ليس الغموض وحده ما يدفعنا لتقديم الشاعر أبي علي أبزون مهبرد الكافي المجوسي العماني ( ت 430هـ/ 1056م )، ذلك الغموض المتصل بأعجمية اسمه وغرابة ديانته مقارنة بالوسط العربي الاسلامي في (عمان )، ولكننا نجد خلف هذا الغموض الخارجي غموضا آخر شفافا، يتصل بعضه بهوية الشاعر ومقامه في (عمان )، مما يكشف لنا عن لحظة تاريخية متفردة من لحظات التاريخ العماني تناستها الذاكرة المؤرخة ربما لقساوتها ، ويعود بعض ذلك الغموض الى الميزة الفنية التي يحققها نتاج أبز ون بين شعراء عصره ولاسيما أولئك الشعراء المنتمين الى أصول غير عربية ، من هنا يمكننا تقديم (أبزون العماني) عبر محورين ، يتصل الأول بالهوية فيما يتصل الآخر بالأهمية
1 -الهوية : فارسي تعمن .
أخبار أبزون في المصادر الأدبية أخبار نمير مستفيضة ولعلى أوسعها وأقدمها حديث الباخرزي عنه في كتابه "دمية القصر"(1) حيث أفرد له ترجمة تحت عنوان ،"الكافي العماني" أثبت له فيها اثنين وخمسين (52) بيتا، وأشار الى اعجابه بشعره بقوله : "وكنت أسمع له بالفقرة بعد الفقرة ، فافتقر الى أخواتها ويلتهب حرفي الى إثباتها.." والباخرزي بما قدمه من شعر لأبزون يعتبر من أهم مصادر شعره علىى الاطلاق ، أما من الناحية التاريخية فلم يقدم الباخرزي معلومات وافية عن الشخصية غير اشارته الى انه "من أهل عمان " ، وهي إشارة سوف نعود اليها لاحقا، واشارته الى مقاما بجبل من جبال (عمان ) وخبر أبي الحاجب محمد بن أحمد وكيفية تحصله على شعر أبزون ؟ وذلك بالذهاب اليه والاجتماع به في (عمان )..
ويقدم الصفدي في كتابه "الوافي بالوفيات " (2) ترجمة موجزة جدا لابزرن تحت عنوان "العماني المجوسي " ، وينقل عن الباخززي خبر أبي الحاجب ولكنه يقتصر علىى اختيار ستة وثلاثين (16) بيتا فقط ، أما المصادر العمانية فلم توف هذه الشخصية بترجمة اخبارية أو أدبية . والموجود بين يدينا مما فيه ذكر لابزرن كتاب سيف بن حمود البطاشي "اتحاف الأعيان "،(3) وهو يحيل الى ذكر أبزون في كتاب "المنازل والديار" لاسامه بن منقذ و"معجم المؤلفين "، دون أن يذكر اسم مؤلفه ولعله لرضا كحالة ، وهو في ترجمته ينقل عن الصفدي دون أن يتصل مباشرة بالمصدر الذي نقل عنه الصفدي ، وهو "دمية القصر" ويقتصر البطاشي على ذكر اثنين وثلاثين
(32) بيتا، مسقطا أربعة (4) أبيات وردت عند الصفدي دون أن يبدي سبب ذلك الاعراض ، وهو على الجانب الآخر يذكر ثلاثة (3) أبيات لم ترد لدى الصفدي والباخرزي.
أما الدراسات الحديثة فأهمها ما كتبه هلال ناجي تحت عنوان ، "أبزون العماني"(4) قدم فيها تحقيقات تاريخيه هامه ، وملاحظات فنية على شعر أبزون ، سوف نناقش ها في مواضعها ، كما اهتم بجمع شعر أبزون من خلال ما تناثر في المصادر الأدبية ، وكذلك من خلال مخطوطي "لمح الملح للحضيري" و "حدائق الأنوار"(5)، وقد أسمى مجموعه هذا "الصبابة من ديوان أبزون العماني". أما شوقي ضيف في كتابه "تاريخ الأدب العربي"(6) فقد قدم إشارة عابرة الى أبي علىي أبزون المجوسي ، وأحال الى ترجمته في "دمية القصر".
