمالية الغربية من باريس، طريقه الخاص يبعد نصف ساعة خارج باريس. كانت تجلس على كنبة قطيفة زرقاء اللون؛ وفي لحظة ما أتت حفيدتها البالغة خمسة عشر عامًا كي تقول (مرحبًا). المنزل، الذي أقامت فيه طوال أربعين عامًا، ودوّنت فيه جميع كتبها باستثناء أول كتابين لها، ظلّ باردًا بنحو استثنائي، على الرغم من موجة الحرارة الشديدة؛ كان مفتوحًا على شرفة ذات منظر مكوّن من حقل أخضر وبعض الأشجار اليافعة، البهية. الحوار جرى بالفرنسية؛ وأيّ أخطاء أو أشياء غير مناسبة في الترجمة أنا وحدي مسؤولة عنها. استغرق الحوار نحو ساعتين وكان حوارًا مكثفًا؛ في ما أفردتُه. تحدثنا من بين أشياء أخرى، عن حَمْلي الحالي، حالات حَمْلها المتكررة، أحفادها وحفيداتها، والكاتبتين الأمريكيتين اللتين حثثتُها كي تقرأ أعمالهما (كريس كراوس(5)، ماجي نيلسون)(6). ما لم أستطع أن أقبض عليه في إعادة الكتابة أو الترجمة هو ضحكتُها – ضحكتُها الغزلية، المحببة إلى القلب. أتمنى أن يكون باستطاعتك أن تسمعها عزيزي القارئ.
أنتِ، إذًا، لا تعدّين نفسكِ روائية؟
– بلى، إنه مصطلح لا يُناسبني على الإطلاق. وحتى إننا أكثر من ذلك نميل لأن نسمي الكاتبات “روائيات”، في حين أنّ الكتاب الذكور يُصبحون “كتابًا” لا غير. وهنالك على الدوام مزيدٌ من الرجال يُطلب منهم أن يكتبوا عن الأدب أكثر مما يُطلَب من النساء في صفحات الكتب في جريدة (لوموند) – في اللاوعي الجمعي “الكاتب writer” يعني “رجل”. أو ربما هكذا هو الحال في فرنسا.
• أعتقد أنّ الحال هكذا في (الولايات المتحدة) و(المملكة المتحدة) أيضًا. أنتِ إذًا تساندين تأنيث اللغة؟ هل تُشيرين إلى نفسكِ باعتباركِ كاتبة أو امرأة تكتب (écrivaine)؟
– نعم، أنا كاتبة. في البداية لم أكن أرغب في ذلك، إنما الآن، باتت الكتابة مسألة عادة. أنا لا أمضي بعيدًا جدًا كي أستعمل “كتابة شاملة” (écriture inclusive)، غير أنّ هذا لا يُزعجني.
هل تصفين ما تكتبينه باعتباره سيرة ذاتية، أم كتابة سهلة؟
– لا هذه ولا تلك. أنا مهتمة للغاية بفكرة النص الذي بلا جنس أدبي. غير أنكِ تخاطرين، ذلك أنّ الآخرين يُعرّضونه للخطر من خلال القول إنه ليس أدبًا إن لم يُحدد جنسًا أدبيًا مُعينًا. إلا إنه يوجد مزيدٌ ومزيد من النصوص على غرار هذا- وكثيرٌ من هؤلاء الكتاب يُصرّون على تسميتها “روايات” حتى حين يكون واضحًا أنّ ما كتبوه من نصوص ليس كذلك، لأنّ الروايات تبيع. رفضتُ أن أفعل ذلك.
