أذكر ليلتها أن الدمعة قفزت من عينيك كالشهقة، فساح الملح في البحر، هذا البحر الممتلئ بالتفاصيل وبالكائنات وبالأشياء؛ يالروحي النائحة على شاهدتها المائلة ! عرق روحك ظل ملتبسا بوجعي الأزلي مشروعان للحزن جسدانا المرتجفتان لذة ورهبة,كانا اشبه بقول بجارثيلاسو: «أغناما ترعى الكلأ بينما الروح تزفر أنفاسها»
ماءُ الوجد. التباسات..
بدءا أنها ليست قراءة نقدية، ولا تنشد ذلك، بقدر ما تسعى للتنويه بكتاب أجد أنه لم يأخذ حظه من الاهتمام رغم ثراء مفرداته وجمالياته الواضحة..
التباسات مجموعة نصوص تتداخل فيها الأجناس الأدبية. وان كنت أراه طافحا بالصور الشعرية ومغرقا في تفاصيلها وهذا مارآه القاص الخطاب المزروعي أن شعرنة النص ليس تهمة ولا عيبا سرديا بل هي ما يسمو إليها القاص إن شعرنة النص القصصي هي الإتيان بالصورة في أجمل تراكيبها ولغة عذبة سلسة وحدث لا نتوقعها هي الدهشة هي القبض على تلابيب المتلقي من أول كلمة. إن شعرنة لغة النص القصصي قد تؤذي الحدث أكثر من أن تضفي شيئا. وأنا أوافقه تماما بهذه النقطة. سلك الخطاب طريقا مختلفا تماما عن اA269;خرين, الغياب المكثف باA269;حزان, ليل الحب, ليل الموت, السفر البعيد المتصاعد من روح ثائرة , A275; تصدأ وA275; تنطفىء, بل تظل متوترة ومنكسرة, مغتربة لA272;بد, إنها حالة فريدة من الضياع الشرس, حيث يكون المرء متلبسا باA271;ضداد، الصمت والفوضى, الحضور والغياب, المرئي والبعيد. ما يميز بنية النص في مجموعة (التباسات) للقاص الخطاب المزروعي انها بنية لا تخضع لضرورات المرجعية السائدة في كتابة الشعر،بقدر ما تخضع لوعي القاص ونظمه الابداعي في توجيه السلوك نحو غايات متعالية, فاعلة ومهمة في إعادة نصاب الأشياء وصياغة الوقائع بشكل ينساب مع الوعي وإنهاء سفر الذات في عوالمه الكائنة في عالم من الرُؤى يمتزج فيها الواقع بالخيال. كان الخطاب بارعاً في إلغاء المسافة بين النص والحياة واختياره للبصمة الشعرية ولكن بدون أن تبدو تلك الآليات فاقعة أو ناتئة في سياق القراءات، فذاته الرهيفة الهشة عاطفياً تذوب بين الكلمات ولا تطفو أناه بأي معنى من المعاني على سطح النص. وهذه سمة من سمات الكائن القادر على المكاشفة واستجلاء أغوار نفسه من خلال اللغة، فهو لا يخاف من الألم، بل يعيد عجنه وتشكيله في لغة حد التهور. إنه كاتب أحاسيس لا موضوعات. والكتابة تعني بالنسبة له حالة من حالات توسيع الذات وإفساح المدى لها للحضور والتمثّل. والسر على ما أعتقد يكمن في كون الذات المصعوقة بمفارقات الوجود، كما يمثل وديع بعض تجلياتها، تتوحد مع الألم داخل الكتابة. إنه لا يكتب لكي يتطهر، بل يدلل بمفردات (العبور والعدم والنسيان والغياب) التي هي بمثابة أيقوناته اللفظية على اعتناقه حرفية اللغة لكي لا ينسى، وأحياناً يستدعي ذاته ويمكِّثها. إنه يكتب لكي لا يكون مجرد شيء، وهنا مكمن الأثر في نصه فمن يقرأ اشاراته وصوره السريالية يصاب به حتماً، ولا يجد تلك الغرائبية المتأتية من الألعاب اللغوية المعتادة في النصوص الحديثة بل حميمية هي عصب نصه وحياته. فالغياب ليست مجرد مفردة. بل هي رضّة وجودية تتولّد عنها فلسفة جمالية. تجليات الغياب وهي تحضر في الغالب كتجريدات وفضاءات محروثة بالكلام والتوصيفات بدون التنويع عليها. وهي لا تهيمن على كليانيّة النص ومناخاته بالمعنى الفلسفي، إنما كوقائع. المفردات، حيث عبر تجربة انعدام المعنى، وأفول المتعالي بمخاطبة الذات المطلقة بعبارات دالة حتى صار يماهي الغياب بالعدم، كما تشير مسكوكاته اللفظية، وهو ما يعرف نقدياً بالقيمة المهيمنة، أو الخلية المفسّرة، وهو الأمر الذي يفسر أيضاً افتتانه بمفردة الغياب والتنويع عليها كتعويذة في أغلب النصوص، وتعليقها حتى كلافتة على صدر النص/ المجموعة (ماء ُ الوجد) مثلاً. متأتية كحِلية فنية من جدل يشبه شطحة ابن عربي عن الحضور الجلي للذات من خلال مراودات تغييبها، وهو ما يعني أن (الغياب) ليس مجرد مفردة للتعبير عن لوعة أو حرقة أو يأس، إنها علامة بالمعنى السيميائي على خوف الذات من الوجود الخاوي المجوّف، وتعني بتكراريتها، وكثرة الطرق عليها حالة من التعنيف الإيجابي للذات وطمأنتها في آن، حيث تحيل على الدوام إلى ذات صامتة، مبهوتة، مفتونة بالبياض، موعودة بالتلاشي والإقامة على سطحية العدم. دوما تؤكد أن النص لا بد أن يشبه مبدعه.. هل نص الخطاب يشبهه؟ تمام الشبه، فليس ثمة اغتراب فني أو نفسي بينه كمبدع وبين نصه.