إن تلك المصادر في مجملها لا تقدم لنا صورة كاملة أو شبه كاملة عن الشاعر وظروفه الحياتية ، وهذا الغموض المحيط بالشاعر في بعض أسبابه يرتبط بغموض تاريخ بني بريه بشكل عام ، الذين عاش صاحبنا في كنفهم ذلك الغموض الذي دفع ستانلي لين بولLANE POOLE في كتابه الدول الاسلامية الى القول : "… في تاريخ بني بويه الكثير من الأمور التي لا تزال في ظلام الجهالة من ذلك أن بعض أفراد هذه الأسرة حكموا بصورة مشتركة وبعضهم ا´نفرد بالحكم .." وقد تعزز نفوذ بني بويه في الدول الاسلامية بشكل كبير ، وقد تمكن الأخوة الثلاثة الخارجون من أرض فارس وهم عماد الدولة (932)وركن الدولة (932م) ومعز الدولة (931م ) من إعلىان استقلالهم عن الخليفة العباسي سنة 322هـ / 933م ، مما دفع الخليفة المستكفي بالله الى تكريمهم والخضوخ لسيطرتهم حتى عظمت شوكتهم ، وأصبح الخلفاء العباسيون آلة بين أيديهم . ويعتبر عضد الدولة (ت 372_ / 982م ) أعظم حكام هذه الأسرة ، "فقد أنشأ العديد من المباني العلىمية والدينية ، وازدهرت الزراعة وأساليبها في عهده "(8).
وقد امتد سلطان بني بريه علىى عهد عضد الدولة مي بحر الحزر الى كرمان وعمان ، وينتمي أبزون الى رجال السياسة المرابطين بالحامية الفارسية التابعة لبني بريه ، فقد وجده أبو الحاجب السابق ذكره "كثير الاشتغال بالأمور السلطانية "، وهو في شعره يمدح أمير (عمان )(9) ناصر الدوله الذي لا ندري بالضبط سنة حكمه ، وبشكل عام فإن سلطان بني بويه على (عمان ) قد بدأ سنة 363هـ/ 973م بعد معرك ة ضارية بين الفرس بقيادة أبي القاسم المطهر بن محمد وزير عضد الدولة والعمانيين بقيادة الامام حفص بن راشد كما يروي ذلك ابن الأثير(10)، ويشير مايلز الى أن عامل بني بويه اتخذ من الرستاق مقرا لحكمه ، وكان له مساعد أو نائب مقره نزوى،(11) واذا صح ذلك فإن أبزون مع حامية النائب أو المساعد ، وتروي المصادر الأدبية أن اقامته كانت بجبل من جبال (عمان ) كما يذكر الباخرزي: وقرب نزوى بالذات على ما ذكر حاجي خليفه (12)، وعلى هذا تكون اقامته بـ (الجبل الأخضر) ذلك الموقع الذي يتميز بمنعة طبيعية لحصانته ووعورة الوصول اليه ، واقامة الحامية البويهية بالجبل الأخضر يكشف لنا عن مدى ما تلاقيه من صعوبة في الاحتكاك بالمواطن العماني، وأنها فضلت البقاء بمعزل عنه في الجبل الأخضر وبحيث تتمكن أيضا من بسط سيطرتها السياسية .