• في مقالةٍ كتبتِ عن (مناظر خارجية) (JOURNAL DU DEHORS)، كتبتِ أنه محاولة للكتابة في “أنا متخطية ما هو شخصي” (je transpersonnel). ماذا يعني ذلك؟
– ما أعنيه بذلك هو أنّ كلّ شيء يُمكن أن يكون مُعارضًا لضمير “أنا” السيرذاتي(autobiographical je). ما أعنيه بـالضمير (أنا) (je) كما أفهمه، هو أنه ليس هوية تتطابق معي ومع تاريخي، إنه ليس ضمير “أنا” (je) السيكولوجي، إنه ضمير أنا (je) مُعلَّم بالتجارب الجماعية، المُشترَكة التي عرفتها كثيرات منا- موت أحد الأبوين، حالة النساء، الإجهاض غير الشرعي. خلاصة هذا “الـ [أنا] المتخطي ما هو شخصي” (je transpersonnel) هي رواية (السنوات)، حيث يختفي ضمير (“أنا” je) تمامًا. بالنسبة لي ضمير “أنا” (je) ليس هوية، بل هو مكانٌ، مُعلَّم بالتجارب الإنسانية والأحداث الإنسانية. هذا هو ما حاولتُ أن أُلقي الضوء عليه من خلال كتابتي. أقول “أنا المتخطي ما هو شخصي” (je transpersonnel) لأنه ليس الشيء الفردي، أو ما له صلة بالحكاية، الذي يُثير اهتمامي، بل الشيء المُشترَك، سواء أكان هذا الشيء المُشترَك اجتماعيًا أو حتى نوعًا ما أشبه بما هو سيكولوجي، في عالَم رد الفعل. بهذه الكيفية قد أكون متيقنة من أني أُوضح شيئًا غير قابل للاختزال وأجعله تاريخًا شخصيًا. جوهريًا، أُريد أن أضع نفسي على مسافة معينة، أكبر مساحة بين ما عشتُه وبين مَن كنتُها- إنه شيء يتعلّق بمسألة أن تكوني قادرة على أن تُقصي نفسكِ. وهو موقف، بالطبع، وقد استغرق وقتًا كي أُؤسسه؛ كتبي المبكرة جدًا مُعلّمة إلى حدّ كبير بالمؤثرات. لا تزال هنالك مؤثرات في الأوقات اللاحقة، إنما يتعين عليكِ أن تجدي طريقة ما كي تتحدّثي عن تأثير ما دون أن تجعليه منسوبًا إلى الكاتبة نفسها.
هل جاء هذا من خلال أسلوب “الكتابة المُسطحة” الذي يتحدّث عنه الناس عادةً فيما يتصل بعملكِ؟
– نعم، مُسطحة لأني كتبتُ بتلك الطريقة، أتى إليّ بتلك الطريقة، إنها طريقة موضوعية أكثر، مُبعَدة أكثر، واقعية أكثر.
عندما تقولين إنه يأتي إليكِ بتلك الطريقة، هل يعني هذا أنكِ لا تكتبين فوضى كاملة من مسوّدة ومن ثم تشطبين كلّ ما هو شخصي للغاية أو ما هو مُثير للعاطفة؟
– لا، إنه يُولَد من مُقارَبة معينة للصفحة الفارغة، وهذه ربما أسهل في حالتي- إنه شيء ذو أهمية بالغة أن تُغيّري الطبقات، لأني لا أفهم الكتابة بوصفها شيئًا مبذولًا. أنا بين ما يُسميه بورديو(7) القيم والميول habitus (9- قيمي وميولي الطبقية، ثقافتي الأولى، أسلوبي في الحياة في كنف الطبقة العاملة، والأدب، وما اختبرتُه باعتباره أدبًا. في الكتابة أنا أسعى دومًا من أجل حلّ هذين العالَمين، والصعوبة تكمن في محاولة أن أحمل إلى داخل الأدب شيئًا من ثقافتي الأولى.
إنها مكانية للغاية، الطريقة التي وصفتِيها؟
– أجل، كما تقولين مكانية للغاية، كما لو أنه يوجد مكانان مختلفان ينبغي جلبهما معًا: المكان الذي بدأتُ منه، الذي يمتاز بعنف معين، وعالَم الأدب. بشكلٍ من الأشكال، في كلّ مرة أكتب فيها، أُقهِر شيئًا ما. أتفهمين ما أعنيه؟
نعم، بكلّ معنى الكلمة. إنه شيءٌ يتعين عليكِ أن تكافحي من أجله؛ هو ليس شيئًا مبذولًا؟
– هو ليس شيئًا مبذولًا.
