يقودنا التفكير في ظاهرة الكتابة حول التجربة السجنية إلى مواجهة صعوبة منهجية يفرضها تشابك عناصر وجوانب غير أدبية تشكل الخلفية الضرورية لفهم وتأويل مضامين كلّ مدونة إبداع (شعري ونثري) تحوّل من الخطاب حول السجن إلى خطاب السجن حول ذاته … وما من شك أنّ أدب السجون أدب مظلوم بقدر ما كان الأدباء والشعراء (وكل المثقفين الذين سجنوا من أجل أفكارهم) مظلومون. وإن كانت أسباب ودوافع ظلم أولئك المثقفين والمفكرين والمبدعين تنجلي حقيقتها بعد البحث والدراسة الملموسة، فإن ظلم أدب السجون مصدره نقاد محترفون ضيّق تعلقهم الأكاديمي بمواصفات الإبداع والكتابة أفق تفاعلهم مع النصوص التي عكست ودونت التجربة السجنية شعرا أو نثرا كأحد نماذج المعاناة الإنسانية. وإن نجحت بعض الآثار الأدبية – على مرّ القرون – في الحصول على مكانة إمكانية أدبيّة وفكرية مرموقة عربيّا ودوليّا (مثل أبو فراس الحمداني، الماركيز دي ساد، ناظم حكمت، سولجينتسين، شالاموف، …) فإنّ ذلك كان نتيجة للدرجة العليا من القدرة التعبيرية والتأملية التي حوتها تلك السرديات وارتقت بمقتضاها إلى صنف إبداعي صميم.
ودون التوقف عند ظاهرة الإهمال التحليلي والنقدي لأدب السجون في الثقافة العربية رغم تنامي المدونة المعنية بالغرض، فإن الثقافة الغربية قد قاربت ذات الظاهرة على أساس ثقافي أطلقته القطيعة الفكرية التي أنجزتها الفلسفة الأنوارية (القرن الثامن عشر) وهو أساس تراجع القهقرى، عبر تجليات بعض التجارب التاريخية (في أوروبا) تحت وطأة هيمنة برامج سياسية شمولية واستبدادية مثلما كان الحال في إسبانيا (تحت حكم فرانكو)(1) وفي ألمانيا النازية وفي الاتحاد السوفياتي (الشيوعية) وغيرها من التجارب التي جسدت سحق الفرد وقتل إنسانيته. كذلك انخرط الأدب السجني في صيرورة التحوّلات والتقلبات السياسية، فصنع لذاته مسارا ومكانة فرضتهما حقيقة الشروط الإنسانية (الحديثة والمعاصرة) كجنس أدبي وإبداعي وتأملي يفضح ويعكس الجانب القاتم من تاريخ البشر والمجتمعات في غليانها ونكساتها.
تناولت ثقافة الأنوار الموضوع السجني بالدّرس وقاربته نقديا في أفق إصلاح الإنسان وشروط حياته وضمان حقوقه(2) وقد بدأ أدب السجون، بصيغ مختلفة، يطرح قضايا جديدة بالنسبة للوعي البشري تدور حول ظروف العقوبة وتأثيرها النفسي والاجتماعي على الفرد، ومكانة ودور المؤسسة السجنية في تحديد طبيعة السلطة الحاكمة وتوجهاتها(3). وإن كانت أهمّ صيغ ظهور صنف أدب السجون هي صيغ الكلام عن المعتقل، فهي سرعان ما تحوّلت عبر كتابات شهيرة، إلى صيغ كلام المعتقل(4) أي أنّ أدب السجون تحوّل من خطاب حول السجن إلى خطاب السجن أي أننا انتقلنا من كلام المجتمع حول السجن (والسجين) إلى كلام السجن (والسجين) الموجه إلى المجتمع. وقد اكتسحت اللغة الشعبية مجال الكتابة السجنية لتصبح ذات حضور أدبي كثيف، خاصة في المجال الأدبي الفرنسي، زاده تألقا الأسلوب الكتابي الذي اتبعه فردينان سيلين منذ روايته «رحلة في آخر الليل».
وقد أصبح أدب السجون مدخلا لفهم «مجتمع السجن» من ناحية ووسيلة لفهم تطوّر المجتمع بأسره من ناحية أخرى. كما أن أدب السجون استدعى – في مسيرة تناميه – أساليب الكتابة والتحليل في مجالات السياسية وعلم الاجتماع وعلم النفس والمعتقد الديني، والقانون، كل ذلك في صيغ متحرّرة من القوالب المعتمدة والراسخة في تقاليدها. لكن تنامي ظاهرة العناية التحليلية والنقدية بمختلف أصناف إنتاج أدب السجون كان ممكنا في المجتمعات المتحرّرة من الهيمنة المطلقة للدولة على المجتمع (أي المجتمعات الليبرالية الحديثة) بخلاف المجتمعات التي وقعت تحت سيطرة الاستبداد السياسي، والشمولية الإيديولوجية علمانية كانت أو وطنية، عرقية أو دينية.
من أدب السجون إلى أدب المحتشد
رفض فارلام شالاموف (1907 – 1982م) أن يكتب تاريخ «أرخبيل الغولاغ» مع الكسندر سولجينتسين، واكتفى بتحرير كتاب «حكايا الكوليما» ليسهم في نهاية الأمر في صياغة موسوعة تدوّن وتدين العنف الشيوعي الذي اغتال الحلم الاشتراكي وخنق التوق إلى التحرّر الاجتماعي وتحقيق العدل كعناصر مكوّنة لتلك اليوطوبيا الاشتراكيّة. وشكل كتاب «حكايا الكوليما» إلى جانب «أرخبيل الغولاغ» موسوعة لتاريخ صناعة قتل الإنسان الذي أفرزته آلة الاستبداد الشيوعي كما عرفه القرن العشرون الحزين. وإن كان كل من شالاموف وسولجينتسين قد نجوا من موت المعتقل وبقيا على قيد الحياة وإن حلما بمغادرتها انكسارا مرات لا تحصى، فهما أرسيا أسس الانتقال من أدب السجون إلى أدب المحتشد. وذلك إنتقال ساهم فيه أدباء – شهود آخرون مثل الإيطالي بريموليفي والروماني-الألماني بول تسيلان والمجري إيمري كريتس. وقد شكلت مخيمات الاعتقال أحد أهمّ تجليّات سقوط الذات البشرية إلى أدنى درجات الحيوانيّة المفترسة للبشر، حيث أنها كرّست آلية التفنن في الأذاء المبرمج والمقصود للغير (معارض، مختلف، خصم، منافس، عدوّ …) مثلما جسدت فجيعة لم يبرأ منها الضمير الإنساني إلى حدّ يومنا هذا إذ أنها لا تزال قائمة (فلسطين المحتلة) أو قابلة للعودة السريعة (كمبوديا تحت الخمير الحمر، الحرب الأهلية البلقانية، البوسنة، …). وكانت مخيمات الاعتقال الجماعي – خلال القرن العشرين – آلية لسحق إنسانية البشر وإلغاء الإنسان وفق مسببات يوفرها جنون الإيديولوجيا حيث انها كثيرا ما تتحوّل إلى آلة موت بعد ان شكلت «مدرسة سلبية للحياة» حسب عبارة شالاموف.
