أن يفوز عمل أدبي بجائزة مرموقة يجعل من تناوله نقديا أمرا مكتنفا بشيء غير يسير من الصعوبة، بسبب الوفرة المكتوبة عنه نقديا وبحثيا ومواكبة. ومتى ما تجشم الباحث مهمة تناوله – بعد كل هذا – فإن عليه اختيار أحد سبيلين: فهو إما أن يتجه أفقيا فيبحث فيما لم يُبحث من قبل، وإما أن يذهب رأسيا فيغوص عميقا فيما تم تناوله سلفا؛ لعله يبلغ ما لم يبلغه سواه في محاولة النأي عن الوقوع في فخ التكرار.
غير أن رواية ساق البامبو للسنعوسي تحاصر قارئها بموضوعة الهوية وإشكالاتها، حتى بدا أن التغاضي عن هذه الثيمة – بغية الحرث في جوانب أخرى – تنكرٌ للاشتغال الأساس الذي أنفق الروائي عليه جهده وأفرغ فيه طاقته، بدءا من العنوان الذي اختاره بأن يكون «ساق البامبو» تأسيسا لفكرة الجذور واللاجذور في السيرورة التاريخية لحياة البشر المنفيين على هوامش الأوطان.
دون أن يفوت القارئ الالتفات إلى ما لساق البامبو من مدلولات تحيل إلى الوهن والضعف، فتحيل مباشرة إلى تلك الشخصيات المهمشة والمستضعفة في الرواية التي كان «هوزيه» أبرزها وليس أوحدها.
يقول هوزيه – بطل الرواية: «لو كنت مثل شجرة البامبو، لا انتماء لها. نقتطع جزءا من ساقها.. نغرسه، بلا جذور، في أي أرض.. لا يلبث الساق طويلا حتى تنبت له جذور جديدة.. تنمو من جديد.. في أرض جديدة.. بلا ماض.. بلا ذاكرة.. لا يلتفت إلى اختلاف الناس حول تسميته.. كاوايان في الفلبين.. خيزران في الكويت.. أو بامبو في أماكن أخرى»(ص94)
فهذا النموذج الذي يقدمه السنعوسي لأسئلة الهوية من خلال رمزية «ساق البامبو» ليس مألوفا في الذهنية العربية متى ما ارتبط الأمر بمسألة بالغة الخطورة والحساسية كمسألة الهوية؛ فقد درجت الأدبيات العربية على تأصيل هويتها «المميِزة» بحثا عن أعمق الجذور ضربا في أرض التاريخ، تفتيشا عما يجعل لتلك الهوية جذورا قبل أن يكون لها ساق، إذ لا ساق بدون جذور، ومن ليس له ماضٍ ليس له حاضر فضلا عن مستقبل. لكن أن يطرح عمل أدبي هذه القضية بشكل معاكس لما اعتاد عليه العربي في سيرورته التاريخية والأدبية يجعلنا أمام طرح جديد للفكرة والإشكالية المرتبطة بها، بما يكشف عن التحولات الكبرى التي تعتمل في الواقع العربي عموما – والخليجي خصوصا – تحت تأثير معطيات كبيرة، ليس أولها الايدي العاملة الوافدة وليس آخرها القرية الكونية الصغيرة.
علما بأن روايات عدة تناولت إشكالية الهوية خليجيا، لاسيما بعد الحقبة التي عرفت بما بعد النفط، وهي روايات أكثر من أن تذكر ، ولكن يبقى أن الرؤية التي حكمت توظيف هذا الموضوع كانت تأخذ حركة تنطلق من الداخل إلى الخارج في معالجة القضية وفي نظرتها إلى الآخر، بيد أن ساق البامبو تعالج القضية باتجاه عكسي ينطلق من الخارج باتجاه الداخل منظورا إليها بعين الآخر في نظرته وحكمه على المجتمع الخليجي عموما والكويتي خصوصا؛ لتطرح إشكاليات قد تبدو غير ذات صلة عميقة بالفرد الخليجي بقدر ما هي متعلقة بالآخر، الذي ليس الإنسان الخليجي سوى أحد أسبابه ومشاكله التي ظل عاجزا عن إيجاد الحلول لما تسبب في إيجاده.
وسنقف في السطور القادمة على صور الاغتراب التي رافقت رحلة «هوزيه» أو «عيسى» في رحلة بحثه عن وجوده/ هويته، وقد أجملتُ تلك الصور في سبع منها على النحو الآتي:
1ـــ الاغتراب المكاني:
وهي الصورة الأظهر والأجلى، وقد استطاع الروائي أن يحفر عميقا في المكان الفلبيني ليصور التفاصيل التي تعكس معرفة عميقة بذلك البلد. تلك المعرفة التي لم تقتصر على وصف المشاهد من رسوم الطبيعة وتفاصيلها المكانية، ولكنها تغلغلت عميقا في النسيج الثقافي والتاريخي الفلبيني بأعلامه كـ «خوسيه ريزال» رمز الفلبين القومي، الروائي والرسام الذي استطاع برواية كتبها أن يحرك الوعي الشعبي لينهض دفاعا عن بلاده فيطرد المحتل الإسباني الذي استوطن الفلبين قرابة أربعة قرون من الزمان، وكذا الشأن للسلطان المسلم لابو – لابو سلطان جزيرة ماكتان في دفاعه عن جزيرته ضد الحملات التنصيرية التي قادها ماجلان. وصولا إلى أساطير الفلبين وحكاياتها الشعبية التي شكلت وعي «هوزيه ميندوزا»، فضلا عن الملامسة العميقة للهموم التي تشغل ذلك القطر الذي لم يسلم هو الآخر من إشكالية الهوية بسبب من الامتزاج العرقي وتداخل الجنسيات والأصول. ذلك الحفر – كما قال كثير ممن تناول رواية ساق البامبو – أوقع القارئ في وهم التصديق بأن الكاتب إنما هو «هوزيه ميندوزا» ، وليس الكويتي سعود السنعوسي بسبب من تلك الدقة التي قلما يتقنها غير المنتمي للبلد نفسه.
في المقابل نجد الانتقال إلى وصف المكان الفيزيائي في الكويت يأتي على النقيض مما كان في الفلبين: «الطبيعة هنا، لا تشبه الطبيعة هناك في شيء إلا شروق الشمس في النهار، وطلوع القمر في الليل. حتى الشمس، تقول والدتي: «شككت في بادئ الأمر أنها الشمس ذاتها التي أعرف»(ص29)، بل إن «عيسى» نفسه لم يجد من خلال النافذة التي يطل منها في غرفة غسان شيئا يستحق الخروج من أجله، على عكس نافذة صديقه تشانغ في مانيلا تشاينا تاون: «في غرفة تشانغ، كنت أستعين بالنافذة المطلة على معبد سينغ – غوان على ضيق المكان وصمته، أما نوافذ شقة غسان، على كثرتها، فلم أجد من بينها نافذة أشاهد من خلالها ما يثير الاهتمام سوى ذلك الشعور المرير بالغربة تجاه الأرض والناس»(ص195).
ورغم الحضور الطافح للمكان الفلبيني في رواية ساق البامبو، فإن الحديث عن الغربة النفسية لدى شخصية «هوزيه» كانت حاضرة بسبب علمه المسبق بانتمائه إلى مكان آخر، ووطن آخر «برغم السنوات التي قضيتها بينكم.. أنا لا أنتمي لكم»(ص179) فما انفكت أمه تذكره بذلك الانتماء لبلد لا يعرف عنه سوى شخص اسمه راشد «كانت تحرص بين الحين والآخر أن تذكرني بانتمائي إلى مكان آخر أفضل»(ص13).
وتتبدى تلك الغربة النفسية في ارتباط المكان بشخص رجل لا يعرف عنه أكثر من كونه سببا في وجوده في هذه الحياة: «لم تتوقف أمي عن الحديث حول أبي والكويت، والحياة التي تنتظرني. كنت أبكي إذا ما جاء ذكر الكويت التي لا أعرف عنها شيئا. كنت لا أتصور نفسي في مكان غير أرض جدي ميندوزا في فالنسويللا»(ص71).
1.1 الكويت في ذهنية الآخر:
ترتبط الكويت – والخليج عموما – في ذهن الآخر، بوصفها أرضا للأحلام التي تمنح المستظلين بها أمانا ماليا لا حدود له، وإذا ما كان هذا الآخر أحد أبنائها فإن ما ينتظره سيكون حياة باذخة ومرفهة، وقد كانت «جوزافين» ترسم لهوزيه صورة للكويت تماثل الجنة: «أصبحت أنتظر ذلك اليوم الذي سأصبح فيه غنيا قادرا على الحصول على ما أريد من دون جهد»(ص71)، كيف لا وهي بلاد العجائب، والجنة المؤجلة لمن كان مثله «كويتي الأب»، فقد بدا أنه الأوفر حظا في بلد تضيق فيه حظوظ الرجال: «أدركت أمي أن مستقبلا آمنا، قلما يتوفر لرجل، ينتظرني هناك، في الكويت، التي تقدم لمواطنيها، وأنا أحدهم، ما لا تقدمه أكثر الدول تقدما» (ص77)
ولعله من نافل القول أن هذه الصورة النمطية في ذهنية الآخر، ليست مما يرفع من شأن مجتمعات كل ما تستطيعه هو أن تعيش في دعة، وتنظر إلى الآخر باستعلاء لتنصب حاجزها بينها وبينه لمجرد الفائض لديها من المال، رغم أنه مال يصنعه الآخر بعرق جبينه، في حين يأتيها باسم البترول والدعم الحكومي، يقول «عيسى» سائلا «خولة»: «قبائلنا مشهورة بزراعة الأرز.. بم تشتهر القبائل هنا؟ أجابت من دون تفكير: بأكل الأرز..»(ص278)
2.1 متلازمة الخيبة والحنين:
لا شيء كالخيبة يعيد النفس إلى بهاء الماضي. والارتطام بصخرة الواقع يعيد للحلم رونقه، فالاكتشافات لا تكون دائما وفق تصوراتنا المسبقة، فالكويت – مدينة العجائب – لم تكن كحفرة أرنب أليس في بلاد العجائب، يفضي بسهولة ويسر إلى أرض الأحلام. فالوطن ليس مالا وغنى، وهو ما اكتشفه «عيسى» بمجرد وصوله إلى بلاد أبيه: «لأول مرة أشعر باللاجدوى. حلمي القديم.. الجنة التي وُعدت بها. سفري. المال الذي بات يفيض عن حاجتي.. ماذا بعد؟ في بلاد أمي كنت لا أملك شيئا سوى عائلة. في بلاد أبي أملك كل شيء سوى .. عائلة»(ص303).
تلك الخيبة كان منشؤها من وجوه الكويت العديدة، «الكويت .. حلم قديم.. لم أتمكن من تحقيقه رغم وصولي إليها وسيري على أرضها. الكويت، بالنسبة لي حقيقة مزيفة.. أو زيف حقيقي.. لست أدري، ولكن، للكويت وجوه عدة»(ص324)، وذلك التيه في بلد يعترف بأوراقه الثبوتية وينكر وجهه ما كان له إلا أن يوقظ حنينه إلى الفلبين: «بلاد العجائب.. صورة مغايرة لصورة كنت أراها طيلة حياتي في الفلبين.. صورة خاطئة غير مطابقة لأحلامي.. لا شبه بين البلاد في مخيلتي القديمة وواقعي الجديد سوى أن هذه وتلك .. كلاهما.. بلاد العجائب»(ص 367).
