أتذكر أنني في صغري كنت أحسب كل الفنانين مشاهير.
أتذكر أنني بلغت من الصغر أن تصورت يوما الفنانين كلهم خيّرين طيّبين محبين مثيرين للاهتمام، وبشرا كما ينبغي أن يكون البشر.
أتذكر ـ ولا بد أنني كنت في الثامنة أو التاسعة ـ سيري على أرض فنائنا الخلفي الخالي من العشب في بيت كنا قد أقمناه في الضاحية حديثا فرأيت مدى صلابة الأرض والشقوق تظهر فيها مربعات معوجّة وأشكالا أخرى، وشعرت أني ناظرة إلى خريطة فهزَّني ذلك الوصف، وكان ذلك أول عهدي بالاستعارة، فاستغربت واضطربت وهرعت إلى الداخل أكتبه: الأرض المشقّقة خريطة. وبرغم أنني لا أحتاج وقتا يذكر لأحكي الحكاية، وبرغم أنها تكاد تخلو من أي سبب للإثارة، فقد ملأت لي لحظة كبيرة من الزمن، بدت فراغا هائلا دائم الاتساع مؤلفا من لحظة واحدة، قطعة من الزمن كبيرة لم تكفّ منذ ذلك الحين عن التوسع، ولم تزل حياتي كلها منطوية فيها.
أتذكر أني كتبت رسالة إلى الرئيس جون إف كينيدي وبعد أسابيع قليلة من إرسالها عثرت عليها في قاع درج أمي.
أتذكر أني بعثت قصائدي إلى دار ليتل براون آند كمباني مقترحة عليهم أن يعنونوها بـ”دفتر الشعر الذهبي” وأتذكر أن اعتذارهم عن عدم النشر كان في غاية الطيبة وأنني ذهلت من صواب تخمينهم لعمري، وكنت في الصف الرابع، وشعرت أن الناس في ليتل براون آند كمباني شديدو الذكاء قادرون على قراءة الأفكار.
أتذكر أن اختياري وقع على ليتل براون آند كمباني لسبب خاص: هو أنهم كانوا ينشرون لكاتبتي المفضلة لورا إنجولز وايلدر صاحبة كتب “بيت البراري الصغير” (وكان هذا قبل زمان من المسلسل التلفزيوني). وبرغم إرسال ليتل براون آند كمباني رسالة شديدة الرقة، وبرغم أنهم خمنوا عمري، فقد فعلوا كذلك ما لن أسامحهم عليه أبدا، فعلوا ما أحزنني أياما وأسابيع وشهورا. بعثوا لي صورة لورا إنجولز وايلدر وهي عجوز في التسعين، وقالوا لي إنها ماتت، وإن أمها وأباها وأخواتها ماتوا جميعا، وإن زوجها، بابا، وهو أحب الشخصيات إليّ، قد مات أيضا في حادثة تسببت فيها آلة الحصاد، وكانوا على هذا القدر من التحديد فأمكنني أن أبني الصورة بالغة الوضوح في خيالي، بجسده مرتديا مئزر الشغل، والقبعة واقعة، وبعض الدم على الأرض، وآلة الحصاد معطلة في شمس منتصف النهار، وقد انبعجت إحدى عجلاتها، أو انكسرت فيها عارضة أو ترس، وذراع هنا أو ساق هناك، وقد وقع المشهد كله في مركز أميال تلو أميال وأميال ـ وإلى آخر ما تبلغه الأبصار ـ من حقول القمح الذهبية الجميلة، وقد تساوت أطوالها جميعا، كأنها شعر محلوق.
أتذكر أنني لم أكن أعرف يقينا كيف هو شكل آلة الحصاد.
أتذكر أنهم قالوا برغم أن بابا مات، فإن كمنجته في متحف من المتاحف، وإن شخصا يخرجها كلَّ سنة من علبتها ويعزف عليها. أتذكر أنني أشفقت على الكمنجة، وتصوَّرت كم هي موحشة حياتها تلك، في متحف.
أتذكر وأنا في الصف الخامس أن جدي مات فكانت أول جنازة في حياتي وأتذكر لما امتلأت الردهة بالناس أنني سألت جدتي إن كان جدي سيبقى وحده هكذا في الليل فقالت نعم وفكرت أن ذلك مخيف للغاية، أن يستلقي أحد في تابوت في مبنى فارغ، كأنه الكمنجة في علبتها.
