يُعاب على الأدب العربي تقصيره في مجال روايات الخيال العلمي ! أو روايات الخيال بشكل عام ! لكن السبب الواضح برأيي أن الأدب الحقيقي الذي يكتبه الأديب العربي هو أدب السجون ، خاصة رواية توثيقية وتتمتع بدرجة عالية من سلاسة الأسلوب وعمق المشاعر الإنسانية وملامسة شُغاف القلب لدرجة تشعر أنه لا يوجد فرق يُذكر بين الحياة داخل السجن وخارجه ، فالوطن سجن كبير في غياب الحُرية والكرامة . ورغم كثرة الروايات العربية التي تحدثت عن السجون فإن رواية مُفيد نجم تُشبه القصيدة ، هذا هو الانطباع الذي تركته في نفسي –وأزعم في نفوس كثيرين – لأنها تتمتع بشفافية عالية في الغوص عميقا” في النفس البشرية وبصدق عفوي يعتمد المُباشره في تحليل المشاعر والأفكار مُبتعدا” عن الفذلكات الكلامية والنظريات الجامدة .
لفتتني عبارة في منتصف الرواية أحب أن أبدأ بها تحليل رواية أجنحة في زنزانة والتي يحكي فيها مفيد نجم عن تجربته في عدة سجون سورية منذ عام1982ولمدة ثلاثة عشر عاما” ، يقول : ( الغريب أن تصفية النظام الواسعة لقوى المُعارضة له على اختلاف درجات مواقفها منه ، كان يُقابلها تواطؤ وصمت دولي على تلك الممارسات القمعية وعمليات الانتهاك المنظمة للحريات والقضاء على الحياة السياسية في سوريا )
ومن لحظة اعتقال بطل الرواية ( مفيد نجم ) يدخل في طور جديد من التحول إذ يصبح اسمه الرقم 13 وأصبح الرقم علامة وجوده الوحيدة ، تحول إلى مجرد ظل عابر لوجود عابر ، ورغم أن رواية أجنحة في زنزانة تشترك مع غيرها من أدب السجون في وصف وحشية عمليات التعذيب والتحقيق وتنفيذ أحكام الإعدام ، إلا أن مفيد نجم يصور معاناة الإنسان من الداخل الأكثر عمقا” في النفس البشرية فيشعر أن الزمن أصبح أشبه بطاحونة تلوك عمره وأعمار السجناء ، يصف عمليات التعذيب الرهيبة في السجون السورية التي تنقل بها ( كنت بعد كل حفلة تعذيب كمن يتهاوى في عماء كلي ، من طبقة إلى أخرى بخفة عجيبة ، دون أن يكون ثمة تخوم أو قرار ، كنت أشبه بأعمى تتقاذفه أمواج الظلمة في عالم من الظلام ، لا أحس بشيء ولا أعي شيء) . حياة المُعتقل داخل السجن لا قيمة لها فالتجويع سياسة يتبعها السجان وانعدام وسائل النظافة وما تجر إليه من أوبئة وأمراض وخاصة الجرب ، وإنعدام الخصوصية حبث تنحشر الأجساد متراصة بعضها لصق بعض لدرجة يتناوب السجناء على النوم أرضا” وثمة سجناء آخرون يقضون الليل واقفين لانعدام المساحة ، كان السجناء يتنفسون الهواء الخارج من رئاتهم ، وكل شيء يعمل إلى تحقير إنسانيتهم وكرامتهم وتحويلهم إلى أشياء يُراد لها أن تفقد كل شعور بالهوية والقيمة الإنسانية ، أمام هذا اللامعقول من الوحشية والانتهاك لكرامة السجين يجد السجين نفسه مُرغما” على التكيف معه ، وبعض السجناء جنوا وفقدوا قدراتهم العقلية على المحاكمة ولم يتمتعوا بالمتانة النفسية لتحمل هكذا ظروف وحشية القسوة ، لكن يبقى العامل الحاسم للتحمل هو مدى إيمان المُعتقل بالأفكار والمبادئ العليا التي وهب نفسه لها .