2ــ الاغتراب الزماني:
يمثل زمن الرواية – منذ منتصف الثمانينيات وحتى زمن كتابة «هوزيه» لروايته – أحد أهم صور الاغتراب. ذلك الاغتراب الذي يستكمل صورة الاغتراب المكاني ويعمقها على النحو في المبحثين أدناه:
2ــ 1 الحضور التاريخي الكويتي معادل للحضور المكاني الفلبيني:
عوضت ساق البامبو غياب المعرفة التفصيلية بالكويت مكانيا، بالثقل التاريخي لها، فكانت الاستعانة بالأحداث الكبرى للكويت معادلا للحضور الفيزيائي العميق للفلبين، فنلحظ أن الأحداث التاريخية بدأت منذ العيد الوطني للكويت الذي صادف يوم تنصيب أول امرأة تحكم الفلبين في الـ25 من فبراير من العام 1987م. مرورا بأحداث محاولة اغتيال أمير الكويت في اليوم نفسه الذي وصلت فيه «جوزافين» إلى الكويت، ثم اختطاف الطائرة الكويتية «الجابرية» وهي في طريقها إلى تايلند متزامنا مع مولد «عيسى»، ثم حرب الخليج الثانية وما رافقها من أحداث، وأخيرا وفاة أمير الكويت في فجر اليوم نفسه الذي وصل فيه «هوزيه/عيسى» إلى الكويت. فهذه الخارطة التاريخية هي التي شكلت الكويت الحالية في وعيها بوجودها ونافذة العالم إليها في كل تلك الأحداث.
2ــ2 اقتران الغربة التاريخية
بالغربة الذاتية:
رغم ما كان للبعد التاريخي للكويت من معادل للحضور الفيزيائي للفلبين، إلا أن تلك الأحداث التاريخية كانت في مجملها أحداثا مأساوية، مما كرس غربة «هوزيه» الزمانية، ومن قبله «جوزافين»؛ التي وصلت في اليوم نفسه الذي نجا فيه أمير الكويت من محاولة اغتيال(ص30)، الأمر الذي جعلها نحسا تطيرت منه الجدة غنيمة، فما استطاعت بسببه أن تحظى برضاها، ثم اقتران ميلاد «عيسى» باختطاف الطائرة «الجابرية».
تقول سيدة البيت الكبيرة: «لتعلم وحسب.. أن النحس سيطاردك. انظر ماذا حل بصديقك بعد ولادة ذلك الشيء البغيض. إنه مثل أمه، لعنة»(ص51). «اقذف بهما خارجا وانظر كيف ستحل البركة عليك.. ومن ثم عد إلى بيتك، وستجدني، بقلب الأم، أغفر لك ذنبك العظيم»(ص51)
وما تلا ذلك من اندلاع حرب الخليج الثانية في الوقت الذي كانت فيه «جوزافين» تهيئ ابنها للعودة إلى أبيه، تحقيقا للوعد، ويقع «راشد» في الأسر مهددا بضياع الحلم «ما عادت الكويت تمثل لي شيئا منذ أخبرنا إسماعيل الكويتي عن وقوع أبي أسيرا في الحرب. انصرفت فكرة العودة إلى بلاد أبي من تلقاء نفسها»(ص101)
وأخيرا وليس آخرا، وفاة أمير الكويت في فجر اليوم نفسه الذي وصل فيه «هوزيه» إلى الكويت: «مطار كئيب ذلك الذي حطت به الطائرة يوم الأحد، الخامس عشر من يناير 2006. الوجوه تشبه مطارها، كئيبة بشكل لم أجد له تبريرا» (ص185) ليكتشف بعد حين سبب تلك الكآبة، وشبه يقين يؤكد فكرة لعنة جوزافين التي تؤمن بها الجدة.
هذا التاريخ المعادل لحضور الفلبين المكاني، لم يفعل سوى تعميق غربة «هوزيه/عيسى» إذ هي أحداث مأساوية برمتها، ربطت حياته بآلام الكويت، ليسأل غير مرة: «من يشكل لعنة للآخر؟»(ص394)
3. الاغتراب الاجتماعي:
أحصت هذه الورقة سبعة أوضاع اجتماعية كرست حالة الغربة المكانية والاغتراب النفسي في المجتمع الكويتي، منذ ميلاده وحتى رحيله الأخير من الكويت، وهي كالآتي:
3-1 فهو لم يكن سوى [شيء] عندما وُلد – كما تقول جدته غنيمة لوالده بعد ولادته: «إياك أن تحضر هذا الشيء إلى هنا»(ص75)، وقولها له: «انظر ماذا حل بصديقك بعد ولادة ذلك الشيء البغيض»(ص51)، فهو مجرد (شيء)، قابل للتخلص منه متى ما فاض عن الحاجة، رغم أن هذا الشيء هو الوريث الوحيد كما – أصبح لاحقا – لاسم الطاروف، بعد أن توقف نسل العائلة من الذكور، فهو الذي «ليس بيد أحد غيره أن يضمن استمرار اسم أبيه وجده، وتوريث لقب العائلة لذريته»(ص211)
3-2 ثم غدا [ورطة] لدى عودته. يقول: «وحين عدت إلى بلاد أبي وجدتهم متورطين بي، يريدونني ولا يريدونني»(ص224). وككل ورطة تستدعي البحث عن حل للخروج منها، أو تجاوزها، وقد تبدت الورطة «عيسى» في كامل صورها لدى الجدة «غنيمة»: فجدته متورطة به، وحائرة في أمره، فهو رغم وجهه الفلبيني وريث لقب الطاروف الوحيد. وهو ورطة عمته «نورية» التي ترى فيه تهديدا لمكانتها الاجتماعية في بيت زوجها مما يجعلها مدعاة للسخرية بين زوجات أخوته(ص223)، تقول: «لدي ابن وابنة في سن الزواج، لن أسمح لهذا الفلبيني أن يعرقل زواجهما»(ص223) وكأي ورطة قاهرة، كانت نورية أول المبادرين إلى تسوية مالية معه لقاء عودته إلى بلاد أمه.
كما أنه ورطة عمته «هند» المدافعة عن حقوق الإنسان. ورطة جعلتها حائرة بأيهما تضحي، باسم الطاروف ونسبه العريق، أو بمبادئها في الدفاع عن حقه كإنسان في العيش في بلاد أبيه، ولكنه مع كل هذا ليس شيئا يستحق التضحية، ولم يكن يمثل شيئا ليستحق حتى التضحية به.
3-3 وأصبح [سرا] لا يجب إفشاؤه عندما قُبل للإقامة في ملحق بيت الطاروف: «سأعيش في بيت جدتي، أو ملحق بيتها، بصفتي سرا لا يجب أن يُكشف للآخرين»(ص230)، وكان عليه أن يحفظ جيدا قائمة التعليمات التي لا يجب مخالفتها وإلا عرّض اسم «الطاروف» العريق للمهانة والاحتقار، توصيه خولة: «إذا ما سألك الجيران أو خدمهم.. أنت الطباخ الجديد»(ص230)، وكان عليه وحده أن يتحمل تبعات إفشاء السر أمام صديقه جابر، فهو كما يقول: «لم أخطئ حين أخبرت صديقي بعلاقتي بهند الطاروف، ولكنني أخطأت حين لم أطلب منه الاحتفاظ بالأمر سرا كما أرادت عائلتي»(ص366)، فما توصل إليه جابر من حقيقة عيسى «انتقل إلى أمه، ومن أمه إلى البيوت المحيطة، ومن البيوت المحيطة إلى أناس آخرين، ولأن الكويت صغيرة، يكاد كل مرء فيها يعرف الآخر، ولأن للكلمات أجنحة، فقد طار الخبر في فضاءات النميمة، في المجالس النسائية تحديدا، يحط مستريحا على لسان إحداهن ليعاود الطيران مرة أخرى»(ص366)
فما كان شيء كهذا ليكون كبير شأن، مهما كانت الكويت صغيرة كما يتداولها الكويتيون – كقبضة كف اليد – لولا سلطة الناس على الناس فيها، لتصبح أسئلته الذي يرددها بين الحين الآخر ليست سوى من قبيل محاولة الفهم لما لا تفسير له، سوى العرف الاجتماعي العصي على التغيير: «يا لهذه الصغيرة.. لو كانت كبيرة.. هل سأضطر لكل ذلك؟ كيف يتسنى للمرء العيش مع كل ذلك الحذر الذي يجب أن يتوخاه في تصرفاته وحديثه وتحركاته؟ (…) وما تلك السلطة التي يملكها الناس على بعضهم البعض؟»(ص366)
وما ذاك إلا لأن حكاية عيسى ليست حكايته فقط، بل هي حكاية الطاروف الاسم الكبير الذي ينتظر منه الناس زلة واحدة للانتقاص منه، ففي الكويت «الصيت ولا الغنى»(ص368). وليست الطاروف سوى النمذجة التي تتخذها الطبيعة الاجتماعية المقترنة بالحساسية القبلية في المجتمع الكويتي .
4-3وهو إلى جانب ذلك [عار]؛ بسبب الوجه الفلبيني الذي يحمله، فهو «عيسى راشد عيسى الطاروف، اسم يجلب الشرف.. وجه يجلب العار»(ص214). هو عيسى ابن الشهيد راشد.. وفي الوقت نفسه هو .. عيسى ابن الخادمة الفلبينية!(انظر ص214)، فالعار أول عناوينه هو الوجه الذي يحمله، فقد كانت الملامح هي الهم الأول الذي حملته الجدة غنيمة عندما علمت بعودة حفيدها، سائلة غسان: «كيف تبدو ملامح ابن الفلبينية؟»، فيجيبها: «فلبينية.»(ص211)
ففي سؤالها احتمالية التغاضي عن العار القديم – بكون أمه فلبينية – فيما لو كانت الملامح لا تحيل إليها، ولكن أن تأتي الملامح مذكرة بها فهو العار الذي لا غطاء له ولا ساتر، ذلك الوجه الذي حاول راشد في أول ميلاد ولده أن يبحث فيه عن شيء واحد يشبهه، ولكنه «كان يشاهد وجها برقع مأخوذة من وجوه شتى، لم يكن وجهه من بينها»(ص49)
«عيسى» أو «هوزيه» كما يقول مجانين بوراكاي الـ «كويتي made in Philippines» قد حالت ملامح وجهه دون ذوبانه في المجتمع الكويتي، الذي ما انفك كل شيء فيها يذكره به، مهما حاول إخفاءه يبقى الوجه وحده كالحا يعيده إلى حادثة المركب التي كانت ما قبل الميلاد، ففي صبيحة عيد الأضحى، وقد لبس كما يلبس أبناء خالاته اللباس الوطني، لم يجد شيئا يشبهه في تلك الهيئة سوى وجهه: «كل شيء فيّ كان أبيض في تلك الصبيحة ما عدا حذائي، وحلقة الرأس، كانا باللون الأسود. وقفت أمام المرآة أشاهدني، لا شيء يشبهني سوى.. وجهي»(ص285) وهو ما لم يفعله في عيد الفطر قبله، رافضا الخروج للسلام على جدته بعد الظهر. الوقت الذي اطمأنت فيه إلى أن أحدا لن يزورها، قال غاضبا في وجه خولة: «بعد أن رحل الجميع؟ .. بعد أن اطمأنت إلى أن أحدا لن يقابل وجه العار؟»(ص275)
ولكن ذلك الوجه الذي رغم فلبينيته، كان له صوت «راشد»، كما قالت له عمته هند مستغربة عندما سمعت صوته للمرة الأولى، في اليوم التالي لانتقاله للسكنى في ملحق البيت: «لك صوت راشد.. كأنك هو يلبس وجها غير وجهه»(ص233)، فأيهما أمضى وأخلد: أن يكون هو، أو أن يلبس وجها غير وجهه؟ فإذا كان الوجه ليس سوى لباسا، هل يستحق كل هذا النكران؟ لاسيما أن الصوت الذي «هو» تسبب في جعل الجدة تبكي عندما سمعته هي الأخرى للمرة الأولى: «أمي تقول .. لك صوت أبيك»(ص243)
ولكنه يبقى مجرد صوت يذوب في الهواء، ولا يحتفظ بذبذباته كما يحتفظ الوجه بقسماته، فهو كويتي بوجه فلبيني. حقيقة تكفي للتشكيك في جمال الكويت في عينيه عندما طمأنه إبراهيم سلام بقوله: «الكويت جميلة.. الناس هنا طيبون»(ص271) يستطرد «عيسى» في سرده محادثا نفسه: «توقفت عند كلماته كثيرا. كدت أقول له: «لأنك لست كويتيا بوجه فلبيني!»(ص271).
