علي جعفر العـلّاق
كأنني آخر الناجين
بعد أربعين ليلةً من القصف والظلام الكثيف، انتهت الحرب ولم تنته، وسمح للعراقيين بالسفر، في مارس 1991. كان علي أن أعجّل بالالتحاق بجامعة صنعاء التي وقعت معها عقدًا للعمل منذ سنة تقريبًا. بعد أسبوع كنت في عمّان، مررت للسلام على د. خالد الكركي الذي كان وزيرًا للثقافة آنذاك. وجدت لديه الراحلين الكبيرين: الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد والمخرج المسرحيّ قاسم محمد، وعددًا آخر من الفنانين . اتصلت من مكتبه بالدكتور عبد العزيز المقالح، رئيس جامعة صنعاء آنذاك، الذي فرح كثيرًا، حين أخبرته أنني قادم إلى صنعاء غدا.
اكتشفت، في صنعاء، وأنا أمضي ليلتي الأولى في دار الضيافة، في السكن الجامعي، أنني أسكن الغرفة المجاورة للشاعر الكبير سليمان العيسى، وبعد أن التقينا صباحًا وتناولنا إفطارنا، انطلقنا سوية إلى مكتب الدكتور المقالح في رئاسة الجامعة. كنت في منتهى القلق والتوتر: ذاتًا يمزقها التلفت، وذاكرة تتقاذفها أجراس من العويل والقرارات الكارثية. كنت كأنني آخر الناجين من المذبحة.
أدرك الشاعر العيسى ما أنا عليه من وضع نفسيّ حارق، فقال : أعلم جيدًا ما أنت فيه، لكن عليك أن تهدأ قليلًا وأن تتعود على فضيلة النسيان، نسيان ما حدث . ما إن جلسنا إلى الدكتور المقالح حتى لا مستُ، من جديد، دفء شخصيته العظيمة التي طالما أسرتني في زياراتي السابقة لصنعاء..
حين تصغي إليه فإنك، كما قلت عنه ذات مرة، لا تراه إلا هامسًا، حتى لو كان ينادي كوكبًا نائيًا، أو غزالة ضائعة.. هكذا أظنه، أو هكذا أراه، حتى كأن صوته الهادئ، الغائم، العميق، لم يخلق إلا للشعر، أو البوح، أو الحنين إلى الصداقات الآفلة.
على جليسه أن يكون في غاية الفطنة؛ فالدكتور عبد العزيز المقالح وريث الشخصية اليمنية المعروفة بالذكاء، وروح السخرية وحضور البديهة. لا يخلو حديثه، رغم عمقه ورصانته، من دعابة محببة: يروي النكتة ويستمتع بها، وهو بالغ الرهافة في الحالتين: لا يحمله المرح – مهما كان جارفًا- بعيدًا عن وقاره الجميل، ولا يدفعه الغضب- مهما اشتد- خارج وداعته المهيبة.
قد يبدو غارقًا معك في حديث حميم، أو منغمرًا في نقاش جانبي مع سواك، ولكن عليك ألا تظن أنه غائب عن الأحاديث الأخرى في مجلسه أو بعيد عنها، وستدهش حين تكتشف أن خيوط الكلام كلها كانت تصب بين يديه دائمًا.
وطوال السنوات الست التي أمضيتها مع المقالح في الجامعة، كنت أتساءل، كلما التقيته، ما الذي يجعله أكبر من مناصبه كلها؟ وما السر في أن اسمه أهم من الألقاب التي تحيط به جميعًا؟ وداعة أقوى من المنصب، وتواضع أكبر من امتيازات السلطة. لقد كان وسيظل، أحد الأمثلة النادرة للمثقف أو المبدع حين تضيق عنه الوظيفة، أو يتضاءل موقع المسؤولية أمام سمو نفسه، فيعيد تهذيب الوظيفة حين يمنحها شيئًا من لطفه ونبله وحيائه.
وكانت المسؤولية، بالنسبة له، لا تنتهي بحدود مكتبه بل كانت تفيض عن غرفة المكتب، لترافقه إلى الفضاءات المزدحمة بالأجساد المهمومة المتراصة، ممرات الجامعة، مدخلها الرئيسي، حتى سيارته والشارع، و بيته والمقيل، كل هذه الفضاءات لم تكن بمنجاة عن هموم المراجعين، وهم يجدون من المقالح ذلك الإصغاء الأبوي والتعاطف الذي يتجاوز، أحيانًا، الضنك المادي للجامعة أو تعنت التعليمات واللوائح..
