يضعنا الشاعر المصري جرجس شكري في ديوانه السادس والأحدث “أشياء ليس لها كلمات” من عنوانه إزاء إشكالية فقدان الكلمة/ اللغة قدرتها على الإشارة للأشياء وهو ما يحيلنا بالتوازي لإشكالية علاقة الذات بموضوعات العالم واستيعاب الذات لها. فمن البداية، ينفي الشاعر عن نفسه سمة المعرفة وينأى بكلماته عن زعم امتلاك اليقين مكرسًا بذلك لوعي “لا أدري” ومعرفة لا يقينية في علاقة الذات بالعالم، معرفة تنفي المعرفة نفسها، ومؤكِّدًا لا محسومية الكلام في علاقة اللغة بالأشياء. وكأنّ الشاعر بنفيه معرفة الكلمات بالأشياء يؤكِّد المعنى الذي أوحى به عنوان ديوانه السابق تفاحة لا تفهم شيئًا بنفي الفهم والمعرفة عن التفاحة التي ارتبطت ميثولوجيًّا بوسم المعرفة.
وإذا كانت فلسفة التفكيك قد انبنت على خلخلة التمركز اللوجستي للكلمة وتقويضها كما أن فلسفات ما بعد الحداثة تقوم على نفي “الحقيقة”، فكأنّ الشاعر يسعى بوعي تفكيكي -من البداية- لزعزعة الاعتقاد الذي يكاد يعادل اليقين بأنّ اللغة والشعر يمتلكان دائمًا معرفة بالوجود وأشيائه. وكأنّ جرجس شكري يريد أن يضعنا في إهاب شعرية ارتيابية في المسابقات المعرفية بوعي تمردي يسعى لوضع العلاقة المعقلنة للعالم وأشيائه على طاولة الشك تحت مشرط التساؤل. في المقابل، يستحيل الشعر قلقًا مستمرًا وبحثًا مستدامًا عن كلمات للأشياء.
I- مأساة الذوات في الزمن
من المقطع الشعري الأول في أولى قصائد الديوان “أشياء ليس لها كلمات” التي يتعنون الديوان بها تبرز إشكالية الزمن وإحساس الذوات به، وكأنّ الزمن أو علاقة الذوات به هو أول الأشياء التي ليس لها كلمات، فقد صار الزمن أو بالأحرى تمثُّل الذوات للزمن وإحساسهم به خارج قدرة الكلمات وأبعد عن استطاعتها التعبير عنه أو استيعابه:
حين يصلُ الصباحُ على عربةٍ يجرُّها الموتى
يصلُ باكيًا، وتسقطُ عيونُنا على الأرضِ.
إذا كان الصباح في رمزيته الزمنية هو وقت تجدد الحياة بما يحمله من آمال وتطلعات فإنّ بلوغ هذا الصباح للذوات التي تتمثله أو ربما كانت تنتظره “على عربة يجرها الموتى”، وهو ما يتنافى مع معاني الحياة والحيوية الدافقة التي تقترن بالصباح. ولكن هل يكون هؤلاء الموتى الذين يجرون العربة التي تُقل الصباح هم ذوات ميتة الصلة بالعالم أو بالحياة؟ هل هي أفكار ومرجعيات ميتة لم تعد تلائم الزمن؟ وهذا ما يسفر عنه المقطع الذي يليه:
حين يسرقُ الآخرونَ حياتَنا
ويلبسون وجوهَنا في وضح النهار.
فهل يكون الآخرون الذين يسرقون حياتنا هم الموتى الذين يجرون عربة الصباح؟ ثمة خوف وارتياب ما يساور الذات نحو الآخر، فهل يساكن الذاتَ قناعةٌ بأنّ “الآخر هو الجحيم”؟ ثمة شعور بالاستلاب يُثقل الذوات في إحساسها بالآخر وهو الذي أفضى لإحساسها بتفاقُم مأساتها في الزمن:
رأينا
الصمتَ في الليلِ والنهار
رأيناه يصمُّ الآذانَ
ثم رأينا الزمنَ يراقبُنَا
ويهزُّ رأسَه ساخرًا
من أنقياءِ القلبِ.