فتكف الطيبة ويمتنع الجمال مع الأشياء التي تكتسب صفات نصف كويتية، فالطيبة الكويتية تكون مع الكويتي الخالص أو الآخر خالصا، ولكنه عندما يكون في منطقة البين بين يواجه بالرفض والإقصاء، وهو ما لم يشعر به إبراهيم الفلبيني الكامل، وأحس به عيسى نصف الكويتي.
ولكن وجه العار المخبأ في بيت الطاروف كان مكشوفا على المجتمع، يستقبله بالهوان منذ أول وصوله إلى الكويت في مشهد درامي مترع بالتراجيديا، يسرد الحادثة: «وقفت في حيرة أمام هذه الطوابير. هل أتوجه للطوابير التي يقف فيها الفلبينيون الذين كانوا معي في الرحلة؟ أم تلك الطوابير التي تقف فيها أناس يشبهونني؟»(ص185). «استدرت متجها إلى حيث تختم الجوازات، حاملا حقيبة وجودي، تلك التي تضم صور أبي القديمة وأوراقي الثبوتية. وقفت في أحد طوابير الـ G.C.C، خلف رجال يرتدون تلك الثياب الفضفاضة مع أغطية الرأس العربية.. لابد أنهم، مثلي، كويتيون.» (ص185)
بيد أنه ووجه بالسباب والشتائم لوقوفه في المكان الخطأ، قبل أن يرى الرجل الذي يختم الجوازات جواز «هوزيه» الأزرق، صارفا إياه إلى الطابور الآخر حيث يقف من يحملون وجوها تشبه وجهه. يقول معلقا: «رفض وجهي قبل أن يرى جواز سفري»(ص186)، ليبقى مواجها بالرفض والاستغراب اللذين حالا دون النجاح في أية محاولة لنسيان ذلك الوجه، ففي المقبرة أثناء تشييع الشاعر الكويتي فائق عبد الجليل – بعدما عثر على رفاته في مقبرة جماعية جنوب العراق – لم يشغل الناس حزنهم عن النظر في وجهه. يقول: «كثير من الناس كانوا ينظرون إلي. يتهامسون. يستغربون وجودي على ما يبدو. تبا لهذا الوجه. تعددت أسمائي وبقي وجهي صامدا كما هو يثير دهشة الناس من حولي.»(ص252)
ولكنه استطاع أن ينسى وجهه مرة واحدة في غمرة إحساسه بوطنيته الكويتية أثناء مشاركته لأصدقائه في الحملات الإعلامية المتزامنة مع الانتخابات البرلمانية؛ محذرين الناس من بيع وطنهم، فقد كان مستمتعا بذلك الحماس الذي نقلوه إليه، يقول: «حتى نسيت وجهي الآسيوي وأنا أحمل الأوراق بين يدي. أثبتها بين زجاج السيارات وماسحات المطر، مرددا ما لم أتمكن من قراءته: «الكويت .. ليست للبيع». في تلك الأيام كنت كويتيا كما لم أكن في حياتي. كنت في ذروة شعوري بالانتماء إلى هذا الوطن الذي التحفت رفات والدي بعلمه ذي الألوان الأربعة. استعدت كلمات ميرلا في إحدى رسائلها الإلكترونية: «تغلب على وجهك مثلما تغلبت أنا على وجهي . أثبت لنفسك قبل الآخرين من تكون. آمن بنفسك، يؤمن بك من حولك. وإن لم يؤمنوا فهذه مشكلتهم هم، ليست مشكلتك»(ص363)
5-4 وقد كان [ضحية] في أكثر من موقف، كما هو الضحية على الدوام، ولكن أن يكون المرء ضحية، يفترض في المقابل وجود الجلاد في الطرف الآخر، وتختلف صورة الجلاد باختلاف المواقف وظروف الزمان والمكان، ولكن الضحية تلزم صورتها الأحادية بوصفها الطرف الأضعف. وثمة إشارة وردت تجعل من الجلاد يلبس لباس الإرهابي في اللاوعي السحيق المغلف بالشعور بالظلم في منطقة الوعي، فيذكر «عيسى» أنه في منام ما، استيقظ على صوت أذان الفجر من كابوس يحكيه: «أيقظني من موتي من حلم أفزعني. كنت في مندناو. ذراعاي مقيدتان إلى ظهري. وجهي إلى الأرض. نورية وعمتي عواطف تمسكان بكتفيّ تثبتانني إلى الأرض. ماما غنيمة تجلس في مكان بعيد بين الأشجار الاستوائية، بعينين دامعتين، لا تحرك ساكنا. هممت أناديها.. أستنجد بها: «ماما غنـ..». أحدهم شد شعري إلى الوراء. التقت عيناي بعينيه مباشرة. كان أحمد زوج عمتي عواطف يمسك سكينا.. صرخت: «ماما غنـ..» حزّ أحمد عنقي قبل أن أتم اسم جدتي.»(ص267)
ففي هذا الحلم معطيان، أولهما: أن «عيسى» وجد نفسه في «مندناو»، وبالعودة إلى ما تعنيه مندناو في الفلبين، فهي جزيرة في جنوب الفلبين تعد مقرا لجماعة أبو سياف التي ارتبطت بالإرهاب، وخطفها للرهائن باسم الإسلام، أما ثانيهما: فهو زوج عمته عواطف، وقد سبقت الإشارة إليه في صفحة سابقة أنه ذو ذقن طويلة(ص266)، في دلالة إلى تدينه الواضح، فهو العارف بالله كما حاولت عواطف أن تداري خوفها من ردة فعله إذا ما عرف بحقيقة ابن أخيها من خادمة فلبينية: «أحمد زوجي رجل يخاف الله، ولن يكون ذا موقف سلبي لو علم بالأمر»(ص222)، ليأتي الجمع في الحلم بين مندناو التي ارتبط اسمها بـ (الجماعة الإرهابية)، وأحمد ذي (اللحية الطويلة) ليعطي الدلالة على الصورة الذهنية التي يحملها «هوزيه» عن الإسلام المقترنة بالإرهاب، وهو ما سيرد بيانه في مبحث الاغتراب الديني.
6-3وأصبح [رقما مكملا] بين أصدقائه الذين لطالما عشقوا لعب لعبة الورق التي تشترط ستة لاعبين بينما هم حتى قبيل مجيء عيسى كانوا خمسة فقط، ولكنه وضع – رغم ضآلته – أشعره بأهمية وجوده: «قد يبدو الأمر تافها، ولكن، لأول مرة في الكويت أشعر بأهمية وجودي، وإن كان ذلك تكملة عدد للعب الورق»(ص355).
ولكن مجانين بوراكاي هم الوجه الحبيب للكويت الذي استطاع من خلاله أن يجد نفسه وعالمه، الكويت التي لطالما تساءل أي الوجوه هو وجهها، والتي بقيت حتى قبيل لقائه بأحد المجانين «مشعل» قيد البحث(ص323)، خائفا من أن تكون الكويت التي عايشها قبل تلك اللحظة هي الكويت ولا شيء سواها، فهي «صور كثيرة.. إحداها لا تشبه الأخرى»(ص323) ولكنه في يوم لقائه بمشعل ضحك لأول مرة ضحكة حقيقية منذ وصل إلى الكويت(ص345)، بل إن ظهور مشعل على هذا النحو منحه الفرصة للاقتراب من كويتيته التي لم يشعر بها قبل(ص346). أصدقاء بوراكاي الخمسة: مشعل وجابر وعبدالله ومهدي وتركي، هم من أهداهم هوزيه ميندوزا روايته «سيرته الذاتية» بقوله في صفحة الإهداء: «إلى مجانين لا يشبهون المجانين.. مجانين.. لا يشبهون إلا أنفسهم.. مشعل.. تركي.. جابر.. عبدالله ومهدي. إليهم .. وحدهم»(ص13) فقد اختصروا الكويت ووجوهها الكثيرة في وجوههم، فكانوا له الوطن وهو الذي لم يجد وطنا، ليعنون الفصل الأخير من روايته بقوله – هذه المرة – وليس بقول خوسيه ريزال كما درجت العادة في جميع الفصول، بقوله: «إن لفظت الديار أجسادنا.. قلوب الأصدقاء لأرواحنا أوطان»(ص391) بتوقيع هوزيه ميندوزا
3-7 وهو في كل حالاته مجتمعة [المنفي] من الكويت وداخلها. وقد تعرض «عيسى» للنفي خمس مرات منذ ولادته وحتى رحيله الأخير: النفي الأول/ عندما طرد رضيعا هو وأبوه من الباب الخلفي للبيت. النفي الثاني/ عندما تم ترحيله هو وأمه إلى الفلبين بعد حادث اختطاف الطائرة الجابرية – وعاش في الفلبين منفيا على أمل العودة. النفي الثالث/ عندما عاد إلى الكويت واختير له منفى داخلي في ملحق البيت: «كنت أنظر إلى عائلتي من منفاي في ملحق المنزل، والحسرة تملأ قلبي» (ص265). النفي الرابع/ عندما نفي من بيت الطاروف مرة أخرى – من أجل بقاء خولة فيه – ليستقل في شقة وحيدا.