ما أزال أذكر لحظة عامرة بالمعاني الكثيرة، كنت أقدم د. الناقد جابر عصفور، ذات محاضرة في كلية الآداب. حين قال إن المقالح هو طه حسين اليمن، أحسست بالقاعة كلها وقد هزتها نشوة الامتنان. فقد قال الرجل بالنيابة عنا ما هممنا، أو عجزنا عن قوله، في لحظة صدق طالما مررنا بها دون أن ننتبه، أو نفطن، أو نحس . لا بفعل الغفلة، أوالنسيان، بل لأن عظمة الرجل البسيط، أو بساطته العظيمة، إن شئتم، كانت تشدهنا عن أنفسنا كل لحظة، فنظل تغرقنا وتغرقنا في بحر لجي دون قاع، كما لو أنه، مرة أخرى، من عظماء الممدوحين في المخيال العام، وفي أساطير الكبار من ذوي الخصال النادرة، فنحن، دائمًا، في بحر من لطائفه العالية، وكرم روحه.
ساهم بدور جبار في إشاعة وعي جديد، وذائقة مختلفة في الأدب اليمني. وعمل دائماً على ربط هذا الأدب ببعده العربي والإنساني، من خلال كتاباته النقدية الرصينة، ومقالاته في الصحافة اليمنية والعربية، ومن خلال مجالسه التي كانت مدرسة عامرة بالتنوع والحيوية: شعراء وأدباء من أجيال مختلفة، نقاشات محتدمة في الأدب والسياسة والحياة، ومتابعة واعية وحميمة لأكثر قضايانا حدة، وأشد انكساراتنا إيلامًا. وإذا كان مجلسه هذا قد جمعنا بكبار زوار صنعاء من الشعراء والأدباء والمفكرين العرب والأجانب، فإنه قد عرفنا أيضا على ألمع شعراء اليمن ومثقفيه .
كان له دور باهر في إخراج اليمن من عزلته المعرفية، وجعله في الصميم من جدل الحداثة، الدائر في عالم اليوم، في الفكر، والأدب والشعر، الفنون والترجمة . حتى غدت صنعاء حاضنة للمؤتمرات المهمة التي ترصّن علاقات التثاقف والتفاعل بين الأدب العربي والآداب الكبرى، كالفرنسي، والأسباني، والألماني على سبيل المثال.
وفي خضم انهياراتنا العربية، ضاقت سبل العيش بالكثير من المبدعين والأكاديميين العرب . فتلقفتهم المنافي، في جميع جهات الأرض. وكان للمقالح دوره الكبير في جعل جامعة صنعاء صرحًا أكاديميًا عربيًا بحق، وملاذًا للكثير من المثقفين والمبدعين العرب، لكل من ضاقت به أرضه أو نفسه، أو ضاق بهما . كان يدير الجامعة بأفق إنساني شديد المرونة، وعلى تضاد كبير مع جمود اللوائح . وقد يأخذني الظن أن مهمته تلك في استقطاب الكفاءات العربية لم تكن يسيرة على الدوام . كنت أحس، كما يحس الكثيرون، أن هناك ما يشبه الفجوة، كانت تفصل بين العقل الأكاديمي المستنير الثاقب الذي يخطط للعملية التعليمية، مناهج ومفرداتٍ وموارد بشرية، وبين الجسم الإداري للجامعة الذي كان مكمنًا للبطء والعراقيل والترهل أو عنت الروتين أحيانًا. .
وردة المقيل المهيبة
يحضر المقالح جلسة المقيل فيسهم، بعمق، في وضع أركانها الثلاثة: بدايتها، وذروتها، ويصنع ختامها أيضًا، حين ينسلّ هادئًا مع بدايات الليل، يغذيه بالشعر والعذاب والعذوبة. وهكذا هو دائمًا: عادة ما يكون من أول الحاضرين إلى المقيل، وقد يكون، أحيانًا، من أول المغادرين. وبما يمتلك من فطنة وكاريزما شخصية، يعتبر المقالح هو المحرك الوجداني والفكري والأدبي لجلسة المقيل. إن مجرد حضوره جلسة المقيل يضفي عليها مذاقًا وعمقًا خاصين، فهو وردة المقيل المهيبة حقًا. كان يدخل حاملًا حزمة القات بيد، ومجموعة من الصحف والمجلات والكتب التي وصلته حديثًا بيده الأخرى. وكثيرًا ما كان يوزع حزمة القات التي يحملها على الحاضرين من الضيوف العرب بشكل خاص. كان أنيقًا وهادئًا، وكان مقلًا في تناول القات وفي الحديث أيضًا رغم عمقه ونباهته. .
