بينما ترزأ الرواية العراقية الحديثة، تحت سطوة التاريخ، والتقلبات السياسية الحادة، والظروف المعاشية القاهرة، فضلاً عن مواكبة نقدية بطيئة وانتقائية، تتحرك بحسب العلاقات الشخصية، ستبقى كل روايةٍ عراقية جديدة، إنجازاً ثقافياً مهما، لأنَّ الرواية أكثر الأجناس الأدبية حداثةً وقدرةً على رصد التغييرات الاجتماعية، لكن بعض الروائيين العراقيين يحاول توثيق زمن الاحتلال بطريقة غائية، حيث تطغى الغاية أو تختلط مع الوسيلة، ليظلَّ الاحتلال الأمريكي يسخر من الأدب العراقي قائلاً: « أنا خرابٌ ناعمٌ جميل، لكنني شبحٌ، لا أحد يراني، لا أحدَ يستطيع تشخيصي، لا أحد». والمجتمع العراقي المفكَّك يغنِّي(أَلَسْتَ ترى الاحتلالَ لَمْ يبْقِ منِّي/ سوى شَبَحٍ يطير بكلِّ ريحِ)، في صورة مضغوطة عن المشهد الثقافي، في جملةٍ واحدة، يقول البطل لمدير إعلام محافظة نينوى وما يريده ساسة العراق الجديد لا يختلف كثيرا عمَّا كان يريده البعث(تريدني أنْ أكتب عن الكبة الموصلية والناس يذبحون في الشوارع).
الشبح الرئيسي: رواية بطل، إعلامي مغامر، يحاكي ذاكرة مكانٍ ينوء بالاحتلال الأمريكي، لكن هل يستطيع الروائي توثيق حالة الاحتلال وهو ما زال يعيش في داخلها؟
المكان: مدينة الموصل/ الزمان: 2004- 2005.
شبح العنوان: «الأمريكان في بيتي»، لوحة الغلاف للتشكيلية الأمريكية إيلين ستابز: حطام آلية أمريكية محترقة. الأمريكان نقلوا حروبهم إلى العراق بحسب تعبير بوش، مع سبعة عشرَ فصلاً معنوناً، بعناوين لم تخل من إيحاءات شعرية، كالفصل العاشر « في الأندلس» عن كيفية افتتاح سينما الأندلس رغم التهديدات بتفجير المكان، مغامرة لا تقل عن مغامرة طارق بن زياد، العنوان الرئيسي: لقاء بين حضارتين متناقضتين(جرني خلفه وعيني على جندي أكرهه يشتمني دوماً، وحده مايكل الذي لا ينزعج من ردي بالعربية، التي لا يعرفها، على كلامه الإنجليزي، الذي لا أعرفه، ويبتهج إذا ما قلت شيئاً بسيطاً بلغته/ص34) عربية لا يعرفها مايكل، إنجليزية لا يفهمها جلال، شعبٌ تقليدي في مواجهة شعبٍ هجين، لا يعرف بعضهم في أيَّةِ ولايةٍ يكنَّى أبوه، ويسمح للشواذ بالزواج العلني والتطوع في الجيش، وقيم متعاكسة أخرى كثيرة، لكن لديهم قضاء مستقل وتعليم متطور سرّ بقائهم، وتفشِّي المَظالم لدينا، سِرّ هَوانِنا وفنائنا الحضاري.