النفي الخامس والأخير/ عندما خرج إلى منفاه الأخير الفلبين بعدما ضاقت عليه الكويت وأوصدت أبوابها في وجهه، وقد بدا له أنه فهم مقولة ريزال فهما معكوسا عندما قال: «إن الذي لا يستطيع النظر وراءه، إلى المكان الذي جاء منه، سوف لن يصل إلى وجهته أبدا» (ص383) وكان قد حسب الكويت مكانا جاء منه حين ولد فيه، ليكون وجهته التي قرر الوصول إليها بعد غياب، ولكن.. حين نظر وراءه لم يجد سوى الفلبين.. مانيلا.. فالنسويللا.. أرض ميندوزا (ص383)
الاغتراب الاجتماعي وجه آخر للنقد الاجتماعي:
توجه رواية ساق البامبو نقدا اجتماعيا لاذعا للمجتمع الكويتي في قالب روائي شائق دون أن ينحدر بها إلى التقريرية أو الإقحام المسيء للبناء الروائي المحكم:
هوزيه، الكويتي رسميا، ليس شيئا (على المستوى الاجتماعي)، ففي الكويت «لا يعتد الناس بكلمة كويتي، وإن كان الإنسان كويتيا، فهذا لا يعني شيئا.الكويتيون أنواع. درجات من البشر، طبقات متفاوتة تميز بعضهم عن الآخر»(ص276) ولا يتساوون إلا في الأزمات حسب الرواية التي كان يكتبها «راشد الطاروف» قبل وفاته ولما تكتمل. طبقات فوق بعضها. «كل طبقة اجتماعية تبحث عن طبقة أدنى تمتطيها، وإن اضطرت لخلقها، تعلو فوق أكتافها، وتحتقرها وتتخفف بواسطتها من الضغط الذي تسببه الطبقة الأعلى فوق أكتافها هي الأخرى»(ص279). بين تلك الطبقات كان «عيسى» يبحث عن نفسه، وعندما نظر أسفل قدميه في بلاد أبيه ليبحث عمن هو دونه لم يجد من هو أدنى منه غير سلحفاته!
وعندما تقدم ساق البامبو نقدها الاجتماعي فإنها تقدمه على أكثر من صعيد، بدءا من سلوكيات الناس وتحديقهم في كل شيء رغم انتقادهم لهذا السلوك كما تقول خولة «نحن أكثر من ينتقد هذا السلوك وأكثر من يمارسه»(ص334)، مرورا بمواجهة الآخر بالشك وعدم الثقة. صفات قرأها غسان في عيسى: «أرى أنك أصبحت كويتيا أسرع مما كنت أتصور»(ص337). «الشك.. عدم الثقة بالآخر.. في الكويت .. الثقة التي كانت.. ما عادت»(ص337)، وصولا إلى قضية الكويت الأهم (البدون)، وانتهاء بأزمة الهوية التي لا ينفرد بها البدون دون سواهم.
وفي الكويت الصغيرة التي تولي اللسان سلطة لا تعلوها سلطة، الأخطاء ليست سواء، بل إنها تقاس بمقياس الطبقة التي تصدر منها، «يموت عشرات الشبان في الكويت بجرعة مخدرات أمر لا يستدعي الاهتمام، ولكنه أمرر عظيم ومشين إن حدث ذلك لشاب ذي نسب رفيع، يستريح هو بموته، ليوّرث عائلته العار من بعده. عندما يفلس تاجر ما تنتهي كل مشاكله بإشهار إفلاسه، أما أن يفلس ابن العائلة العريقة فالأمر لا ينتهي أبدا حيث تستحيل ألسن الناس سياطا تجلده طيلة حياته لتنال من ذريته. أن ينجح رجل ما في عمله ويكوّن ثروة فهو رجل عصامي، أما أن ينجح فيصل العادل، زوج (…) نوريه، فهو «حرامي»(ص349)
وإن كان السنعوسي – كما يبدو – قاسيا في معالجته النقدية للواقع الاجتماعي الكويتي، إلا أن قسوته حسب القراءة الفنية للبناء الروائي تعد جرأة تحسب لعمله، مما أكسبه بعدا أعمق غورا عن كل المعالجات السطحية التي تجبن عن الكشف الكامل، وإن هي فعلت وقعت في التقريرية. وقد بدا أخيرا أن المعالجات الجريئة لا تسيء إلى الواقع بقدر ما تجعل قضية الإصلاح والتغيير مشروعا ملحا لا مناص عن تبنيه، فقد أثبتت «ساق البامبو» أن تناول مجتمع ما بالنقد الاجتماعي – وغير الاجتماعي – لا يسيء إليه بقدر ما يجعل علاجه إحدى الضرورات التي يصبح التغاضي عنها هو الإساءة الحقيقية.
4. الاغتراب الديني:
رغم أن «راشد» والد «عيسى» قرأ الأذان في أذن عيسى فور ولادته، إلا أنه لم ينشأ مسلما كما يجب، كما لم ينشأ مسيحيا كاملا كما أرادت له عمته، ولم يكن بوذيا خالصا رغم عشقه لتعاليم بوذا، بل كان مزيجا من المسيحية والبوذية والإسلام، وفي غمرة التيه يغرق في أسئلته الوجودية: «لو أنهما اتفقا على شيء واحد.. شيء واحد فقط.. بدلا من أن يتركاني وحيدا أتخبط في طريق طويلة بحثا عن هوية واضحة الملامح.. اسم واحد التفت لمن ينادي به.. وطن واحد أولد به، أحفظ نشيده، وأرسم على أشجاره وشوارعه ذكرياتي قبل أن أرقد مطمئنا في ترابه. دين واحد أؤمن به بدلا من تنصيب نفسي نبيا لدين لا يخص أحدا سواي» (ص63)
ولكنه لم يكن ناقما تماما على تشرده الديني، فالأمر لا يخلو من ميزة أتاحت له تلمس طريقه إلى الله كما لم يتح إلا للباحث عن جوهر الحق: «إنه قدري، أن أقضي عمري باحثا عن اسم ودين ووطن. رغم ذلك، لن أنكر لوالديّ فضلهما في مساعدتي، من دون نية منهما، في تعرفي على خالقي.. بطريقتي»(ص66)
ولما كان الإنسان مفطورا على الإيمان بدين، إذ إن الفطرة – حسب الجرجاني في كتابه التعريفات – «هي الجبلة المتهيئة لقبول الدين» ، وجدنا هوزيه ساعيا للبحث عن دين يركن إليه باطمئنان، مجربا في سبيل ذلك الاقتراب من ثلاث ديانات: المسيحية، والبوذية، والإسلام، ليضعنا السنعوسي بذلك أمام بعدين:
أولهما: أنه كان ممكنا لـ»هوزيه» أن ينشأ غير عابئ بالبحث عن دين – أي دين – في ظل ما يموج به عالم اليوم من دعوات تبعد الدين عن معترك الحياة، وتعزله عن التأثير في مساراتها تحت شعارات وتوجهات وأيديولجيات تجعل من العلم دينا تارة، ومن العقل دينا تارة أخرى، والطبيعة دينا تارة ثالثة، وليس آخرها الدعوة إلى (اللادين) بالركون إلى قدرة الصدفة أو الإنسان ذاته على الفعل. ولكنه صوّر لنا «هوزيه» شخصية مازالت على فطرتها الأولى التي لم تدنس بشوائب تشوّش عليها أساس وجودها الأول، وهو البحث عن الحق وحتمية الإيمان بإله، لاسيما أن الرواية – في موازاة ذلك – تقدم شخصيات لا تعطي بالا للدين – كشخصية مشعل (مجنون من مجانين بوراكاي) – الذي بقي لا يعبأ بالصلاة فضلا عن مداومته لشرب الخمر.
أما ثانيهما: فإن الرواية تقدم توافقا بين الأديان السماوية (المسيحية والإسلام) من جهة، وبينها وبين الأديان الوضعية (البوذية) من جهة أخرى – دون أن نغفل حضور دين وضعي آخر هو (الريزليستا)، نسبة إلى خوسيه ريزال، الذي اعتنقته «ميرلا» في نهاية رحلة الضياع – لتقدم «ساق البامبو» رسالة في التسامح والبحث عن أرض مشتركة يقف عليها عالم اليوم الذي تطحنه الخلافات التي ليست الدينية إلا أحد وجوهها.
وقد عالج السنعوسي الاغتراب الديني من خلال مستويات ثلاثة عبر «هوزيه» خلال رحلته في البحث عن الله في الأديان الثلاثة، وقد جاءت تلك المستويات كالآتي:
1.4 الوقوف من الأديان على مسافة متساوية:
يقف «هوزيه» على مسافة متساوية من المسيحية والبوذية ولاحقا الإسلام، كأنما هو مركز دائرة تتموضع الأديان الثلاثة على محيطها وعلى مسافات متساوية فيما بينها، فقد اختارت له خالته آيدا أن يكون مسيحيا بعدما أهملت والدته تربيته دينيا معللا ذلك بأنها «على يقين بأن الإسلام ينتظرني مستقبلا في بلاد أبي»(ص63)، ولكنه لم يكن متأكد من كونه مسيحيا: «هل يجعل مني التعميد مسيحيا، وهل قبلت المسيحية دينا في طقس حضرته في حين كانت ذاكرتي لا تتسع لشيء بعد؟»(ص65)، ولكنه مع ذلك أحب المسيح حتى أصبح يراه في أحلامه مبتسما، يربت على رأسه بكف لا تزال بها أثر المسمار الكبير الذي اخترقها يوم تثبيته في الصليب. ليسأل: «فهل أكون مسيحيا؟»(ص65)
ومن جهة أخرى يشعر أنه بوذي بفطرته المتماهية مع الطبيعة: «ماذا عن خلواتي التي أجد بها ذاتي ورغبتي الدائمة في التوحد مع الطبيعة من حولي، والتصاقي بالأشجار في أرض جدي ميندوزا حتى أوشك أن أفقد حواسي التي هي مصدر المعاناة كما يقول بوذا في تعاليمه، تلك التعاليم التي أدمنت قراءتها حتى خلتني أناندا، أحب تلاميذ بوذا وأقربهم إليه. أتراني بوذيا من دون أن أعلم»(ص65)
ولكنه مع هذا وذاك يؤمن بالله الواحد يقول: «وماذا عن إيماني بوجود إله واحد لا يشاركه أحد.. صمد.. لم يلد ولم يولد؟ أمسلم أنا من دون اختيار؟ ماذا أكون؟»(ص66)
أما الممارسة التعبدية، فإن صلاته في الكنيسة والكاتدرائية لم تمنعه من دخول معبد غوان – سينغ في مانيلا تشاينا تاون وقراءة تعاليم بوذا حتى جمع حبه وحب المسيح معا، بل إنه قبيل رحيله إلى الكويت دخل الكاتدرائية وصلى للمسيح، وغادرها إلى مانيلا تشاينا تاون ودخل المعبد وصلى لبوذا والصليب في عنقه، ذلك الصليب الذي بقي في مكانه من عنقه حتى بعد دخوله المسجد في حي قرطبة الكويتي.
