– 1 –
يكتظ المقهى بالناس
وأحزانُ الناس.
ويستأنس بالثرثرة المكرورة،
ليس دخاناً ما ترصده عيناك
لما يتصاعد من فنجان القهوة
أو فنجان الشاي
هذي آهات قلوبٍ
جرّحها زمنُ الخيبات
وألقاها في نار لا تبرد
كي تنسى وجع الذكرى
وشموس الحلم الغارب.
– 2 –
كان الغرباء يجيئون إلى المقهى
أفراداً وجماعات
لا يسألهم باب المقهى
من أين أتوا!
في المقهى تتلاقى الأجناس بلا وعدٍ مضروبٍ
وهنالك تخلو الذاتُ إلى الذات
ويخلو السادر في ملكوت العشق
يناجي طيفَ حبيبتهِ
والسادر في ملكوت الحزن
يواري أشباح مرارته
في الثرثرة الجوفاءِ وفنجان القهوةْ.
– 3 –
كان المقهى بيتاً
لا تتنهد فيه الشمس
إذا غام الأفق،
ولا يشكو الليلُ الغربةَ فيه،
وحين يعضّ البردُ نجومَ سماءِ الدنيا
تهبط من أعلى
تحدوها رائحةُ البن ونارُ المقهى
تأخَذ زاويةً فيه
وتذهب في غبطة روحٍ ناعسةٍ
لتنام.
– 4 –
في ركن ناءٍ
من أركان المقهى
يجلس إنسانٌ عيناه مصوبتانِ
إلى داخلهِ،
هذا الإنسان هو الشاعر
يستقطر ماءَ الكلمات
ويبحث خلف المعنى
عن معنى
يعصر جدران المقهى
بحثاً عن كلماتٍ في الكلمات.
– 5 –
لم يعد المقهى شُرفةَ وقتٍ
يتدلّى منها الصبح
نقياً كالحب
نظيفاً كالضوء .
إذا ما جاء الليل
أضاءته أحاديثُ الروَّاد
وإن مرَّت بالقرب فتاةٌ
تخضْرّ عيونُ المقهى
ويسيل لعابُ الفتنةِ
في الأكوابْ.
– 6 –
يتذكّرني المقهى
يتذكّر وجهي
ووجوهَ كثيرٍ من رواد الأمس
إذا ما عادوا من غربتهم
يتهلل فرحاً
وينادي النادلَ:
هؤلاء ضيوفي
عادوا من غربتهم
واشتاقوا كأسَ الشاي
وفنجانَ القهوهْ.
– 7 –
شاخ المقهى،
صاحبهُ شاخ،
وشاخ النادل،
وكؤوس القهوة شاختْ،
مال الرواد إلى الصمت
وأعيُنهم شاختْ خلف محاجرها
ما عادت ترقب من يعبر
فوق رصيف الشارع
فَقدَ المقهى المتقاعد نكهته
وعلاقته بالناس وبالأشياءْ.
– 8 –
زمنُ المقهى
محفورٌ بالصدأ المتراكم
في وجه المرآةِ،
وفي ذاكرة الجدران
الناصلةِ اللون
وفي إبريق الشاي
وقد نخرتهُ
ألسنةُ النار.
ومحفورٌ -زمن المقهى- في حشرجة الباب الخشبي
المكسور.
– 9 –
هل يتشَظَّى المقهى
والحارةُ
ساعة يتشظى الروح
ويغدو الوطن الواحد
أشلاءً وشظايا؟
ذاك سؤال اللحظة
تنصبه الريح العمياء
على أعواد مصابيحٍ
لا نورَ بها،
فتعال، ووَفّر بعضاً من حزنك
للزمن الآتي.
– 10 –
يالِلِه!
ما أشبهنا بالمقهى
نكتظ،
نثرثر،
يرسو في مرفانا العشرات
من الأصحاب،
ولا نتعب من حرب الكلمات
ولا يضجرنا البحث الخائب
عن ياقوت الأيام.
وحين يغادرنا قمرُ الألفةِ.
نَضْوي، نخبو،
تتصدّع أركان الروح
كما تتصدّع
جدران المقهى.
عبدالعزيز المقالح