وشالاموف (1907 – 1982م) ذهب إلى المعتقل حسب وصف صديقه الحميم بوريس باسترناك وهو يغني للشيوعيين الذين وجدوا أنفسهم في السجون والمحتشدات لمجرّد حماسهم المفرط لممارسة القيم الثورية ولإيديولوجيتهم السياسية دون فهم منطق ومقتضيات السياسة الفعلية في بلادهم، أي أن شالاموف – الاشتراكي النزعة – وبالرغم من حرمانه من حقه في التعليم الجامعي (بسبب أنه ابن رجل دين أورثودكسي)، فهو انغمس في الحياة الأدبية والفكرية في روسيا خلال السنوات العشرين إلى حدّ اعتقاله الأوّل (1929) بسبب توزيعه لوصية لينين التي كانت قيادة الحزب البلشفي قد نفت وجودها. وبعد إطلاق سراحه (1931) بدأ شالاموف في نشر أوّل قصائده وقصصه قبل اعتقاله مجدّدا (1934) بتهمة الانتماء للمعارضة التروتسكية ومحاكمته مرّة أخرى (1943) وأرسل إلى محتشد كوليما الذي بارحه سنة 1953. وقد شرع في تدوين مذكراته في شكل حكايات وقصص وسرد متقطع صاغ به مدونة فريدة من نوعها(5) وكأنها رواية متعدّدة المقاطع تقريرية الأسلوب وتأملية المنهج حارب من خلالها البون الشاسع بين يوطوبيا الحرية والمساواة الشيوعيتين وبين واقع اللامصير الذي آل إليه الإنسان المطعون في صميمه والساقط في العدم … أي النازل نزولا دائما إلى ما هو أسفل إلى وضع بائس وغير إنساني في جحيم ثلجي يبصق الإنسان فيه الثلج، ولا يعرف للدفء معنى مثلما أشار إلى ذلك شالاموف قائلا : «حتى كومة من الفحم … حتى نار الجحيم لا تستطيع أن تدفئ قلبي».
أراد شالاموف أن يكون شاهدا – عبر الكتابة – على عملية سحق الإنسان في مخيم الاعتقال وهو شارك في ذلك الكابوس كل من سولجينتسين وأميري كيرتس لذلك نراه يولي أهميّة حادّة لوصف تمثلات مخيم الاعتقال كما تعتري مخيلة ونفسية السجين، حيث يؤكد أن هذا الأخير بمجرّد وصوله إلى المعتقل (الكوليما النائية في أقاصي سيبيريا) لا يمكن له أن يتبيّن من حدوده أو مساحته وكأنه ممتدّ إلى ما لا نهاية له ممّا يفرز لدى السجين شعورا بأنه ترك وراءه الدّنيا والحياة وجاء إلى عالم الاعتقال المطلق. وذلك شعور أكد عليه سولجينتسين في وصفه لعالم الغولاغ(6). لكن بعض فصول «حكايا الكوليما» تحيلنا إلى صنفين من المشاعر التي تجتاح السجين في المحتشد حيث يخضع لظروف يلامس من خلالها النهايات : نهاية القدرة البشرية على تحمّل التعذيب والتنكيل، ونهاية القدرة على التعبير على مآسي الحياة في المحتشد، ونهاية القدرة على التفكير العقلاني إزاء جبروت آلة القمع المطلق التي يواجهها السجين. لكن وإلى جانب ذلك يشعر السجين أن مخيّم الاعتقال لا حدود له وكأنه إطار حياة / موت لا مخرج منه سوى صحراء ثلجية مترامية الأطراف لا يقهرها إنسان. وأمّا الوحدات السكانية التي تبعث حوالي مخيم الاعتقال فهي تعيش على وتيرة حياة المعتقلين، وهي آهلة بسجناء سابقين، خسروا كل شيء في حياتهم فرفضوا الابتعاد عن المحتشد، عاجزين عن الابتعاد عنه نادمين على مجرّد البقاء على قيد الحياة … وقد أشار شلاموف في ثلاث حكايات من كتابه إلى عون تقني مختص في قياس الأراضي الذي قضى سنوات حياته وهو يصوغ تصميمات وخريطة مخيم الاعتقال بهدف توسيعه دائما وإكتساح مساحات جديدة من الثلوج التي تنتفي علاماتها المحدّدة سابقا(7). وتحيلنا تلك الصورة إلى عبثية متسلق الجبال الذي كتب عنه كافكا والذي يقضي حياته محاولا تسلق فضاء غير محدّد يضع لنفسه منه جبلا يتسلقه، لكن تحرك الرمال والأرض تلغيه فيعيد الكرة مرات فيحيلنا دوره إلى جهود سيزيف في رفع صخرتة إلى قمة الجبل لتتدحرج ثانية فيحاول رفعها مرّة أخرى وهكذا عبثا مجسّدا لقدر ساحق للشرط الإنساني ولمعاني حياة البشر حسب تأويل ألبار كامو.
أراد شالاموف أن يجعل من عمل التقني المختصّ في قياس الأراضي صورة من مصير السجناء داخل المحتشد حيث لا يمكن التأكد من أي شيء وحيث لا يمكن لليقين أن يتشكل : الفضاء المحيط بالمعتقل يتكوّن من جبال لا نهاية لها يغطيها الثلج كما يغطي الأشجار والمساحات العازلة ثلج دائم الحضور لا يذوب لأن الشتاء يدوم اثني عشر شهرا وباقي السنة كله صيف كما يكتب شالاموف بحزن قبل أن يستنتج «أنهم جاءوا بنا إلى هنا حتى نموت …»(8).
وليس مخيم الاعتقال وحده الذي يفتقد إلى ملامح محدّدة بل ان المنظر العام المحيط به لا يمكن تحديده، فهو منظر أو إطار للموت. لذلك يصبح المكان فضاء من أجل الموت، مفتقرا لشكل أو لحدود ثابتة مثلما أنه يفتقر إلى أرضية أخلاقية يمكن من خلالها الحكم عليه وعلى وظيفته.