غير أنه في الفلبين، ورغم وجود المسلمين في جنوبها، لم يدخل مسجدا، بسبب الصورة المبهمة التي يحملها للإسلام في داخله: «الإسلام، بالنسبة لي، كأي دين، يرتبط برمز أو رموز عدة، كأي حضارة أي حكاية، أو فكرة. إن صلح الرمز كان خير ممثل لرسالته، وإن فسد أفسدها في عيون الآخرين»(ص208)
كان يرى الإسلام، عندما كان صغيرا، بشيء من الدهشة يخالطها احترام إذا ما توقف عند هيبة لابو – لابو سلطان ماكتان الشهير الذي يعتبره الفلبينيون أحد أهم الأبطال القوميين. أول من قاوم الاستعمار في القرن السادس عشر(ص208). يقول: «كان لابو – لابو هو الرمز المسلم الوحيد الذي كنت أعرفه في ما مضى، بطل أسطوري كنت أراه هو ورجاله، وكنت أعتبر والدي المسلم، ينحدر من سلالته. صورة جميلة كنت أحملها للإسلام بسببه في مخيلتي، ولكن هذه الصورة لم تقاوم كثيرا أمام رمز مسلم آخر نسف كل ما كنت أحمله في داخلي.. أبو سياف أو جماعة أبو سياف..»(ص209)
ويشكل عليه العثور على السؤال ذاته: أي إسلام يعتنق، أهو إسلام لابو – لابو أم إسلام جماعة أبو سياف الإرهابية؟ وفي الكويت أحب شخصية النبي محمد والصحابة وحمزة عم الرسول بسبب فيلم الرسالة الذي أهداه إياه إبراهيم سلام – الفلبيني المقيم في الكويت/ المترجم – ولكنه يعلم أن جماعات إرهابية قتلت مخرج الفيلم «مصطفى العقاد» بتفجير في العاصمة الأردنية عمّان، ليعود السؤال: «أيهما الإسلام؟ أهو إسلام لابو – لابو سلطان جزيرة ماكتان؟ أم إسلام جماعة أبو سياف في مندناو؟ الحيرة .. الخوف والشك يملأونني، ترى، هل استوطن الشيطان عقلي في الوقت الذي كنت أهيئ فيه قلبي بيتا لله؟»(ص273)
ولكنه يمارس الإسلام كما لا يفعل أحد سواه، ويصلي صلاة لا يشبهه فيها أحد: «أنا أصلي بجسدي كما يفعلون. ولكنني أتلو الصلاة كما لا يفعل أحد سواي. ربما الكلمة الوحيدة التي نتفق على ترديدها جميعا بصوت مسموع هي.. آمين»(ص356)
ورغم صلاته التي يصليها بجسده، ما استطاع عيسى أن ينتظم في أدائها خمسا في اليوم، وبقي يتلوها كيفما يعن له من حاجات الدنيا – إذ لم يشتغل عيسى بهم الآخرة – في ظل عدم وجود من يهتم بتلقينه ماذا يتلو فضلا عن عدم معرفته باللغة العربية، وغادر الكويت على ذلك وقد جمع إلى مسيحيته وبوذيته إسلاما يرى الله في القلب لا في أي شيء آخر:»في أذني اليمنى صوت الأذان يرتفع. في أذني اليسرى قرع أجراس الكنيسة. في أنفي رائحة بخور المعابد البوذية تستقر. انصرفت عن الأصوات والرائحة، والتفت إلى نبضات قلبي المطمئنة، فعرفت أن الله .. هنا»(ص300)
2.4 البحث عن السمات المشتركة بين الأديان:
إن من قرر أن يقف على مسافة متساوية من ثلاثة أديان مختارا، سيبحث عما يحفظ له توازنه للإبقاء على تلك المسافة ما دامت مسافة اختيارية أفرزتها معايناته للأديان الثلاثة جوهرا وممارسة، فقد بدا أن بحثه عن السمات المشتركة التي تجمع بينها هي الحافظ لتوازنه الداخلي، في طرح يُظهر ما في الأديان الأخرى من تشابهات إيجابية لطالما ظنها معتنقو كل دين أنها لا توجد إلا في الدين الذي يعتنقون، ومن تلك السمات، العمق الشعوري المُطمَئِن، وكأنما هو مفرز حتمي لكل توجه إيماني بشيء ما، فالإحساس بالطمأنينة لم يخطئ قلب هوزيه في كل مرة دخل فيها كنيسة أو معبدا أو مسجدا رغم الاختلاف ما بين البساطة والبهرجة في كل واحد منها، ففي الكنيسة تساءل ما إذا كان الإيمان هو الذي أنزل به ذلك الشعور بالرهبة تجاه المكان؟ أم أن للشموع والتماثيل والأيقونات دورها في ذلك؟(ص104). والمعبد «لم يكن يشبه الكنيسة في شيء، ولكن الشعور.. هو ذاته»(ص137)، وفي المسجد شعر أنه أخف من أي وقت مضى. كاد يطير. «أهذا هو المسجد؟»(ص269)
فهل تمنح الطمأنينة نفسها لكل باحث عنها حقا؟ وفي كل المواقف مهما تناقضت وتنافرت؟ فإذا كان هوزيه باحثا عن الله في الكنيسة والمعبد والمسجد، فهل كان الله موجودا في تلك الأماكن كلها ليشعر بالطمأنينة ذاتها في كل مرة؟
إن رواية ساق البامبو استطاعت أن تقدم هوزيه باحثا متحررا من كل الاعتقادات المسبقة، شخصية فارغة الروح من الانتماء الديني، وبذلك فقط أمكنه أن يكون باحثا حقيقيا، لا يستنكف من الاقتراب المشعر بالطمأنينة وحقيقة الوجود، ويقارن بين الأديان لتجتمع لديه تلك الحقيقة، ويتوقف عند التشابه بينها دون أن يجد حرجا في اعتناق البوذية بعد اعتناق المسيحية قبلها بل والجمع بينهما: «هل أخون أحدهما إذا ما اتبعت تعاليم الآخر؟ كلاهما يدعو للمحبة والسلام.. والتسامح والخير والمعاملة الحسنة.»(ص136)
وعندما يقترب من الإسلام يثيره التشابه بين القرآن والكتاب المقدس: «أهو دين جديد كما كنت أحسب. أم تتمة لأديان سبقته؟»(ص296) وفهم من إبراهيم سلام أن الإسلام لا ينكر الأديان التي سبقته، والقرآن يذكرها ويذكر الأنبياء السابقين للنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – ولكنه ما لم يكن قادرا على فعله أن يتخلى عن حب المسيح بمجرد اعتناقه الإسلام، ولكن إبراهيم يطمئنه بأن المسلمين أيضا يحبونه، إذ هو من أنبياء الله والإيمان بالرسل ضرورة من ضرورات الإيمان الصحيح، غير أنهم لا يصلون للمسيح، ولا للنبي محمد، بل إن صلاتهم لله وحده.
ويبقى أن ثمة ما كشفه السنعوسي في روايته من خلال شخصية عيسى، وهو تهيّب المسلمين من الاقتراب من الأديان الأخرى وإن على سبيل المعرفة أو الفضول، ومتى ما عثروا على تشابه بين ما يعتقدون أو يفكرون وبين دين آخر سارعوا إلى دحض التشابه كمن يرد تهمة، وهو ما لم يجد له «عيسى» تفسيرا. حدث ذلك عندما كان يحدث «عبدالله» – أحد أصدقائه من مجانين بوراكاي – يقول: «حين شاركت عبدالله، في الديوانية، أفكاري هذه أجاب ترجمة لآية قرآنية تخبرنا أن الروح سر لا يعلمه إلا الله، لأننا نحن البشر، لا نملك إلا القليل من العلم، سألني بعد فراغه من ترجمة الآية: «وما أدراك إننا لم نقم بالاختيار فعلا قبل أن تُمسح ذاكرتنا لنبدأ حياة أخرى في أجساد جديدة؟» سألته على الفور: «هل تؤمن بالبوذية؟»، انتفض مدافعا عن نفسه: «أنا مسلم». قلت له موضحا: «ولكنك تتحدث عن شيء يشبه تناسخ الأرواح!»، ختم حديثه بالآية ذاتها وكأنه يقوم بالتكفير عن ذنب اقترفه في التفكير»(ص368)
وهكذا الشأن لخولة التي حاول عيسى أن يقنعها بأن المسيح، وبوذا، والنبي محمد، كلهم جاءوا بالمساواة بين الناس، محاولا أن يفهم سبب معاملتهم له بدونية واحتقار، وكانت في كل مرة تقول له لسنا مسيحيين ولسنا بوذيين، رغم المنطلق الواحد الذي دعت إليه الأديان الثلاثة فيما يتعلق بالمساواة بين البشر، ولكن الأمر في النهاية – كما تقول خولة – «ليس للدين علاقة بهذا الأمر»(ص276)
فالمسلمون، رغم إيمانهم برسالة المسيح عيسى ابن مريم، غير أنهم يستنكرون كل ما يرد من المسيحية، ويلغون أية فكرة قد تقترب بهم من الفكر المسيحي، وكذلك الشأن لأية فكرة أو خاطر يقترب من الفكر البوذي، حتى وإن كانت قد صدرت منهم عفو الخاطر نتيجة تفكير عابر.
وقد كان اختيار الشخصية غير المنتمية لدين والباحثة عن الله في كل شيء حولها وفي كل الأديان، هي وحدها الشخصية القادرة على الاقتراب من كل شيء بالدرجة نفسها، والمهيئة في الوقت نفسه للإيمان بالأقرب إلى فهمها وقناعتها، لأن الحياة تمنحها فرصة تجربة الأشياء كلها بالمجان، إذ لا شيء يمكن خسارته في رحلة البحث عن الحقيقة، غير أنه – كما يقول هوزيه – «يبقى لكل شخص دينه الخاص، نأخذ من الأديان ما نؤمن به، ونتجاهل ما لا تدركه عقولنا، أو، نتظاهر بالإيمان، ونمارس طقوسا لا نفهمها، خوفا من خسارة شيء نحاول أن نؤمن به»(ص65) فالأديان حسب الخلاصة التي توصل إليها في الختام «أعظم من معتنقيها»(ص299)
3.4 النقد الديني:
تقدم ساق البامبو – على غرار النقد الاجتماعي – نقدا للممارسات الدينية التي تصدر من معتنقي الأديان الثلاثة، وهو نقد يأتي في سياق الكشف الباحث عن الجوهر، في محاولة إزاحة القشور التي غالبا ما يغلف بها البشر فهمهم القاصر للأديان، فـ «عيسى» يلحظ سلوكيات المسلمين في رمضان فتثير استغرابه: «في الداخل لا أحد يتحدث. أختي وعمتي وجدتي يجلسن أمام التلفاز بالساعات لا يتزحزحن من أمامه إلا للصلاة. لم ألاحظ اهتمامهن بالتلفاز سوى في شهر رمضان. الصلاة أيضا، تكثر في هذا الشهر.»(ص261)
وفي الشوارع يزداد الناس تجهما، فـ»في نهار رمضان الوجوه تختلف. الناس تقود سياراتها متوترة. أبواق السيارات تشرع بالزعيق لأتفه الأسباب. الأذرع تمتد خارج نوافذ السيارات تلوح بغضب. الوجوه مكفهرة»(ص261 – 262)، ويسأل غسان ما إذا كانت الابتسامة في نهار رمضان تبطل الصوم!
ملاحظات كهذه لا تعجز المسلم عن ملاحظتها، ولكنها أصبحت من مألوفاته التي ما عادت تثير في نفسه تساؤلا، ولكن الباحث عن الدين سيضع ملاحظات كهذه موضع السؤال، لعلها تكون – حسب رؤيته لجدة الأشياء – شيئا من الطقوس التعبدية الواجب فهمها!!
