تعرف أنك لست متجانساً معهم.. رائحة عرقك مختلفة.. ابتسامتك الطويلة الباهتة… حتى بدون ذاك البروز في جبهتك تبدو مختلفا.
جلوسك بينهم يفصلهم إلى مجموعتين.. مجموعة على يمينك وأخرى على يسارك. أكثر من إشارة لمحتها تعبر عن هذا.. قلتَ – أنت – في أحد المرات أنك سمعتَ أحد العابرين يتساءل عن سبب وضع فاصل بينهم.. قلتَ انه كان يقصدك أنت. رددت بابتسامتك الطويلة الباهتة – ابتسامة تعلن عنها بانفراج صغير بين شفتيك – أما هم فقد ضحكوا كثيرا. أنت قلت أن اتساقهم مع أنفسهم لم يتحدد فقط باللون والملابس، ولكن في طريقة التفكير والتعبير أيضا.. قلتَ أنهم يحملون أفكاراً وأحلاماً متشابهة.. ومحاولتك للتأثر بأفكارهم وأحلامهم لم تنجح بعد.
مع هذا ما زلت بينهم.. تجلس في نفس المكان.. وتحمل نفس الابتسامة.. نفس رائحة العرق.. نفس الفاصل.. نفس… ورنين كلماتهم مازال يدفعك للبقاء بينهم.
الشارع المؤدي للمقهى الذي يجتمعون فيه مملوء بالكلمات والضجيج.. وحدها كلماتهم تجذبك للاستماع إليها.. كلماتهم تقودك.. تدفعك للسير في الإطار الذي ترسمه كأنها موجهة إليك، دائماً تضع نفسك في الواجهة عندما يتحدثون.. ومع حديثهم عن أي شيء تتساءل فوراً عن ذاك الشيء وموقعك داخله. لكنك تكتفي دوماً بالأسئلة الصامتة والإجابات الصامتة أيضا. وبين الحين والآخر تصدر عنك كلمات، أو تعليق خافت على كلماتهم.. ثم تعود للاستماع.
أسئلتك وإجاباتك الصامتة تنتهي عند هاجس أنك – رغم محاولتك الفاشلة – ستستطيع يوماً ما إعادة تشكيل حياتك وفق آرائهم.. ستتخلى عن ذاكرتك… قناعتك… أفكار بعينها تشعر أنها لا تنتمي إليك… عن أشياء أخرى إضافية.
«أن تكون أنت بدون أخذ توصية من العالم.. أن تكون قريباً من القلب…»
لا تستطيع تحديد صاحب العبارة.. وهل سمعتها بنفس النسق المتتالي، أم أن العبارة أجزاء متعددة رُددتَ في سياقات مختلفة وأنت جمعتها كخلاصة لحديثهم ؟! فكرت في سؤالهم.. لكنك اكتفيت بترديد المقطع أمامهم. أحدهم هز رأسه على وقع الكلمات، والآخر عدها من الكلمات الجيدة التي سمعها مؤخرا.. أما البقية فقد أعلنوا تعاطفهم الصامت. ثم انزاح الحوار – حوارهم – في نقاط أخرى.
الكلمات تتصاعد.. كلماتهم.. كلمات مختلفة.. كلمات لا تجدها في مكان آخر.. تجلس بصمت.. تتحاشى إصدار أي حركة أو صوت حتى لا تشوش الكلمات.
«الإحساس أنك تستطيع احتواء الأفق.. مجرد أن تفرد يديك فتحتضن الأفق بأكمله.. الإحساس الخادع يملأ عقلك و لا تستطيع إلغاءه.. حتى لو حاولت – مئات المرات – فرد يديك أمام الأفق يظل هناك دوما.. يظل الشعور بمقدرتك على احتواء الأفق كأنك قد احتويه في اللحظة السابقة…»
الكلمات دفعتك لتمد يدك.. ضحكاتهم أعادت يدك للسكون على الطاولة، وأنت تتحين فرصة جديدة لاحتواء الأفق.
البارحة فوجئتَ بعمرك.. فوجئتَ أنك أصبحتَ داخل منطقة الخمسين.. كان سؤالاً تنقل بين أفواههم.. لم تعرف إلا وأنت تجيب على السؤال. همهماتهم ونظراتهم المتفحصة جعلتك تتساءل.. لوحوا بأيدهم بمعان مختلفة، بعضهم قال أنك تبدو أصغر، والبعض الآخر قال أكبر.
لم تنـزعج لعدم اتفاقهم على رأي متقارب – لتعودك على اختلافهم حولك – لكنك بعد ذلك بدأت تتساءل إن كان عمرك فعلاً ثلاثة وخمسين عاما.
شردتَ وأنت تحاول معرفة أين ذهبت سنوات عمرك الخمسون.. أين تراكمت.. أين اختفت؟
بضع سنوات – من عمرك – حفرت لها مكان في ذاكرتك.. لكن بقية السنوات أخذت شكل علامة الاستفهام.
ذكريات هنا وهناك.. المقهى.. الحلقة التي تجمعك معهم.. البرد.. أيام المطر.. الحر… ثم لا تجد ما تعبر به عن باقي السنوات التي عشتها.
سنوات جامدة مرت عليك دون إحداث أي أثر سوى قليل من الشيب، وغضون في منطقة العينين.. وأشياء هنا وهناك تغيرت في جسدك، لكنها لا تكفي لشرح أين ذهبت سنواتك الخمسون.
مازال السؤال يؤرقك اليوم أيضا.. فحاولت – كإحدى محاولاتك النادرة – وضع الزمن على طاولة المقهى ليتحدثوا عنه مجددا، فربما عرفت مصير سنواتك الخمسين.. أو حتى تهرب من التفكير فيه بالغور دخل كلماتهم.