أتذكر وأنا في الخامسة والأربعين أن أمي ماتت وانصب المطر انصبابا يوم دفناها وفي آخر الليل فكرت في جسمها وإلى أي مدى ينبغي أن يكون باردا، تحت المطر المثلج المنصب عليه، وكم كانت لتكره الوجود في البرد خارج البيت تحت المطر لو كانت حية. كانت لتحب أن تلتف بالبطاطين في سريرها في ليلة كتلك، وعلى الكمدينو المجاور فنجان قهوة، والقهوة فوق أول عمل فني نفذته وأنا في الخامسة من العمر، وهو حامل من السيراميك: بلاطة بيضاء مرسوم عليها وجهي بخطوط بنية. خمسة وأربعون عاما تحرق وجهي بفنجان قهوتها، ولكني لم أشأ أن أفكر في ذلك منذ موت أمي في حريق.
“أتذكر، أتذكر .. البيت الذي ولدت فيه” هما أول بيتين في قصيدة عنوانها “أتذكر، أتذكر” لشاعر غير شديد الشهرة يدعى توماس هود، وكانت في أول كتاب شعر امتلكته، وعنوانه “كنز الشعر الذهبي” من تحرير لويس أونترماير.
أتذكر أنني فكرت (لاحقا) كم هو أمر غريب أن تشتهر قصائد كثيرة للغاية لشعراء لم يحققوا شهرتها.
أتذكر أنني صدمت (لاحقا) حينما اكتشفت أن هود كان معاصرا لكيتس، وأنه أصغر منه بأربعة أعوام فقط، وكنت أتصور دائما أنه فكتوريّ متأخر، لأن معجمي الشاعرين مختلفان اختلافا ملموسا. مهما تنظر في هذا الأمر تروعْك المعاني الضمنية: إما أن هود الأصغر كان سابقا لزمنه، أو أن كيتس الأكبر (الملتوني) كان متخلفا عن زمانه. معنى هذا أن الشعر أكبر من معجمه.
أتذكر أنني أدركت الإحالة حينما قرأت نسخة فيليب لاركن من “أتذكر، أتذكر”. قصيدة لاركن هي الأخرى عنوانها “أتذكر، أتذكر”، وقطارها يتوقف في كوفنتري فيتذكر أنه ولد هناك. وآخر أبيات القصيدة “لا شيء ـ أو أي شيء ـ يحدث في أي مكان”.
أتذكر قصيدتي عن عيد الشكر، وتعليقها بالدبابيس على لوحة الإعلانات في المدرسة، حتى يراها الجميع، وقد وضعت حولها من كل اتجاه قصاصات من ورق برتقالي مقوى. كان مطلعها “نشكر الرب على أرض الحياة”.
أتذكر في المدرسة الثانوية فتاة اسمها ليزيت. سوداء الشعر شديدة بياض الوجه، ولأن أمها كانت فرنسية، فقد كانت غريبة بيننا، وازداد الأمر سوءا لأنها لم تكن متفوقة لكنها كانت شديدة التميز في الرسم وتحضر كل حصص الرسم وكنا نعمل معا في المجلة الأدبية وكنت أحبها كثيرا ولكني أخاف أن أصاحبها لأنها في نهاية المطاف غريبة وأعتقد أنني كنت أغار من ذلك بقدر ما أخافه، وكنا نلقي القصائد إحدانا على الأخرى حينما نجتمع، وبتلك الطريقة، بالشعر، كان التواصل بيننا آمنا.
أتذكر أنني تساءلت (بعد ذلك بكثير) عما كان من أمر ليزيت.
أتذكر صديقة أخرى في المدرسة الثانوية كانت أمها فنانة وكان بيتهم مليئا بالتماثيل ـ لبوذا وللحوريات ـ وبأثاث يبدو كأن عمره مئات السنين، وبلوحات على الجدار، وأن أمها كانت تمتلك شقة مستقلة تسميها الاستديو فيها أشكال من الصلصال المثبت على قواعد وفي أحد الأركان جرامافون [حاكي] قديم مكسور الذراع، وأنني كنت أحب التواجد هناك وأخافه في الوقت نفسه، كان يبدو أمرا محظورا بطريقة أو بأخرى، بطريقة لم أتمكن من فهمها، كان الفن مخيفا غريبا ممنوعا، والمربك في الأمر فعلا أنني كنت أريده وأحتاج إليه.