وفي مرحلة تالية من مراحل نضجه تجاه الدين، والله، عرف أي إقحام لله يمارسه الناس فيما يحلو لهم، ويقصونه مما لا يحبون، كما أنهم يبحثون عن يقين خارج اليقين الذي بين أيديهم، في حديثهم عن معجزات في غير زمانها. «غيوم تشكل اسم الله في السماء.. ثمرة بطيخ ترسم بذورها اسم محمد النبي.. سمكة إذا شاهدتها بوضع مقلوب تقرأ اسم الله في الخطوط الممتدة من ذيلها إلى رأسها»(ص297)
وهي أوهام لم تقتصر على المسلمين وحدهم، ففي الفلبين، كان «هوزيه» يسمع «عن رؤية البعض لتمثال السيدة العذراء والدموع تسيل من عينيها.. أو ظهورها في مكان سرعان ما يستحيل مزارا.»(ص297) وكذا الشأن بالنسبة لحادثة تسونامي في العام 2004م التي ضربت دولا عدة في شرق آسيا وسوت البيوت بالأرض، ولم يبق إلا المسجد صامدا، في محاولة من إبراهيم ليوجد لليقين طريقا إلى قلب «عيسى» بأن هذا الدين حق، وجدنا «عيسى» يرد عليه: «كلانا يعرف أن المساكن حول المسجد مبنية من الأخشاب والصفيح، أما هذا المسجد فأساساته تضرب في عمق الأرض، وهو مشيد من الإسمنت وتستند إلى أعمدة خراسانية»(ص298) فـ «هل يرسل الله الأمواج تدك بيوت المؤمنين حول المسجد ليصدق من لم يؤمن بالله بأن هذا الدين حق؟!»(ص298)
فالإيمان الباحث عن دليل مادي لا يستمر، كما أن الإيمان الذي يتخذ من العقل مكانا لا يدوم، «لا مكان للإيمان غير القلب»(ص298). وكل ما عدا ذلك ليس سوى أوهام ومعجرات لا وجود لها، يخلقها كل مؤمن مفترض، «يؤمن بها، ولا يكشف إيمانه عن شيء سوى مقدار الشك في نفسه»(ص300)، ويختم «عيسى» بقوله لإبراهيم: «أحضر القرآن وترجم لي شيئا من نصوصه بدلا من استعراض براهين واهية تُضعف دعوتك»(ص298)
أهي دعوة لتجديد الخطاب الديني؟ ونقد صريح للدعاة إلى الله؟ يقول «عيسى»: «لا يمكن تعريف الله بهذا الأسلوب، لأن الله أكبر.. الله أعظم، كما بدأت أتلمس، وأعمق من ذلك بكثير.»(ص298)
ساق البامبو – في نقدها الديني – تطرح تساؤلات حول الممارسة الدينية، ومداخل اليقين، وجوهر الإيمان، وهي وإن كانت تقدم حلولا وبدائل لما بدا أنه في غير سياقه السليم تصريحا أو تلميحا، غير أنها تعرض إشكالية أخرى، وهي المتدين المتهم! إذ لا شكوك تحوم حول القساوسة ولا الرهبان في المسيحية والبوذية، ولكن الشكوك تحاصر الدعاة إلى الدين الإسلامي ومن يبدو عليهم تدين ظاهر، فإبراهيم سلام – الفلبيني المقيم في الكويت – ليس في نظر «هند» سوى أحد المتخلفين، وصداقتهم ورطة وشيكة لا يُعلم مصدرها، ولكنها ضمنيا إحدى إفرازات النظرة إلى الإسلام والدعاة إليه بعد الأحداث التي عصفت بالعالم في مطلع القرن الحادي والعشرين. فهل على شخصية كـ «هوزيه» أن يقف طويلا عند إشكالية كهذه وهو القادم توا إلى بلد لم يخبرها، وديانة لم يعتنقها بعد كما يجب؟ ففي التلميح بلاغة تكفي القارئ لأن يكتشف رواية تقول أكثر مما ترويه.
5. الاغتراب السياسي:
عند حديثنا عن الاغتراب السياسي في رواية ساق البامبو، فإن الحديث يسوقنا للوقوف عند إحدى الشخصيات المثقفة في الرواية، وهي «راشد الطاروف» الروائي والناشط السياسي الذي يعيش اغترابا سياسيا، بسبب آرائه التي لم تجد أحدا يتبناها أو يستمع إليها سوى خادمة المنزل «جوزافين»، وذلك «لأن محيطه.. يرفض أفكاره»(ص33)، فهو يعيش غربته الخاصة في بلده: «عرفت، مما ترجمته لي خولة، أن أبي كان يعيش غربة من نوع ما في وطنه هو الآخر»(ص386) ورغم قلة ما وصل للقارئ عن «راشد» باستثناء شذرات قليلة محكية بلسان «جوزافين» وبعضا مما تترجمه «خولة» عن روايته التي لم يتمها، غير أننا نعرف أنه من الداعين إلى مشاركة المرأة في الحياة السياسية، وقد اغتبط بمعرفته أن الفلبين احتفلت بأول امرأة تصل إلى سدة الحكم، في اليوم نفسه الذي صادف احتفالات الكويت بالعيد الوطني، ليسأل جوزافين تعليقا على الحدث الفريد في بلادها: «من فينا سيد الآخر؟»(ص32).
فالسيادة، لدى راشد، لا تتحقق إلا بنيل المرأة حق المشاركة السياسية في البلاد، وإلى أن يتم ذلك تبقى السيادة منقوصة، ولكن حلمه هذا يتحقق بترشح «هند الطاروف» للمنافسة على الانتخابات البرلمانية بعد استشهاده، تقول «خولة»: «لو أن أبانا كان هنا يا عيسى.. بين الحضور». استطردت: «لطالما نادى بإشراك المرأة في بناء المجتمع.. ليته يرى شقيقته اليوم»(ص376) ولكنه حلم لم يتحقق منه إلا بالقدر الذي بلغته «هند» في تلك الانتخابات. خسرت هند. كما أن هناك في المجتمع الكويتي من يعارض مشاركة المرأة في البرلمان، ويرون – كما يرى «عبدالله» أحد مجانين بوراكاي – «أن المرأة يمكنها أن تخدم المجتمع من مواقع أخرى غير البرلمان»(ص375)
فالاغتراب السياسي الذي يمثله «راشد» بأفكاره التي لم تلاق قبولا من محيطه، هو اغتراب المرأة بالدرجة الأولى، إذ إن السياسة ما تزال عالما لا يمكنها الاقتراب منه في المجتمع الكويتي إلا بالقدر الذي يحدده رجالات المجتمع.
ولكن اغترابا سياسيا آخر تعيشه، وتعاني تبعاته شخصية «غسان»، بسبب وضعها الملتبس ما بين أن يكون كويتيا ولا يكون، كويتي القلب وليس كويتيا حسب القانون! فرغم أن «البدون» حالة اجتماعية، غير أن حلحلتها لا يملكها إلا قرار سياسي لم يأتِ، ولم يجد طريقه إلى التحقق عبر «هند الطاروف» التي اتخذت من قضية «البدون» قضيتها التي بعنوانها الإنساني العريض دخلت المنافسة على مقاعد البرلمان.
ورغم أن هذه القضية كان جديرا طرحها ضمن المحور الاجتماعي، غير أن ما يعنينا هنا هو المعالجة السياسية لها. تلك المعالجة التي قادتها «هند»؛ فهي، بعد كل شيء، تعطي تصورا للموقف السياسي من القضية، الموقف المتعاطف (بشروط). الموقف الذي جسدته «هند» المتعاطفة مع «البدون» بسبب من المصلحة الذاتية، فهي التي «ما كانت تدافع عن شيء سوى حب لم يكتب له البقاء طويلا مع أحد أولئك الذين كرست حياتها للدفاع عن قضيتهم التي أصبحت قضيتها»(ص290)، ولكن إخفاقها في الانتخابات ليس سوى إخفاق السياسة في الخروج من أزمتهم، لأنها سياسة انتقائية، أبعد ما تكون عن المنطق، فالبدون لا يستحقون جميعهم الجنسية الكويتية «شأنهم في ذلك شأن المواطنين»(ص377)
6. الاغتراب اللغوي:
الافتراض المنطقي لمبحث كهذا، هو بحث الاغتراب اللغوي بالنسبة لشخصية كشخصية «هوزيه/ عيسى» في الكويت، غير أن عيسى لم يشكُ اغترابا لغويا قط، بل إنه على مدى عامين أو يزيد قضاهما في الكويت لم تدفعه الضرورة إلى تعلم اللغة العربية، والأكثر من ذلك أنه لم يكن يعدم في كل مرة من يجيد التحدث معه باللغة الإنجليزية، أو يُترجم له ما يُقال إلى الإنجليزية، أو اللجوء إلى لغة الإشارة في أسوأ الأحوال، ذلك اللجوء الذي ليس سوى تحد للغة، ففي اعتقاده أن الكلمة الطيبة لا تحتاج إلى كلمات. تشي بها الوجوه الطيبة وتصل إلى القلب مباشرة «الكلمات الطيبة لا تحتاج إلى ترجمة. يكفيك أن تنظر إلى وجه قائلها لتفهم مشاعره وإن كان يحدثك بلغة تجهلها»(ص354).
أقول ذلك رغم اضطراره في مرات ثلاث إلى الدراية باللغة العربية، إحداها لمعرفة ما أراد أن يقول أبوه في روايته التي لم يتمها (ص277)، وثانية لمعرفة ما حدث في خيمة انتخابات عمته «هند»(ص377) وثالثة لرد إهانة وجهت إليه من شبان كويتيين ثلاثة عند بوابة المصعد، ليستنجد بكل الكلمات العربية التي التقطها فلم يسعفه إلا ببغاء جدته غنيمة بالكلمة التي كان يرددها كلما نادت الجدة اسم الخادمة الفلبينية لوزا(ص310). مواقف ثلاثة تنوعت بين الأدب والسياسة والاجتماع، مفردات تكوّن الحياة على أرض يراد لها أن تكون وطنا.
وفي غير هذه المواقف، كانت حياته يسيرة من الناحية اللغوية، رغم أن اللغة هي المدخل للاندماج مع الآخر، وبوابة الاختلاط به عبر حاجته إلى التواصل . ولكن السنعوسي يطرح إشكالية الاغتراب اللغوي على صعيد آخر، وهو اغتراب المجتمع الكويتي عن لغته، جسدت ذلك «خولة» بحديثها في الهاتف باللغة الإنجليزية، بحجة أنها تحبها في المحادثة أكثر العربية دون ضرورة ظاهرة، ليرد عليها «عيسى» : «يقول خوسيه ريزال: إن الذي لا يحب لغته الأم هو أسوأ من سمكة نتنة»(ص258)
«هوزيه/ عيسى» أكثر ألفة مع نفسه فيما يتعلق باللغة، فالفلبينية تعيد إليه ما يفتقده في الكويت، فضلا عن أن لغة الكتابة تعيد المرء إلى هويته الأولى، فبها يتحرر من الزوائد ليكون نفسه كما يريدها في حديثه إليها، يقول: «قررت الكتابة بالفلبينية، وإن طابقت حروفها الحروف الإنجليزية»(ص388). إذ تتجسد الغربة اللغوية فيمن فضّل لغة أخرى مختارا دون ضرورة؛ ليصبح تلك السمكة النتنة التي تسبح في بحر المجتمع.