الشخصيات الشبحية: جلال، زوجته حنان، شقيقه كمال، شقيق زوجته حسن، صديقته مناسك، صديقه شاكر البدران موظف في مكتبة الأوقاف، السيد صافي رئيس المنظمة، زوجته سندس، إبراهيم توسان عضو المنظمة، قنبر عربانة عاشق السينما، مايكل جندي أمريكي برتبة سيرجنت، أي رقيب، أو عريف بحسب الرتب العسكرية العراقية، هو عينه يعاود تفتيش منزل جلال، ست أو سبع مرات، وهذا شيء غريب، لأنَّ القوات التي تقوم بمداهمة المنازل من الشرطة العسكرية، بإشراف الاستخبارات، الذين أبداً لم يكونوا ليسمحوا بوجود تعاطف ولو مخفي، من جندي أمريكي مع مواطن عراقي حتى لو كان جاسوساً مخلصاً، يقول عنهم البطل(توجد شياطين بحجم أصابع البطاطا المقلية، تلعب كرة السلة، داخل جماجم الأمريكان، لذلك من الصعب التكهن بردود أفعالهم/ص45). وشخصية معنوية: منظمة (اسمها الدومنيكوس تحكم عليه بالموت في حال ثبوت خيانته للعهد/ ص67)، صافي يتهكم برغبة توسان في الهرب إلى حلب/ص153، بدلا من تذكيره بالعقوبة، تتغير أهداف المنظمة مع الظرف السياسي المتقلب في العراق. بعد الاحتلال الأمريكي تأخذ على عاتقها منع تحويل سينما الأندلس إلى مخزن، وتأسيس فرقة مسرحية(لكن يوجد الآن من يرى أنَّ السينما والمسرح والغناء حرام، سنتحول من محسنين إلى كفَّار/ص156)، (قتلوا دكتور حازم لأنَّه أسَّس فرقة مسرحية، واليوم قتلوا جبار وأحرقوا المكتبة، وأطلقوا النار على السينما/ص198). جلال كيشوت مصغَّر، مثالية مجردة. البطل يقدِّر تفوق القوى الشريرة من حولهِ، ويجد نفسه بلا قوة ولا مساعدة ورغم ذلك يقرر المضي قدمَاً في حربهِ المزعومة، جلال صَحَّافي موصلي انتمى في فبراير (شباط) 2005 إلى منظمة سرية أسستها ثلاث أسر مسلمة (الاجتماع التحضيري حضره الإيطالي فرنسيس تورياني وهو أبرز شخصية ضمن بعثة الآباء الدومنيكان التي أرسلها بابا الفاتيكان بندكت الرابع عشر عام 1750 لنشر الكثلكة بين نصارى الموصل..أسرة السيد صافي كانت الأكبر..واحتكرت كرسي الرئاسة وتوارثته/ ص69). ليس لنشرها بين المسلمين، بل بين أبناء الطائفة الأرثوذكسية، الكنيسة الشرقية. شبح قصر بني(يعود إلى الثري حنا بني، جمعَ ثروة طائلة جراء رعايته لمصالح الإنجليز والفرنسيين، مات مسموماً وأغلق القصر لعقود، ومع الاحتلال الإنجليزي ظهر طبيب من عائلة رسام المسيحية/ ص96) استولى على المنطقة المحيطة بقصر بني، ثم اشتراه، وبنى حوله ما يشبه القلعة، قتل هو الآخر 1925 وانتقل القصر إلى ملكية عائلة السيد صافي رئيس فرع المنظمة في الموصل، المترجمون(كانوا بانتظار المترجم وهو كردي من كركوك/ص37)(مترجم أمريكي من أصل لبناني /ص122)ومترجم القائد بترايوس من أصل فلسطيني. إسراف في ذكر سيرة المنظمة، وبعض مؤسسيها، وقصص وأساطير مختلقة ومختلطة بالتاريخ الآشوري(ولد النبي ناحوم في بلدة القوش من أسرة سباها الملك سنحاريب جد آشور بانيبال/ص114)آشوربانيبال الابن الثالث للملك آسرحدون، الذي عينه والده الملك سنحاريب نائباً للملك على بابل، والذي صار ملكا بعد ادعَّائه براءته من اغتيال أبيه سنحاريب.