وحسب رواية مايلز فإن عام ( 430هـ/1056م) يشكل نهاية وجود الفرس في (عمان ) بعد أن أجلاهم العمانيون بقيادة الامام راشد بن سعيد، والقضية تحتاج الى بحث تاريخي أطول ، فقد وجدت ابن الأثير يذكر وجود الفرس بـ(عمان ) ضمن حوادث عام (431هـ) وعلى الرواية السابقة يكون عام ( 430هـ) هو العام نفسه الذي توفي فيه أبزون العماني (13)، وقد نتوق ع قتل أبزون في ثورة العمانيين هذه ، مما يفسر لنا ما نجده في شعره من نبرة يائسة حزينة نتيجة للصراعات الواقعة بين أفراد أسرة بني بويه أنفسهم من جهة ورفض المجتمع العماني لوجود هذه الحاميات العسكرية المستعمرة من جهة أخرى،والتي كان الشاعر جزءا منها، فهو في قلق دائم لذا نجده يحاول الاعتماد أو الاتكاء علىى شخصيات قوية يمكن أن تسنده وسط مجتمع يمور بالقلاقل ، لذا فهو على غير اطمئنان مع من يصافيه ، كم في قوله :
قل كنت أرجوك للبوى إذا عرضت
فصرت أخشاك والايام للغير
أخشى وحكمي أن أرجو ولا عجب
وربما يتأذى الروض بالمطر
أو كقوله :
تأبى قبولي أي أرض زرتها
قدمي رجائي وافتقاري سائقي
فكأنما الدنيا يدا متحرز
وكأنني فيها وديعة سارق (15)
إن تلك الصراعات الداخلية هي التي عجلت بنهاية أسرة بني بويه . أقام أبزون في (عمان ) عاملا لدى الحامية الفارسية ،ومشتغلا بالأمور السلطانية كما يقول الباخرزي ، فلم يكن غريبا أن يحتفظ بديانته المجوسية . لذا فقد حافظ علىى اسمه دون أن يغيره بما يتناسب مع الاسماء الاسلامية ، ويبدو لنا أن المحيط السياسي الموجود آنذاك كان يسمح له بذلك ، وقد اشتهر بالعماني نسبة لاقامته تلك ، وذلك ليحل هذا اللقب محل القبيلة ، كما يقال الخوارزمي أو الأندلسي أو غير ذلك ، نسبة الى المكان الذي قدمت منه شخصية ما ، أو نسبة الى المكان الذي أقامت فيه ، والا فان أبزون فارسي الأصول .(16) وقد ترجم من لغته الأم (الفارسية ) أبياتا الى العربية ،وتفيدنا المصادر أنه أقام ردحا من الزمن أيام شبابه (بجرجرايا) وهي بلد من أعمال النهروان الأسفل بين واسط وبغداد، وقد ذكر تلك الاقامة في قصيدة اشتهر منها هذا البيت :
الا ياحبذا يوما جررنا ذيول للهو فيه بحر جرانا (17)
الأهمية : الصورة مرآة الذات القلقة
1 – موضوعات شعره : بحث عن الأمان
أ – يشير حاجى خليفة في كتابه "كشف الظنون " الى ديوان الأبزون العماني اسماه "ديوان ابي علىي "،(18) غير اننا لم نعثر على هذا الديوان ، وقد حاولنا البحث عنه في مكتبة من مكتبات (ايران ) هي مكتبة ايران العامة ، بشيران ومن خلال فهرس المخطوطات المسمى فهرست كتب خطي كتابخانه ملي فارس "أي فهرس المخطوطات بمكتبة فارس العامة " ولم نجد لأبز ون ذكرا، أما الشعر الذي بين يدينا فمجمله وهو ما أثبتته المصادر التالية :
أ – يتيمة الدهر، للثعالبي.
ب- المنازل والديار، لاسامة بن منقذ.
وقد سبقت الإشارة الى ذلك ، ويشكل ما تبقى لدينا من شعر أبزون مادة جيدة للتقديم ،وقد نعتبره محظوظا لوصول هذا الكم من شعره الينا، وذلك إذا ما استحضرنا الظروف السياسية العصيبة التي رافقت دولة بني بريه في ظل الانشقاقات الكثيرة داخل الأسرة ، والتي عصفت بهذه الدولة في نهاية المطاف . كما أن مقام أبز ون في (عمان ) جنبا الى جنب مع الحامية الفارسية يجعلى منه شخصا غير مرغوب فيه لدى العرب العمانيين ، ومن ناحية أخرى فإن هذا المقام أبعده عن عواصم الثقافة آنذاك حيث يمكن أن يذيع شعره ويطاله التدوين . واذا عرفنا أن ديوان الخنساء شاعرة الرثاء المشهورة لم يصلنا منه سوى ( 180) بيتا أمكننا أن نتصور أن ما تبقى من انتاج شاعرنا كم لا بأس به .