• هنالك كثير من الفراغات الخالية من الكتابة في كُتبكِ، هل تلك ترجمة بصرية لهذه العلاقة المكانية مع فعل الكتابة ومع الكتابة نفسها؟
– أجل. إنما ليس في كُتبي كلّها. في (السنوات) لا توجد صفحات كثيرة خالية من الكتابة.
لكن يوجد شيء مثير للاهتمام في الطريقة التي نشرتِ فيها النص على الصفحة؟
– نعم- المباعدة بين الكلمات والسطور! بالنسبة لي، إنه شيءٌ ذو أهمية أساسية أن أضمّ هذا الفراغ. إنه حيّز الشيء غير المقروء، حيّز الاختلاف، حيّز التمزق، حيّز أشكال التمزق. نعم، إنه نوعًا ما أشبه بذلك. إلا إنه وقتئذ ليس فراغًا لي، هو بالأحرى فراغٌ للقارئ أو القارئة.
إنّ أحد الأشياء اللافتة جدًا بالنسبة لي فيما يتصل بـ (السنوات)، هو أنه الكتاب الوحيد في مسيرتكِ الأدبية كلّها التي استعملتِ فيه صوت (الشخص الثالث)(9). كيف فهمتِ هذا الصوت؟ ماذا جرى لـضمير (أنا) الذي كان ذا أهمية بالغة في كتبكِ الأخرى؟
– لقد تطوّر إلى درجة الاختفاء في (السنوات)، وكذلك في كتابي الأخير(مذكرات فتاة)، وهو بصوتين مختلفين ومُمَيّزين للغاية، الصوت الأول والصوت الثالث. (أنا) للمرأة التي تكتب، و(هي) للفرد الذي أصفه، الشابة في العام 1958
لمّا كتبتِ (السنوات)، هل كانت تلك أول مرة تستعملين فيها صوت (الشخص الثالث)؟
– نعم.
كيف يبدو ذلك؟ لا يسعني أن أكتب على الإطلاق بصوت (الشخص الثالث)، إذ إنه يبدو دومًا صوتًا متكلّفًا للغاية أو كاذبًا للغاية!
– قد تحتاجين إلى الوقت ليس إلا! وعلى أية حال إنه ليس مثاليًا بالضرورة. ما حصل لي هو العكس، بعد سنوات من الكتابة بصوت (أنا)، الآن لم أَعُد أكتب بصوت (الشخص الأول).
لماذا؟
– لا أعلم. فقط أحسستُ بالطريقة ذاتها أنه يتعين عليّ أن أكتب بصوت (أنا)- كشيء ضروري.
هل هذا الصوت (هي) هو مجرد طريقة برّاقة أخرى، من طرائق كتابة (أنا)؟ طريقة ثني صوت (أنا) إلى ناحيته؟
– ثمة كثير من صوت (أنا) في صوت (هي)، إنه ليس صوت (هي) مُختلَق، إنه (هي/أنا)- لكنه (هي) على سبيل الاختصار. كلّ ما يفعله صوت (هي) هو (أنا). (أنا) بات صوتًا مستحيلًا بالنسبة لي، ليس نحويًا فحسب.
إنها طريقة أخرى في أن تضعي مسافة بين ذاتكِ وبين الصفحة؟
– أجل، مسافة أكبر حتى. إلا إنها تجعل الأمر أسهل بالنسبة لي كي أتكلّم، كي أكتب. في اعتقادي أنه ما كنتُ أستطيع الكتابة عن كلّ ما جرى للمرأة الشابة في العام 1958 في (مذكرات فتاة) لو أني كتبتُه بصوت (الشخص الأول). في الحقيقة صوت (هي) هو الذي حرّرني.