فيما يتبدى من الخطاب الشعري في ديوان أشياء ليس لها كلمات الذي يسعى لأن يكون خطاب الجماعة الإنسانية أنّ شعورًا ما بالعجز يثقل الذوات في إحساسها بالزمن ما يجعل الصمت متسيدًا إذ فقدت الذوات كلماتها إزاء الأشياء.
II- تمرُّد اللغة
يتبدى من الخطاب الشعري في ديوان أشياء ليس لها كلمات تمرُّد الذات على اللغة، لغة المواضعة، تلك اللغة التي لم تعد تناسب الأشياء أو قادرة على أن تستوعب موضوعات العالم، وتمرّد اللغة على الذات، لغة الشعر في علاقتها بالذات. لتمسي اللغة إشكالية بارزة في خطاب شكري الشعري، فتقول الذات الشاعرة:
وفي أيامنا هذهِ
أعادَ أهلُّ الرأيِ الأسئلةَ إلي أصحابها
ولم تجدِ اللغةُ مَنْ يصدّقُها.
يبرز الخطاب الشعري فقدان أهل الرأي القدرة على حل الأسئلة الوجودية، ما يعني افتقاد العقل الإنساني القدرة على الفلسفة، في مقابل افتقاد اللغة مصداقيتها. ثمة إذن بون فادح بين اللغة والعالم، وهو ما يبرز ضرورة الثورة على اللغة تثويرًا لوعي الذات بالعالم وإعادة تأسيسها للوجود وتشكيل وعيها به. فالذات تبدو فاقدة الثقة في خطابات اللغة. إنّ فقدان الذات الثقة في اللغة هو فقدان ثقة في الآخر الذي يكذب ويعمل على تزييف الكلمات، ما يحيل الوجود المبثوث عبر تلك الكلمات وهمًا.
وفي مقابل تمرد الذات على اللغة فإنّ كلمات الشعر ولغته- فيما يتبدى- تتمردان على الذات الشاعرة:
يحدث أن تخرجَ الكلماتُ
من بيتى
تَهْبطُ الدَرَجَ
تَعْبرُ الشارعَ
وأنا خَلفَها
كَمَنْ يمشي في جِنَازةٍ.
يتبدى وعي الذات الشاعرة بتثوير الشعر انطلاقًا من ثورية الكلمات على الشاعر نفسه، وكأن الكلمة قد باتت خارج نطاق سيطرة الشاعر. وإذا كان في المفهوم التقليدي لعلاقة الشاعر بلغته وصلته بكلماته يتأسس على أنّ الشاعر هو الذي يخلق لغته ويُشكِّل كلماته فإنّ ثمة تصورًا متجاوزًا لدى الذات الشاعرة لثورية الكلمات التي باتت تقود الذات الشاعرة وتخرج بها من البيت إلى الشارع في إشارة لتخلي الشعر عن انحساره وعزلته وانهمامه بالشارع وانخراطه مع الجماهير وارتباطه بالواقع المعيش. إنّها كتابة تطمح لأن تكون “كتابة ضد” بما يعني مفهوم “الكتابة ضد الكتابة” من أنّ الشاعر يثور على نفسه وينفي ذاته ويحاول أن يتمرد على نفسه تثويرًا لإبداعه بقدر ما يثور على أسلافه وأقرانه.