أما المواضيع التي تستحوذ علىى شعر أبزون فلعلى أبرزها شعر المديح وأكثره في الأمير ناصر الدين كما يقول حاجي خليفة ، غير أن شعره ذاته لا يعين على تحديد شخصية الممدوح ، وذلك كما يقول :
ليهنك أن ملكك في ازدياد وأن علىاك وآرية الزناد
وأنك من إذا وصف الوالي مناقبه أقر بها المعادي
حديث قراك متع كل سمع وذكر نداك عطر كل نادي
وينقاد الملوك لك اعتقادا وما انقادوا لغيرك باعتقاد
ملكت رقابهم بأسا وجودا فهم ملك السيوف أو الأيادي(19)
وهو يجمع النعوت المستقرة في لامدح العربي عامة .
ومن الموضوعات .الاثيرة لدى أبرون وصف الطبيعة ، بمراعيها وشجرها ومائها، كما يمزح أحيانا بين الغزل ووصف الطبيعة ،
كما في قوله :
جاء الربيع وبحرك الفياض فغدت قفار الأرض وفي رياض
والروض أصبح بعد صفرة لونه وبو جنتيه حمرة وبياض
وكان نوار الحدائق في ضحى حدق لدي عشاقهن مراض
والمزعجات جفونهن غضيضة والمبهجات غصونهن غضاض
فانظر ترى الدنيا عروس منصة يصيبك برد شبابها الفضفاض (20)
وقد :وجع هلال ناجي هذا الى الولع بالطبيعة الى اقامته بالجبل من الاخضر، ولعله محق في ذلك، كما محق أن اقامته في (جرجرايا) فترة من زمن قد ساعدت علي تشكل أحاسيسه . وربما كتب شعر. في وصف الطبيعة بباعث منها، كأن يتذكرها ويستحضرها ، وعلى كل حاد فإن .الربط بين إقامة الشاعر وما نجده عنده من شعر يتصل بالطبيعة فيه نوع من التكلف، فلا يلزم أن يعيش .شاعر في بيئة جميلة حتى يصفها، فقد يكتب متخيلا بيئة جميلة في مكان ما، والامر الآخر الذي يقلل من أهمية اربط بين مكان الاقامة وشعر .الطبيعة أن نتاج صاحبنا في هذا الموضوع لا يحمل بصمة خاصة أو إضافة متميزة وانما هو عبارة عن صف لنعرت كررها شعراء قبله .
غير أن تلك الموضوعات التي أشرنا إليها تأتي مصبوغة بلون قاتم تمثل شخصية قائها، تلك النفسية المضطربة المتخوفة ، تتربص بالشدائد من أي جانب ، لذا فهو يبحث عن ممدوح يتصف بالقوة ، ويمنحه .المناصرة :
متى أردت أيادي راحتيك كست
حيا الغوادي حياء الغادة الرود
فكان عيش علىى السراء مطرد
يزري بهم عن الأحشاء مطرود(21)
فهناء عيشه يتم بقرب أيادي الممدوح التي تطرد الهم الموحش .
يظهر ذلك القلق بشكل أكثر وضوحا في نبرة العتاب التي نجدها أحيانا في مقدمات بعض قصائد المديح، فهو يقدم بعضها بعتاب حار الى محبوب مراوغ :
ألزم جفاءك لي ولو في الضنا
وأرفع حديث البين فيما بيننا
فسموم هجرك في هواجر الاذى
ونسيم وصلك في اصائله المنى
ليس التلون من امارات الرضا
لكن إذا مل الحبيب تلونا
تباي الاساءة في التيقظ عامدا
وأراك تحسن في الورى أن تحسنا
الى أن يقول
ملك مني فلك السما لو أنه
بحلاله بدل الكواكب زينا
ألف العلىاء وكان يأبي حلة
الا السنا وحلية الا السنا(22)
فم ير الشاعر في محبوبه شيئا يفتتح به القصيدة غير عتبه علي تتبه وتلون وداده ، ونظن أن تلك الصفات ال تي ألصقها أبزون بحبيبه هي ما وجده لدى أبناء عصره .
ويطفح معجم شاعرنا بتلك .الالفاظ .الكاشفة عن ذلك القلق ، ففي شعره نجد الكلمات التالية ترد تتكرر بشكل واضح:
"ناكث ، نادب ، تعاقب ، عثرات ، سفاهة ، ذئب ، تظلم ، .العذر، بلوى غير، يتأذى…" وقد يكون للظروف السياسية المضطربة في (عمان ) أنذاك ! وانزوائه في حامية صغيرة لا تتوافر الثقة بين أفرادها ، ويرفضها المجتمع سبب كبير في طبع شعره بهذا اللون القاتم .