أتذكر عصر يوم كنت وصديقتي فيه داخل الاستديو وكل الأشكال الصلصالية على القواعد كانت مغطاة بالملاءات وقالت صديقتي إن ذلك ما تفعله أمها حينما لا تريد النظر إلى التماثيل وأنني احترت تماما.
أتذكر وقوفي في حقل بسويسرا عند الغروب، محاطة بالأبقار والأجراس معلقة في رقابها، قارئة “أنشودة العندليب” لجون كيتس بصوت عال من كتاب كنت أحمله بين يدي، وأتذكر أنني بدأت في النحيب ـ والنحيب مفردة تفضل البكاء ـ وأتذكر الدمع ينسال ببطء على خدي، وإلى ذلك الحد بدت لي جميلة، وإلى ذلك الحد كنت أحب الشعر. كنت في الثامنة عشرة.
أتذكر أني فكرت (لاحقا) كم كان عجيبا في واقع الأمر أن أقرأ الشعر للأبقار، وكيف أنها كانت جزءا أصيلا من لحظة بالغة الجدية في حياتي.
أتذكر في السنة الآخيرة من الإعدادي، وساقي في الجبس، وكنا في الصيف، وأنا مستلقية على أريكة في الطابق الأرضي حيث الجو لطيف، وحيث يوجد التلفزيون ومنضدة كي والغرفة التي تقيم فيها أختي حينما ترجع في إجازة الكلية، وأن أختي كانت تكوي، ودائما كانت تكوي أو تخيط أو تطهو وكان تخصصها هو التدبير المنزلي، وإزجاء للوقت أعطتني أحد كتبها الجامعية وكان كتاب قصائد للرومنتيكيين الإنجليز، ولا أتذكر شيئا آخر باستثناء أن حياتي تغيرت في ذلك الصيف. وإلى الأبد.
أتذكر حينما أنهيت الكلية أننا سئلنا بأي طريقة نريد أن تكتب أسماؤنا في الشهادات، وأنني كتبت اسمي الأوسط وهو Lorraine بهجاء مختلف هو Low Rain [اي مطر خفيف] لأنني قبل يوم كنت أقرأ لدبليو إس مروِن كتابا جديدا فيه شيء ياباني ما قصير للغاية وفي أحد أبياته “مطر خفيف، سقف يقع”.
أتذكر والديّ حينما رأيا الشهادة فارتاعا وظلا يسألان كيف أمكنني أن أفعل شيئا كذلك بعد كل ما دفعاه وأنفقاه على تعليمي.
أتذكر أنني عثرت على الشهادة وسط أوراق أمي بعدما ماتت فرميتها.
أتذكر أنني لم أحب يوما الاحتفاظ بشيء.
أتذكر أني احتفظت بكل شيء.
أتذكر عصر يوم جلست فيه داخل فصل الأدب، ومعي نسخة ذات غلاف مقوى من قصائد والاس ستيفنس الكاملة مفتوحة أمامي، وهو كتاب كنت أمتلكه بالفعل منذ سنين، فبليت صفحاته ولانت من فرط التقليب والتصفح، وامتلأت صفحاته بالهوامش والملاحظات ومعاني الكلمات والأسئلة وعلامات التعب والخطوط تحت الأبيات، المكتوبة كلها بالأسود الفاتح بقلمي الرصاص بيدي الحية، حينما انحنت زميلة شاردة لم أكن أعرفها على كتابي وكتبت فيه بقلمها الحبر: أنا في منتهى الضجر!!! هل ستذهبين الليلة الى الحفل؟ أتذكر أن دمي توقف وانعكس جريانه، لا في القلب حيث يفترض أن يحدث ذلك، بل في الوريد، ذلك الإحساس المعروف طبيا بـ الصدمة. أتذكر ارتعاشي من فرط الغضب، وأتذكر عطلة نهاية الأسبوع التالية للواقعة، وأنا جالسة لساعات تلو ساعات في غرفتي مع كتاب جديد، أحاول أن أنقل، أنقل بخط اليد كل ما كنت قد كتبته في الكتاب القديم، باستثناء ما يخص الضيفة الجريئة المؤسفة المقتحمة دونما دعوة.
