«ما زلت أنحني أمام برتولوتشي وأنا أفعل ذلك منذ أول فيلم «ما قبل الثورة» عام 1964، ولطالما رغبتُ بعمل مثل هذا الفيلم. وقد فهمت في أكثر من مناسبة بأنني لن أنجح أبدًا في مقارنة معه. فأنا دائما ما قبلت بهذا المخرج بوصفه جزءا من التراث الكبير للفن الايطالي».
مارتن سكورسيزي
أتذكر كنت في رحلة طلابية من القاهرة الى اسبانيا التي طفنا مدُنها, حتى استقر بنا المقام الأخير في العاصمة (مدريد) كانت الرحلة خليطاً من طلبة ينتمي معظمهم الى الخليج والجزيرة العربيّة… وكنتُ في الفترة التي سبقت الرحلة، قد قرأت كثيراً عن (جمعية الفيلم) و(نادي السينما) عبر نشرتهما وكتّابهما، مثل رؤوف توفيق وسامي السلموني وشريف رزق الله… الخ، عن فيلم برناردو برتولوتشي «التانجو الأخير في باريس» وما أثاره من جدل في السينما والثقافة الأوروبيّة. ولأن الفيلم من الصعب أو المستحيل عرضه في القاهرة حتى في جمعية الفيلم، إن لم تُقتطع مشاهد منه كالعادة… حين رأيت بوسترات الفيلم على الواجهات المدريديّة.. أخبرت بعض الزملاء والزميلات، عن أهمية الفيلم ورمزيته العميقة التي تحدث عنها النقاد في مختلف بلدان العالم، وترجمها النقاد المصريون العتيدون في الفن السينمائي العالمي… ذهبنا مجموعة من الزملاء والزميلات الى دار السينما التي تعرض الفيلم المثير والصادم. لقطات ومشاهد وكادرات تتوالى بغموض على الأرجح، قياساً بما شاهدنا قبلا من أفلام عربيّة أو أوروبيّة، حتى تلك الموسومة بطابع الثقافة والمبادئ الثورية الهادفة حسب رطانة تلك المرحلة. لم يمض وقت طويل حتى شاهدنا بعض الزميلات ينسحبن مهمهمات بكلمات مثل: خدش الحياء ولا أخلاقية الفيلم وانحرافه….
بالفعل كان الفيلم صادماً للذوق والحياء التقليديين حتى لمن هم أكثر وعياً من الزميلات اللواتي ذهبن مثل غيرهن في طيّ الغياب والنسيان. خاصة مشهد (الزبدة الفرنسية) على أرضية الغرفة الغاربة والمعزولة كأنما في صَقع ناءٍ وليس في قلب حاضرة أوروبيّة.
بين (مارلون براندو) وكان في عمر الثامنة والأربعين وبين الفرنسية (ماري شنايدر) وهي بالكاد في مطلع العشرينيات… كان صادماً ومدهشاً على نحو مفارق وغريب غرابة الإبداع الكبير وهو يتجاوز صانعيه إخراجاً وتمثيلاً، الى آفاقٍ شاسعة من الحريّة والخيال.
كل مسار هذه الدراما الاستثنائيّة التي شاهدتها لاحقاً أكثر من مرة، يندرج في هذا السياق من مشهد الاستهلال حيث نرى (بول) مارلون براندو، تحت سكة قطار في المدينة الكبيرة وهو يسدّ أذنيه، صارخاً في بريّة المدينة الصاخبة المتوحشة، مدينة المال والأعمال واللهاث.
المتمرّد المهزوم في تمرده وثورته يعبر بالصراخ من فرط ألم العزلة والهزيمة، ما يلبث أن يدخل بصمت حزين الى شقة مهجورة، حيث اللون الأصفر هو المهيمن، وكأنما قذف خارج الزمان والمكان، حيث يلتقي بالصبيّة (ماري سنايدر)، وتبدأ سيرة الفيلم، بكلام قليل أو لا كلام وحيوانيّة كاسرة. من مشهد الافتتاح الى مشهد الختام حيث أحداث فيلم المكان الواحد، بتمظهراتها وهذياناتها المختلفة، وحتى المشهد الأخير إذ تقوم الصَبيّة، ذات الجمال الفائق والبراءة الفاجرة، بقتل (بول) في شرفة الشقة ليتطلع الى المدينة وهو يترنح في خروجهما الأول ربما من تلك الشقة، أو الصَقعْ المهجور ، إلا من حيوانيّة الجنس وأشباح الموت والغياب، في خروجهما الى ضوء العالم، ليسقط مضرجاً بدمه وانكساره.