إن مخيم الاعتقال الموجود في مكان لا حدود له ولا حياة حوله والذي يصبح في حدّ ذاته ملجأ منقذ من مخاطر محيطه هو نقيض شكلي للسجن الذي تهيمن دقة التنظيم والحواجز والحدود على رتابة الحياة فيه. فإذا كان السجين في السجن يحلم – فيما يحلم – بالهرب أو الخروج منه، فإن المقيم في مخيّم الاعتقال، لا يحلم سوى بالعودة إلى معتقله خشية أن يتبخر في لا حدود ولا مآل الفضاء المحيط بالمعتقل. ذلك نموذج من قتل الأمل الذي جعل شالاموف يعتبر أن المجيء للمعتقل هو بداية الموت التي يرسمها الخوف من الخروج منه والابتعاد عنه والعلاقة بين ما هو داخل (المعتقل) وما هو خارج (المعتقل) تذوب لأن الحدّ الفاصل بينهما يصبح هلاميا أو منعدما بمقتضى ما وسمه ميشال فوكو بـ»نحافة الحدّ» الفاصل بين العالمين حتى يصبح العالم فضاء غير مستقر ذا أبعاد من عدم اليقين وإنعدام الوضوح مما جعل لوبا جورجنسون وبعد دراسة تمثلات العالم الخارجي في بعض سرديات مخيمات الاعتقال(9) تستنتج أن انخرام العلاقة بين الداخل والخارج في العالم السجني يفرز تعارضا في تمثلات كل من السجناء والحراس في خصوص درجة عذاب كل منهم حيث يعتبر أولئك الحراس أنهم ضحايا السجن أكثر من المعتقلين، مضيفة أن ذلك الشعور بالضياع لدى حراس المحتشدات ناجم عن النظرة التي تأسست عليها تصاميمها من ناحية وعن منطق وفعل الآليات التي تجعل منه جهاز موت جماعي. أما مدونة شالاموف فهي رسمت تشكيلة متعدّدة لصور السجان في المحتشدات ولدوره في جعل الحياة الجماعية فيها مسيرة موت بطيء ومؤسسة عنف وسحق تفضح الواقع السوفياتي وما شابهه من أنظمة الثورة التي تقود البشر إلى الجنة بالسلاسل.
وجوه الجلاد / السجان في المعتقل : «السلطة المرعبة على حياة الآخرين»
من خلال مختلف فصول «حكايا الكوليما» يعدّد شالاموف وجوه السجان أو الجلاد الذي يمكن أن يكون من موظفي المعتقل أو من الجهاز الأمني المستقل عنه أو حتى من ضمن المعتقلين الذين تجتذبهم إدارة المحتشد لمهام التنكيل بضحاياه. والجلاد هو أحد أركان المحتشد حيث أنه يعمق الشعور بالقهر فيه إذ يعمل السجين أكثر من 16 ساعة يوميا في مناخ يصل إلى خمسين درجة تحت الصفر ويجعل من كوليما (شرق سيبيريا) جحيما باردا … ويرسم شالاموف صورة نفسية للجلاد كيسيلاف الذي يقضي يومه في تعنيف وتعذيب المساجين قصد ردعهم الاستباقي والتخفيف من «عطش إلى الاغتيال دفين وسادي يتملك روحه»(10) بعيدا عن كل مراقبة ومحاسبة. ومؤسسة المحتشد تقود ذوي السلطة الإدارية والأمنية فيه إلى التلذذ المرضي بالانفراد بنفوذ مطلق على حياة الآخر»(11) فيفسدهم كليا ويجعل منهم وحوشا دون رقيب(12). ويضيف شالاموف في أحد فصول «حكايا الكوليما» أن وجود الجلاد في المحتشد ضرورة تفرضها مغالطة أصلية حيث ان التعريف الرسمي للمقيمين في مخيم الاعتقال هو «أعداء الشعب» ممّا يجعل مهمّة تعذيبهم الممنهج وقهرهم الدائم يبرز كفداء للوطن وخدمة لمصلحة البلاد. ويؤكد شالاموف أن كل شيء ينقلب إلى ضدّه من المحتشد : الاعتراف بالجرائم ليس سوى كذب مؤسس، والاستنطاق يعني تعذيب بدني ونفساني(13) وتحسن ظروف الحياة وإعادة تأهيل المجرمين يفيد بخضوع مطلق لدى السجناء إلى قهر الإدارة والخوف من اقتصاص هذه الأخيرة من عائلاتهم(14)، وتلفيق تهم جديدة ضدّهم(15).
إلى جانب الجلادين يحوي المحتشد جمهورا آخر من المجرمين وهم «السفلة» – حسب توصيف شالاموف – وهم مجرمو الحق العام الذين يشكلون صنفا أعلى درجة من صنف مجرمي السياسة وسجناء الرأي وهم يتمتعون بحقوق أوسع (نسبيا) وتوظفهم إدارة المحتشدات ضدّ السياسيين (أعداء الوطن). وأحسن «السفلة» هم أفسدهم وأقساهم وأشرسهم ضدّ سجناء الرأي(16) حيث أنهم يصبحون – حسب الخطاب الرسمي – «أصدقاء الشعب»(17) الذين تستبدل عقوباتهم إذا ما انساقوا في برامج إدارة المحتشد – ببرامج تأهيلية(18) تجعل منهم عين وذراع الإدارة والجلاد والوجه الآخر للفساد والرعب والقهر في مخيم الاعتقال حسب عبارة ميشال هيلير(19) الذي اعتبر «السفلة» من أهمّ أسباب موت المساجين السياسيين في محتشدات سيبيريا(20).
في صفوف الجلادين، تظهر أحيانا شخصيات غير عادية في تفننها في إرساء الرعب في صفوف السجناء وقهرهم وتعذيبهم وقتلهم مثل «القايد غارانين» الذي ذكره شالاموف في إحدى قصصه (أو مذكراته) والذي نجح في تنظيم اغتيال 25000 سجين خلال سنة واحدة وسمها صاحب «حكايا الكوليما» بـ»سنة الرمي بالرصاص»(21).