أتذكر في الكلية، إذ أحاول أن أكتب قصيدة وأنا سكرانة، متصورة أنها أفضل ما كتبته في حياتي.
أتذكر أني قرأتها في الصباح فرميتها بطول ذراعي.
أتذكر أني فكرت، إذا كان دبليو إس مِرْون قادرا على ذلك، فلم لا أقدر أنا؟
أتذكر أنني قلت لنفسي، لأنه إله ولأنني وصيفة مكسورة الجرّة.
أتذكر أول قراءة شعرية ذهبت إليها، كنت في الكلية وكانت لدبليو إس مِرْون. جلس على مقعد أسفل مصباح وجلس الجمهور عند قدميه. كانت حول وجهه هالة متماوجة وبدا إلها بوجهه في بقعة النور. كان يرتدي بنطالا قصيرا من القطيفة الزرقاء، وقميصا أبيض متماوجا، وحذاء جلديا أصفر ـ أقرب في الحقيقة إلى شبشب ـ يرتفع حتى ركبتيه حيث طرفا بنطاله. مؤكد أن هذه ذكرى خيالية، مؤكد أنه لم يمتلك قط ثيابا كتلك.
أتذكر أن الندوة أعجبتني.
أتذكر أنني كنت صغيرة ويعجبني كل شيء.
أتذكر أن ندوات كثيرة أعجبتني، ولو حضرتها الآن لما أعجبتني.
أتذكر أنني استمعت إلى الشاعر الأسباني العظيم رفاييل ألبيرتي وهو يقرأ. كنت صغيرة فبدا لي مسنًّا للغاية، بشعره الأبيض المنسدل حتى كتفيه وبذلته البيضاء. صدمني أيضا أنه كان برفقة امرأة لم تبد أكبر مني كثيرا، ترتدي جيبة قصيرة للغية حتى ليرى سروالها وهي تمشي، وحذاء طويلا أبيض من البلاستيك كان يسمى أيامها حذاء جوجو. أتذكر شخصا كان يحمل قفص طيور فيه يمامة بيضاء، وإن أردتم الصدق، لعلي أكون اختلقت تلك التفصيلة في ذهني على مدار السنين، ربما لأؤكد لنفسي أنها كانت وتظل أغرب ندوة شعرية حضرتها. قرأ ألبيرتي قصائده بالأسبانية وقرأها مترجمه “بين بيليت” بالإنجليزية. بدا بين وقورا خجولا بادي التحفظ، يرتدي سترة من التويد وربطة عنق. أعطى ألبيرتي لبين مسدس صوت، كان يسمى مسدس العسكري ويصدر صوتا مدويا، وطلب من بين أن يطلق على رأسه طلقة حينما يشير له، وهذا ما حدث بالضبط: كان ألبيرتي يقرأ بالأسبانية، ثم توقف، ونظر إلى بين، فأطلق بين المسدس على رأسه وهو كاره. ولما بدأ بين يقرأ بالإنجليزية أخذ ألبيرتي يطلق المسدس على رأسه بين الحين والحين بحماس حقيقي. وشعرت أن ذلك درس عظيم من دروس الترجمة.
أتذكر أنني استمعت إلى جيمس ميرل وهو يقرأ في أغسطس داخل صومعة حبوب في فيرمونت. كان يرتدي بذلة بيضاء من الكتان ويقرأ لمجموعة صغيرة من الناس (لا تزيد عن عشرين) جالسا على كرسي معدني قابل للطي. أتذكر شعاعا من النور آتيا من شباك مفتوح وأنني قضيت الندوة كلها أتابع ذرات الغبار طافية فيه. وفي ما عدا ذلك لا شيء، لا شيء إلا تفصيلة واحدة، هي الذكرى التي تغلب كل ما عداها: سيارة مركونة بالخارج (أهي التي جاء فيها؟)، زجاجها الخلفي متسخ وقد كتب عليه باليونانية: امسحني. طالما أنبأتني غريزتي بأنه الذي كتبها، ويبقى ذلك الزجاج الخلفي ذكراي عن ميرل.