أما الفعل (تهبط الدرج) الذي يسم به الشاعرُ كلماتِه فيشير إلى تخلي الشعر عن تعاليه، في حين يشي وصف الذات الشاعرة لانقياد الشاعر خلف كلماته (كمن يمشي في جنازةٍ) بفجيعة الذات إزاء معاينة الشارع/ الواقع لمأساويته. ويحيلنا انقياد الشاعر إلى اللغة وانسياقه خلف كلماته التي تمارس فعل (الهبوط) وتقوده خارجًا عن بيته لتجعله ينغمس في الواقع إلى نص غائب للشاعر سركون بولص في أولى قصائد ديوانه الأول الوصول إلى مدينة أين متحدثًا فيها سركون عن انطلاق “الرمز” وتحرره:
كان ذلك
عندما أبصرتُ رمزي المفضَّل
يهبط كالنسناس من راحة يدي
ويدلني على أماكن مجهولة يتصاعد منها تنُّفس الأحياء
تبعتُه وعينايَ معصوبتان
بريش معرفتي القليلة
وكأنّ شاعرَنا جرجس شكري يتشارك مع سلفه سركون بولص في انفلات زمام اللغة بكلماتها ورموزها من يد الشاعر وفي انقياد الشاعر وراءها وتبعيته لها في تأكيد للمفهوم الهيدغري بأنّ اللغة هي التي تتكلمنا أكثر من كوننا نتكلم اللغة، كما يتقاطع شكري مع بولص في نفي ادعاء المعرفة، وفي فعل (الهبوط) الذي يعني تخلي الشاعر عن مفهوم كون الشعر معنيًّا بالمثل المفارقة المتعالية على الواقع، وفي ارتياد الشعر الشارع وأماكن مجهولة في إشارة لانخراط الشعر مع الواقع، واستراتيجية الغياب التي تعني تشارك المحايث مع نصوص أخرى غائبة لا تعني بقصدية المبدع أو تقاطع نص سواء بوعي أو لاوعي مع نصوص غائبة بقدر ما تعني مشاركة القارئ واستنفار وعي المتلقي في البحث علاقة النص المقروء بالنصوص الغائبة، فهي تعني شراكة المتلقي للمبدع في إنتاج نصه بقدر ما تعني تشارك النص مع نص غائب.
III- تمرُّد الجسد
تمثل علاقة الذات بالجسد إشكالية حاضرة في ديوان أشياء ليس لها كلمات وفي خطاب جرجس شكري عمومًا، ثمة توتر ما يلوح في علاقة الذات بجسدها، مما يُفقِد الذات السيطرة على جسدها، وكما تعلي الحداثة العالية من شأن الهوية الفردانية فإنّها تعلي من شأن الجسد بوصفه هوية للذات، وهو ما يتبدى في خطاب شكري:
يحدثُ أن أنسي فمي
في الحانة
فيشربُ
ويحكي للناسِ
ما لا أعرفُ.
فيما يبدو أنّ تمرُّد الجسد على الذات هو انعكاس لتوترات اللاوعي ورغبة اللاشعور في أن يجد متنفسًا للبوح وإخراج مستودعاته الغائرة، وكأن ثمة مسافة ما بين وعي الذات ولاوعيها الذي يحكي للناس ما لا تعرفه الذات، أو بالأحرى ما تكتمه وتكبته وتحاول أن تتناساه، كما أنّ ثمة تمردًا ما للفم على الذات، إنّها طاقة البوح الفائض:
حتى ظَهْرُ يدِه لا يعرفُ عنه شيئًا
يخاصمُ فَمَه
ويتمنى لو قصَّ لسانَه إلى الأبد
خَطَّط منذُ سنواتٍ لإصلاحِ رأسِه
ولم ينجحْ
أصابعُه تتصرفُ رغمًا عنه
ولا يهتمُّ
ساقاه يركضانِ كحمارٍ
يعرفُ طريقَ البيتِ.
فيما يتبدى من الصورة التي تقدمها الذات الشاعرة عن نفسها أنّ الذات تمارس نوعًا من “النرجسية السالبة” التي تقوم فيها الذات بالتحديق طويلا في سلبياتها ونقائصها، كما يتضح أيضًا معاناة الذات من نوع من “فقدان الشخصية/ أو فقد الأنية [الأنية- في ظني- نسبةً إلى “الأنا”]/ أو اختلال الأنية Depersonnalisation «وهو إحساس بانعدام حقيقة الذات أو الشخصية سواء من حيث الوحدة الجسمية أو النفسية، أي قد يضطرب تصوُّر الإنسان عن نفسه في بعض ملامحه أو في كلِّ مقوماته» وهذه الحالة (كما يراها علم النفس) عَرَضٌ لصراع الأنا والأنا الأعلى وينشأ بسبب إنكار جزء من الأنا لوجود الجزء الآخر”(1)، فما تحسّه الذات من اضطرابات جسدية أو صراع بين أعضائها الجسمية يبدو انعكاسًا لقوى الذات النفسية. فيما تبدو صورة كـ”ساقاه يركضانِ كحمارٍ يعرفُ طريقَ البيتِ” مستلة من وعي ريفي ينزع إلى الطبيعة البكر ومشاهدها الحيوية.