«الزمن متاهة.. تكون في البداية وتفاجأ بباب الخروج أمامك.. وعندما تفتح الباب تجد نفسك في البداية مرة أخرى»
الكلمات أخمدت أرق السؤال عن عمرك، وفتحت الباب لأرق جديد.. أرق كيفية الخروج من وعاء الزمن لمعرفة حجمه.
لم تجد أحداً في المقهى.. فاجأك الأمر تماما، وبقيت لأكثر من دقيقة حائراً أمام المدخل.
أشخاص آخرون يحتلون الطاولة أمام الجدار.. السؤال لم يكن هل تتقدم وتنظم إليهم.. أم تعود أدراجك، بل كان إن انتقلتَ إلى عالم آخر أم لا ؟!
إشارات عامل المقهى قطعت حالة تجمدك.. فتقدمت إليه وسألته عنهم.. فابتسم وأشار إلى ملصق إعلاني على الجدار يعلن عن حفلة بمناسبة العام الجديد.. فعادت ابتسامتك تظلل وجهك.
فكرتَ بالذهاب إلى الحفلة التي ذهبوا إليها.. لكن الضجيج الذي تحدثوا عنه أجبرك على التراجع.
فكرت بالجلوس.. والنظر إلى أماكنهم الفارغة.. فكرت أيضاً في تحديد درجة قدرتك على الجلوس في المقهى بدونهم.. لكنك سرعان ما تركتَ كأس الشاي ساخناً على الطاولة وأنت تغادر المقهى.
«أحتاج إلى هدنة.. هدنة مع نفسي ومع العالم أيضا…»
أعجبتك العبارة فظلت ترددها بينك وبين نفسك لتحفظها.
عبارات عديدة حفظتها هنا.. بعضها أعجبك فيها الرنين المتداخل بين كلمات العبارة، وبعضها للمفردات غير المألوفة التي احتوتها، والبعض للأثر الجميل الذي شعرت به – في أعماقك – بعد سماعك العبارة.. أو بسبب نبرات الإعجاب التي تصاعدت من الآخرين.
تستغل لحظات صمت فتكتب العبارة على قصاصة ورق وتضعها في جيبك.. لتستخدمها إذا نسيت العبارة.
تعود للاستماع بحثاً عن عبارة أخرى.. الحوار يتحور إلى منطقة أخرى،، وترتفع ضحكاتهم ومعها ضحكاتك.
العبارات التي تقتنصها من حديثهم قليلة.. أحياناً طوال الجلسة لا تستطيع سوى استخلاص عبارة واحدة وبضع كلمات متفرقة.. وأحياناً تعاني لتحفظ خمس عبارات أو أكثر.. لذا تحتفظ بقصاصات ورق في جيبك تستخدمها لتسجيل العبارات حتى لا تنساها لتستطيع إعادتها على مسامعهم ليفكوا طلاسمها لك.
أما العبارات التي تحفظها فترددها بينك وبين نفسك لعدة أيام.. وأحياناً لعدة شهور حسب إعجابك بالعبارة.
العبارات تربطك بهم في الأوقات التي لا تكون فيها معهم… تنقلك إلى الضفة الأخرى التي ترغب بالالتصاق بها.. تنقلك إلى حيز الجماعة…
«الإمساك بالمكان.. الانزلاق في اتجاه خاطئ.. البحث عن وهج.. ثم تلك التيمة بالانزعاج من السكون…»
الكلمات تعبث بك مجددا.. تعيد قصاصة الورق إلى جيبك.. وتقطع الشارع باتجاه المقهى.
تشكيلة الأصوات تتراص كسلسلة تلتف حولك :
«- رأيته في طريق الشوك.. كان أقل شحوباً من الضوء…
– كان أقل انبعاجا.. أقل اكتراثاً بالخط المستقيم..
– أقل صمتا.. أكثر بردا…
– أقرب للفوضى.. أقرب للتلاشي.
– استقر جانبا…
– الطيف كان لك.. الحزن لك.. بقايا الصمت…»
تنقطع سلسلة أصواتهم عندك.. وتبدأ سلسلة جديدة بعدك :
«- سيغوص بينهم…
– سينظر جيداً هذه المرة…
– سيتشبث بهم بقوة…»
تتلاشى سلسلة الأصوات من حولك وتبدأ سلسلة الأصوات داخل رأسك :
«- تنتقل إلى إطار جديد…
– تُظهر قدراً أكبر من التحمل…
– أيضاً قدراً أكبر من الخضوع بانتظار نتيجة تقبل الآخرين لك..
– حتى الابتسامة تشكلت في أقل مساحة على فمك…
– ونظرة العينين اقرب إلى التكهن بالرفض…
– وجسدك منكمشاً ليوحي بحاجتك لحيز أقل…
– قدماك مازالتا غير ثابتتين بانتظار السكون أو التزحزح بعيداً عن الإطار …
تنقطع ثم تتصل السلسلة بعدك :
– «أنت بوصفك أنت.. تحتاج بين الحين والآخر لمساحة خالية حولك.. مساحة تسترد فيها أنفاسك.. تتذكر رائحتك التي ذابت في رائحة الجميع.. تُسمع أذنيك صوتك الفردي… ثم تذوب مجدداً مع الآخرين…
– أنت بوصفك أنت.. راغباً بالانزلاق جانبا.. راغباً بالسكون…
– أنت بوصفك أنت…»
في نفس الفاصل الذي يقسمهم إلى مجموعتين تجلس بهدوء.. تنقل عينيك بينهم وابتسامتك الباهتة تتوالى وصوتهم ينهال حولك :
«أحياناً يمكننا إكمال الفراغات التي نسيناها.. لكن هذا لا يعطي الصورة الحقيقة لنا، فنركز على أشياء أخرى….».