ب – البديع والأوزان ومحاولة التجاوز:
عني أبزون العماني عناية فائقة بصياغة صوره الشعرية ، وكان كلفا بالتزام الفنون البديعية ، غير أن ذلك في كثير من الأحيان يوافق محله ،ولاياتي علىى حساب المعنى، أي لا نجد
معنى هجينا بصياغة براقة ، وقد احتفى هلال ناجي بهذه الظاهرة ورصد نماذجها ، وحاول تعلىيلها في إطار ذوق العصر.
ونماذج احتفاء أبزون بالبديع كثيرة جدا، سوف نحاول تقديم نماذج منها للتدليل علىى شيوع هذه الظاهرة عنده فمما ورد في إطار الجناس قوله :
فتظلمي من ناظر أو ناظر وتألمي من حاجب أو حاجب (23)
أراد بالناظر الأولى : الشخص ، وبالثانية : الباصرة . وبالحاجب الأولى من يتولى الحجابة وبالثانية حاجب العين ، وكقوله :
علىى سيبك المامول يعتكف الحمد
وعن سيفك المسلول ينكشف الجد (24)
فبين سيبك وسيفك ومأمول ومسلول ويعتكف وينكشف جناس ناقص ومن نماذج المقابلة قوله :
فسموم هجرك في هواجره الأذى
ونسيم وصلك في أصائله المنى (25)
فالسموم ضد النسيم ،والهجر ضد الوصل ، والهواجر ضد الأصائل ، والأذى ضد المنى، ومن نماذج التضاد قوله :
أيقنت أن لاعيش غير لقائه أبدا وأن لا موت غير فراقه)26)
(فلا عيش ) ضد (لا موت ) و (اللقاء) ضد (الفراق )، ومن نماذج الطباق قوله :
سكن ساكن سواد الفؤاد مل قربي ومال نحو بعدي
فبين قرب وبعاد طباق ، كما أن في البيت استخداما للجناس ، ومن نماذج حسن التعلىيل قوله :
أنت يا نرجسة الروض
لما في روض ست
ودليل الحسن فيك
أن أوراقك ست
ففي البيت حسن تعلىيل حيث تشهد أوراق النرجسة الست علىى سيادة النرجسة علىى غيرها، وفي البيت أيضا جناس ناقص ، إذ ورد لفظ ست مرتين ، الأولى بمعنى سيدة والثاني لفظ عدد، ولا يخفى أن ست الأولى مأخوذة عن اللغة الفارسية ، وقد أشاع المولدون استخدام الألفاظ الأجنبية : لاسيما الفارسية منها _ لكثرة الشعراء الذين ينتمون الى أصول فارسية ، وشدة امتزاج الفرس بالحضارة الاسلامية _ مسايرة لما جرى علىى مستوى الحياة عامة ، إذ داخلتها عادات وأفكار جديدة .
ولقد وجد مصنفو البديع في شعر أبز ون مادة جيدة لشواهدهم فتمثلوا أبياته كما فعلى النويري حين استشهد ببيت لأبزون ضرب به مثلا لما يحسن أن يبتديء به المديح وهو قوله :
علىي منبر العلىيا جدك يخطب وللبلدة العذراء سيفك يخطب (29)
ويرجع هلال ناجي جودة هذا البيت الى أنه جمع لونين من ألوان البديع ، حسن الابتداء والجناس بين يخطب الإولى من (الخطابة )، ويخطب الثانية من (الخطبة ) .. ونرى فوق ذلك أن الاعجاب بهذا البيت لما فيه الشطر الثاني من اسقاط شهواني واضح ، يرضي الممدوح كما يرضى المصنف البلاغي، لجمعه بين فتوحات المدن وفتوحات الظلام ، فمفردات هذا الشطر"وللبلدة العذراء جدك يخطب " يمكن استبدالها بكل سهولة بالمعنى غير المذكور الذي ضرب الشاعر ببراعة على وتره.