في (المكان الحقيقي)، تحدثتِ عن الطرائق التي يتكلّم فيها المجتمع من خلال الكُتاب والكاتبات الذين يُنتجهم، وفي خاتمة (السنوات) تُعطين للقارئ طريقةً لمقاربة النص:
“سيكون سرداً مُراوِغًا مُؤلَفًا في صيغة لغوية مستمرة، مُطّرِدة، مطلقة، يلتهم الحاضر فيما هو يمضي، طوال الطريق إلى الصورة الأخيرة من الحياة. إنه تدّفق، إلا إنه توقفَ في فواصل مُنتظَمة بواسطة صور ومَشاهد من الأفلام السينمائية التي قبضت على أشكال الجسم المتتالية والمواقع الاجتماعية لكينونتها- إطارات ثابتة على الذكريات، وفي الوقت نفسه تقارير عن تطوّر وجودها، الأشياء التي جعلته وجودًا فريدًا، ليس بسبب طبيعة عناصر حياتها، سواء أكانت عناصر خارجية (المسار الاجتماعي، المهنة) أو عناصر داخلية (الأفكار والطموحات، الرغبة بالكتابة)، بل بسبب مجموعاتها المؤتلفة، كل مجموعة هي فريدة في نوعها. هذه الصور العائدة لـ “ليست- هي باستمرار” تماثل في صورة المرآة، صوت “هي” الخاص بالكتابة”.
لا توجد “أنا” في ما تراه بوصفه نوعًا من السيرة الذاتية غير الشخصية. يوجد فقط “واحدة” و”نحن”، كما لو أنه كان دورها في سرد قصة الزمن- الماضي.
بذلك الشيء في بالي أود أن أتكلّم أكثر قليلًا عن هذه المسألة المتعلقة بالسيرة الذاتية غير الشخصية أو الجماعية. النساء اللواتي يكتبن عن حياتهن في كثير من الأحيان يُتهمن بالنرجسية، بالإفراط في تأمل الذات، والسيرة الذاتية الجماعية تبدو لي طريقة صادقة أكثر في مخاطبة العلاقة بين الـ (أنا) والـ (نحن)، والعالَم الذي أنتجنا، الذي يتكلّم من خلالنا، ويشكلّنا ويُعيد تشكيلنا باستمرار.
– نعم على وجه الدقة. في البداية لم تكن لدّي نيّة في كتابة سيرة ذاتية جماعية. سائر الخطوات التي اتخذتُها هي خطوات مكتوبة في داخل النص. ما أردتُه هو كتابة قصة عن امرأة عاشت خلال عهد ما، إلا إنني تقريبًا أردتُ لها ألا تكون هناك، ولم أكن أعرف كيف أفعل هذا- لو أنني انتزعتُها كليًا سيكون ذلك الكتاب كتابًا تاريخيًا، كان يجب أن يكون هناك وعي في داخل الكتاب. لذا باشرتُ في تكديس الصور والذكريات التي كانت في الوقت نفسه صورًا وذكريات شخصية وغير شخصية، بالإضافة إلى الأفلام السينمائية، والكتب، والذكريات، كلمات الأغاني، من دون أن أنسبها إلى أيّ فرد. بدأتُ بالزمن الذي وصلتُ فيه إلى العالَم- لم تكن لدّي ذكريات حقيقية عن العالَم نفسه، إنما تكوّنت لدّي تاليًا ليس إلا. لذا أصبح الكتاب عن هذا العالَم في الزمن الماضي- كيف تسنى لنا أن نعي به. لم أكن أكتب عن نفسي، إنما من خلال القصص، من خلال طرائقنا في الدراية، من خلال الطرائق التي نقابل فيها العالَم. إنه ليس كتابًا سيكولوجيًا، إنه أكثر ما يكون عن الظروف، عن وجبات الطعام الأُسرية. خطر ببالي حالًا أنه لن يكون عن تجربة شخصية بالأخص، إنما عن هذا التاريخ المتعلّق بفرنسا، وهذا التاريخ المتصل بسكان البلاد، العمال، الأيام الماضيات. وبعدها كان ينبغي لي أن أجد طريقة للاستمرار، لذا نظرتُ إلى الصور الفوتوغرافية القديمة، من مثل صورة طفلي الرضيع، لكن مع ذلك، لم يحصل شيء، لم يكن ثمة أحدٌ هناك. لا أعرف كيف خطرت ببالي فكرة أن أستعمل صورة فوتوغرافية [لاحقة]، غير أنني وجدتُ هذه الصورة الفوتوغرافية العائدة لفتاة يافعة عند الشاطئ، وكانت صورة فوتوغرافية لي بالطبع، ووصفتُ هذه الصورة الفوتوغرافية، ولمّا فعلتُ هذا، أدركتُ أنه ينبغي لي أن أختار: هل سأكتب (أنا) أم (هي).