توالت أفلام برتولوتشي الملحميّة التي تحاول القبض على لحظات التحول الكبرى في النفس البشرية وفي التاريخ (1900) أو القرن العشرين.
«الامبراطور الأخير» تراجيديا آخر امبراطور في الصين لحظة إطباق الشيوعيّة الماويّة على سُدّة السلطة والمجتمع؛ وغيره من الأفلام التي يحفظها تاريخ الفن الرفيع جيداً، مثلما حفظ تاريخ إبداعات أسلافه الكبار. روسليني ديسيكا، بازوليني، انطونيونيتي، فيلليني….الخ.
ومثل أي مخرج كبير، يكثر الجدل والرؤى المتناقضة حول صنيعه السينمائي المديد. لكن ذلك الرأي العجيب حول «التانجو الأخير في باريس» وفيلمه الآخر «الملتزم» الذي مثله الفرنسي (جان لوي يرينتينيان) كمثال على أن برتولوتشي، يذهب الى أن «عذرية الطهارة الأوروبية» دائما يكسرها ويهشمها الرجل الأمريكي. أي أن هناك هذه الثنائية: العذريّة الأوروبيّة، وساحقها الأمريكي. غريب هذا الرأي، ففيلم «التانجو» ليس الهويّات وتصادمها، وإنما على العكس تماماً ، حيث خراب الروح المتشظّية، وانخلاع الاسم والهويّة، والمكان والزمان. فيلم تدميري في عدميّته النافية لكل ثوابت الوجود والهويات والتاريخ.. من ناحية أخرى متى كان الأمريكي، على هذا النحو من المانويّة الهويّاتيّة تجاه الأوروبي سواء في الإنجاز الحضاري العظيم، أو في إبادة الآخر المختلف برهة الكشوف أو«الفتوحات» الجغرافيّة. تلك الظاهرة «الغربويّة» كما سماها فيلسوف روسي. ذلك الأصل المشترك لهويّة العرق والحضارة في أطوارها المختلفة. إذ أن الأمريكية ليست إلا طور أعلى ربما، لمسار الحضارة الأوروبيّة؟!
رحيل برناردو برتولوتشي عن عالمنا هو رحيل آخر الكبار في السلالة الإيطالية والعالميّة التي أبدعت ذلك الفن العصي على السقوط أمام اختبار الزمن وصروفه المتقلبّة، وربما الخلود.
* * *
إذا كان الكرنفال البدائي يتسم من بين صفات أخرى، بفوضى الحريّة الجامحة غريزياً وجمالياً وبأقنعته الحيوانية المختلفة وبحشد من الأشكال والألوان الباهرة كعيد من أعياد الأقوام الآفلة- فكرنفال صانعي الحضارة وساكنتها من الأحفاد، يختلف في انضباطه الشديد ودقته العلميّة المحكمة. بالأرقام والأزرار الالكترونيّة وغيرها، لكن تبقى تلك الأواصر الخفيّة في امتداد اللاوعي الجمعي موجودة بطرق أخرى في حشْد الأقنعة والألوان والأضواء الصناعيّة هذه المرة..