وقد تردد الاعجاب بأسلوب أبز ون عند غير واحد من أدباه عصره كالباخرزي إذ يقول : "كنت أسمع له بالفقرة بعد الفقرة فافتقر الى أخواتها ، ويلتهب حرصي على إثباتها، ثم ظفرت "بديوان شعره " في خزانة الكتب النظامية بنيسابور وكنت على جناح الانصراف الى الناحية ، فلم أتمكن من احتلاب دورها ، ولم أتوصل الى اجتلاب دورها"، ويقول أبو الحاجب محمد بن أحمد: "كنت قبل حصولي بعمان أسمع بأشعار الكافي أبي علي ، وتمر بي القصيدة بعد القصيدة ، وكنت لفرط إعجابي بها أود لو ظفرت بمن يرويها لي عن مؤلفها..، واذا ديباجة شعره مع بهائها ورونقها متناسبة الألفاظ ، متناضرة المعاني، واذا هو يتجنب إيراد ما يمجه السمع ، وتاباه النفس …"
(30)، وهذه الشهادات تدل دلالة واضحة على نجاح أبزون في إرضاء أدباه عصره ، والظفر بتقديرهم .
ونحن نتساءل هنا ما سر كلف أبزون بتوشية شعره بالبديع ؟ هل هو استجابة لذوق العصر كما يرى هلال ناجي؟ أم أنه أثر من آثار أصوله الفارسية العميقة ؟ فالملاحظ أن الثقافة الفارسية تحتفي بالزخرفة والمنمنمات ، ويتضح ذلك بجلاء في فنونهم التشكيلية . أم ثمة أمر آخر وراء ذلك ؟ وما هو؟ يقول هلال ناجي مؤيدا رأيه : "كان عصر أبز ون عصر كلف بفنون البديع كا لجناس والطباق والمقابلة ، طفت عند بعضهم حتى أصبحت غرضا في ذاتها، وكان لابد أن يطبع ذوق العصر وذوق نقاده شعر صاحبنا "(31) ، ولا أدري كيف حكم ناجي بوجود ذوق واحد ينتظم شعراء العصر ونقاده واعتقد أنه كان هناك اتجاه آخر معتدل يحافظ على تقاليد القصيدة العربية في المبنى والمعنى ويمثله الشريف الرضي (406/1016م)ومهيار الديلمي (400هـ/1010) وينتمي الأخير الى أصول فارسية غير انه لم يسرف في استخدامه للبديع كما سابقيه .
وبالفعل فإن طائفة من الشعراء المولدين ساهموا في صياغة الحساسية الشعرية الجديدة آنذاك : كمسلم بن الوليد أول من حاول أن يجعل من الشعر ابداعا جماليا بالألفاظ ، متفوقين على شعراء عرب وباستخدام تقنيات عربية أصيلة ، فالبديع فن عربي خالص ،كما حاول أن يثبت ذلك ابن المعتز في رده على من أدعى بأن بشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبا نواس هم السابقون الى استعمال البديع : "وقد قدمنا في كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة وأحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم )، ولكلام الصحابة الأعراب وغيرهم وأشعار المتقدمين ، من الكلام الذي سماه المحدثون بالبديع ، ليعلم أن بشارا ومسلما وأبا نواس ومن تقيلهم وسلك سبيلهم لم يسبقوا الى هذا الفن ، ولكنه كر في أشعارهم في زمانهم…"(33)
وأكبر الظن أن صاحبنا إنما أسرف في استخدامه للبديع متحديا العرب ، ومحاولا التفوق عليهم في أبرز ملكاتهم الا وهو الشعر، وأنه وهو الاعجمي قادر على كتابة العربي، ليس ذلك فقط بل وقادر أن يلتزم فيه بضروب بديعية عديدة ، فهو يحاول أن يتجاوز نفسه باستمرار لاهثا وراء أحكام الصياغة واجادة المعنى، وذلك مطلب فني جيد ولعل هذا ما يفسر لنا عدم اعجابه بشعره ، فقد وجده أبوا لحاجب عندما جالسه بـ(عمان ) "غير معجب بشعر نفسه "، وذلك ما يدفعه لمواصلة اللهاث خلف الاتقان ، على غير عادة شعراء عصره ، الذين كانوا كثيري الاعجاب بشعرهم ، منهم الارجاني الذي يقول :