أتذكر أول ندوة حضرتها لآشبري، وأيضا في الكلية. كان آشبري يقرأ من كتابه الحديث “ثلاث قصائد” وقال إنه أشبه كثيرا بمشاهدة التلفزيون ـ فبوسعك أن تفتح الكتاب من حيث تشاء وتبدأ القراءة، وتتصفحه بقدر ما تشاء. أتذكر أنني كرهته لقوله ذلك. أتذكر أن عبارة تدنيس المقدس مرّت برأسي. أتذكر أن تلك الندوة لم تعجبني.
أتذكر قراءتي ثلاث قصائد بعد سنتين على منحدر عشبي بينما ثلاثة رجال في الجهة الأخرى من الطريق يقيمون سقفا جديدا لبيت قديم، وأنني كنت أحب أحدهم. كان بوسعي أن أشاهد الرجال يعملون وأنا أقرأ. أتذكر أن كل ما كنت أقرأه هو كل ما كان يحدث في الجهة الأخرى من الطريق، فكنت أقرأ قليلا، ثم أرفع رأسي، وأقرأ قليلا، وأرفع رأسي، يدمرني الإحساس بأن هذا الكتاب الصغير كتاب عن حياتي أنا في تلك اللحظة، كما كنت أعيشها بالضبط. أتذكر أنني أحببت الكتاب، وأن تلك كانت من أبقى تجارب حياتي القرائية في ذاكرتي.
أتذكر قراءتي المراثي لريلكه المرة تلو المرة إلى أن “نلت” منها، إلى أن انفجر بداخلي مثل طوفان، وأتذكر مرة أخرى بكائي، وبكائي، والكتاب بين يديّ.
أتذكر ندوة لـ دبليو إس مرون في كنيسة صغيرة والحاضرون جلوس في مقاعدها وأنا وقتا مضى فإذا بنا جميعا غارقون في سكتة الزمن ـ أعرف أن هذا ما حدث معي أنا ـ وبعد الندوة وبدء فقرة الأسئلة والأجوبة طرحت امرأة سؤالا غريبا، سألت كم الساعة، فنظر مِرون إلى ساعة الحائط (وكانت على الحائط ساعة) ورأينا جميعا كيف أنها توقفت في منتصف القراءة، دليلا حرفيا على ما كنت أشعر أنه حقيقي، ذلك الأمر المذهل، حلم الشعر كله، أن تشق ثقبا في الزمن.
أتذكر أنني كنت أريد الاستماع إلى آن كارسُن وهي تقرأ، لكنني كنت مريضة تماما وكان ينبغي أن أدخل المستشفى، فأرجأت دخولي إلى الصباح التالي، بعد أن أكون حضرت ندوتها. أتذكر أنني كنت بحاجة إلى توصيلة إلى المستشفى ولم يستطع أي من أصدقائي أن يقلني، لم يصطحبوني، إذ كان في البلدة كثير من مشاهير الشعراء، وأرادوا أن يحضروا ندواتهم جميعا. أتذكر أن ذلك أغضبني غضبا لا تسعه الكلمات، لكن ذلك في الوقت نفسه كان غبنا مني، فأنا نفسي أرجأت علاجي لما بعد ندوة.
أتذكر في السنة التالية لي بعد الكلية أنني أفلست وأرسل لي برنارد مالامود ـ وكان أستاذا لي ـ شيكا بخمسة وعشرين دولارا وطلب مني أن أشتري به طعاما وأنني ذهبت إلى وسط المدينة فاشتريت قصائد دبليو بي ييتس الكاملة.
أتذكر أن جون مور، وهو أستاذ آخر، فعل أعظم الأمور. كنا ندرس ييتس، وفي بداية إحدى الحصص سألنا مستر مور إن كنا نحب أن نرى صورة لييتس. فأطرقنا، ورفع هو صورة فوتغرافية التقطت لييتس وهو ابن ستة اشهر، طفلا صغيرا في رداء أبيض طويل. لعله كان أصغر من ذلك، لعله كان لا يزال رضيعا. رأيت أن ذلك أطرف ما كان يمكن لأحد أن يفعله، وأغربه، وأسخفه، وأكثره عبثية. لكن لم يضحك أحد، ولو أن مستر مور نفسه كان يرى الأمر ظريفا فذلك لم يظهر على وجهه. ولكنني ظللت أحب ذلك فيه. لم تكن القصائد التي درسناها في الفصل قصائد طفل، ومع ذلك كلما أفكر في ييتس، أراه ذلك الطفل الصغير لابس الفستان ـ تلك الصورة جزء من تصوري عن الشاعر الأيرلندي العظيم. وأحب هذا. فكلنا صغار، جدا.