وإذا كانت شخصية غارانين ترمز إلى الجلادين القتلة بالجملة في المحتشدات، فإنّ سجناء الرأي كانوا مستهدفين – حسب رواية شلاموف – من قبل نمط آخر من خدمة السجان ومعاونيه وهم الجواسيس المندسين في صفوف المعتقلين والذين يكون أغلبهم من فصيلة «السفلة». وهؤلاء الجواسيس وباقي جمهور «السفلة» يوظفون في الحملات الدعائية داخل المحتشدات ضد مساجين الرأي (أعداء الشعب» و»خصوم الوطن») وضدّ «المثقفين» الذين يشكلون هدفا للثأر المسموح به رسميا حسب عبارة شالاموف الذي يضيف أن النعت الأكثر تداولا في مخيم الاعتقال في كوليما ضدّ المثقفين المعارضين للسلطة هو «أولئك الذين سوف يموتون»(22). لذلك، يعمد بعض سجناء الرأي إلى اقتراف مخالفات أو جرائم سرقة أو عنف أو سكر في المعتقل حتى يحشر في صفوف سجناء الحق العام فتخف محنته لأن مصير سجين الرأي في كوليما هو الموت الذي يلامس في كثير من الحالات حدود العبثية الناجمة عن انعدام أي قيمة لحياة السجين، وانعدام كل مقومات الحياة بصفة أعم ممّا يجعل الموت حدث لا قيمة له. كذلك يكون مخيم الاعتقال – حسب شالاموف وسولجنتسين وبريموليفي وغيرهم … – تجسيدا للشرّ المطلق. وقد ذهبت إلينا بافال إلى اعتبار أن سياقات مؤسسة الشرّ في المحتشدات تفقد كلّ الأشياء والممارسات معناها الأصلي حيث يصبح من العسير أن تشجب أفعال الجلادين أو حتى نعتهم بالجلادين لإنعدام شروط مسؤوليتهم المستقلة(23). وقد أشار شالاموف إلى ذلك الغموض حين ذكر القسوة العالية التي يعامل بها الحرّاس بعض المساجين السياسيين كشكل من أشكال التقرّب من رئيسهم المباشر، وكسب ثقته وعدم تسرّب الشكوك حول ولائهم له (وللنظام) من أجل الحصول على بعض الامتيازات التافهة (مثل الحصول على حق الذهاب إلى مشاهدة شريط سينمائي)(24). ومن جراء ذلك تكون سلسلة القسوة في المحتشدات سلسلة في انتفاء المسؤولية وانتفاء إنسانية طاقم الجلادين والحرّاس والإدارة والمساجين ممّا يحوّل محيط المحتشد إلى «فضاء – عدم» حسب عبارة شالاموف.
كوليما : الرحلة إلى آخر العدم
كتب شالاموف إلى صديقه بوريس باسترناك في رسالة (1954) واصفا حياته في كوليما «حاولت بكل احتشام ويأس أن أهرب من عنف ذلك العالم الذي يفسد الروح ويسحقها …». وكان باسترناك الذي لم يتعرض إلى ما تعرّض إليه شالاموف من قهر مسكونا بمشاعر الذنب إزاء «الحياة تحت الأرض» التي كانت من نصيب صديقه والتي أهدرت إمكانياته الإبداعية. وقد أكد شالاموف أن «الحياة تحت الأرض» التي عرفها في كوليما (مع ملايين المساجين) هي حياة لا يشترك فيها أحد مع آخر رغم التساكن والعيش المشترك لأنها تغتال قلوب وضمائر ومشاعر كل حي. ولا يفيد استمرار الوجود في المحتشد في شيء لأن ذلك الوجود مفكك في أساسه.
ومن اللافت للنظر أن يكون شالاموف أقرب إلى باسترناك منه إلى سولجيتسين بالرغم من أن هذا الأخير الذي أمضى سنوات طويلة في الغولاغ، شاطر رغبة صاحب «حكايا الكوليما» في تدوين حقائق وظروف المحتشدات المرعبة، بل انه ذهب إلى الاقتراح على شالاموف الاشتراك معه في تحرير «أرخبيل الغولاغ» لكن هذا الأخير كان يميل إلى صداقة صاحب «الدكتور جيفاكو» الذي نعم بحياة هادئة مقارنة به. ولعلّ السبب العميق في ذلك الاختيار يعود إلى أن شالاموف كان مسكونا بطموحه الأدبي (رغبة كتابة الشعر والرواية والنقد مثل باسترناك) الذي حولته حياة المحتشد إلى «ذكرى غامضة المعنى» حسب عباراته الحزينة. فقد منع مخيم الإعتقال شالاموف من الكتابة، وهو وصف تلك الظروف في أحد أجزاء «حكايا الكوليما» حين كتب يأسه قائلا : «إنّ الجليد الذي يحول البصاق إلى ثلج وهو ما يزال في الهواء، يتسرب إلى الروح البشرية وحتى العظام تتجمّد وتثقل، كذلك العقل يتجمّد ويثقل مثل الروح. في تلك الجبهة لا يمكن التفكير في أي شيء». ويضيف شالاموف جرعة أخرى في رسم صورة الجحيم الذي عاشه وعاينه في شرق سيبيريا مؤكدا أن رغبة الحياة في المعتقل لا تتعلق إلا بشيء وحيد : إعلام الناس خارج المحتشد بحقيقة هذا الأخير أي أن الأديب والشاعر أصبح لا يتمنى سوى أن يتحوّل إلى مجرّد ناقل للأخبار حتى يعرف الناس الحقيقة. أمّا الإبداع – بالنّسبة اليه – فهو سقط في مجال اللامفكر فيه، ودائرة اللاحلم. وعلى أساس ذلك اعتبر شالاموف أن الذاكرة هي أهمّ أداة يمكن أن تنقل السجين إلى عالم الأحياء لو قدّر له أن يخرج حيّا من المعتقل. ويعلم الناس بما وقع له ولغيره في غياهب «تحت الأرض» في بلاد الحرية والسعادة الكاملتين» … لذلك كتب شالاموف «حكايا الكوليما» الذي جاء في صيغة فريدة ليست بالمذكرات ولا بالرواية ولا بمجموعة قصصية وإنما هي مزيج من كل ذلك. فقد جاءت الكتابة في «حكايا الكوليما» كنهر متدفق من الأحداث التي تتكرّر وتتجدّد في أشكال مختلفة حاملة شحنات غير معقولة من العنف والرّعب والبشاعة، وحيث تصل فيها سرديّات الواقع في أبسط جزئياته الرهيبة إلى درجة عليا من «اللامنطق» فتلامس حدود اللامعقول و»اللاممكن» و»المستحيل» … واصل شالاموف في كتاباته النادرة بعد ردّ الاعتبار إليه سنة 1956 في رسم صور الحياة في المعتقل حول مسائل بسيطة مثل الجوع والموت جوعا، والبرد والموت بردا، والإغماء والإغماء جوعا وبردا والعجز عن الكلام والعجز على التفكير والعجز على التواصل، والعجز على الفهم، وفقدان الرغبة في كل شيء : الكلام، الأكل، التفكير، الفهم، … إلى حدّ أنّ العلاقة مع الذات تتلبّد وتصبح غامضة وينسى السجين من هو، ولماذا هو في المعتقل، ومنذ متى، ويخسر الرغبة في النظر إلى غيره وحتى إلى نفسه (مثلما حدث له ذلك في إحدى القصص التي أوردها) حينما وقع نظره على وجهه في مرآة معلقة في أحد مكاتب المحتشد …
وقد كان حزن باسترناك عظيما بعد إطلاق سراح شالاموف من محتشد كوليما لأنه علم من سجناء آخرين أن صديقه لم يبتسم طوال عشرين سنة لأنّه فقد أسنانه مبكّرا ومن جرّاء سوء ظروفه الحياتيّة والغذائيّة … لذلك حرص صاحب «الدكتور جيفاكو» على علاج فم شالاموف وتغيير أسنانه في مقدّمة فمه حتى يتمكن من الابتسام مجدّدا إذا استطاع إلى ذلك سبيلا !!… لكن شالاموف كان قد فقد الحاجة إلى الاهتمام بوجهه كما أشار إلى ذلك في فصل «كريست» من «حكايا الكوليما» حيث كتب أن « الوجه أصبح (بالنسبة إليه …) غير ذات فائدة بعد أن أمحى الظلام والبرد ملامحه التي التهمتها قساوة المناخ …».
