قبل الحديث عن المشاكل والصعوبات التي تجابه المرأة الشاعرة في بلد إسلامي, أريد المرور بشكل خاطف والتوقف عند الروابط بين الحضارتين الغربية والإسلامية , التي يبذل الحاضر كل ما في وسعه من أحداث ليدحض وجودها, وتاريخ إقامتها.وهو الموضوع العام لهذه التظاهرة التي ينظمها فضاء المتوسط في مدينة قظـ ساستري لوفونت.
طبعا المجال لا يتسع للقيام بجرد واسع حول مظاهر تلك الروابط التي تتجلى في التلاقح والأخذ والعطاء, وال-تأثير والتأثر, ولكن مع ذلك فإن أقل ما يمكن من الومضات يعتبر كافيا لاسترداد بعض الضوء والتشويش قليلا على العتمة المهيمنة.
يرى المؤرخون بـأنه من جامع القيروان تولد جامع قرطبة. كما أن الأسبان قد كانوا كلما استرجعوا مدينة إلا واستبقوا فيها المهندسين والمعماريين والبناءين والمزوقين والنجارين والحدادين والمصورين والموسيقيين, وأمروهم ببناء كنائسهم ومدارسهم وأديرتهم وقصورهم على النمط الإسلامي , مع بعض تعديلات تقتضيها العقيدة النصرانية. وقد سمي هؤلاء الفنانون المسلمون بالمدجنين نسبة إلى الفن المدجن الذي عم أوروبا وأمريكا.
اهتمت كذلك, كثير المراجع التاريخية بنشاط حركة الترجمة في العهد الفاصل لما بين عهد الدولة الأموية إلى عصر المأمون العباسي حيث ترجمت أغلب الكتب اللاتينية ثم ترجم العرب المسلمون تراثهم العقلي وما أضافوه من علوم ومن آداب ومن موسوعات إلى اللاتينية وكونوا طبقات من المترجمين الإيطاليين والإسبانيين. وتم نقل المعرفة الإسلامية والعربية إلى أوروبا بواسطة مدرسة سالرن وجبل كسيف وكريمونة في إيطاليا وطليطلة.وفي العلوم الإنسانية تحديدا استفاد الغرب من ابن خلدون كعالم اجتماع وكمؤرخ وكديمغرافي أيضا بالرغم من أن أعلام غربية عديدة تصر, على اعتباره مؤسس علم العمران البشري لا علم الاجتماع. وفي الفلسفة فإن آثار الكندي وابن رشد أصعب من أن تمحى أو أن يتم تحاشيها. وشعريا, تمكنت ناقدة إسبانية لا أستحضر اسمها وحدثتني عنها الشاعرة الاسبانية كلارا خنيس من إظهار تأثر دانتي بأبي العلاء المعري. كما أن أشعار غوته الشاعر الألماني الكبير تكشف تأثر الرجل بالثقافة العربية والتصوف العربي الإسلامي وقوة علاقة بالنص القرآني وبتراث ابن عربي تحديدا. وأعود الآن إلى السؤال المطلوب مني الإجابة عليه : ماهي الصعوبات التي تلاقيها امرأة شاعرة في بلد إسلامي ?
من الصعب جدا الحديث بإخلاص مطلق حول الشاعرة التي تنتمي إلى بلد إسلامي, ذلك أن الفضاءات الثقافية مختلفة حتى وإن انتمت كلها إلى نفس الثقافة فصعوبات شاعرة خليجية ليست هي نفسها صعوبات شاعرة من المغرب العربي وهكذا دواليك ولكن مع ذلك يمكن رسم ملامح لصورة أرجو أن تكون صادقة إلى حد ما.فمن خلال مشاركتي في مهرجانات شعرية أقيمت في مصر وسوريا والمغرب وع مان وقطر ولبنان, أستطيع القول بأن الشاعرة العربية المسلمة تكتب في الحب وفي الغزل وفي قضايا الأمة العربية والإسلامية وعلى رأسها القضية الفلسطينية لدينا فدوى طوقان كرمز لشاعرات القضية. وسعاد الصباح ولميعة عباس عمارة شاعرتان في الحب وفي الغزل. ولدينا شاعرة وناقدة تسمى نازك الملائكة ساهمت في التأسيس لقصيدة التفعيلة. وشاعرات أخريات كثيرات ولعل هذه الأسماء لدليل على أن عالم الفن الشعري يقوم على الفرادة وعلى الموهبة مهما كانت المعطيات الخارجية المتمثلة في الانتماء الديني والثقافي والعرقي. وربما لو قمنا بعملية إحصاء لعدد الشاعرات اليوم في العالم الإسلامي لأصيب الغربيون بالدهشة, فمثلا في تونس لدينا العديد من الشاعرات خاصة بالنسبة إلى الجيل الجديد حيث تبرز الرغبة قوية في كتابة الشعر وفي النشر وفي إصدار الكتب والمشاركة في الأمسيات الشعرية. بالنسبة إلى التجارب التي تمكنت من التموقع نذكر فضيلة الشابي وزهرة العبيدي وجميلة الماجري ونجاة العدواني وفوزية العلوي وإيمان عمارة ورجاء بن حليمة والملفت للانتباه هو أن كل هذه التجارب مختلفة عن بعضها البعض, مع العلم بأن جيد الشعر كما في كل المدونات الشعرية دائما قليل.