أتذكر ذهابي إلى نيويورك لحضور حفلة جوائز، وكنت قد حصلت على جائزة، ووقوفي وقفة خرقاء في بهو جليل، وملاحظتي شيخا يعتمر قبعة بيضاء يبدو تائها، وقولي لنفسي إنه لا بد قد جاء ليقابل شخصا فاز بجائزة، ربما حفيدة له أو شيئا من هذا القبيل، فذهبت إليه وسألته إن كان يمكن أن أساعده في شيء، فسألني عن مكان حمام الرجال، ومشيت معه إليه وبينما كنا نمشي سألته إن كان أحد أفراد أسرته يتلقى جائزة مثلا، فقال إن كان الأمر كذلك فهو لا يعرف به، ثم دخل الحمام وانتظرته بالخارج وبينما كنت أنتظر أتذكر أنني فكرت كم سيندهش الرجل حينما يكتشف أنني، أنا المرأة التي أوصلته إلى الحمام، من تتلقى الجائزة، ثم عبر بي رجل وامرأة في نوع من العجلة المهمة قائلين “أين يكون آرثر ميلر الآن؟”، ثم خرج آرثر ميلر من الحمام، وابتسم لي هازًّا كتفيه ومضى معهما.
أتذكر أول آلة كاتبة كهربائية امتلكتها.
أتذكر إرسالي أول قصة قصيرة إلى مجلة وطنية في الصيف التالي لتخرجي في الكلية وردهم الذي وصلني “نحن في منتهى الأسف، لكننا لا ننشر الشعر”. أتذكر أنني لم ألتفت ورائي قط.
أتذكر لقائي بشاعر أيرلندي كان راجعا لتوه من جنازة جورجي ييتس وسكران لا يزال، برغم أنه كان للتو أيضا قد غادر الطائرة القادمة من أيرلندا إلى الولايات المتحدة. كان منفعلا وغضبانا لأن جورجي ـ التي عاشت بعد وفاة زوجها ثلاثين سنة ـ قد ماتت بعد أسابيع قليلة من تنازلها عن جميع مخطوطات زوجها للدولة الأيرلندية، وكان بوسعها أن تبيعها بملايين الدولارات لمكتبة أمريكية، وأنها فعلت ذلك لأنها كانت مفلسة وسكيرة وخائفة للغاية أن تأتي عليها لحظة ضعف فتنهار وتبيع المخطوطات في النهاية، وكانت تلك الخيانة فكرة لا تستطيع احتمالها، فوهبت الورق للدولة الأيرلندية، وماتت بعد أسابيع قليلة، وسار موكب جنازتها ثلاثمائة ميل ولم يشارك فيه غير ستة أشخاص كان الشاعر الذي حكى لي ذلك واحدا منهم، ولم يحضره ممثل واحد للدولة الأيرلندية.
أتذكر شيئا آخر قاله لي الشاعر الأيرلندي: مرة وهو يشرب مع بيريمان، شربا كأس أوزو فاختفى بيريمان على الفور. وفي غضون ساعات اكتشف أنه خرج من البار، وركب تاكسي فطائرة إلى أثينا مستعملا بطاقة أمريكان اكسبريس.
أتذكر قراءتي قصيدة “أغنية حلم ـ 14” لـ جون بيريمان، باستهلالها الشهير “الحياة، يا أصدقائي، مملة”. أذهلني ما فيها من طرافة وسخرية ولعب وبهجة: هي من القصائد التي يلقيها الطلبة على بعضهم بعضا وهو غارقون في الضحك والإعجاب، ولا غضاضة في ذلك، فهو يؤكد إحساسهم بالتهكم والتفوق، ومن المهم للغاية في هذا السن أن نجد جماعة ممن يشابهوننا في التفكير فننتمي إليها. أتذكر أني أعدت قراءة تلك القصيدة، لا للمرة الثانية، بعد نحو ثلاثين سنة، فأذهلني ألمها الطاغي، الخالي تماما من أي سخرية. كثير ممن عرفوا بيريمان لاحظوا أنه كان يتكلم دائما بلا سخرية، أي أنه ببساطة كان يعني ما يقول. ولو أنك تمر بفترة استثنائية الثبات من حياتك، وتصادف أشد أقواله كآبة، فإنك تقابلها بالكدر والاستبعاد، كأنك تصغي إلى مهرج قدير. ولو أنك تمر بفترة من حياتك استثنائية الاضطراب فإن وضوح المعاناة المباشرة التي اعتصرته وضيّعته تثير فيك توترا يوشك أن يقتلك. لكنني لم أكن أعرف ذلك في وقته.