يحمل أحد فصول «حكايا الكوليما» عنوانا غريبا وهو «مرسال بروست» حيث يذكر شالاموف أنه عثر على جزء من مؤلف بروست (البحث عن الزمن المفقود) في مكتب الممرض في المحتشد فانكبّ على قراءته «لأنّ مارسال بروست أكثر أهمية من النوم»، ويورد فقرة يثير فيها الجوانب التي جعلت من قراءة بروست لحظة سعادة قصوى وحدثا مهمّا وملهما في آن : « من الذي كان سيقرأ هذه الكتابة الغريبة والتي لا يمكن القبض عليها وحتى أنها تبدو وكأنها جاهزة للطيران في الفضاء الطلق حيث تبدو الأحجام مبعثرة ومختلطة لا فرق فيها بين الكبير والصغير ؟ كل ذلك متساو أمام الذاكرة مثل المساواة أمام الموت، حيث ان الكاتب يكون محقا في تذكر فستان الخادمة ونسيان مصوغ السيدة. توسع هذه الرواية أفق الفن الأدبي. وأنا، الإنسان المسجون في كوليما والمجنى عليه، فقد استدرجت في عالم ضائع منذ مدّة طويلة، إلى ممارسات منسيّة وغير ذات نفع» …
الأدب في معتقل كوليما … هي معجزة في رأي شالاموف إذ لا يمكن أن يهتمّ أحد يقيم في الكوليما حيث يتجمّد الإنسان وهو حيّ يرزق، بالنوع الإبداعي الرفيع الذي يمثله مارسال بروست بالنسبة لشالموف… وقد أشار صاحب «حكايا الكوليما» في فصل «مارسال بروست» إلى أن العثور على إحدى مجلدات «البحث عن الزمن المفقود»، مثل سرقته لاحقا من مكتب ممرض المخيم شكلا حدثا غير عادي في حدّ ذاته، وإن جسدا جانبا آخر من بؤس السجناء حيث تأكد شالاموف من أن سارق الكتاب حوّل صفحاته إلى مجموعة لعب ورق يغتال بها المساجين الزمن المتاح لهم. تلك هي عبثية المصير (للأدب وللأديب) في المعتقل و بؤس مكانة الكتاب المتمحور حول مفهوم الزمن والذاكرة والمتحوّل إلى وسيلة لاغتيال الوقت والزمن. وقد أشار كلود موشار إلى أن الحزن البائس الذي يهيمن على كتابة شالاموف والذي يشكل رابطا قويّا بينه وبين قرائه المعاصرين، ينجم عن الشعور العميق والدفين لدى صاحب «حكايا الكوليما» بأنه خسر حياته سدى وأن المعتقل / كوليما كان قبرا لطموحه وطاقاته الإبداعية(25). فقد جمدت ثلوج سيبيريا الشرقية روح شالاموف وموهبته الأدبية وحبّه للشعر. وهو لم يكتب الشعر أثناء اعتقاله وإن كان قد كتب في نهاية حياته محدثا «شيطان الشعر» : إذ لم أفقد قوايا / إذا كان لي ما اقول / فذلك فضل من لدنك / أنت إرادتي وأنت قوتي» … فقد قتلت الثلوج الشعر في روح شالاموف الذي كتب في مفتتح «حكايا الكوليما» نصّا عنوانه «على الثلج» يصف فيه شعور الضياع الذي يولده الثلج الممتدّ إلى ما لا نهاية له ويجعله محروما من المرجعيات المادية (حتى الصخور والأشجار !! …) ومن الألوان الحيّة القادرة على الصمود في وجه البياض الثلجي القاتل لكل شيء ولكلّ شعور ..
حكايا الكوليما : كتابة غير قابلة للتصنيف … ؟
حرّر شالاموف مؤلفه «حكايا الكوليما» وفق صيغة خاصّة. فالكتاب ليس من صنف المذكرات أو السيرة الذاتية، كما أنه لم يكتب في شكل رواية أو كمجموعة قصصية، وهو لم يجعل منه تقريرا أو بحثا اجتماعيا حول ظروف الحياة في المعتقل أو تسجيل لوقائعها وأحداثها، بل أنه أنتج نصّا يمزج كلّ تلك الصيغ الكتابية والأنواع السردية ليكون عمله فريدا في نوعه وفي منحى كتابته. وقد أكد الباحث إريك لوزوفي في دراساته للمدونة التي أنتجها شالاموف ولوثائقه الشخصيّة (مسودّات ومراسلات) أن هذا الأخير قد اشتغل مطوّلا على مسألة تصميم كتابه قبل تحديد شكله النهائي(26) الأمر الذي يضفي صدقيّة على تعليق شالاموف – نفسه – على دارسي مؤلفه حين أقرّ بأنّ «كلّ تلك الحكايات موضوعة في موضعها المناسب»(27). ويعني ذلك أنّ الكتاب – على ضخامة مادته – يوفـّر وحدة منهجيّة وموضوعيّة، رغم أن تعدّد صيغ الكتابة والمادّة التي وفرتها تشيء بنزعة نحو التشظي والتفكك، خصوصا أنّ شالاموف لم يحدّد إطارا سرديا موحدا للأجزاء الستة من الحكايا التي يتكوّن منها الكتاب. وإذا كانت الصيغة الكلاسيكية في السّرد القصصي الروسي قد اعتمدت منذ «قصص صياد» لتورغينياف صيغة أسلوب السارد – البطل الذي يروي قصة، فإن شالاموف توخى أساليب في قطيعة مع الصيغة التقليدية متنقلا بين أنا السارد المباشر والمشارك في الأحداث الواردة في النص وبين السارد المتخفي والمتنقل بين سرد الوقائع وتحليل محدّداتها وتأثيراتها على نفسيّة وعقليّة الشخصيّات. ويعزز ذلك التنوّع في الصياغة البنيوية للكتابة وفي صيغ السرد في مختلف فصوله الطابع المتشظي لكتاب «حكايا الكوليما» الذي سعى شالاموف أن يبني وحدته في مستويين : أولهما يخص كل قسم من فصول الكتاب، وثانيهما يخص الوحدة بين الأجزاء الستة التي تشكل مادة المؤلف بالرغم من أن شالاموف لم يخضع تصنيف كتابه لتسلسل تاريخي أو موضوعاتي دقيق، وهو أمر يستدعي دورا مغايرا من قبل القارئ الذي يجد نفسه يدخل عالم الكوليما من خلال ما فتح له شالاموف من ممرات ليصبح أحد العناصر المكونة للحالة التي سعى إلى صياغتها المؤلف والحقائق التي أراد أن يجليها والحياة السلبية التي حاول أن يزيح عنها الغطاء.