إنها الصورة الفوتوغرافية التي حثتكِ كي تُقرري؟
– لم تعد بحوزتي أيّ مسوّدات هنا، إنها موجودة في (المكتبة القومية)(10)، إلا إنني أعرف أني في جزء من الكتاب استعملتُ (أنا) كما لو أنني الراوية، وأنا أصف هذه الصورة الفوتوغرافية باعتباري الراوية، باعتباري الصوت الذي يكتب. وبعدها وضعتُ الكتاب جانبًا برهةً من الزمن، ولمّا التقطتُه من جديد بدأتُ أكتب بصوت (هي)، ومن ثم توقفتُ عن استعمال صوت الـ (أنا) تمامًا فيما كنتُ أغطس عائدةً إلى ذكرياتي في خمسينيات القرن العشرين. وعقب ذلك أصبحتُ قادرة على وصف العالَم الذي ترعرعتُ فيه- برامج الراديو، الإعلانات، كلّ صنوف الذكريات. كتبتُ عن الخرائب بعد الحرب، لأني بالطبع كنتُ في (نورماندي)، فضلًا عن السعادة الاستثنائية بعد (التحرير). أردتُ أن تنفع ذكرياتي الشخصية باعتبارها ذكرى جماعية. إلا إنه لم يكن هنالك اختلاف حقيقي، لأن ذكرى أحداث معينة- ملعبي الأول، أول مشاركة لي في (سباق الدراجات السنوي في أنحاء فرنسا)- هذه ذكريات جماعية، أحتفظ بها بوصفها ذكرى فردية. أردتُ ببساطة شديدة أن أستفيد منها كي أفهم هذه الحقبة الزمنية. هي ليست عمل أرشيفي يعود لمؤرخ، فهو لا يستطيع أن يكتب بصوت (الشخص الأول) حتى، أو أن يستعمل ذكرياته الخاصة. في حين استعملتُ على وجه الحصر تقريبًا ذكرياتي عبر صفحات الكتاب كلّها. الذكرى الجماعية هي في النهاية، كيف عشتُ، كيف عاش الجميع، كيف أنّ أسلوب الحياة ذاك لا يزال يرافقني.
إنه شيء مؤثر للغاية؟
– أردتُ فعلًا أن أكتبه بهذه الطريقة إلا إنني كنتُ قلقة من أن محررتي لن تتقبّله. كنتُ قلقة ألا يكون الكتاب مقروءًا أو مفهومًا، قلقتُ من مسألة أني أنجزتُ نصًا غير مقروء، نوعًا معينًا من نص طليعي بكلّ معنى الكلمة. وفكرتُ، حسنًا، أنا لا أبالي، سأكتبه كيفما أشاء. ومن ثم [بعد أن نُشِر] قرأتُ المقالات حيث قال النقاد “إرنو أنجزت فعلًا شيئًا مختلفًا هذه المرة!” بدا أنّ هذا النوع من اللامركزية التامة للذات قد أنتج شيئًا جديرًا بالاهتمام.