أتذكر أني قرأت في جريدة أن إرنست همنجواي مات برصاصة أطلقها على نفسه في رأسه، وقرأت المقالة حتى نهايتها، وهي ذكرى بالغة الغرابة، فقد كنت في العاشرة ولم أكن أقرأ الجريدة.
أتذكر اكتشافي أن جونا بارنس حية ومقيمة في جرينتش فيليدج أثناء وجودي في الكلية ولوقت طويل بعد ذلك، وكان بوسعي أن أذهب فأزورها، لكنني كنت أفترض أن مؤلفة كتابي الأثير قد ماتت قبل أن أولد.
أتذكر أني كرّرت تلك الغلطة طوال سنوات كثيرة.
أتذكر أنني ارتكبتها بالأمس.
أتذكر أن جونا بارنس كانت تعيش مغمورة تماما طوال العقد الأخير من حياتها، وكذلك كنت، لو أمكن أن نوسع معنى كلمة المغمور فتشمل الذهن الشارد.
أتذكر أنني لم أكن طول الوقت على دراية بأن الكتاب بشر عاديون يعيشون حياة عادية، وأن الحياة العادية حياة مغامير، لو أمكن أن نوسع معنى المغمور ليعني الغائب تحت ركام اليومية، اليومية الجليلة، اليومية المعيبة، اليومية العصية على الفهم، اليومية التي لا تتضح أبدا ما لم ينقض وقت طويل. المغمور: غير الملحوظ على الفور، غير المفهوم بسهولة، غير القابل بوضوح للتعبير. هذا تعريف جيد للحياة.
أتذكر، أتذكر البيت الذي ولدت فيه.
أتذكر أني سقت سيارتي فمررت بالمستشفى الذي ولدت فيه فلمحته لمحا، كنت في سيارة تسير بسرعة ستين ميلا في الساعة، فانتابتني وخزة عابرة من الخصوصية لم يكن لي خيار بعدها إلا أن أهملها وأتجاوزها بسرعة ستين ميلا في الساعة.
أتذكر أنني كنت طفلة، وكبرت فكنت شاعرة. ذلك كله جرى بسرعة ستين ميلا في الساعة وفي الأيام التي كانت الساعة تتوقف فيها فيمكن أن توجد الإنسانية كلها في كنيسة صغيرة، أو كوز ذرة، أو كأسُ أوزو، أو قوقعة حلزون، أو حبة شعير مبلولة على رصيف.
أتذكر يوم وقفت أمام تمثال شهير عظيم لنحات شهير عظيم ولم يعجبني. تلك اللحظة علامة في حياة أي فنان شاب. تبدأ بارتباك وإحساس بالذنب وشك في النفس وتنتهي بكشف ظافر: ها أنا أرى العالم وأرى أنني حر أمامه، أرى أنني لست تحت رحمة رأي تاريخي فما أريد أن أنصرف عنه أنصرف عنه، وما أريد أن ألتفت إليه ألتفت إليه. بعد خمسة وعشرين عاما قرأت مقالة لـ جون بيرجر عن رودان استطاع بيرجر فيها أن يفصل كل ما شعرت به في عصر ذلك اليوم إذ وقفت أمام رودان العظيم. ولكنني بحلول تلك اللحظة كنت قد كبرت ويئست وبات إقرار شخص لي على رأيي ـ أعترف ـ في مثل إثارة إدانة بيرجر لرغبة رودان في الهيمنة.