شبح جيمس بوند: واقع المجتمع العراقي غارقٌ في أساطير المخابرات والأجهزة الأمنية الخارقة، في خرافات لا نهاية لها، البطل يشاطر الروائي عبدالستار رأيه حول أزمة الثقافة العراقية والرواية العراقية خاصَّةً(رف يحتوي على مجاميع كاملة لروائيين عرب، ليس فيهم عراقي واحد/ص65). صديقة جيمس بوند التي تجيد اللغة الإنجليزية، وتتابع كل ما تنشره الصحف العالمية، تستنتج من قراءة تقرير(هذا يجعلني أربط بين وجود الأمريكان في بيتك وبين قلادة الملكة شمشو/ص102)(رفعتْ مناسك حقيبة يدها إلى مستوى صدري، وأرتني مسدساً صغيراً يستقر في عمقها/ص20) (شمشو زوجة آشور بانيبال الأولى/ص106) (شمشو ابنة سارة أخت النبي ناحوم/ص114). صافي خريج السوربون، أخبره جلال برأيهِ(صارحته إنني أراه كرجل مظلي أسقطته طائرة/ص66)رأيٌ قد لا يختلف كثيراً عن رأي قارئٍ محايد، لكني أرى في جميع شخصيات الرواية تجسيداً لشخصية العميل جيمس بوند، فللبطل هويات مزورة، وعلاقات سرية مع مدير إعلام المحافظة، ومع مدير شرطة محافظة نينوى، الذي يغير رقمه، وكلما فعل يرسل لجلال رقمه الجديد، ومع الأمريكان، (تعاون مع سيرجنت مايكل/ص54) وفارس جمعة(خياط وتاجر أقمشة هو حلقة الوصل التي تربطني بقائد الشرطة /ص55)(- لقد خطفوا صاحبك الخياط. – فارس؟ – أعتقد أنَّ صفحة تحريره قد تمَّت، إخوته سيدفعون مليون دولار فدية/ص163) من يملك سيولة نقدية مليون دولار، لم يبقَ في العراق، وإذا بقيَ سوف يحيط نفسه بأطواق أمنية متعددة، كما فعلَ حسن زوج شقيقته(كوَّنَ في خريف 2003 ثروة من عقد صفقات لتجهيز الجيش الأمريكي.. ابتعدَ عن أجواء الموصل متنقِّلاً من مكان إلى آخر.. إلى بغداد، ليقضي سنة 2006 في سوريا/ص8). جلال يريد لقاءً مع شخصية سياسية أمريكية، كوزير الدفاع أو الخارجية، ليشكو الأمريكان الذين يحلو لهم تفتيش منزله، للبطل صديقة اسمها مناسك ليست بأقل مهارة وغموضاً وجرأة وعهراً من صديقات جيمس بوند، وشقيق البطل كان مسؤولاً عن التنقيبات في القصر الرئاسي في حي العربي، والذي يكتشف قبر الملكة شمشو في بحيرة القصر الرئاسي، ويسرق قلادتها، ورغم انعدام ثقته بالجميع، وغربته عن أهلهِ، وحسِّهِ الأمني يترك القلادة مع شقيقه جلال، جار البطل ياسين القصَّاب(مهووس بالشخصية الأمنية، والمخابرات الكلاسيكية، ويحاول دائماً أنْ يعطي انطباعاً بأنَّه أكثر من قصَّاب حتى وإنْ ورطه ذلك بسلسلة من الأكاذيب المروعة/ص43). شخصية كمال المادية، لا تتواءم مع حالة الندم الشديد حدَّ الهذيان، التي وصلَ إليها بسبب تأنيب الضمير لهدمه مدفن الملكة شمشو/ص107. شبح قلادة شمشو: يكاد يطغى على بنية النص الروائي، برمته، حيث تغير المَسار وتغير كل شيء بشكلٍ صدمني في أول ظهور للقلادة(إنَّهم يريدون قلادة الملكة شمشو/ص23)تحولت الرواية إلى حكاية، بحسب تعريف فلاديمير بورب، كمال يقول لجلال(أنت الوحيد الذي يستطيع المحافظة على الأشياء الثمينة، أنت طيب القلب ونظيف الدم..