IV- انشطار الذات
يتساوق مع شعور الذات بتمرُّد جسدها عليها وما يعتمل من صراع بين أعضائه شعور آخر بانشطار الذات وانقسامها النفسي بين ذات مركزية أو ذات موضوعية، في مقابل حضور شبحي لذات قرين، فتقول الذات الشاعرة:
حلمتُ برأسي يبتسمُ على طبقٍ
وظِلِّي يعدو ولا ألحقُ به
تكشف بنية الحلم عما يقوم به اللاشعور من تجاوز لقوانين الطبيعة ومنطقية العالم كما يكشف الحلم عما هو قار من مخاوف أو رغبات متجاوزة في لاوعي الشخصية، أما الحلم بانفصال الرأس مبتسمًا على طبق عن الجسد، على ما ما فيه من تشكيل سوريالي للصورة، فقد يجسّد رغبة الذات في التخلص من أثقال الجسد وأعبائه، في حين أنّ تمثُّل لظلّها يعدم وعدم لحقها به فإنّه قد يعكس إحساس بتجاوز ذاتها الفائضة وتمرُّد ظلها القرين عليها، إنّها رغبة اللاشعور الجامحة في الانطلاق والتحقُّق.
وقد يتعدى انشطار الذات مجرد وجود القرين الشبحي أو ظلّ واحد لها إلى تعدد الذوات التي تتمظهر فيها الذات المركزية، كما في قصيدة “مشاهد من حياة رجل بار”:
وأنا أقرأُ أشعاري يخافُ جسدي
كأنه يؤدى مشهدًا في مسرحية
يلعبُ فيها كلَّ الأدوارِ
روحي تطلُّ من عيوني خائفة ً
ولساني يلهثُ كأنه يعبرُ شارعًا مُعْتِمًا
تتظاهرُ يداي ضِدَّ القانونِ
لماذا يخاف الجسد حين تقرأ الذات أشعارها؟ وكيف يستحيل الجسد حينها كائنًا مسرحيًّا يؤدي عديدًا من الأدوار في مسرحية؟ هل لأنّ الشعر ضد الجسد؟ أم لأن الشعر يكشف عن توترات الجسد واضطراباته؟ البادي أنّ ثمة هوية درامية للذات في انشطاراتها كأنّها ذوات عدة تلعب أدوارًا متنوعة في مسرحية، في تعدد للأقنعة التي ترتديها الذات: الروح فيما تبدو خائفة حين تطل من العيون من معاينة الآخر والعالم، أما اللسان الذي ينقل صوت الذات وشعرها يشعر كأنّه يعبر شارعًا معتمًا ربما في إشارة للسياقات المظلمة التي تمضي من خلالها كلمات الشاعر، أما تظاهر اليدين ضد القانون فيشي برغبة ثورية للذات في الخروج على جمود القانون تمامًا مثل الشعر حين يتحلى بروح طليعية ووعي ثوري:
سأغلقُ مسرحي هذا المساءَ
وأطردُ الممثلين خارجًا،
يدي اليمنى سأتركُها تفرحُ
مع قهوتى السوداءِ وسيجارةٍ وحيدةٍ
أما يدي اليسرى،
أعرفُ أنَّها تُفضّلُ البقاءَ عند النافذةِ
ربما تفعلُ شيئاً ضِدَّ العالمِ.
حتى حينما تود الذات التخلص من أقنعتها التي هي بمثابة ممثلين على مسرح وعيها تبدو في حالة انشطار أخرى بين اليد اليمنى التي ربما تشي بالجانب المحافظ في الذات التي تفرح بأفعال عادية باحتساء قهوتها وتدخين سيجارة غير أنّ تَمثُّل الذات لأشياء العالم يبدو مغلّفًا بما تسكبه عليها من مشاعرها ودواخلها النفسية، فالقهوة التي تراها الذات سوداء بما يشع به اللون الأسود من شعور بالقتامة،
أما السيجارة فتُوسم بأنها وحيدة فيما يعكس شعور الذات بالوحدة، في مقابل نجد اليد اليسرى التي رُبما تُمثِّل للجانب الثوري والطليعي في الشخصية “تفضل البقاء عند النافذة” بما يشي برغبة ما في الانخراط في العالم الخارجي بل “ربما تفعلُ شيئاً ضِدَّ العالمِ” في تأكيد على الوعي الثوري في الشخصية إزاء وعيها المحافظ بما يعني انقسام الذات وترددها.