أتذكر أنني فكرت أن مشاعري ورطتني مع رودان، وبرغم أن إعجابي به الآن أقل من ذي قبل، فنفوري كان دائما مضفورا بتعاطف عميق لا ينفصل عن مشاعري تجاه نفسي. وهذه علامة في حياة فنانة عجوز إذ تنظر إلى الفن: تدرك أنه ليس لنا جميعا أن نتحرر من ذواتنا.
أتذكر أول مرة أدركت فيها أن العالم الذي نولد فيه ليس العالم الذي نرحل عنه.
أتذكر أني شعرت أن رأسي مخلوق من ورق سنفرة.
أتذكر أني شعرت أن رأسي مخلوق من أنعم قطعة خشب فضية يقذفها اليم.
أتذكر بين بيليت، صديق بابلو نيرودا ومترجمه، إذ انحنى ليتناول نيويورك تايمز من عتبة بيته ذات صباح مطير (وكان هذا قبل أن يتعلموا وضعها في أكياس بلاستيكية) فكان أول ما لاحظه أن “الجريدة تبكي” على حد تعبيره، ذاب الحبر وسال في خطوط متدفقة على الصفحة، كالماسكرا بالضبط، ثم رأى في الجريدة خبر وفاة نيرودا: نيرودا كان قد مات في الليلة السابقة.
أتذكر أني حكيت تلك الحكاية مرات كثيرة، لكن بعدما حذفت منها بين، وزعمت أنها حصلت لي أنا.
أتذكر الليلة التي قررت أن أطلق فيها على نفسي شاعرة. كنت قد دعيت إلى حفل عشاء أدبي، وكنت أعرف أنه لا مفر من أن يسألني أحد عما أفعل. وكنت في العادة أقول إنني مدرسة، كنت في السابعة والعشرين من العمر وأكتب القصائد منذ أن كنت في التاسعة. وقررت إن سألني أي شخص أن أقول إنني شاعرة، وخرجت من شقتي عاقدة العزم على ذلك، إحساس بالمهمة، وبالأمن. وسأل شخص. آلان، شاعر فرنسي صاحب كاريزما، يرتدي سترة قطيفية زرقاء ووشاحا أبيض طويلا، سألني عما أفعل، فأخذت نفسا عميقا وقلت إنني شاعرة، فانقلب وجهه طافحا بالتقزز وصاح “شاعرة. لو أنك تقولين إنك شاعرة فلا يمكن أن تكوني كذلك، الشعراء يعيشون في الظل ولا يعترفون مطلقا ولا يتناقشون، فضلا عن أن الشاعر الحقيقي يعرف أن كل قصائد العالم لا تصنع من أحد شاعرا، هذه ذروة الغطرسة، وأي كلب يعرف هذا”. عيني عليّ! تركت الحفل دامعة، ذارفة دموعا صلبة باردة، دموع ارتباك ومذلة. بدت آخر ساعة لي على وجه الأرض.
أتذكر، أتذكر، كل ما قلته لي. كنا نمشي صامتين، تحت شجرة كرز. براعم تتساقط، براعم تتساقط، تنفلت من شجرة الكرز. أتذكر، أتذكر، كل ما فعلته لي: آني لينوكس. “التواء”. فيها، يجد بيت الشعر الإنجليزي الشهير طريقه إلى الروك آند رول، بعد مرور أكثر من مائة عام.
أتذكر أن “أتذكر” يعني تركيب أذرع وسيقان بعد انفصالها، ورأس في بعض الأحيان.
أتذكر أنني في الثلاثاء الأول من كل عام أصبح شاعرة لسبب واحد بسيط: أحب أن أكتب عن القمر. وعندما تشتد الأمور وتتعقد وتهدد بإغراقي، أرجع إلى هذه الحقيقة الواضحة البسيطة الجوهرية، إلى الحقيقة التي هي ـ من بين جميع الحقائق ـ أشبهها بالقمر نفسه. يا ليل، يا نوم، يا موت، يا نجوم.
أتذكر القمر مكسوا بالغبار وأنا أكتب بإصبعي على سطحه امسحني، ليبقى إصبعي بعدها إلى الأبد مكسوا بطبقة رمادية، كما يحدث إذ تسحب نسائل الغبار من المجفف.
أتذكر أكثر مما يمكن أن أحكي.
أتذكر الجنة.
أتذكر الجحيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر هذا النص للمرة الأولى في الثاني من يناير سنة 2012
ترجمة: أحمد شافعي