وإذا كنا قد أشرنا إلى عناصر تشظي الكتابة التي هيمنت على «حكايا الكوليما» فإننا نصرّ على التأكيد على وحدة موضوعها ومناخها ووسائل صياغتها. وهناك شخصيّات إختار شالاموف أن تكون حاضرة في عدد غير قليل من القصص التي أوردها في كتابه، مثل كل من اندريف وغلوباف وكريست، وهم بمثابة الصوت الآخر لشالاموف ذاته حيث يتنقل السارد من صيغة «الأنا» إلى صيغة «هو» دون أن يتأثر أسلوب الكتابة وأغراضها جوهريا، وقد أعاد شالاموف إقحام بعض الشخصيات الثانوية في العديد من فصول «حكايا الكوليما» وذلك قصد التأكيد على التشهير بالجلادين (مثل كيسلاف) والتأكيد على فظاعة قتل أحد رفاقه المساجين وذلك خدمة في تجديد ذكراه …
وإلى جانب تكرار إستدعاء بعض شخصيات قصصه في أكثر من فصل من «حكايا الكوليما»، فقد عمد شالاموف إلى جعل بعض الأحداث والمواقف مادة زمنية وموضوعاتية لعدد غير قليل من فصول كتابه، مطوّرا في كل مناسبة جانبا مغايرا من مقاربته أو مقحما معطيات جديدة إلى جانب تلخيص يختزل ما سبق ذكره وبيانه في موطن سابق من الكتاب، أو مستبدلا شخصية السارد محاولا على أساس ذلك – حسب رأينا – تسليط ضوء جديد على حدث حسبه مهمّا في رسم صورة كاملة للحدث أو للحياة في المحتشد. وقد يجد القارئ لبعض فصول «الحكايا …» أن شالاموف أعاد إقحام فقرات أو جمل أو مقاطع كاملة في مواطن مختلفة من كتابه كتناص بهدف أن يستدعي – من خلاله – المتلقي للعودة بشكل كامل إلى ما سبق قبل أن ينطلق من جديد في تمثل الواقع الذي يريد رسمه. وأكد إيريك لوزوفي، الذي توقف عند ذلك الجانب من كتابة شالاموف أن الغرض الأول من توخي الكاتب ذلك الأسلوب هو التأكيد على سيرورة خسارة السجناء لإنسانيتهم وعلى ابتعادهم عن معقوليّة الحياة عبر الإشارة إلى تراكم وترابط الأحداث والعوامل التي تقود إلى ذلك السقوط التدريجي وإتساع دائرته : «إن أغلب فصول «حكايا الكوليما» تدور حول موضوع وحيد : فقدان السجناء لإنسانيتهم»(28) من خلال ظروف إقامتهم في المحتشد وصراعهم من أجل البقاء على قيد الحياة، ومقاومة الشر، وإزاء انتفاء الحدّ الفاصل بين الموت والحياة، وفساد إدارة المعتقل، وسطوة السجناء السفلة فيه، وتفشي الأنانية الحيوانية بين جمهور المعتقلين، مما جعل شالاموف يضفي بعدا تأمليا على كتابه محاولا مقاربة بعض المسائل الميتافيزقية (المصير البشري، مكانة الذاكرة في حياة الإنسان، معنى الوجود …) فتتعدّد من جراء ذلك مستويات الكتابة وهيكلة النصّ(29).
إنّ الأسلوب الكتابي الذي توخاه شالاموف والذي استدعى بمقتضاه صيغا متنوعة للتحرير أنتج نصّا أدبيا فريدا من نوعه – كما أشرنا – يمزج بين السرد القصصي والتقرير والتأمل. وقد كان ذلك متاحا بالنسبة إليه على أساس السعي إلى إنتاج تماسك بين مختلف القصص والوقائع والذكريات التي ثبتها في «حكايا الكوليما» دون الاهتمام بمسألة وحدتها الأسلوبية أو البنيوية، كما ذهب إلى ذلك مايكل برويز في دراسته لأدب شالاموف(30)، حيث اعتبر أن القصص الواردة في مختلف أجزاء «حكايا الكوليما …» تتداخل في انسجام عام وإن كانت لا تشكل نصّا مغلقا وموحّدا أو أن تكون وحدة مكتملة منتجة لمعان حتميّة». وقد أضاف برويز أن الانسجام بين قصص «الحكايا …» لا يتعدّى كونه انسجاما نسبيا الأمر الذي يفتح أمام مجمل النص آفاقا متعدّدة المعاني أفقيا وعموديا يضاعف غموضها إبهام مدلولات اللغة التي يستدعيها المؤلف أحيانا ليرسم حقيقة جحيم المعتقل كمدرسة سلبية للحياة.
أخضع شالاموف كل صيغ الكتابة التي استعملها للغرض الذي رسمه لنفسه : كشف حقيقة ما يجري في المحتشدات، وذلك الغرض تحوّل لديه إلى قضيّة تفوق أهميته السياسية والإيديولوجية وتتجاوز أهميّة المعتقد الديني، بل أنه جعل منها قضية حياته الذي حلم في بدايتها (زمن شبابه) بأن يكرسها للأدب والشعر، فوجد نفسه في نهايتها يحاول توظيف الأدب من أجل إحياء ذاكرته، وذلك من أجل أن تنتصب حقيقة مخفية ومكبوتة تدور حول صناعة اغتيال الإنسان نفسانيا وعصبيا وعقليا، ووجدانيا وأخلاقيا وتحويله إلى حيوان مفترس منتج للشرّ المطلق إزاء نفسه وغيره والعالم والإنسانية … كل ذلك تحت غطاء شعارات الثورة والتحرّر والعدالة والانعتاق …
كلّ ما أراد شالاموف تأكيده في «حكايا الكوليما …» هو أن الأجهزة القمعية للدولة الشمولية السوفياتية قد نجحت عبر مخيم المعتقل (الكوليما) في قتل إنسانية الإنسان وجعل سقوطه دون حدود ودون فرامل إلى حدّ تحويله إلى وحش بشري كما بيّنت ذلك بعض القصص التي أوردها مثل :
– قصة ذلك السجين الذي نجح في الاحتفاظ بصورة قديمة لزوجته لمدّة تفوق عشرين سنة، فقتله رفاقه من سفلة المسجونين لينتزعوا منه الصورة وجعلها مصدر تلذذ جماعي لهم بعد موته …
– قصة القس الأعمى وزوجته الذي يقبل بعد شهور من الجوع بأن يحطم الصليب الذهبي الذي يحتفظ به خلسة ليتحصل مقابله على بعض الطعام.