وحتى لو فقدت ثقتك بالوطن فسيبقى لديك الشرف والأمانة والإخلاص/ص109). في عام 1992 يتحدث عن شقيقه كمال(وألحقني بكل الدورات الصحفية التدريبية التي تقام في مراكز الشباب، دون أنْ يسمح لأحد بأن يكسبني لصالح توجه حزبي أو سياسي/ص83)لكن العراق في تلك الفترة كان خالياً من أيِّ توجّهٍ حزبي أو سياسي، عدا البعث، ولا أعتقد أنَّ أحداً كان قد نجا من الانتماء إليه، خاصة العاملين في الوسط الإعلامي. لكن كمال(يطلب مني أنْ أرافقه في جلساته الخاصة مع أصدقائه الذين كانوا ضباطا في المخابرات والأجهزة الأمنية/ص117). يكشف كمال لشقيقه جلال، اعتقاده بزيف نظرية هرمز رسام(شمشو أميرة مؤابية من ذيبون التي هي الآن ذيبا الأردنية، وقع آشور بانيبال في غرامها فيأمر تكريما لها أن يصهر سيفه الذي مقبضه من الذهب وأن يصاغ على شكل قبضة يدها ووضع في راحة اليد رمز ملكه وهو جوهرة حمراء/ ص118).
شبح السيرة الذاتية: يطارد النص الروائي، ففي ص20 ذكر البطل عمله في جريدة مستقبل العراق والتي كان الروائي يعمل مديراً لتحريرها، فترة صدورها في النصف الثاني من عام 2004، ولم يخفَ علينا أن المقصود بجريدة الغد البغدادية، جريدة المدى التي كان الروائي يعمل مديراً لمكتبها في الموصل في نفس الوقت، والإشارة إلى بعض الشخصيات كالفنان التشكيلي الموصلي راكان دبدوب/ ص100، (لحقَ بنا شاكر البدران قادماً من مكتبة الأوقاف/ص131). (قال بصوته الأنثوي: من اليوم سأبدأ باحترامك/ص132). ولم يكتفِ الروائي نزار عبدالستار بإضفاء صفته الصحَّافية إلى بطله، مقتنعاً بفعل إشهار الأحداث الجسيمة والشخصيات التي عايشها في الموصل، وخاصةً صورة عن مثقفي المدينة، وإعلامييها، وعن عائلة الهدوان الذين(جميعهم ينظر إلى مهنتي باحتقار/ص15)، وهو ما فعله ثربانتس ببطله كيشوت، الذي حينَ أرادَ محاكاة الفارس الأسطوري أماديس دي غول، وإتماماً للمحاكاة، أضاف دون كيشوت اسم بلدته إلى اسمه فأصبح اسمه « دون كيشوت دي لامانش». والإشارة إلى الدعم الذي كان الجنرال ديفيد بترايوس(مواليد نيويورك 1952) كان قائداً للفرقة 101 المحمولة جواً نَجحَ في احتلال محافظة نينوى، بدون إطلاق نار، من خلال وعودٍ كثيرة لمْ يفِ بها، وبقيَ حتى نهاية 2005، وانقطعَ الدعم لبعض إعلاميي الموصل بخروج قواته من المدينة وعودتهم إلى أمريكا.