يصف مفيد نجم معاناته في سجن المزة العسكري ، حيث يستقبلون المساجين بحفلات تعذيب مروعة ويحشرونهم في أقبية مظلمة تعج بالجرذان وتقفز الجرذان ليلا” على رؤوس السجناء ، وتظهر بقع مُخضرة على أجسادهم بسبب القذارة والحاجة للاستحمام بالماء والصابون ، والمُروع أن الأحكام غالبا” ما تكون جاهزة للسجين ومهمة المحكمة استكمال الإجراءات الشكلية ، فلم يكن القاضي يسأل المُتهم أي سؤال بل يكتفي بالشتائم ويقول للسجين : روح يا رقم فلان إما إعدام أو مؤبد أو لن ترى الشمس ثانية . ويُعتبر سجن المزة خاصاً باللبنانيين أيضا” ويذكر الكاتب السجين عقل قربان اللبناني الذي أصيب بالجنون بسبب تهديم شخصيته نفسيا” ومعنويا” ، وكيف تم إعدام العديد من المُنتمين إلى حزب البعث الموالي للعراق لأن النظام يرى فيهم الخطر الثاني بعد تنظيم الإخوان المسلمين ، وقد تم إعدام جوزيف جوابرة ، وحنا عيد ،وعيسى جوابرة وهم من المسيحيين من محافظة درعا ، يقول نجم : كان باب الزنزانة هو الحد الفاصل بين الحياة والموت .
ويصف ما يُسمى الطاحونة وهي طاحونة الموت التي تقع خلف مبنى الإذاعة والتلفزيون والتي سيطرت عليها سرايا الدفاع وفيها تتم أفظع عمليات التعذيب والإعدامات كما لو أن النظام قد قرر أن يجعل من المُعتقلين درسا” قاسيا” لباقي السوريين ، فلم يكن يعنيه من هو بريء أو غير بريء ولا مُستعدا” للتدقيق في وضع السجناء لأن غايته تركيع السوريين لزمن طويل .
والفكرة الذكية والتي لا يبلغها إلا متعمق في النفس البشرية هي أن العديد من السجناء كانوا يلجأون إلى التعبد والصلاة حتى لو لم يكونوا مؤمنين ، لأن هول التعذيب والتجويع والمعاناة وكبت الغرائز وكل الممارسات التي تهدف لتحطيم كرامة الإنسان تجعله يلجأ لقوة عليا علها تنقذه من الجحيم ، يقول نجم ( عبرنا تلك السنوات الطويلة في السجون بأرواح ممزقة وعارية وحياة مُنتهكة ، ونفوس تختنق بالألم والعذاب والقهر والسأم ، وسط تلك الحالة المُريعة من الموات التي كان الزمن أشبه ببحيرة راكدة لا ضفاف لها ) .
لكن الإنسان يملك دوما” طرقا” للهروب من الواقع ولتعزية نفسه ، كان نجم يجد في الخيال محرره من واقع السجن فيطلق خياله إلى تخيل مدينة دمشق التي يعشقها ، وذات يوم يرى من كوة السجن رجلا” يصعد حافلة فيزقزق قلبه فرحا” ويتمنى لو يكون ذلك الرجل ويحاول تخيل مشاعره . الشارع هو حلم مستحيل للسجين ! المرأة أيضا” كم هو لا إنساني وصعب مقاومة ذلك الشغف للمرأة للصدر الحنون وللرغبة . السجن يمسخ الإنسان ، سواء كان هذا الإنسان داخل السجن أم خارجه ، لأن القبضة الأمنية تجعل المجتمع بأكمله بحالة ذعر ، بحالة استنفار كما لو أن كل مواطن ينتظر تهمة ما تسقط عليه كيفما اتفق ، ولا يهم التدقيق ببراءته أو جرمه ، فالمهم أن تكون رقبتك في قبضة الأمن . وفي هكذا أنظمة استبدادية الكل يراقب الكل فيمكن لرئيس فرع الأمن أن يكبس زر الأنترفون ويتلصص على التحقيق الذي يُجريه الضابط مع السجين . الكل يُراقب الكل ، ولا أحد يثق بأحد .
وأخيرا” أحب أن أختم بعبارة وردت في رواية مفيد نجم ( أجنحة في زنزانة ) حين يصف المحققين والجلادين : كنت أحاول أن أفهم كيف يُمكن للنفس الإنسانية أن تختزن كل هذا الدافع للعنف . شخصية تعيش ازدواجيتها دون أن تشعر بالعار ، بل تُضفي على دورها قيمة وطنية ، وأعماقها فارغة من أي حس إنساني وأخلاقي .
أجنحة في زنزانة ليست رواية السجون السورية فحسب بل هي رواية كل السجون التي تنتهك وتدمر حرية الإنسان وكرامته وهي رواية المواطن الذي يمكن أن يتحول بلحظة من السجن الكبير بمساحة وطن إلى قبو التعذيب . بتهمة أو بدون تهمة .
————-
هيفا بيطار