– قصة تطوع المساجين للإدلاء بتصاريح كاذبة حول أحدهم كان أحد أعضاء إدارة المحتشد قد قتله لغرض من الأغراض الشخصيّة التافهة.
– قصة إتفاق المعتقلين على الابتعاد عن السجين الذي تقرّر الإدارة أو احد الحراس أو أحد المساجين قتله في ساحة السجن حتى لا يسعفه أحد ولا يتوفر شاهد وحيد على موته …
تلك الأحداث التي ذكرها شالاموف وكرّرها تهدف إلى الإقرار بأن المنظومات العقائدية الدينية أو الفلسفية التي تدعي الإرتقاء بالإنسان إلى أعلى المراتب الأخلاقية والنفسية والمعنوية قادرة على سحقه وتدميره والانحدار بشأنه إلى أسفل الدرجات وتحويله إلى كائن غير إنساني. لذلك اعتبر شالاموف أن المحتشدات هي مقبرة المقدس والإنسانية في ذات الحين، وهي مولدة لنوع جديد من الآلهة المتوحشة والمتعطشة لدم ولحم وضمائر البشر. هي حسب توصيف شالاموف «مدرسة سلبية للحياة» أو بالأحرى مدرسة الحياة السلبية ! ومدرسة لما هو تحت الحياة … والمصير العدم الذي يدفع إليه الإنسان في المحتشدات العقائدية والطائفية والعنصرية وهو ما وسمه الأديب المجري إيمركيرتس بـ»لا مصير …» (في روايته التي تحمل ذات العنوان : «لا مصير …»)(31).
ومصير «اللامصير …» لا يمكن أن تغيره ثورة أو تمرد أو مقاومة، لذلك لم يورد شالاموف في «حكايا الكوليما …» سوى قصة تمرد وحيد نظمه المساجين ضد قهر إدارة المحتشد وقاده سجين يحمل إسم بوغاشاف (وهو إسم قائد تمرّد ضدّ سلطة الإمبراطورة كاترين الثانية خلال القرن الثامن عشر في روسيا). وإن انتهى تمرّد المساجين في عمليّة قتل جماعي لبوغاشاف واحد عشر من رفاقه الذين تحصلوا على أسلحة، فإن عمليتهم فشلت لأن جمهور «الأحياء – الأموات» (أي باقي المساجين) لم يعاضدهم في تحركهم النضالي، الأمر الذي يحيلنا مرّة أخرى إلى مسألة انتفاء روح المقاومة والصبر والمثابرة لدى مساجين المحتشدات …
يطلق شالاموف على جمهور مساجين المحتشدات صفة : «جماعة الموت المجهول» أو «جماعة الموت غير المهم …»، فهم الناس الذين تقتل فيهم حياة المحتشد السلبية كل القيم والمبادئ والأخلاق والعواطف، هم الناس الذين يفقدون في المعتقل معنى الحبّ، والصداقة والوفاء والسعادة، والنبل. فيصبحون «وعاء» للامبالاة العظمى ومثالنا على ذلك شالاموف ذاته الذي دمرته الكوليما. فهو بدأ حياته متحمّسا للثورة البلشفية ولزعامة لينين رغم أن النظام السوفياتي حرمه من التعليم الجامعي لأن والده كان رجل دين ودخل السجن ثم المعتقل بسبب حماسه الثوري الذي لم يكن مع الستالينية، وبعد تجربة الكوليما وخروجه من المعتقل وردّ الاعتبار إليه والإقرار ببراءته لم يبق من المعتقدات شيئا لدى شالاموف سوى أفكارا بسيطة لا تمتّ إلى الدين أو الفلسفة أو الإيديولوجية بأي صلة لأن هويته قد انفجرت وتدمّرت تحت وطأة الاعتقال والقهر وثلج سيبيريا، ومن جراء الحياة السلبية التي عاينها والتي لم يقدر على التمرّد عليها أو الهروب منها لاستحالة النجاح في ذلك وموت الأمل في الأثناء …
اعتقد شالاموف أن الحياة في المحتشدات ذل مؤلم وعبودية شاملة وكرامة مسحوقة لكنه لم يتمثل الهروب (الفردي أو الجماعي) كحلّ ممكن (مثلما حدث ذلك في بعض السجون) لمعضلة انسداد الأفق بالنسبة للسجين، بل انه جعل من الهروب ضربا من الجنون واليأس مثلما أورد ذلك في قصّة «الوشاح» الذي لم يفارق عنق صاحبه السجين (حتى في الحمام والفراش) طوال سنوات طويلة حتى أصبح القمل الذي اكتسحه يجعل من الوشاح (المصنوع من القطن) يتحرّك وحده، إلى أن أجبر ذلك السجين أن يتخلى عنه يوما مقابل قطعة خبز أنقذته من الموت جوعا. لكن السجين الذي تخلى عن وشاحه القطني لم يقبل التغيير الذي حصل في مكونات حياته فقرّر الهروب من المحتشد فمات بردا في ثلوج الكوليما … أمّا في قصّة أخرى تخصّ ذات الموضوع رسم شالاموف صورة يائسة لقدرة البشر على التعلق بأمل الحرية عبر الهروب من المعتقل حيث أن المسجونين الأربعة الذين اختيروا للحراسة خارج المحتشد بمناسبة بعض الأشغال التي دامت عشرة أيام ذاقوا خلالها – من جديد – طعم الحياة خارج مخيم الإعتقال، ولكن بعد إنقضاء المدّة المحدّدة والأشغال المطلوبة، لم يقدروا على القبول بالعودة إلى مصيرهم العدمي الذي غادروه لأيام. لذلك شنق أحدهم نفسه، وقطع الثاني يده حتى يذهب إلى المستشفى كمرحلة انتقالية قبل العودة إلى سجنه في حين عاد الاثنان الآخران إلى المحتشد وكأن شيئا لم يحدث قابلين بمصيرهما الذي لا يمكن له أن يتغيّر ولأنـّهما تخليا على كل أمل في حياة أخرى غير تلك التي التهمت شبابهما وكهولتهما … وسحقت فيها كل طاقة.