بيت القصيد أن طفرة من الشاعرات تغزو اليوم الشعر العربي تتمظهر في العدد الكبير للشاعرات وفي الملتقيات الخاصة بهن. كما أن كم الشاعرات قد ساهم في ولادة جيل من الناقدات أيضا.وأغلب الشاعرات العربيات اليوم يكتبن قصيدة النثر أي قصيدة بودلير ورامبو ولقد نجحت تجارب عديدة في الإضافة إلى أنموذج قصيدة النثر ونذكر هنا ميسون صقر من الإمارات ولينا الطيبي من سوريا وفاطمة قنديل من مصر وإيمان مرسال من مصر وهدى أبلان من اليمن وفوزية السندي من البحرين وسعاد الكواري من قطر ومرام المصري من سوريا بالتالي يمكن الاستنتاج بأن الشاعرة العربية تساهم في تشييد روابط شعرية بين الغرب والعالم الإسلامي من خلال انخراطها في قصيدة النثر وتعريب روحها وقيمها مع القناعة بأن القيم الجمالية والإنسانية فوق الحدود العرقية والدينية والحضارية.
كما أعتقد أن الصعوبات التي تعيشها الشاعرة سواء في بلد إسلامي أو بلد غربي هي نفسها لو تناولنا تلك الصعوبات المتعلقة بالعملية الفنية في حد ذاتها. أما تلك الصعوبات الخاصة فيمكن حصرها في صعوبة النشر التي تشترك فيها مع الشعراء الرجال, إضافة إلى أن كثيرا من النقاد يتهربون من الكتابة على تجارب الشاعرات خوفا من التورط في إشاعات معينة لذلك نجد نقادا مقتنعين بتجربة معينة إلا أنهم خيروا الحياد النقدي ويكتفون بالنبش في الشاعرات الطاعنات في السن والكبيرات في القيمة الفنية مثل فدوى طوقان ونازك الملائكة إن تهمة كتابة الرجال للنساء رائجة في الثقافة الإسلامية العربية: فنزار قباني يشاع أنه كاتب قصائد سعاد الصباح. وأخيرا لعلكم سمعتم بإشاعة رخيصة دوت في الإعلام العربي تتهم أحلام المستغانمي الروائية الجزائ-رية بأنها لم تكتب رواية ذاكرة الجسد وأن الذي صمم معمارها الروائي هو الشاعر العراقي سعدي يوسف. إنه جو من اللاتصديق بأنه يمكن لأمرأة أن تكون مبدعة في الشعر وفي الأدب.وأظن أن مثل هذه التهم منتشرة أيضا في الغرب, لذلك فإني سأتجاوزها إلى نقطة أخرى أراها أكثر أهمية لكونها تمس جوهر العملية الفنية الشعرية, وتدير ظهرها لثرثرات الهوامش.إن المشكلة التي تعترض الشاعرة العربية اليوم هي كيف تتحول من موضوع للقصيدة لطالما كتب فيه الرجل الشاعر إلى ذات لغوية تفعل فعلها في اللغة وتشيد معمارها الخاص من خلال تقمص دور الفاعلة اللغوية.إن هذه المسألة تعتبر الحجر الأساس في القصيدة التي تكتبها امرأة, أي كيف تنسحب ذات الشاعرة على القصيدة بشكل يفرز أنوثة شعرية تكون قادرة على مجابهة الذكورية الشعرية ذات التاريخ الطويل العميق. وإذا قلنا بأن الاختلاف والتنوع يثريان الفن ويزيدان في تعداد القيم الجمالية , فإني أظن بأن الشاعرة المنتمية إلى بلد إسلامي يمكنها أن تنحت قصيدة مختلفة تتغذى من مرجعياتها الثقافية الخاصة. وفي تجربتي الخاصة استفدت كثيرا من القرآن ومن الجماليات التي يشتمل عليها وذلك كنص غني بالعبارات وثري بالصور وتتوفر فيه كل التقنيات التي نحتاجها للبلاغة وللرمز وللتورية. كما استفدت أيضا من التجارب الصوفية التابعة لابن عربي والحلاج وقد انتبه الشاعر جوزيبي كونت في تقديمه لترجمة قصائدي إلى ذلك وأرجو أن يسعفنا الوقت لقراءة البعض من قصائد ذات المنحى الصوفي. إن الشعر كنص مفتوح على الأساطير والنصوص المقدسة والمعارف والتجارب المختلفة , بإمكانه أن يكون قناة للحوار بين الحضارتين المتخاصمتين حاليا. كما أن الشعر رغم عراقته فإنه يعيش اليوم شبابه الجديد مراهنا على كم هائل من الدهشة الشعرية مازال نائما في أعماق المرأة الشاعرة سواء في الغرب أو في العالم العربي الإسلامي.أيضا الشعر هو وليد المعاناة المختلفة الوجوه والدرجات لذلك فإن الصعوبات مهما كان عددها أو نوعها فهي محرضة على الشعر وليست حائلة دونه.
