جيلاني. بي. أيه*
ترجمها عن الأوردو: فيلابوراتو عبد الكبير- كاتب ومترجم هندي
كنت أتنقل من بلد إلى بلد فترة طويلة بحثا عن عبد من عباد الله أتعلم منه كيفية أداء الأذان، أذان أُوقظ به الغارقين في السبات العميق، أذان قوي يُوحِّد أعضاء جسد الأمة المبعثرة. ترددت على شتى المدارس الدينية لهذا الغرض. تتلمذت على علماء الدين أصحاب العمائم الطويلة واللحى المسترسلة. كانوا مشغولين دائما بمجلدات ضخمة من الكتب. تلقيت دروسا من هؤلاء الذين يجلس أمامهم عامة الناس واجمين احتراما لهم. ملأوا رأسي بمعلومات جمة حتى غدا قلبي مكتنزا بعلوم ومعارف، ولم يبق مكان فيه لأية مشاعر. وبدأت أؤذّن في الناس ولكن خرج صوتي من حلقي خشنا. حاولت مرارا وتكرارا، ولكن للأسف فشلت فشلا ذريعا.
وأخيرا وجدت رجلا، كان هو الرجل المنشود الذي لقيته خلال بحثي الطويل. قابلته ذات مساء في أحد المقاهي حين جلسنا وجها لوجه. لم يكن يحمل كتابا وليس في وجهه لحية طويلة وكثة. شعرتُ كأن قوة داخلية تدفعني لأخبره بمشكلتي، فخضعتُ لذلك الدافع الداخلي.
ابتسم، لمعت أسنانه البيضاء كاللؤلؤ. قام من مقعده. ثم أمسك بيدي وخرجنا من المقهى.
جاوزنا الشوارع السريعة والأسواق المكتظة والأزقة الضيقة حتى وصلنا شاطئ النهر.
«تريد أن تتعلم كيف تؤذن؟ بدأ حديثه، حسنا، هل تدري من كان المؤذن الأوّل في التاريخ؟»
«كلاّ» قلّبت كفيّ.
«إذن اسمع جيدا»، قال: «كان أسود اللون، عبدا من الحبشة بِيع بثمن بخس. كان يحب سيده حبا جما، حبا ربما لن تقرأ عنه في القصص والحكايات. عشقه كان يفوق مدارك عامة الناس. اشتاق قلبه إلى سيده حين كان بعيدا عنه. فكان يقف كل يوم وهو يرمي عينيه الحزينتين إلى الطريق الذي يمتد إلى بلد سيده الحبيب. في الليالي الحالكة كان يبكي من ذكرى حبيبه. حين وصل أخيرا إلى سيّده غلبتْه أحاسيس مجهولة منعتْه من البكاء. وأسباب ذلك فوق مداركنا، لا تعرفها أنت ولا أعرفها أنا. كان سيده كما تعرف أجمل الناس في العالم. أَحبّه لأنه كان لسانا ناطقا لحركة تقود إلى الحق. أكرمه حبيبُه بمكرمة عالية، بعثه مبلّغا رسالته، دعا الناس بعد أن صعد إلى مئذنة المسجد، فبات منارا على منار، شرح للعالم أسرار أصول الحياة، دعاهم إلى دار السلام، دعاهم بأسلوب جذّاب لا يستطيع أحد إلّا أن يستجيب له. لم تستطع أُذنٌ مقاومةَ حلاوة صوته. جميع الأرجل التي كادت تُدْبِر تحركتْ تلقائيا إلى ذاك الصوت الجميل. حين يصل صوته إلى كلمة «أشهد أن سيدي رسولَ ملك الملوك»، يشير إلى حبيبه. فتتفتح في وجدانه براعم مشاعر تقشعر لها الأبدان، فينظر إليه حبيبه مبتسما.
«دارَالزمان دورتَه. انتقل سيد العبد إلى الرفيق الأعلى، فاعتزل ذلك العبد الحياة العامة، أغلق باب صوته المتميز. كان ذلك الصوت الجميل جزءا لا يتجزأ من حياة الناس اليومية. وحين حرموا من صوته في الأوقات المحددة شعروا وكأنهم فقدوا شيئا ثمينا. تاقوا لسماع صوته ولو لمرة واحدة، أجلْ مرة واحدة فقط.