وإضافة إلى الدكتور المقالح، كان للمقيل أعمدة دائمة تتمثل في شخصيات لا تستقيم طقوس المقيل وأجواؤه من دون حضورهم الحيوي: خالد الرويشان محمد عبد السلام منصور، سليمان العيسى، علي الحبوري، عبد الكريم الرازحي. وكان هناك، لاحقًا، حاتم الصكر، عبد الرضا علي، فضل خلف جبر، وعبد الرزاق الربيعي، الذين وصلوا صنعاء بعدي بسنوات قليلة.. وكان من بين أبرز رموز المقيل أيضاً الراحلون أحمد المروني، شاكر خصباك، سليمان العيسى، زيد مطيع دماج، عبد اللطيف الربيع، أحمد قاسم دماج، إبراهيم الجرادي، كريم جثير، وعدنان أبو شادي. وكان من البارزين أيضًا كمال أبو ديب قبل انتقاله إلى جامعة كولومبيا في نيويورك، وحسام الخطيب، كلما جاءنا من تعز حيث كان عميدًا لكلية الآداب هناك.
يبدأ المقيل، عادة، مبعثرًا وبسيطًا. ويأخذ، مع الوقت، بالاكتمال التدريجي، ثم يبلغ ذروة توهجه حين تلتقي أطرافه على موضوع واحد للنقاش. غالبًا ما يقترحه الشاعر المقالح مما حمله إلى المقيل من كتب ومجلاتٍ، أو اطلع عليه من أنباء في السياسة أو الثقافة. وكان للشعر حضوره اللافت دائمًا، وسط جمهور عرف بفطرته الصافية وشغفه العالي بالشعر . وكنت أكلف، في الغالب، بقراءة ما يتم اختياره من نصوص شعرية مميزة. وهكذا تَعْذُبُ النقاشات مندّاةً بخضرة القات والشعر والدعابة.
ومع الوقت تتصاعد رائحة الحديث ونكهة القات ودبيب المساء في امتزاج حي . إلى أن يختتم مدير الجلسة موضوع النقاش، فينساب المقيل، شيئًا فشيئًا، إلى نهايته. تنحصر الأحاديث، هامسة أو لا تكاد تسمع، بين مجموعات صغيرة من المخزّنين، وتأخذ فضة الكلام بالذبول، ويبدأ الحاضرون بالتبخر واحدًا بعد الآخر، دون ترتيب، أو تزاحم، بل ودون وداعٍ واضحٍ، من البعض، أحيانًا.
فضاءات الحنين والألفة
عرضت لي، خلال عملي في جامعة صنعاء 1991-1997، أكثر من فرصة للعمل في جامعات أخرى، غير أن تلك الفرص كانت تتلاشى، في منتصف الطريق إلى القلب، حيث الألفة السريعة لصنعاء وشبكة دلالاتها الرمزية : تفاصيلها الموغلة في البساطة واللطف، الصداقات الحاضرة على المحك دائمًا، تلقائية الإقبال على الحياة، الراهن المشوب بلوعة الماضي.
في عام 1992، وكنت في عمان حينذاك، اتصل بي د. أحمد الكراعين، يدعوني إلى غداء يقيمه لأعضاء قسم اللغة العربية في جامعة فيلادلفيا التي عاد إليها بعد انتهاء عمله في مركز اللغات بجامعة صنعاء . ونحن على الغداء حدثت صدفة غريبة، إذ تبين أن أحد أعضاء الهيئة التدريسية لم يلتحق بالقسم، وبينما السنة الدراسية على الأبواب. وبناء على ذلك تم التعاقد معي للتدريس في القسم. تم كل شيء في غضون أسبوع لا غير: قرار القسم، والعمادة، وموافقة الجامعة، ثم صدور الموافقات الأمنية بعون مشهود من بعض الأصدقاء هناك .