7. الاغتراب الفني:
يقودنا الحديث عن الاغتراب الفني إلى بحث التقنيات التي أفضت إلى تجسيد صور الاغتراب التي تم تناولها في المباحث المتقدمة، فضلا عن حضور الغربة الفنية بجلائها على مستوى الشكل وعلى مستوى العلاقة بين النص ومبدعه. ولعل أول ما يستوقف القارئ لرواية «ساق البامبو» هي إشكالية العلاقة بين السنعوسي وروايته على مستويين:
أما المستوى الأول فبسبب الاقتران البدهي (غير المبرر) الذي عادة ما يفتعله القارئ للربط بين النص السردي وكاتبه، في محاولة لإيجاد الشبه بينه وبين شخصية روايته، ولكنه اقتران يلتبس على القارئ هنا حتى أوقعه في ورطة السؤال: من هو الكاتب الحقيقي للنص؟ إذ إن كل المعطيات الظاهرية لا تفضي إلى السنعوسي كاتبا للعمل، بسبب الافتراض البنيوي للنص بأن الكاتب إنما هو شخصية الرواية التي لا تجيد العربية، فكتب سيرته الذاتية باللغة الفلبينية التي لا يعرفها السنعوسي، ثم يطل علينا المترجم (المفترض) الذي ترجم رواية «هوزيه ميندوزا» من الفلبينية إلى العربية!
فأين سعود السنعوسي في ظل هذا اللبس والإرباك؟
لقد عمد السنعوسي إلى إيجاد ذريعة المترجم ليبرر كتابته باللغة العربية عن شخصية لا تجيدها، وأسند مهمة المترجم إلى إحدى شخصيات الرواية «إبراهيم سلام»، وأدرج في فاتحة الرواية تعريفا به وكلمة عنه، توضح بعض ملابسات الترجمة التي عادة ما يفعلها المترجمون، وهو فعل كاد أن يسلب السنعوسي مجد نسبة روايته إليه، ولكنه آثر سلامة البناء الفني على كل ما عداه .
وقد بدا أنه كان على السنعوسي أن ينتج رواية أقل مستوى جماليا عما هو الحال في رواية «ساق البامبو»؛ بسبب أن «هوزيه ميندوزا» لم يكن ليكتب رواية في الأساس حتى يكتب رواية بهذا النضج الفني الملفت ، إذ إنه لم يكمل تعلميه، كما أنه كما يقول: «أنا لست كاتبا، كما أنني لا أجيد العربية، ولا أظنني قادرا على كتابة نص طويل بالإنكليزية لأناس لا يقرأ أغلبهم هذه اللغة. فهل سأشرح للكويتيين حكايتي بالفلبينية؟»(ص326)
أما المستوى الثاني، فيتمثل في السرد الذي يوظف لغة غاية في البساطة والرشاقة، غير أنها لغة تُدخل القارئ إلى العوالم المألوفة بلغة جديدة، تلك الجدة التي لا تسمي الأشياء بمسمياتها؛ بل تعيد اكتشافها من جديد في محاولة لمنحها أبعادا جديدة تستعيض بالأوصاف والإيحاءات عن اللغة المباشرة، وردّ الأشياء إلى بساطة المُشاهَد وعفويته وليس إلى الخلفية المعرفية والثقافية له، فالـ»العقال» ليس سوى «حلقة الرأس السوداء»، ورقصة السامري» تقترب في ملفوظها من «الساموراي» في الثقافية الآسيوية ، كما تكتفي بأوصاف رموز الكويت والعرب من الشخصيات التاريخية والثقافية والفنية، وتترك للقارئ مهمة التعرف عليها ما لم يرد في الهامش تعريف باسمها الصريح: «أشرت نحو صورة لامرأة بالنظارة الشمسية فاغرة فمها تغني أمام مايكروفون، تباعد بين ذراعيها وتحمل في إحدى كفيها منديلا. «من تكون؟»، سألت أختي. لم تعر اهتماما لسؤالي.»(ص236). فتحول سؤاله إلى القارئ عندما لم تجب عليه خولة، فـصورة «أم كلثوم» تتموضع هناك بين الشخصيات التي حوتها غرفة مكتب «راشد الطاروف».
وعلى صعيد الحوار في الرواية فقد عمد السنعوسي إلى جعل الحوارات قصيرة. تفتح شهية السرد عوضا عن الحوارات الطويلة المباشرة ما بين طرفين أو أكثر، فكل الأسئلة التي كان يبحث «عيسى» عن إجابة لها لا يسردها على لسان «خولة» أو «غسان» أو غيرهما، بل يصوغها نقلا عنهما سردا أقرب إلى المونولوغ الداخلي يسرده عيسى بنفسه، ليحتفظ بقصر الحوار ورشاقته، وبمحدودية الزمن الفعلي للحكي الذي يمثله الحوار، وفي سرده يقول أكثر مما يقوله الحوار، ففي سؤاله عن (البدون) لا يقول غسان كثيرا، ولكنه يقول أكثر في سرد «عيسى» نيابة عنه: «تعرفت، من خلال غسان، على نوع جديد وفريد من البشر. فصيلة جديدة ونادرة. اكتشفت أناسا أغرب من قبائل الأمازون، أو القبائل الأفريقية التي يتم اكتشافها بين حين وآخر. أناس ينتمون إلى مكان لا ينتمون إليه.. أو أناس لا ينتمون إلى مكان ينتمون إليه.. استعصت الفكرة على فهمي. أرهقت غسان في طلب التوضيح. وبعد محاولات عدة لتبسيط الفكرة، تمكن عقلي من هضمها بصعوبة»(ص192).
السرد – أعلاه – المكمل لحوار سابق مقتضب، يقول أكثر مما كان سيقوله «غسان»، وأقل مما قال على حد سواء، مادام سرده معتمدا على ما فهمه «عيسى». ذلك الفهم الذي يعطي الموضوع أبعادا لا يبصرها إلا صاحب العين الأخرى القادمة من الخارج، إذ بهذا السرد وحده – بعد حوار قصير – تتحقق المعادلة المعكوسة بأن الفهم الدقيق يصنعه المستفهم نفسه، وليس المسؤول ما دام لا يملك عينا جديدة ينظر بها إلى الأشياء المألوفة حتى لو كان ضحيتها.
فليس شأن الإجابة أن تقول الواقع، بل تبحث في العمق الإنساني المدفوع بسؤال المستكشف، وما رغبة الفهم التي تحرك «عيسى»، سوى رغبة فهم لواقع متناقض بهدف تحريكه في إطار من النقد الاجتماعي المشفوع بالجرأة.
وقد تناولت بعض الكتابات النقدية طرحا من قبيل أن رواية «ساق البامبو» لم تعطِ قضية (البدون) حقها من المعالجة، ولم تحفر فيها بذاك العمق الإنساني المطلوب بسبب عدم إفساحها مجالا أوسع لغسان – بصفته ممثلا لهذه الفئة في الرواية – لمعاينة الأبعاد النفسية للقضية عبر شخصيته، ولكن السؤال – في إزاء هذا الطرح – هل كان يحتمل البناء الروائي شيئا إضافيا على هذا الصعيد؟ لاسيما أن هناك من يطالعنا بنقيض هذا الرأي، فيرى ساق البامبو بحثت في عمق قضية (البدون) على نحو لم يبلغه (البدون) أنفسهم عندما كتبوا عن قضيتهم . فعلى أي الرأيين كانت «ساق البامبو»؟
إن رواية مسرودة بصوت إحدى شخصياتها – دون أن ننسى صوت جوزافين في فصلها الأول وهي تسرد أحداث ما قبل ميلاد عيسى – لابد أن تلتزم الخط السردي نفسه الذي انتهجته حتى لا يُحدث التحول شرخا فنيا في البناء الروائي إذا ما انتقل الصوت إلى غسان، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الراوي «عيسى» شخصية جديدة على المجتمع الكويتي وقضاياه، وما كان لها أن تبحث القضية إلا بناء على ما يردها من معاينات ومعلومات ومشاهدات هي بمثابة الاكتشاف، فالقضية (دهشة) بالنسبة إليه، وغرابة أقرب إلى الاستنكار، وليس بحثا في التركيبة الاجتماعية التي يفترضها الباحث عن حضور أعمق للقضية.
وفي المقابل، فإن عناصر: الاكتشاف، والدهشة، والاستغراب، وأخيرا الاستنكار، والمشفوعة كلها بالسؤال حفرت القضية في الاتجاه الرأسي، وليس الأفقي إذا كنا نعني بالأفقي المساحة المعبر عنها بعدد الصفحات أو الشخصيات أو غيرهما. يقول «عيسى» عن غسان في فقرة اختزلت القضية برمتها واقعيا وإنسانيا باستفهام استنكاري موشى بالسخرية غير المباشرة: «هو بدون، أكره هذه التسمية التي لا أفهمها رغم ترجمة غسان لها، هو بلا جنسية، خلق هكذا. لو كان سمكة سردين منشأها المحيط الأطلسي لأصبح سمكة أطلسية. لو كان طائرا في إحدى غابات الأمازون لأصبح طائرا أمازونيا. إما أن يولد أبواه في الكويت، ويولد هو الآخر حيث وُلدا، لا يعرف أرضا سواها، يعمل في سلكها العسكري، ويدافع عنها زمن الاحتلال.. فهو .. بدون! بدون.. له خمسة إخوة كويتيين.. فلتوا هم، وسقط هو في ثغرة القانون»(ص192 – 193)
وعلى نحو مشابه، فقد حوت «ساق البامبو» تفاصيل وأحداث كثيرة، جعلت منها رواية طويلة تمددت صفحاتها حتى أوشكت على الـ 400 صفحة، بيد أنها أحداث وتفصيلات استطاعت – رغم طولها – أن تسند البناء الروائي ولا ترهله، تكسبه ولا تنقصه، فنأت عن الإملال والإسهاب غير المستحب .
أما بناء الشخصيات، فقد اشتغل السنعوسي على بناء شخصيته الرئيسية «هوزيه/عيسى» على نحو متوازن، فهو – هوزيه – رغم ما يعانيه من تشظٍ بين أكثر من وطن، وأكثر من دين، وأكثر من هوية، وأكثر من أم، إلا أنه كان شخصية على شيء غير قليل من المرح على سبيل المعادلة بين المرارة والطرافة، بما أبعد صورة المعاناة المتجسدة عن البكائية المفرطة، لذلك فهي رواية تشتغل على تقنية التوازنات – وقد رأينا في مبحث الاغتراب الديني انبناء العمل على التوازن بين الأديان، وفي مبحثي الاغتراب المكاني والزماني كيف أنه وازن بين الحضور المكاني للفلبين بالحضور التاريخي للكويت – فيستعيد النص اعتداله بما لا يحرفه إلى جهة على حساب أخرى، مقدما للقارئ وجبة متعادلة في العناصر المكونة لها، وله إن أراد ترجيح ما يراه أهلا للرجحان، غير أنها رواية لا تنشد إلا التنويع القائم على واقع يحفل بالمختلفات.