V- تقنيات شعرية
في ديوان أشياء ليس لها كلمات يتبدى اعتماد الصياغة الفنية على عديد من التقنيات إنتاجًا لشعرية الخطاب المبثوث، غير أنّ الغالب على هذه التقنيات أنّها تؤدي دورًا ما في تأكيد الدلالات الكلية التي يفضي بها الخطاب الشعري وهو ما يعني وعي الصياغة الشعرية بما تستعمله من تقنيات، ومن آليات التعبير الشعري في الديوان:
V-I- كسر الوهم الشعري
إذا كان الشعر كالدراما يقوم على الإيهام بالواقع، أي واقعية العالم المبثوث عبر الخطاب النصي، فإنّ الصياغة الفنية أحيانًا ما تقوم بكسر هذا الإيهام بالواقع لأغراض فنية، وهو ما يتبدى في ديوان أشياء ليس لها كلمات في قصيدة بعنوان “قصيدة”:
في هذه القصيدةِ
سنضعُ كلبًا ومتشردًا،
مع لصٍ
ومقهى كبيرٍ
تُحيطُه الشمسُ
من كلِّ ناحيةٍ،
وبالطبعِ
لن ننسىَ بعضَ رجالٍ ونساءٍ
يدخنونَ ويثرثرونَ
كضرورةٍ حياتيةٍ،
ثم نراقبُهم من النافذةِ.
تعمل الصياغة الشعرية- هنا- في هذه القصيدة- على استعمال تقنية مسرحية بريشتية هي تقنية كسر الحاجز الرابع بين الممثل/ الباث والمتلقي في فضاء الشعر، وهو ما يمكن أن نسميه كسر الوهم الشعري. وإذا كان “كسر الإيهام” بوصفها تقنية “ضد أرسطية” هي إحدى سائل التغريب البريشتي لإشعار المتلقي بتفاقم غرابة الواقع المنقول عبر فضاء التخييل تقوم على قطع تماهي المتلقي مع العالم المنقول عبر الفضاء التخييلي فكأنّ الذات الشاعرة تشفق على المتلقي أو قارئها الافتراضي من التماهي مع هذا العالم الحافل بالقسوة والمأساوية فتعمل على تعطيل الإيهام التخييلي بالواقع.
وإذا كان الديوان الثالث لجرجس شكري قد حمل عنوان ضرورة الكلب في المسرحية فإنّ الشاعر في هذه القصيدة التي يُمَسرِح فضاءها يستحضر الكلب ومعه متشرد ولص وبعض الفواعل الثانويين (الكومبارس) لمشهدة عالمه الدرامي الذي يشيده في قصيدته، فرغم حرص قصيدة جرجس شكري على إبراز الذات كبؤرة درامية في فضاءاته الشعرية تلعب دور البطولة في مأسيها الإنسانية فثمة عناية أيضًا بالفواعل الثانويين كضرورة درامية لخلق نوع من التوتر الدرامي بين الذات كشكل وهؤلاء الفواعل الثانويين كخلفية للفضاء الدرامي.
V-II- التمثيل الأليجوري
أحيانًا ما تستعمل الصياغة الشعرية لدى جرجس شكري التمثيل الأليجوري الذي يعتمد بنية الحكاية الرمزية التي تقوم على ازدواجية المعنى بين معنى ظاهر وآخر- أو أكثر- باطن خفي، ويكون هذا التخييل الأمثولي بمثابة استعارة ممتدة تتخذ قالب الحكاية وتقوم على لعبة التوازي بين ما تقوله الحكاية من معان وما ترمي إليه من دلالات خفية:
حينَ كانَ الليلُ ينامُ مُبَكِّرًا
والزمنُ يسهرُ يحرسُ ضحاياه
كنتُ هناك،
وفيما جندُ الوالي يَطْرِقُون بابي
زوجتي صَرختْ خائفةً،
اقتحمَ الجنودُ بيتي
حَمَلُوني إلي القلعةِ نائمًا
نَهَرَني الوالي لأنني أنامُ مُبَكّرًا
ولامني على صُراخِ زوجتي .