ساستري لوفونت
20 سبتمبر 2003
نص مقدمة الترجمة الإيطالية بقلم الشاعر جوزيبي دي كونتي وقام بتعريبه الرداد شراطــي**
* صدرت الشاعرة آمال موسى ديوانها ببيت المتنبي:
وكم جبال جبت شاهدة أنني أل
جبال وبحر شاهد أنني البحر
وبهذه العتبة تفصح الشاعرة الشابة والمتميزة, للقارئ الإيطالي الذي يتعرف عليها لأول مرة, عن جذورها الشعرية. إنها عتبة تعتمدها منطلقا لبحث ذاتي يتفيأ التجديد. وبذلك تواصل مسالك الشعراء السابقين عنها أمثال أدونيس ومحمد بنيس. يقوم بيت المتنبي على تماه بين الذات والعالم أساسه تمجيد الذات, وهذا ما جعلني أستحضر أبيات أحد شعراء الفرس جاء فيها <<قلت لها لمن تنتمين أيتها المتوهجة? إلى أنتمى أنا المتفرد, قالت. أنا العشق والعاشق والمعشوق/ أنا المرآة , التوهج والعين التي تبصر الخفى.>> عند ما أقرأ قصائد آمال موسى ينتابني إحساس مربك. أجدني أمام غناء خالص وراق تسمه سهولة متمنعة. وهو يقوم على مادية العالم التي تذوب أو تلتبس بما هو روحي. في قصائد آمال موسى ندرك علاقة الواقعي بالروحي وتداخلها في نسيج يتقدم بوصفه تعاليم رفيعة يلقنها الشرق لمجتمعاتنا التي لازالت ديكارتية.
يتدفق الماء في كل قصائد المجموعة الشعرية << أنثى الماء>> يغمرها ويجعلها ترشح قطرات تبللنا وتروينا خيول الماء تثيرها الأنا – الأنثى التي تأخذ لون الماء فتتحول نبعا : << فز بمائي قنينة / فهذه الأنثى تستضيف الصيف.>> الماء ضالع الحضور في المجموعة الشعرية. إنه صليل سري, يسعد بصداقة الأعماق. وبالحجر ينبهر. يتقفى خطوات سيدة فترتديه. الماء ما سيغمر الربع الأخير. كل شيء منذور للتدفق. سيل يعكس ألوانا في << قصائد ترى الأنثى حبلى بنهر مسجور >> , وفيها يتكشف أن إلها خلق الأنثى ليخبئ فيها الماء. ومن ثم << فكل الإناث يمتن غرقى>>.
هذه القصائد التي تفيض أنوثة لا تقتصر على الماء فحسب, بل تحتفي أيضا بالجسد والجوهر انطلاقا من رؤية مجازية تنهض على الاستعارة. كما لم يمنع الماء النار من الحضور في الديوان. فهي على نذرتها تسري في القصائد , تؤجج الأنثى. تفتحها على أسئلة وجودية عنيفة << أي رجل يتحملني>> أي امرأة تستأنس برفقتي / أي طفل لا تقتله دهشتي/ أي أب ينجب شبيهتي/ للأنثى في الديوان وعي بكل عناصر الوجود المتفاعلة في دواخل الكائن, وهي تلقن ذلك جيدا لمن يأتي باسطا كفيه إلى نارها وهوائها وترابها ومائها الذي ينقاد متدفقا.
ثمة أبيات في المجموعة الشعرية بلغت فيها الاستعارة بهاء لا يحد , على نحو ما نجده في قول الشاعرة << فوق أناملي/ على صهوة أحداقي/ أحملني قماطا/ بالاستناد إلى الاستعارة تخضع الشاعرة الجسد إلى تحويل جذري. هذه علاماته : الكتفان وكران/ واحد لليمامة/ وآخر للصقر الناعس. النهدان خميرة/ الخصر كوكب بدور حول غزالة/ اليدان جرتان مسجورتان/ السيقان مدن ضاقت بمواعيد العشاق/ الأصابع تمشط ضفائر القصيدة.