شبح الارتياب: رغم جهل البطل بهذه المعلومات، فهو يشخِّص الأسلحة تشخيصاً دقيقاً(مدرعة الـstriker/ ص30) (يوجهون نحوي بنادق نوع M16/ص32)(الأمريكان جاءوا هذه المرة بأسلحة غريبة/ص40)(فهمت أنَّهم يقومون بعملية اسمها الأرنب الأعور/ص33)، ربما التقط كلمة من هنا وأخرى من هناك، فاستنتج ذلك، لكن في مكانٍ آخر(أخبروني أنَّهم يقومون بعملية عسكرية اسمها الأرنب الأعور/ص41). العراقيون في الرواية لديهم حسٌّ أمني، استناداً إلى القاعدة الاستخباراتية الشهيرة(المعلومة لمن يحتاجها)بينما الأمريكان يثرثرون مع المعتقلين عن أسرارهم العسكرية!!(نتواجد في بيتك بين الحين والآخر للقيام بعملية مراقبة، لست مخولا لإخبارك بهذا ولكنني أتعاطف معك/ص126) (سألت مايكل: ما أخبار الأرنب الأعور؟- لقد انتهت العملية الجديدة اسمها النملة سالي. ضحكنا بعمق/ ص128). (نقلوا قاذفات أنبوبية، ومناظير، وأجهزة بشاشات، وهوائيات، وصناديق لم يسبق لي رؤيتها. كلفوني بمهمة ترتيب علب الذخيرة. يحدث هذا عندما يكتشفون أنني يمكن أن أكون مفيداً، قبل أربعة أشهر عهدوا إلي بمهمة حمل جهاز مكعب الشكل يصدر صفيراً خافتاً كل دقيقة، وعندما طلبت من مايكل أن ألمس بندقية الـ M16 نهرني بغضب/ص34). ويرى البطل لسان حال معظم مثقفي العراق(كنت أميل إلى الاعتقاد أنَّ الشيء الأكثر تضرراً في العراق جراء الحروب هو الجنس/ص98)خاصَّةً بعد إغلاق محلات بيع الخمور، والملاهي الليلية، ودور بائعات الهوى، ونظَّمَ بعض مثقفي العراق في مظاهرات سلمية ضد قرار منع بيع الخمور، هؤلاء الذين أبداً لم يـتأثروا بمليون قتيل وبالدماء البريئة، وطوفان الفساد الكبير، وبالأمس كانوا ينشدون للقائد الضرورة، سارتر قاد مظاهرات الطلبة في شوارع باريس 1968، مطالباً بالتمرد أولاً وإسقاط الحكومة البوليسية، حالماً بتغيير العالم أو بتوسيع آفاق الممكن. (الأمريكان يسرقون مخطوطات باللغة السريانية والعبرية من مكتبة الأوقاف في الموصل/ص141). وثيقة شفوية معلومة من المجتمع الموصلي، كانت بأمسِّ الحاجة إلى توثيق تحريري. يأس إبراهيم توسان(لقد سئمت سخافات الدومنيكوس وهذا الخرف السيد صافي، أنتم تحرثون الغيوم، أية ثقافة هذه التي تريد حقنها في عقول هذا الشعب المغفل/ص150). توفيق يكذب على جلال يحدثه عن دور شقيقه كمال في إعادة آلاف القطع الأثرية إلى العراق/ ص180، جلال يكتشف كذبه فيطرده، ثم يعرض عليه توفيق مليون دولار مقابل قلادة شمشو/ ص182، (يروي إحدهم/ص7) الصواب يروي أحدهم.