ولكنه فيما يتعلق بشخصية أخرى، هي شخصية ميرلا، وجدنا السنعوسي يرسمها أقرب إلى التطرف في ردود أفعالها وفي تعبيرها عن رفضها لواقعها الذي أوجدها فتاة وُلدت سفاحا من أب أوروبي ورثت منه ملامحه الأوروبية (ميستيزا/ الفتاة الفلبينية التي تحمل ملامح أوروبية)، ويدفعها كرهها للرجال لأن تتخذ لها خليلة (ماريا)، ثم تتحول عنها لتفكر في الانتحار، وهي شخصية رغم تطرف أفعالها، فقد أسهمت أقوالها في صنع توازن «هوزيه» الذي كان في المقابل سببا في إعادة توازنها، إذ هو الرجل الوحيد الذي تثق به، وهو الذي أصبح لاحقا زوجها في نهاية الرواية.
أما الشخصيات المثقفة، فقد كانت ذات أدوار محدودة، وأفعالها ليست ذات تأثير مكتمل، فهي ليست سوى فكرة لم تنجز واقعا، وخير من يمثل الشخصيات المثقفة في «ساق البامبو» هما «راشد الطاروف» و»هند الطاروف»، فالأول منهما ترك عملا روائيا غير مكتمل مليء بالتناقضات، في محاولة لرفض تناقضات مجتمعه الذي عاش فيه غربة من نوع ما ، الأمر الذي يستدعي إعادة كتابة لصناعة واقع ثقافي جديد تقوده «خولة راشد»، ليضع الرهان في يد الأجيال التالية لبناء ما عجز الأسلاف عن إنجازه.
أما هند فيتجاذبها التردد والحيرة، وحتى عندما أقدمت على الترشح للانتخابات البرلمانية فشلت في النجاح في مشروعها الحقوقي لتقرر بفشلها فشل المشروع الثقافي القادر على التغيير وتحقيق قيم المساواة والعدالة بين شرائح المجتمع المختلفة ، ويرجع الفشل إلى أن مجتمعا كاملا يقف وراء الحركات التنويرية أو حصول الحريات التي ليست المساواة إلا أحد شروطها، فالواقع كما وصفته جوزافين لـ هوزيه: «لم يكن في يد أبيك، لأن مجتمعا بأكمله يقف وراءه»(ص77)
ولما كان المجانين هم وجه الكويت التي أحب عيسى، فقد حرص السنعوسي على أن يجمع في شخصيات المجانين الخمسة التنوع والاختلاف والتناقض الذي استطاع أن يخلق فيما بينهم الانسجام كما ينشده، فهم مزيج من طبقات اجتماعية مختلفة، ومن مذاهب عدة، فبينهم السني والشيعي، وفيهم المتدين وغير المبالي، ولكن تجمعهم قواسم مشتركة، يجمعهم حب الكويت التي ليست للبيع، وإلى ذلك فهم محبون للحياة ومرحون، هم الكويت التي استوعبت اختلاف ملامحه ورتقت تشرده، وكانت قلوبهم لروحه وطن: «إن لفظت الديار أجسادنا.. قلوب الأصدقاء لأرواحنا أوطان»(ص391)
هذا، وتعد رواية ساق البامبو سيرة ذاتية لشخصية متخيلة، استطاعت أن تعيد القارئ في صفحتها الأخيرة إلى صفحتها الأولى، ليس بسبب تقنية التدوير وحسب التي استخدمها السنعوسي بقوله على لسان هوزيه في النهاية كما في البداية: «اسمي Jose، هكذا يكتب. ننطقه في الفلبين، كما في الإنكليزية، هوزيه. وفي العربية يصبح، كما في الإسبانية، خوسيه. وفي البرتغالية يكتب بالحروف ذاتها ولكنه ينطق جوزيه. أما هنا، في الكويت، فلا شأن لكل تلك الأسماء باسمي حيث هو.. عيسى!»، ولكنها عودة إلى المفتتح الذي حسم الظاهر ليختار الفلبين جسدا ولكن في روحه يبقى متسع نصفه للكويت، متخذا من تعادل منتخبي الكويت والفلبين في مباراة كرة القدم معادلا نفسيا لما يشعر به ويعانيه: «لا أريد أن أفقد توازني. لا أريد أن أخسرني ولا أكسبني.. بهذه النتيجة أنا .. متعادل»(ص396). ويختار «هوزيه» اسما، ولكن امتداده المتمثل في ولده من ميرالا ما هو إلا «راشد» الاسم العربي. وعاد يحمل الإسلام في ثلث وجدانه وقد سبقته إليه المسيحية والبوذية، وما زواجه من (ميرلا) الكاثوليكية إلا تأكيد للامتزاج الديني الذي ارتضاه لنفسه ، في الوقت الذي ارتضت فيه ميرلا دين الريزاليستا دينا لها (ص282). كما أنها نهاية تشكل الحلقة التي تدور حول نفسها في حدث متكرر ومع أشخاص آخرين، ليصح تسميتها بالظاهرة (هوزيه/ نصف الكويتي) بمعاناته وتشظيه بحثا عن هوية مفقودة، لا يبدو أن العثور عليها بالمتيسر لمن كان قدره أن يعيش مثله.
أخيرا:
1. تبدو رواية ساق البامبو رواية متناسلة، تطرح مجموعة من التساؤلات التي تبقي الرواية مفتوحة وغير مفتوحة في آن، بسبب من الامتداد الذي ترسمه تكريسا لثيمة البحث عن الهوية المفقودة، ويتمثل هذا التناسل في ابن هوزيه «راشد عيسى راشد عيسى الطاروف» الذي قال عنه هوزيه «ولدي الذي توقعت أن يأتي بعينين زرقاوان وبشرة بيضاء جاء بملامح مغايرة.. بسمرة عربية وعينين واسعتين تشبهان عيني عمته .. خولة»(ص395) وهو ما يجعل القارئ يسأل: إذا كانت الملامح الفلبينية حالت دون ذوبان «عيسى» في المجتمع الكويتي ودون تقبل عائلته له، تلك التي أول ما سألت عنه لدى عودته: كيف هي ملامح ابن الفلبينية – على لسان جدته – فيرد عليها غسان: فلبينية. أليس يتيح احتمالا بأن يتم قبوله فيما لو حمل وجها عربيا؟ فها هو حفيد راشد يحمل تلك الملامح التي أخطأت هوزيه وأصابت ولده في امتداد لسلسة العائلة التي انقطعت ولم يعد من واصل لها سوى البذرة الهجينة من نسل راشد الطاروف، فهو، بعد كل شيء، راشد عيسى راشد عيسى الطاروف. إنه سؤال مفتوح وليس من شأن الرواية أن تجيب عنه، بل إنه سؤال موجه إلى المجتمع الكويتي نفسه!
كما تتبدى تناسلية الرواية في مشروع رواية «راشد الطاروف» الروائي غير المكتمل، ففي الوقت الذي كان ينتظر فيه القارئ رواية لراشد تعاد كتابتها عبر «خولة راشد» يفاجأ برواية بدأ يقرأها مكتوبة باسم «هوزيه ميندوزا»، فتنشأ إمكانية ميلاد رواية أخرى بدأت بذورها في ساق البامبو عبر شخصية «راشد» وتتقاطع في خيوطها وشخصياتها مع عمل روائي آخر منجز هو «إحداثيات زمن العزلة» للروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل الذي وظفه السنعوسي في أحداث روايته، فهو كما يقول عنه إسماعيل حسب الرواية التي بين أيدينا: «هذه رواية تسجيلية لنشاطنا وأحداثه في أشهر الاحتلال السبعة.. شرعت في كتابتها منذ ما يربو على الخمسة أعوام.. والغريب في الأمر.. (…) ليلة البارحة فقط .. انتهى دور راشد فيها واقعا في أسر قوات الاحتلال»(ص99)
فهل سيعقد السنعوسي خيوط رواية جديدة تنطلق من تشابك هذه المعطيات لنشهد ميلاد ثنائية من نوع ما؟
2. جاءت رواية «ساق البامبو» لتشرع الباب واسعا في وجه كثير من المفاهيم والأنماط الاجتماعية خليجيا، فقد بدا أن الحلم الخليجي الرومانسي القديم بأن يعود كل شيء خليجيا صرفا كما كان قد انتهى ، في ظل هذا التمازج العرقي والانفتاح على العالم، الذي لم يعد مقتصرا على العمالة الوافدة وحدها، فما «عيسى» أو «هوزيه» سوى نموذج لظاهرة لا يُعلم مداها، متسائلا على سبيل التوسع المنطقي – الذي رشح عنه الراهن الخليجي – ماذا إذا مجانين بوراكاي في صيفهم التالي «سيصادفون نصف كويتي على شواطئ تلك الدول؟ الله وحده يعلم!»(ص385)، فهل يجوز بعد ذلك (إنسانيا) إلغاء هذه الفئة التي تحمل نصف الهوية الخليجية تحت أستار حلم لم يسعَ الخليجيون أنفسهم لتحقيقه بقدر ما سعوا لتعميق العائق دونه؟
3. تقدم رواية ساق البامبو نموذجا تطبيقيا للدعوة التي أطلقت قبل مدة من الزمن بأنه آن للكاتب العربي أن يتجه شرقا بحثا عن عوالم إبداعية ثرّة، بعد أن كفت أوروبا عن تقديم المدهش لفرط الاستهلاك الذي تمثلته طويلا في أدبنا العربي، تحت ذرائع ومسميات وشعارات كثيرة، ليس أولها الاستعمار وليس آخرها حوار الحضارات ومقتضيات العولمة، تستتر وراءها مقولة ابن خلدون بأن المغلوب أبدا مفتون بالغالب. ولعل الجديد الذي قدمته ساق البامبو هو هذا الاتجاه شرقا بحثا عن آفاق لم تطرق موضوعيا ومعرفيا وفنيا، في رواية نقدية على المستوى الاجتماعي والديني والسياسي للواقع الخليجي عموما من خلال قطر من أقطاره منظورا إليه بعين الآخر: المحتقر – المرفوض – الغريب في رحلة بحثه عن الاندماج فيما هو له وجزء منه.
4. كما أنها – في ظل التهافت على كتابة الرواية من جيل الشباب – الأمر الذي أحدث طفرة في عالم الرواية خليجيا على المستوى الكمي غالبا والمستوى الإبداعي على المستوى الأقل، قدمت رواية ساق البامبو الروائي العارف، وليس الروائي الكاتب، فالمعرفة هي ما ساقت ساق البامبو إلى جائزة البوكر، حيث إنها رواية طبخت على مهل وأناة، واشتغلت على الجانب البحثي لتقدم صورة الروائي الباحث، الذي استطاع أن يقدم المعلومة غير المقحمة على النص الأدبي الشائق، فجاءت مزيجا بين الأدب والمعلومة، لتجعل القارئ – في حالة استثنائية – حائرا ما بين الحقيقة والخيال ، محققا بذلك المعادلة الصعبة: إرضاء النقاد وإمتاع القراء.