الهوامش
المصدر: مجلة (The White Review)، العدد 23، أكتوبر/تشرين الأول 2018. وهي مجلة فصلية معنية بالأدب والفنون البصرية، مقرها لندن. تتوفر المجلة بنسخة مطبوعة ونسخة إلكترونية. صدر عددها الأول في العام 2011. بدءًا من العام 2013، تمنح المجلة جائزتين سنويًا في الشعر والقصة القصيرة.
– لورين إيلكين Lauren Elkin: كاتبة ومترجمة بريطانية. ترجمت مؤخرًا عن الفرنسية رواية سيمون دي بوﭬوار غير المنشورة سابقًا (الأشخاص الذين لا يفترقون). تكتب حاليًا سيرة جيرترود شتاين لصالح (مطبعة جامعة يال).
-1 أعمال روائية تجريبية anti –novels : المقصود هنا روايات تتجنب الأعراف المألوفة للرواية، وبدلًا من ذلك تؤسس أعرافها الخاصة. وتُعدّ نوعًا من الرواية الطليعية، ومن سماتها أنها تتجاهل عناصر من مثل الحبكة، الحوار، والاهتمام الإنساني. هذا المصطلح ابتكره سارتر في العام 1948. من كتاب هذا النوع من الروايات: ألن روب غرييه، ناتالي ساروت، كلود سيمون– م.
-2 إليزابيث بوين (Elizabeth Bowen 1899 – 1973): روائية وكاتبة قصص قصيرة أيرلندية ـــ بريطانية – م.
-3 ميشيل ﭘورتيه Michelle Porte : كاتبة ومخرجة أفلام وثائقية وبرامج تلفزيونية، فرنسية الجنسية – م.
-4 روح الجماعة ethos : المعتقدات والمُثُل العليا وأنماط السلوك التي تميز جماعة ما إلخ – م.
-5 كريس كراوس Chris Kraus (وُلدت العام 1955): كاتبة وصانعة أفلام أمريكية. من أعمالها: (أُحبُّ دِك). هذا الكتاب نُشر في العام 1997، وتلقى اهتمامًا ضعيفًا في أول الأمر؛ إلا إنه حقق نجاحًا كبيرًا فيما بعد. وفيه تناولت الجوانب الروحية في الديانة اليهودية – م.
-6 ماجي نيلسون Maggie Nelson (وُلدت العام 1973): كاتبة أمريكية. تُوصف عادةً بكونها كاسرة للجنس الأدبي وعصية على التصنيف، أي بمعنى أنها تجمع في كتابتها أكثر من نوع أدبي، تشتغل في مجال السيرة الذاتية، النقد الأدبي، النظرية، النسوية، الشذوذ الجنسي، العنف الجنسي، تاريخ المدرسة الطليعية، النظرية الجمالية، الفلسفة، المنح الدراسية، والشعر. حصلت على منح دراسية عديدة. كما حصلت على (جائزة حلقة النقاد للكتاب القومي) في 2007، في النقد – م.
-7 ﭘيير بورديو Pierre Bourdieu (1930 – 2002): عالم اجتماع فرنسي، أحد الفاعلين الأساسيين بالحياة الثقافية والفكرية بفرنسا، وأحد أبرز المراجع العالمية في علم الاجتماع المعاصر، بل إن فكره أحدث تأثيرًا بالغًا في العلوم الإنسانية والاجتماعية منذ منتصف الستينيات من القرن العشرين – م.
-8 Habitus : تعني أسلوب الحياة والقيم والميول والآمال العائدة لمجموعات اجتماعية محددة، وهذه تُكتسب من خلال أنشطة الحياة اليومية وتجاربها. وهذا المصطلح يُستعمل في علم الاجتماع، وعلم الحيوان، والتشريح (الطب) بمعانٍ مختلفة – م.
-9 الشخص الثالث third person : المقصود هنا سارد من خارج مادة الحكي : (هو)، (هي)، أو (هم) – م.
-10 المكتبة القومية في باريس The Bibliothèque nationale de France: المستودع القومي لكلّ ما يُنشر في فرنسا. كما يحتوي هذا المستودع على مجموعات تاريخية شاملة – م.