احتفلت باريس والعالم المتحضر بذكرى الحرب الأولى. السادة يتربعون على منصات القوة والهيمنة والانتصار الأكيد, عبر هذه المسافة التي تفصل بين السنين المتراكمة…
في الاحتفالية الكرنفالية الضخمة، التي أقيمت في باريس لمائة عام على انقضاء الحرب العالمية الأولى التي تلتها الثانية بشكل أكثر اتساعاً ووحشية وفتكاً بحكم تطور أدوات القتل والإبادة والخراب. وهذه الأخيرة ليست ضد امبراطورية هيمنت قروناً طويلة، وشارفت في الفترة إياها على طور الاحتصار (العثمانيّة) أمام قوى الحضارة الغربية الصاعدة بقوة للإمساك بزمام المصائر والتاريخ وإنما بين قوى الحضارة الغربية الديمقراطية نفسها أو ما يطلق عليه ببلدان العالم الحر..
لذلك فالاحتفاليّة المئوية، بأبعادها الرمزية الكبيرة ، حيث اندحار الشرق أمام الغرب ، الذي التأم لاحقا في ضفتيْ الأطلسي واحتشدت الهيمنة المطلقة على مصير العالم والتاريخ، رغم المحطة السوفييتية المنافسة عسكرياً على الأرجح والتي سرعان ما اضمحلت أمام عتوّ دهاة التاريخ وأباطرته حيث شهد العقل البشري بكافة أطواره وأبعاده، (الغربي على الخصوص) تطوراً هائلاً. تجسد في قفزات نوعيّة، في الاكتشافات العلمية والاختراعات التي وسمت عقلاً وأفقاً من غير حدود ولا ضفاف. بداهة مال هذا النشاط والحيويّة الخلاقّين ، جهة منظومة الهيمنة والقوة والسطوة والشر، بفرعيها، القوة التكنولوجيّة العسكرية الكاسحة في تفوقها، أو القوى الناعمة التي لا تعوزها ولا تنقصها أسباب الهيمنة شبه المطلقة على أنماط سلوك العالم، ذوقاً وملبسا وفناً وأدباً وكل التفاصيل التي تدخل في فضاء هيمنة المعايير الغربيّة التي شكلت مرجعيّة كونيّة لا يُفل عضُدها من قبل أعدائها إن وُجدوا على نحو نديّ.
قبل عقود استطاعت قوى الرأسمالية وشركاتها العابرة والعملاقة أن توحّد العالم تحت راية هيمنتها المرئيّة والخفية. وفي العقد الأخير اندفع قطار التاريخ الجامح والمسعور ، الى مراحل (العولمة) لتطبق أكثر على حياة البشر ومسار الوقائع والتاريخ وكأنما تشهد أطوار التاريخ وحقبه فصول ثباته وهيمنته الأخيرة. لولا ما يشوب هذه النظرة من لاهوتيّة لا تنطبق على السياق الأرضي البشري الذي من طبيعته الجوهريّة التغير والتصدّع ، الهدم والبناء… الخ.
انجازات عظيمة وعبقريّة، تلك التي حققها بوتيرة فلكية العقل الكوني بقيادة الحضارة الغربيّة التي لا تفتأ ترتاد قفار المجهول والغامض، اكتشافاً ومعرفة واستثماراً، لا يوازيه ويقاربه إلا ذلك الانفجار القيامي للفروقات الطبقيّة والعرقيّة والمعرفيّة، هذه الأخيرة محتكرة من قبل الحضارة، المهيمنة الغالبة ولا تفيض عنها على الآخرين إلا الفتات.. لا يوازي تلك الانجازات العظيمة إلا الخراب والحروب الوحشية والنهب المنهجي لثروات البلدان المستضعَفة، الإفقار والإذلال حيث كرست واخترعت بلدان الحضارات الديمقراطية والقانونية والحقوقية أنظمة للبلدان التي تقع خارج نطاقها أنظمة أساس تكوينها الفساد والاستبداد المتطرف والقمع والإذلال على مسار الألفية، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، أنظمة وسيطة كمبرادوريّة تخدم مراكز الحضارة والهيمنة وتسحق شعوبها .. أنظمة لا تعرف من معاني الدولة الحديثة، إلا أدوات القمع والتنكيل المستوردة مثل غيرها من لوازم الحياة الضرورية من المراكز المنتجة إياها.