عدت إلى صنعاء، قبل بداية العام الدراسي، لترتيب أمور الانفكاك من الجامعة. ما إن وصلت صنعاء حتى حدث ما كنت أخشاه: ليلة من التردد لا توصف. وكلما اقتربت لحظة القرار الأخير أخذني فيض من الحنين إلى صنعاء وأنا ما أزال فيها. وفي الصباح كان الاكتشاف المحير: لم أجد من إغراءات عمّان، وامتيازات الراتب والإقامة، ومبنى فيلادلفيا الموزع على التلال. لم أجد من ذلك كله، إلا يدين فارغتين، وروحًا لا ترتضي بديلًا عن صنعاء، وصحبة المقالح التي تعادل قبيلة من الأصدقاء.
ثمة لحظة أخرى سأظل أذكرها بالكثير من الإكبار، كانت استثنائية في مكنونها الإنساني، ومتعالية على حسابات الأرض وقيود المسؤولية، وقد لا يرتقي إليها من رؤساء الجامعات إلا من كان محلقًا في شمائل بالغة الندرة. أخبرت الدكتور المقالح أن لديَّ فرصة للعمل في جامعة عربية، وعليّ السفر إلى هناك لغرض المقابلة. كانت لحظة فريدة من نوعها: ميراث من الصداقة كان على المحك. أين يقع التفريط بتلك المودات في لحظة كهذه؟ في العطاء أم في المنع؟ في التخلي عن أحد أطرافها أم في التشبث المستميت به؟
فاضت نظراته بفرح لا يصدق، وعلى طريقته المعهودة في اختصار الكلام والسكوت الدال، عبر معي لحظاتٍ من الانفعال كانت تتناثر على أرجاء حضوره المهيب: حين صافحته خارجًا من مكتبه، كانت عيناه مشرقتين ببهجة غامرة، لكنها مشوبة بطيف من الأسى الرفيع، وكأنهما تقولان: اذهب للمقابلة وعدْ منها كأنك شاركت في ندوة كعادتك.
في مدينة العين، وقبل موعد المقابلة بساعتين تقريبًا، كنت على الغداء مع الدكتور إبراهيم السعافين، قال لي قبل أن ينصرف:
“ستكون المنافسة على وظيفةٍ للتدريس في الانتساب المُوَجّه”. كنت أسمع عن هذه الوظيفة. وكنت أجدها عملًا مجهدًا، ويفتقر إلى الجاذبية ربما. كما أن من يتولاه، لا يحسب، عادة، على كادر الجامعة المقيمين في العين . بل يتحتم عليه الانتقال بين مراكز الانتساب الموجه في المدن الأخرى، ممن فاتهم إكمال دراساتهم الجامعية والتحقوا بالعمل في مؤسسات الدولة. كان في ظني أن المقابلة ستكون لحسم المنافسة على وظيفة تدريسية في القسم لا في الانتساب الموجّه. بدأت صنعاء، في تلك اللحظة، تغمرني بالكثير من عناصر الحنين . وكان المقالح بصحبته الرفيعة ونبله الصافي أول تلك العناصر وأكثرها بهاء ..
أدرك د. السعافين برهافته العالية، ما أنا فيه تلك اللحظة، فهوّن عليّ الأمر بنبله وخفة روحه. ذهبنا إلى المقابلة، وقد تركت في فندق الجامعة مجموعاتي الشعرية وكتبي ومزاجي الذي قد يكسبني تفهم اللجنة وتفاعلها.
كانت لجنة المقابلة تتكون من أهم القيادات الأكاديمية والإدارية العليا في الجامعة، مدير الجامعة ونائبه، الأمين العام للجامعة، عميد كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، ود.أبراهيم السعافين، رئيس قسم اللغة العربية وصديقي المميز. كان سؤال اللجنة مفاجئًا بكل المعاني:
-” لماذا قررت أن تترك جامعة صنعاء ؟ ”
أحسست لحظتها أن ضوءًا قويًا وشريفًا يزهر في أقاصي الذاكرة، بدا لي المقالح مغتبطًا بما أنا مقبل على قوله أو عمله في تلك اللحظة الوجدانية والأكاديمية الفريدة. حدثت اللجنة، صادقًا، عما كان يربطني باليمن من أواصر ثقافية وأكاديمية وإنسانية، وعما كنت أحظى به من مكانة في جامعة صنعاء، طلبة وأساتذة ومسؤولين، طوال عملي فيها لسِت سنوات، غير أنني كنت أسعى، من خلال التحاقي بجامعة الإمارات، إلى خبرة أكاديمية مضافة، وبيئة علمية مختلفة. ويبدو لي أن إجابتي تلك كانت بداية موفقة للحديث.