إذا كانت الأليجوريا التي ربُما استعارها الشاعر تأثرًا بالكتاب المقدس أو بالتراث القديم كما في كليلة ودمنة تعني أنّ للحكاية دلالة أخرى غير التي تُصرِّح بها، فمع كل قراءة لكل قارئ يمكن أن تختلف الدلالة المستخلصة من النص وبالتالي تتعدد الدلالات التي يصل القراء إليها، ولنا أن نقرأ الضحايا التي يسهر الزمن لحراستها باعتبارها الأحلام المُجهَضة على امتداد الزمن أو الرغبات المقموعة منذ زمن بعيد. ولنا أن نقرأ الوالي على أنّه الضمير أو الأنا الأعلى والجنود باعتبارهم القوى والضوابط الأخلاقية والاجتماعية، ولنا أن نقرأ البيت على أنّه النفس، وصوت الذات الشاعرة باعتباره الأنا أما الزوجة فلنا أن نقرأها على أنّها القوى الغريزة؛ فيعتمد التخييل الأمثولي على البنية العلاماتية لعناصر النص/ الحكاية بوصفها رموزًا مُشفَّرة تحيل إلى مرموزات خفية.
V-III- كثافة الصمت
من أبرز الظواهر اللافتة في ديوان أشياء ليس لها كلمات ابتداء كثير من مقاطعه بنقاط ما بين قوسين فيما يُمثِّل تأشيرًا خطيًّا دالاً على مساحة صمت، كما في مستهل قصيدة بعنوان “هناك”:
(…..)
هل كانَ عليَّ أن أذهبَ إلى هناك
وحيدًا
حاملاً الخوفَ والأحلامَ
أتوه في شوارعٍ غريبةٍ
أتوسَّل إليها أن تُخبئَني
وتمنحَني غرفةً للبكاءِ .
فيما يتبدى أنّ هذا التمثيل الخطي للصمت هو “أشياء ليس لها كلمات” ما يجعل المتن الكتابي للنص الشعري استئنافًا لنص مُغيَّب؛ فالصمت الذي يستهلّ الشاعرُ نصَّه به يدفعنا لسؤال: ما الذي دفع الذات للذهاب إلى هناك؟ أو ما الذي دفع الذات لمبارحة موقعها في الـ”هنا” قاصدة الـ”هناك”؟ فالصياغة الشعرية تعتمد على كتابة الصمت واستثمار بلاغة السكوت في خلق مراوحة إيقاعية للنص وإقامة شراكة مع المتلقي باستدراجه لملء الفراغات النصية، فالصياغة الشعرية تعمل على تكثيف الصمت وشحنه دلاليًّا وتشعيره.
V-IV- كثافة السؤال
يبرز في ديوان أشياء ليس لها كلمات حضور كثيف للأسئلة لا سيما في مختتم عديد من المقاطع، حتى المقطع الختامي من آخر قصائد الديوان التي بعنوان “رسالة” ينتهي بتساؤل:
نحن لا نعرفُ أين نذهبُ،
فكيف نَقْدِرُ أن نعرفَ الطريقَ؟
مع تأكيد المقطع الختامي لآخر قصائد الديوان على مبدأ اللامعرفة الذي سعت الذات إلى تأكيده عبر هذا الديوان، فإنّ حضور الأسئلة بشكل لافت لا سيما في مختتم العديد من مقاطع الديوان بقدر ما يرفع من شعرية الخطاب فهو يبقي هذا الخطاب مفتوحًا ويستنفر المتلقي لمحاولة الإجابة عن أسئلة النص.
1- معجم علم النفس التربوي، (تونس، المعهد القومي لعلوم التربية)، ص12.
رضا عطية