ذلك ما أكد عليه شالاموف ملاحظا أن تجربة السجن والمحتشد تفرغ الإنسان من طاقاته الداخلية وتجعله يقطع مع أطر الحياة العادية لأنه يفقد إمكانية التلاؤم معها والتفاعل مع مقتضياتها البسيطة. وكان كل من بريمو ليفي، وإيمري كيرتس وسولجينتسين وجورج سامبرون وبوروفسكي ودافيد روسي وغيرهم من الكتاب قد أشاروا إلى ذلك الدّمار النفساني الذي ينجم عن الإقامة في المحتشدات لمدّة طويلة الأمر الذي جعل الفيلسوف الألماني كارل ياسبارس يقترح تقديم اعتذار من الذين لم يتعرضوا إلى تلك المحنة إلى الذين كانوا ضحاياها المباشرين. وإذا كان بعض الكتاب (ومن ورائهم أجهزة الدعاية) قد وظفوا مسألة الاعتبار من تجربة محنة المحتشدات لفائدة أمم أو طوائف معينة (اليهودية الصهيونية) فإن شالاموف اختزل استنتاجاته في المسألة التي تخصّ تحديد الشرط الإنساني للبشر حيث انه كرّس حياته من أجل كشف عمق القمع والقهر الممنهجين داخل مؤسسة مخيم الاعتقال، وكشف حقيقة وطبيعة الأعمال والممارسات التي تسحق الإنسان (السجين) وتنزع عنه إنسانيته وتحطيمه كليا بواسطة كل أنواع العنف وأشكاله وصيغه(32).التي جعلت من الموت «لا حدثا يوميا» حسب عبارة مارك كوريتو(33) لأن الحياة في المحتشد تصبح سلسلة من الأحداث المنفصلة بعضها عن بعض مما يجعلها من دون منطق لأنها تفقد البشر – قسريا – الذاكرة وقدرة الانتظار وهي حالة حللها ببراعاة الروائي الصربي الكسندر تيشما في روايته «كابو» حيث كتب أن «حياة المحتشد لا تتضمّن أي «لحظة لاحقة حاسمة»(34) لأنها ممكنة الوقوع ومستحيلة في ذات الحين.
وقد أقرّ شالاموف أن وقائع المحتشدات سحقت ذاكرة السجناء وجعلتهم بشرا بدون ماض وبدون مستقبل وبدون حاضر، لذلك كرّس حياته بعد «الخلاص» من جحيم الكوليما السيبرية لإحياء ذاكرة من لا ذاكرة لهم عبر إزاحة أطنان الأكاذيب التي افتعلت ضدّهم وعبر نقد الدولة والفلسفة والأجهزة والرجال الذين بلوروا وقرّروا ونفذوا وبرروا الجحيم الذي ذاق مره دون أن يموت فيه وهو الأمر الذي جعل لوعته أكبر لأن الموت لم ينقذ حياته ولأن حياته أفسدت موته البطيء مؤكـّدا أنّ تجربة المحتشد هي مدرسة سلبية للحياة والحياة بعد المحتشد هي «حياة سلبية …».
الهوامش:
1 –
Stephane Michonneau : Un récit contemporain. A propos d,un roman de témoignage de la répression franquiste in. www.vox-poetica.org/t/rl/
2 –
Andrey Higelin-Fusté : Le phénomène carcéral au XIX siècle : quand la » prison rêvée « des écrivains trouve ses limites dans la réalité historique … in. Equixoxes. N,4. www.brown.edu./Research/Equinoxes/journal/issues%2012.
3 – راجع روايات والتار سكوت (البريطاني) وألكسندر دوما (فرنسا).
4 –
Victor Hugo : Le dernier jour d,un condamné à mort (1829), Les misérables (1862).
Honore de Balzac : Splendeurs et misères des courtisanes (1838) , Dernière incantation de vautrin (1847).
5 –
Varlan Chalamov: Kolyma: Trad. Catterine Fournier. Ed. F. Maspero. Paris. 1980. 325 p.
6 –
Alxeandre Soljenitsyne : l,Archipel du Goulag. Ed.Seuil. Paris. 1974. I. p.11.
7 –
V. Chalamov : Récits de la Kolyma. Verdier. Op.cit. p.997.
8 – المصدر السابق : ص 1002.
9 –
Luba Jurgenson : La représentation de la limite dans quelques récits de camps. In Vox Poetica. In. www.vox-poetica.org/t/rl/jurgenson.
10 –
Varlan Chalamov: Récits de Kolyma : L,ingénieur Kisselev. P. 172.
11 –
Ibid : » Le vertuose et la pêle «. p 786.
12 –
Ibid : » Le chef de la direction politique «. P 1068.
13 –
Ibid : La vie de l,ingénieur Kiperejev . P 634.
14 –
Ibid : La femme dans l,univers des truands . p 655.
15 –
Ibid : » Mon procès «. P 1031.
16 – Ibid : p 579.
17 – Ibid : » Oraison funèbre «. P 147.
18 –
Michel Heller : La machine et les rouages. Ed. Gallimard. Paris. 1985. Coll. Tel. P. 228-229.
19 – Ibid : p 226.
20 –
V. Chalamov : Récits de Kolyma : Deux rencontres. Op. cit. p. 763.
21 – Ibid : ,Bogdanov,. P. 811.
22 –
Ibid : La vie de l?ingénieur Kipriev . Op. cit. p 637.
23 –
Elena Pavel : Varlan Chalamov. Témoin des bourreaux du goulag. In. Labyrinthe. www.reve-labyrinthe.org/document.1216.
24 –
V. Chalamov : Récits … op.cit : Mon process. P 1305.
25 –
Claude Mouchard : Au bord de la nuit : Chalamov. In. Littérature. N?84. 1991. P 55-60.
26 –
Eric Lazowy : les récits de Kolyma de Varlan Shalamov : Une uvre ouverte. In. Revue des études slaves. Tome 74. Fascicule 2-3. P 531-545.
27 – ورد في المصدر السابق. ص 533.
28 –
Eric Lozowy : les récits de la Kolyma … op. cit. p 535.
29 – ألمصدر السابق. ص 535.
30 –
Michael Brewes : Varlam Shalamov,s Kolymskie Rasskazy : the problem of ordering. MA. Dissertation University of Arizona. 1995. P 46-70.
31 – غيمر كيرتس : لا مصير … ترجمة ثائر صالح. دار المدى دمشق 2005 . ص 247.
32 –
Elena Paval : Varlam Chalamov témoin …. Op.cit. p 55.
33 –
Marc Courtieu : l,expression concentrationnaire du chaos : Pour un récit éclate ou un récit continu , In Trans. www.trans.revues.org/253.
34 –
A. Tisma : le Kapo. Ed. De Fallois. 1989. P 151. (Trad. M. Stevanov)
زهيـــر الذوادي *