« بلى. لم ينبس بكلمة رغم ضغوطهم الودية الشديدة. اغرورقت عيناه بالدموع، ولمّا اشتدت ضغوطهم استعد لأن يصعد إلى مئذنة المسجد. حاول أن يقوّي صوته المرتعش، هامت عيناه المبتلّتان نحو آفاق السماء كأنه ينظر إلى بيت سيده من على قمة جبل، ولما وصل إلى كلمة «أشهد أن سيدي رسول رب العالمين» أشار بأنامله إلى مكان حبيبه، ولكنه لم يكن موجودا هناك. غمرت عينيه الظلمةُ، سقط على الأرض مرتعشا….. ثم……. انكسر قلبه وتحول أشلاءً……»
هاجت في وجداني موجات من مشاعر مختلطة….رأيت صاحبي يرمي بنظره إلى البعيد…. كان يحدق في قوارب صغيرة وهي تمر بهوامش الأفق… وفي كبد السماء ظهرت قبتا مسجد…. يظهر من ورائهما قمر الربيع المضيء…. رن في آذاننا دويّ أذان صلاة المغرب.
«صوت ميت». قال صاحبي. «مُلئ بطن ذلك المؤذّن وجيبه. ولكن قلبه خالٍ كأنه طاسة فارغة. أمّا ذلك العبد فكان جوعان…كان فقيرا…. ولكن كان في قلبه ينبوع من الطاقة…أسقط من على رأسه تاج شهوات الدنيا» … ولبس مكانه تاجا من زمرد المقصد».
«هاه.. وددت لو كنتُ محظوظا وأسمع ذلك الصوت الجميل!»، تصاعدت أنفاسي اليائسة.
«في الليلة الأولى من الليالي المقمرة يطلع الهلال في السماء كجزء من ظفر تركته معشوقة، تهب من عمق الصحراء نسائم تحمل ريحا طيبة….وإذا سمعت حفيفها الذي يداعب أوراق النخيل ستسمع ذلك الصوت العجيب».
«ماذا؟ هل يمكنني أنا أيضا أن أسمع صوت ذلك الأذان؟» سألته وقد نفد صبري.
«نعم، إنْ كان بوسعك إنقاذ نفسك من شدة الشره نحو الدنيا… أنْ تتألم من أعماقك لآلام المحرومين وشقائهم».
لم أتكلم. جلسنا على الشاطئ بضع دقائق. ثم قام فجأة: «هيا، فلْنرحلْ»
ومرة أخرى وصلنا أمام المقهى: «حسنا يا صديقي، سأغادر الآن، وقد اخذت الكثير من وقتك الثمين».
«لا لا يا حبيبي…أبدا، ولكنك لم تُعلّمني تلك الطريقة….»
«ألم تفهمها حتى الآن؟» فاجأني بالمصافحة وخطا خطوتين، ثم اختفى….. اختفى وسط حشد من الناس…
غمر نفسي القلق…. فكّرت… ألا أستطيع أن أتعلم تلك الطريقة أبدا؟ قررت العودة إلى بلدي فورا… أدخلت يدي في جيبي….. لا يوجد فيه شيء…. لا يوجد ولا فلس واحد….! واأسفاه….. لم أسأله حتى عن اسمه….أسرعتُ إلى جهة خطواته ولكن بدون جدوى…..
«خائن». ابتلعتُ غضبي
بتُّ في تلك المدينة الكبرى غريبا دون سند أعتمد عليه…. تحملت جوعي…اضطررت لقضاء تلك الليلة داخل مسجد في المدينة… نمت فيه….
حين استيقظت توجهت لأداء أذان صلاة الفجر….. لما فرغتُ اجتمع الناس حولي وبدؤوا يقولون إنهم لم يسمعوا في حياتهم أذانا بهذا الصوت الحلو من قبل…..!