فلوبير اغتال الرومانسية في روايته « مدام بوفاري» بتقديمه حجج الزوجة الخائنة، ثربانتس فتق الجرح الأخلاقي واغتال عصر الفروسية في « دون كيشوت»، وجويس في « يوليسيس» اغتال القرن العشرين، ورغمَ أنَّ التباين الفردي لشخصيات العمل الروائي، واختلاف طرائقهم في الكلام، دليل اختلاف بيئتهم الثقافية، ضرورية لطرد الارتياب لدى القارئ، وإقناعهِ بأنَّ الذي يتحدَّث ليس الروائي، لكنَّ ثقافة ولغة نخبة المثقفين من شخصيات الرواية كانت متقاربة ومتشابهة، في لغةٍ واحدة ووحيدة، كادت مناسك أنْ تبزَّهم جميعاً، لا بجرأتها بل بعمق ثقافتها، والتي رغم شخصيتها المنفتحة جدا جداً، تقول(هذه المرة الأولى في حياتي أدخل سينما/ ص132). بحسب طريقة أمبرتو إيكو في التبرير: ربما كانت تكذب على حبيبها جلال، لكنَّها سوف تكون الكذبة الأولى والأخيرة لها في النص الروائي. شخصيات خيالية مستعدة للتضحية بكل شيء، بالمال والنفس من أجل إعادة افتتاح سينما، أو فتح مكتبات جديدة، لنشر الثقافة، أينَ آراء الآخر المختلف، الإرهابي الذي يريد قتل الناس بذنب دخولهم إلى السينما، باموك في رواية ثلج، تارةً يوحي للقارئ بأنَّه إسلامي متطرِّف جدا، وتارةً علماني ملحد، ذكرَ بحيادٍ تام مواضيعاً حسّاسة كالعقيدة الدينية والحجاب، وجاء الكاتب بكلِّ الآراء حتى التي لا يتفق معها، ولهذا هلَّل الغرب وغضب القوميون وصمتَ الإسلام السياسي بحقد.
السيد صافي (اعتذرَ قائلاً إنَّه سيوصل إلى إبراهيم في الغد مبلغ مليون دولار، وإنَّ علينا إعادة المكتبة بأبهى صورة/ص197)هذا المبلغ يكفي لشراء ربع شارع الدواسة، وليس لإعادة افتتاح مكتبة!!. (إلا أن لا أحد تحرك/ص141). تذكرني بتسمية أوديسيوس نفسه في النشيد التاسع من الأوديسة بلا أحد، حتى إذا فقأ العين الوحيدة للوحش بوليفيموس بن بوسيدون، فصرخ مستنجداً، فجاءه زملاؤه الوحوش السيكلوب يهرعون إليه، صاح بهم من داخل الكهف(لا أحد يقتلني بالخديعة، لا أحد يقتلني بالقوة)فقالوا(إذا كان لا أحد هاجمك فلا بدَّ أنْ تكون مريضا)ثم تركوه وذهبوا، وضحك أوديسيوس لمَّا رأى نجاح خطته. وبكيت لمَّا رأيت الجندي الأمريكي يظهر ودوداً لطيفاً، عند تفتيشه المنازل الآمنة، يمتنع عن دخول غرفة المعيشة، لئلا يزعج النساء والأطفال النائمين، بينما الحقيقة: أول شيء يفعلونه، يطردون الذكور خارج المنزل، يمددونهم على الأرض، أو راكعين أيديهم مشبوكة خلف الرقبة، ويستبقون الإناث في الداخل، ويقلبون البيت رأساً على عقب، ويسرقون الصور الشخصية للعائلات، وأية تحفيات، باعتبارها ذكريات للنصر السريع الذي تحقق لهم في العراق، وأحياناً يتحرشون بالنساء، المترجم أحياناً أشدّ من الجنود عنفاً وعنجهية. كما لم تتطرَّق الرواية إلى التغلغل الكبير لخلايا تنظيم القاعدة الإرهابي في مفاصل الحياة كافة، حتى العائلية منها، حتى أنَّ مرَشَّح لمنصب وزير الدفاع، يمارس تمويهاً كبيراً بإشراف خبراء أمنيين، بحيث يسبقه موكب وهمي، ومن ثم هو يجلس في سيارة شرطة مرور، ورغم كل هذه الاحتياطات الأمنية، تعرضَّت سيارته لعبوة ناسفة، فكيف مع مناسك وهي تقف وسط شارع الدواسة تدافع عن سينما الأندلس؟
– نزار عبدالستار- الأمريكان في بيتي- المؤسسة العربية للدراسات والنشر-2011- بيروت- ص50.