ومنى اقتباس المحدثين معانيها
ولم أقتبس معنى من القدماء
ويبدو لنا أن ولع أبز ون بالبديع يزداد كلما كتب قصيدة مديحية أي كتابة رسمية تقرأ في البلاط ، وتتناقلها الألسن بالاعجاب ، ولكنه يتخفف نوعا ما إذا ما انصرف الى التعبير عن عاطفة ذاتية كعاطفة الغزل ، كما نلمس ذلك في المقطوعة التالية :
أفدي الذي زارني والليل معتكر
والافق مما اكتسى من عرفه عطر
فلم نزل نتجارى في الحديث معا
أشكو إليه جفاه وهو يعتذر
حتى إذا ما اعتنقنا واستتب لنا
على ارادتنا عيش له خطر
ناديت ياليل دم ليلا بلا سحر
فقال ليلك هذا كله سحر
وهي مقطوعة جيدة مكثفة ، بناها الشاعر بناء متناميا، وضع في البيت الأول خلفية للأجواء التي تمت فيها الزيارة ، فقد اكتسى الأفق من عطر الحبيب ، ثم بنى صورة جيدة تخيلية للقاء، تشارك القاريء في استحضار تلك الزيارة فكأنه يشاهدها أمام عينيه ، فهو يرى العاشق متخوفا من انقضاء الساعات وانقشاع الليل وحلول ضوء الصباح الفضاح ، فيعيش القاريء حالة من القلق لا يلبث معها أن يشعر بهدوء واطمئنان بعد البيت الأخير، فسوف يتوقف الزمان ويمتد الظلام :
ناديت ياليل دم ليلا بلا سحر
فقال ليلك هذا كله سحر
ولا يهم هنا من الذي أجاب الشاعر وطمأنه ، هل هو الليل نفسه ؟ أم الحبيب ؟ لكن الذي يهم الآن أن هذا اللقاء لن يعكر صفوه معكر، وقد جاءت هذه المقطوعة من غير زخرفة بديعية ملاحظة ، سوى ما جاء بشكل خفيف كالذي يسميه البلاغيون رد الاعجاز عل الصدور في البيت الأخير.
وهناك أمر أخر يدفعنا للاعتقاد أن أبزون استخدم البديع بدافع التجاوز ، تجاوز الذات واثبات القدرة للآخرين ، وهذا يصل بالأوزان الشعرية التي استخدمها أبزون ، والتي رصدناها في الجدول التالي :
ونلاحظ شيوع بحري الكامل والطويل على موسيقى قصائده ، وهما بحران يشيعان في الشعر العربي القديم ، ونحن نعلم أنه في العصر
البحر
التردد
عدد الأبيات
1- الكامل
2- الطول
3- مشطور الرجز
4- البسيط
5- الوافر
6- الخفيف
7- الرجز
8- مجزوء الرمل
9- الرمل
11
7
2
4
1
2
1
1
50
18
13
12
8
7
2
2
1
المجموع
30
113
العباسي الثاني شاع استخدام البخور الراقصة وأشكالها المجزوءة والمشطورة ، كما هو لدى الشريف المرضي حسب دراسة الدكتور احسان عباس(36)، وصنيع أبزون هذا يعزز جانب تميزه عن شعراء عصره في الأساليب والأغراض ، فقد وجدناه لم يطرق غرضين نالا حظوة لدى أضرابه من الشعراء الفرس هما غرضا التشيع والشعوبية .
هذا هو أبزون العماني كما رأيناه بين الهوية والاهمية ؛ في وقفات عابرة متأنية ،لعل دراسات قادمة تعود اليه برؤية جديدة بعد أن تتسنى لها معلومات جديدة أو تتوصل الى كم أكبر من انتاج أبزون الشعري، وذلك ما نطمئن الى حدوثه تمام الاطمئان .
المصادر
1- أبو الحسن علي بن الحسن بن علي الباخرزي ، دمية القصر وعصرة أهل العصر، جـ1
تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو، دار الفكر العربي، ، انظر ترجمته ص 98_ 105.
2- صلاح الدين خليل بن ايبك الصفدي، الوافي بالوفيات ، جـ 6، تحقيق س .