لا تتحدث المجموعة الشعرية << أنثى الماء>> عن الجسد إنما تمتلكه. إنه مادة القصائد, به تجمع بين الحلم واللانهائي وتفتح إمكان العشق في نداء يتأسس على العطاء. الكون كله يغدو جسدا تهبه الأنثى صفات إنسانية , إنطلاقا من قوة الاستعارة والغناء المتمنع عن البوح. هكذا يأتي الليل على كف سيدة << ناعسا>> مثل طفل أو انعكاس فضي لضوء القمر. من يقرأ هذه القصائد الزاخرة بالصور المناسبة والرموز الباذخة والتوغل في أدغال التخيل والإيقاعات السحرية والتعابير الباهرة والصيغ الفعلية والمرعشة يجد نفسه, طورا, منقادا لإنسياب شعري ولصوت شعري يجعل آلام الحاضر المتوتر والمأساوي تتلاشى, وطورا آخر أمام غناء خالص : << في الليل/ على صدر البحر/ ولدنا منذ القديم/ نحن الاثنين. >> غناء يستحضر أصوات شعراء كبار أمثال سافو والشيو وغيرهما ممن تحكمهم صلات وثيقة بالبحر الأبيض المتوسط والثقافة العربية ككواسيمودو وأونكاريتي اللذين طبعا الشعر الإيطالي بمسميهما الخاص في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
في <<أنثى الماء>> تبلغ بعض القصائد ذروة الغناء الشعري. ففي قصيدة <<صور بلا إضاءة>> تلجأ الشاعرة إلى اللعب السحري في منطقة بين التقاط آلة التصوير وحركية الجسد, بين الإنعكاس المرآوي والأصل المتمنع لا في المطلق. بهذا اللعب ندرك أن الذات الكاتبة أنثى منخرطة في حاضرها, تقيم في الشعر كما في الواقع تواجهه وتتحداه
وفي شعر آمال موسى نصاحب مواضيع تتعالق وتتعاقب معلنة حضورها القوي. ففي هذا الشعر نقرأ الجنون آليته والرغبة والمنحى الإيروتيكي. فالصوت الذي يردد <<أناي/ الجملة/ أناي الكثيرة/ أناي البيضاء>> يحل في صورة <<كاهنة الجنون>> التي تجعل التيه شيمة. صوت يقيم في مكان مجهول ويصير نجمة الصباح في الصحراء , وينام في البلور ثلاثة فصول.
باستعارة باذخة تواصل الشاعرة صقل تعابيرها. فالجنون يغدو انبهارا والتيه سفرا بين الضوء والعتمة. كما تشع الرغبة في صور التصوف العتيقة. أما صورة الوردة وقدح الخمرة فتستحضر أشعار ابن الرومي وحافظ الشيرازي.
يشغل النزوع الإيروتيكي في القصائد بوصفه فتقا فجائيا مثيرا , يغذي دوما مسالك قصيرة إنها مسالك محجوبة ومسجورة حد الإنهمار عشقا.
وبين تماس الجسدين يقوم <<برزخ>> تزع الإيروتيكي تحكمه موجهات روحية كما في كل الشعريات الممتدة من المغرب العربي إلى الهند, يتأسس بسرعة خاطفة. يحتفظ بغموض متمنع عن الاخفاء, ويتفيأ ما وراء الاجساد لملامسة التعالي والمطلق على نحو ما نجد في قصيدة <<خمرة القيوم>> الحافلة بالصور الحسية التي يبلغ فيها الجسد مداه.على الغرب إعادة التفكير في ذاته ليتسنى له أن يفهم هذا الشعر ويعشقه , وليتأتى له أن يرى ما ينتمي إليه. وبرؤيته سيسلك الدروب المنسية بغية مواصلة الرسالة الجمالية والروحية للتعالق الثقافي الذي سنه شعراء مضيئون أمثال غوته وفيكتور هيجو وشيلي
رسالة يتعين علينا معانقتها.
****
* عن دار نشر سان ماركودي قويستينياني (San Maroc qui Giustiniani)
صدرت ترجمة شعر الشاعرة التونسية آمال موسى إلى اللغة الإيطالية, وذلك تحت عنوان << أنثى الماء : في مملكة الذات>>.
وتعتبر هذه الترجمة التي أتت على أكثر من 125 صفحة, الأولى من نوعها بالنسبة إلى الشاعرات العربيات, في حين أنه فيما يتعلق بالشعراء العرب, ترجمت الدار لكل من الشعراء آدونيس وعبد الوهاب البياتي ونزار قباني وأمجد ناصر ومحمود دروبش ومحمد بنيس وعباس بيضون.