وهكذا سارت المقابلة بسلاسة واسترخاء، أفصحت اللجنة فيها عن تفاعل إنساني كبير، خاصة وأنني من أوائل العراقيين الذين يلتحقون بجامعة الإمارات، بعد قطيعة خليجية شاملة مع العراق منذ دخوله الكويت في 1990.
في المساء كنت في انتظار الدكتور السعافين. فاجأني بعبارته التي قلبت مزاجي كله: – “لقد قررت اللجنة بالإجماع استقطابك لتبقى في مقر الجامعة، في مدينة العين، وسيتم اختيار مرشحٍ آخر للانتساب الموجه”، ثم أكمل بعبارةٍ لا أدري إن كان يقولها عن نفسه، أم عن لجنة المقابلة ” :
-” فليس من السهل دائمًا أن يجتمع أكاديميٌّ وشاعرٌ في إنسانٍ واحد “.
كان فرحي كبيرًا بقرار اللجنة، غير أنه، ويا لها من مفارقة كبيرة، فرح جارح، يقربني أكثر من أي وقت مضى، من لحظة نفسية بالغة التعقيد، فيها الكثير من قسوة الفراق الوشيك لصنعاء، وفيها الكثير من أحزان الصداقات الرفيعة.
قد تتعارض وظيفة الشاعر أوالكاتب، أحيانًا، مع مزاجه ولحظات لقائه بذاته. وكثيرًا ما يحدث، أن رئيس جامعة أو مؤسسة ما، لا يعرف ربما أن بين العاملين لديه، شاعرًا مهمًا أوكاتبًا مميزًا، فهو يرى العاملين لديه، في الغالب، باعتبارهم موظفين، مجرد موظفين، وملفات وأرقام . ولحسن الحظ أن هذه الحقيقة المرة لا تستبد بذاكرتي حتى النهاية، فهناك ما يقابلها، ويمحو بشاعتها، كهذا المشهد الذي يفيض عطاءً وأريحية: قبل مغادرتي صنعاء إلى جامعة الإمارات، كان المقالح يقف في حفل التوديع الذي ضم الصديق د. سعيد الزبيدي أيضًا . كان يتأبط ذراع المتنبي مرددًا معه بيته الشهير:
يا من يعـزُّ علينا أن نفارقَهـم
وجدانُنا كلَّ شيءٍ بعدكم عـدمُ
النقـدُ مرآةً للـذات
تعكس جهود د. عبد العزيز المقالح النقدية، كما تعكس مرآة شديدة النقاء، أبعاد شخصيته، وثقافته الموسوعية، وطبيعة اهتماماته المتعددة . لذلك يمكنني اعتبار تلك الجهود معادلًا موضوعيًا لشخصيته الفريدة في سلوكها الذي اتسم دائمًا بالوعي، والثقافة الواسعة، وتنوع الاهتمامات والانتماء العميق لليمن وللأمة . كما تميز بالانتماء لحداثة يشكل التراث عصبها المرهف. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، كانت شخصيته مزيجًا باهرًا من سجايا البشر المنذورين لمكارم الأخلاق: الحياء، والمحبة، والإيثار، والموضوعية والإنصاف، وتواضع الكبار.
ربما كانت الموسوعية هي أكثر الصفات بروزًا في الجهد النقدي للمقالح، فهو لم يكن من سجناء المنهج الواحد والوحيد، ولم يكن من سجناء التخصص النقدي الضيق . لقد توسعت جهوده على خارطة شديدة الاتساع والتنوع، وكان العمق والشمولية هما المهيمنين اللذين لا نجد لهما، ربما، مثيلاً في النقد العربي : من الشعر المعاصر في اليمن، إلى شعره العامية، ومن أزمة القصيدة الجديدة إلى كتب الزيدية والمعتزلة، ومن عمالقة عند مطلع القرن إلى دراسات عن الأدب والطفل العربي. ومن أوليات المسرح في اليمن إلى صدمة الحجارة، ومن الأنين إلى الثورة، ومن البيت إلى القصيدة .. أمثلة شديدة الاختصار على هذا التنوع المدهش في مسار نقدي غني. ولا يقف هذا التنوع والغنى عند كتبه النقدية، فالمقالح مقاليٌّ مميز، يمتد ظله الجميل على الصحافة في العديد من الأقطار العربية.