(مُري بإتجاه الساعة لتبقيني, لا تقفزي على قلبي ؛ولا منه، كوني وسادته التي يبقى بها، لأجل ذلك صنع الحجر ماء رقراقاً يحيي الموات، ويبقي الزنبق.انكفئ علي قبل الظلام، قبل أن تمر البومات وتذهب بأصابعي. لا شيء غير اللا شيء. أحبيني قليلاً بفرشاة جنوني التي تنبثق كل صباح، عندما تكون بوهيمية/مجنونة/ نزقة ولاتنتمي إلى أحد.لا تأسفي على شيء كان منسياً، أميطي حجابك الحجري، لتشمي الياسمين؛ وهو يخرج )
ولا يوجد انفصال بين الذات وبين موضوعه الشعري.فهو ينسرد شعراً. وينكتب كسيرة. فالأصوات بالنسبة له، وحسب قوله، تولد للغناء لا للصراخ، للنشيد لا للحشرجة. ومن يقرأ نصه يجده مسكوناً بالآهات والحشرجات. يكتب ككائن يتأوه قبالتك، بدون أدنى إحساس يشي بكون المشاعر عورة ينبغي مواراتها، فلنصه سمة (الحدوث) بمعنى أن النص عنده يتشكل بانفعالات أفقية تبين عن ذات طازجة شعورياً تحدث في الآن واللحظة، حتى مفرداته لا يبدو أنها من ذلك النوع الذي يقف طويلاً أمام المرايا. إنها دفقة الذات المتألمة والحالمة بالخلاص الجمعي عبر الفردي. وهنا يكمن سر لغته الكثيفة وعبارته الرمادية التي تحيل إلى خفة شعورية يصعب تزوير الإيقاع الذي يضبط هسيسها، أو إهدار نظام علاقاتها داخل نص مدبر. أظنه يحقق في نصه معادلة الجمال اللفظي المبسوط كرداء حسي على جوهر المعاني المخبأ في المفردات. هذه المنادمة للخطاب هل أعادته إلى الشعر بعد الجدل مع السرد؟ ربما أعادته إلى منطقة حيوية وجاذبة من الشعر، وساعده على الانحياز أكثر إلى جوهر الشعر هرباً مما يشبهه أو يتشبّه به، لأن الشعر مجرّة حسّية لا يمكن الفرار من تأثيراتها، وشعرية الوجود قدر لا تنوجد في النص وحسب، بل في كل تجليات الحياة. نصوص الخطاب محرضة، وهو يحفز الخطاب النقدي الذي لا يعترف بالمسافة بين النص والحياة بل يوحدهما من خلال القراءة (عبر- نصية) تتخذ من النص منطلقاً إلى قلب الحياة، وبالمقابل ترتد إلى الحياة من خلال النص. وأعتقد أن تجربته جديرة بقراءات متنوعة تتخطى الإشتباك بمعمارية النص وجمالياته إلى التماس مع مظهر من مظاهر الذات الإنسانية المفجوعة بمآلها حيث يتموضع فوق المشتبهات الأيديولوجية والفئوية والتنميطات الفنية الفارغة. هذه البصمة الشعرية المتفردة للخطاب هي بالفعل ما أغراني بمقاربتة، من خلال مقروئية بقدر ما تهبني متعة التلذذ بنصه الشعري، تعبر بي كقارئة إلى التحاور مع ذاته الشعرية المتكلمة، أي معه كإنسان من خلال حوار بين وعيَيْن أو انفعاليْن. هناك أمران حدثا في الشعر والرواية عندنا، وربما عند غيرنا. فقد تغير شكل الشعر وتغيرت صورته واجراءاته اللغوية والكتابية منذ وقت طويل، تحديداً منذ مجيء قصيدة النثر، كما أن الرواية راحت توسع حدودها وتنأى عن كونها وعاء حكائياً فقط. هذا يعني أن القصيدة اقتربت، مع مجيء قصيدة النثر تحديداً، من السرد والقص كما أن الرواية، الحديثة خصوصا، مالت الى فعل الكتابة من ميلها السابق الى الحكاية أو الحدوتة. وفي فعل الكتابة يمكن توقع الشعر والمعرفة والتواريخ الصغيرة والتأمل في مصائر الانسان في زمن استفحال القوة والمال والتكنولوجيا والحروب..
___________________________________________
– التباسات مجموعة نصوص صدرت عن وزارة التراث والثقافة في سلطنة عمان عام 2007م. والطبعة الثانية صدرت عن دار الغشام هذا العام.