ديدرينخ وفرانز شتايز فيرسباون – 1972، انظر ترجمته ص 184- 186
3-سيف بن حمود بن حامد البطاشي ، اتحاف الأعيان في تاريخ بعض علماء عمان ، جـ 1، مسقط _ 1992م . انظر ترجمته ص
411_ 420 .
4 – هلال ناجي ، شاعر من عمان ، مجلة منشورات مركز دراسات الخليج العربي، الكتاب الأول ،جامعة البصرة – 1977م . انظر
ص 104-135 .
5-لم يقدم هلال ناجي معلومات وافية عن هذين المخطوطين .
6- شوقي ضيف ، تاريخ الأدب العربي، جـ5 ، دار المعارف ، القاهرة – 1983م ، ط 2. انظر ص 108.
7- ستانلي لين بول LANE – POOLE,S الدول الاسلامية ، جـ1، ترجمة محمد صبحي فرزان ، مكتبة الدراسات الاسلامية ، دمشق _ 1974، ص 286.
8- المصدر نفسه ، ص 285_ 286.
9- حاجي خليفة ، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ، جـ1، د م _ 1892م .
ص502.
10- أبو الحسن على ابن أبي المكرم محمد بن محمد بن عبدالكريم الشيباني ، الكامل
في التاريخ ، جـ7 دار الكتاب العربي، بيروت _ 1988م ، ط 6، ص 57.
11- س .ب ما يلز، الخليخ بلدانه وقبائله ، ترجمة محمد أمين عبدالله ، وزارة التراث القومي والثقافة ، مسقط _ 1990م ، ط 4، ص 5 14 .
12 – حاجي خليفة ، كشف الظنون ، مصدر سابق ، ص 502. يقول عند حديثه عن ديوان أبزون : "… جمعه محمد بن أحمد المعروف بابن الحاجب وذكر أن قصائده أعجبته وهو بفارس ولما نزل بعمان وسمو أن مقامه تبرير قصد اليه …" ونبه منا الى أمرين ، الأول : تشير المصادر الأدبية الى جامع ديوان أبزون وأن كنيته ابو الحاجب وليس ابن الحاجب . الأمر الثاني: كان مقام ابزرن بنزوى وليس تبرير ، إذ ليس بعمان مدينة تدعى بهذا الاسم ، وتبرير عاصمة فارسية قديمة ، ثم ان ايراد تبريز هنا لا يستقيم مع سياق سرد الحديث نفسه ، فقد انتقل أبو الحاجب من فارس الى عمان .
13 – المصدر نفسه ، ص 502.
14 – هلال ناجي ، شاعر من عمان ، مرجو سابق ص 126.
5ا – المصدر نفسه ، ص 129.
16- الباخرزي ، دمية القصر ، مصدر سابق ، ص 101.
17 – شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الحموي، معجم البلدان ، دار احياء التراث ، بيروت – 1979م ، .
18- حاجي خليفة كشف الظنون ، مصدر سابق ، ص 502.
19 – هلال ناجي ، شاعر من عمان ، مصدر سابق ، ص 123- 124.
20- المصدر نفسه ، ص 116- 117.
21- المصدر نفسه ، ص 125.
22- المصدر نفسه ، ص 131.
23- المصدر نفسه ، ص 122.
24- المصدر نفسه ، ص 124.
25-المصدر نفسه ، ص 131.
26- المصدر نفسه ، ص 129.
27- المصدر نفسه ، ص125.
28- المصدر نفسه ، ص 123.
29- المصدر نفسه ، ص 121.
30- الباخرزي ، دمية القصر، مصدر سابق ، ص 98. 99.
31- هلال ناجي ، شاعر من عمان ، مرجو سابق ، ص 109.
32 – عصام عبد علي ، مهيار الديلمي: حياته وشعره ، وزارة الاعلام ، بغداد 1976 م ، ص 47.
23- عبدالله بن المعتز ، البديع، نشر شراكوفسكي ، ص -1.
34- هلال ناجي ، شاعرمن عمان ، مرجع سابق ، ص 107.
35- المرجع السابق ، ص 125_ 126.
36- عصام عبد علي ، مهيار الديلمي، مرجع سابق ، ص 47.
محمد المحروقي (ناقد من سلطنة عمان وباحث جامعي)