الافتتان بالجمال وصنّاعه
أعرف كما يعرف الكثيرون أن مشهدنا النقدي يحفل بالكثير من النقاد الذاهبين إلى الأعالي في النضج والرؤيا وتفكيك النصوص والتقاط منطقها الداخلي، لكن لبعضهم نفوسًا محشوة بالشوك أحيانًا، فيقبلون على نصوص الآخرين بأنياب لا تعرف الرحمة ومخالب مسمومة، مدفوعين بالنوايا التي تعرقل الوعي، وتعطل الثقافة عن تجلياتها، وتفتقر إلى محبة الجمال ..
وسط هذه الأمثلة يبدو المقالح وكأنه من كوكب آخر، يضيء خارج الشلليات، وخارج الطوائف الأدبية، والملل والنحل الشعرية المتحزبة. لا ينتمي إلا لقبيلة من ضوء ولغة وعذاب، وقد ظلت كتاباته عابرة للأجيال دائمًا، ومتعالية على الانحيازات الشللية، كما كانت تتعالى على الانتماءات الفنية لأشكال القول الشعري المختلفة، وإذا كانت قصيدة النثر، أو القصيدة “الأجد”، كما يسميها المقالح، قد حظيت باهتمامه الكبير، فقد نالت قصيدة التفعيلة، أو القصيدة الجديدة وفق مصطلحه والقصيدة العمودية باهتمام نقدي واسع منه، فيه من الإنصاف والمحبة قدر ما فيه من عمق وانضباط منهجي .
هذا السلوك النقدي الذي لا يحتكم إلا لجمال النصوص ورسوخها في مرتقيات اللغة والرؤى المدهشة، يكاد يقف وحيدًا وسط سلوكيات نقدية أخرى لا تقدم أحيانًا براهينها الكافية على الإنصاف أو التحليل العارف ..
موسوعية الناقد الحميم
كانت شخصيته النقدية رصينة وشديدة الحميمية في آن معًا، وكانت تحظى باحترام النخبة من النقاد والشعراء. وقد استندت هذه الشخصية، في مكوناتها المعرفية والإجرائية، إلى استقلالها الكامل عن أية مؤثرات تقبل من خارج روحه، ولا تنطلق من تربة النص الشعري ومحفزاته النفسية والاجتماعية . وهكذا كان المتن النقدي للمقالح أصيلًا دائمًا، ومبرأً من الترديد المسفّ للمصطلحات الأجنبية، الذي يصل أحيانًا حد الرطانة النقدية والإرهاب المصطلحي. ومع ذلك فهو لم ينغلق دون ذلك التفاعل المعافى مع المقتربات الحديثة في تذوق النصوص وآليات تحليلها.
وفي مشهد نقدي لا يخلو من الارتباك والتنافر صار لبعض المناهج، لدى بعض النقاد، ما للوثن من سحر غامض مهيمن . حتى بدت متونهم النقدية كأنها سجلات للانفعال بالآخر لا للتفاعل معه، تغرق بالتشجيرات والمثلثات والمربعات والدوائر، إلى حد قد يتغرب فيه النص عن صاحبه أو صاحبته التي تؤويه.
في مثل هذه اللحظات كان د. عبد العزيز المقالح يصغي إلى ذائقةٍ صقلتها مصاحبة النصوص وأرهفتها الثقافة والاحتفاء بالجمال، ساعيًا إلى منهجية ديناميكية مرنة، تقوم على معادلة قد تبدو صعبة المنال، تتجاوز العبودية للمنهج الواحد كما لا تسقط في ترقيعية الجمع المنهجي المتعجل . ومن خلال ثقافته وذائقته العالية ووعيه المرهف بالتراث والحداثة معًا، استطاع عبد العزيز المقالح أن يعمق تلك المنهجية الحية التي تزداد سطوعًا وتماسكًا وخصوصية، مع كل إنجاز نقدي جديد يقدمه..