مقام هذا الحديث يطول ويتشعب الى غير نهاية، لكن في هذه الأسطر، تحاول القول أن المتحضرين الديمقراطيين لم يتوقفوا لحظة في احتفالاتهم الكرنفالية المشعة المبتهجة التي شاهدها العالم أجمع، المسحوق والمفتون بساحقيه ومدمري تاريخه وانسانيته قبل غيره.. لم يتوقفوا وهم في ذروة الزهو البطولي والنصر، في ذروة صيرورة القوة القطبية الواحدة، حول ما جنت أيادي وعقول تلك الحضارة على الشعوب الأخرى من إبادة واستباحة وتصدير للأوبئة والحروب والكراهيات.
في ضوء ذلك يبقى خطاب الديمقراطية والمساواة والعدالة في الأرض الاحتفالية، محاربة الإرهاب، السلام على كل ربوع العالم …. الخ، مجرد لغط وتكرار ممل واستعراض.
من فحوى الأسطر السالفة وأنا أشاهد الصف الأول في الكرنفال الماسي المضاعف، حيث الملك محمد السادس يجلس بجانب رئيس الدولة الأقوى في العالم، وهو لا شك تقدير من الرئيس (ماكرون) ومنظمي الكرنفال وقد أخذت الملك المغربي سِنة من نوم ، رغم كل ذلك الصخب والهرج والمرح كما يقال…
أثارت غفوة الملك تعليقات كثيرة، لكن أرى أنها صدفة حلت في سياق منطقي وأخلاقي أمام زَبد الكلام عن السلام وهذَر الخطاب…
* * *
(فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب) لمؤلفه محمد بن خلف بن المرزبان المحوّلي لأنه كان يسكن باب المحوّل ببغداد في ذلك الزمان 309 للهجرة الموافق 921 للميلاد…
واذا كان معروفاً في الأدب والقص الحكائي ذلك الوفاء الذي يتميز به الكلب عن سائر مخلوقات الله، فان هذه العجالة لا تبغي بحثا في هذا السياق بل إطلالة على مشهد الاعلام العالمي ومراحيضه واخطبوطاته المجنّحة بقوة التكنولوجيا، وهي تطبق على عنق العالم وقلبه وعقله محيلةً إيّاه الى أنقاض نفايات ومكبّ مزابل.
الأخطبوط الكوني الذي لا يقيم أدنى وزن لانسان أو قيم، لمهنية صار لها تقاليدها ، لا يقيم وزنا إلا لمصالحه الضاربة بضراوة الجشع الجحيمي الذي يقول دوماً، هل من مزيد.. هكذا من إعلام الحضارة الممسكة بمصير الكون والبشر والحيوان ، الى البلدان الأخرى التي قذفت نفسها أو قُذف بها أو رماها التاريخ الى هوامش مستنقعيّة تنتج المادة الخام لاستمرار قوة تلك الحضارة وترفها… من الطبيعي أن يكون إعلام دول الحضارة حين يتعلق بأوضاعها الداخليّة يكون السجال المثري والتعدد والاجتهادات لمقاربة الوقائع والحقائق. لكن حين يتعلق الأمر ببلدان الهوامش والمستنقعات، يكون العكس على طول الخط، فيمكن لحدث صغير في الفحوى والدلالة أن يطغى على مجازر وإبادات، ضحاياها بالملايين وحبْل المجازر على غاربها المفتوح على ما هو أكثر رعبا وفظاعة. إعلام دول الضحايا والمنكوبين في كل أنحاء العالم تقريباً، ليس إلا الصدى الباهت لانعكاس تلك الآلة الاعلامية الاخطبوطية لدول الحضارات ، إلا مزيداً من التدليس والكذب والزعبرة التي تحوز فيها بلدان الانحطاط الشامل السبق والابتكار.
مشهد العهر والفجور أصبح في ذروة ازدهاره مقابل صحراء العربي الدامية وجلبة صراخ الضحايا والبلاد المدمّرة الذي لا يسمع صوتها الخاص وإن سُمع فيتحول من مجراه التراجيدي ، الى تسلية مثيرة أو باتجاه خدمة المصالح التي تسببت أو ساهمت في صنيع قيامة الألم والدم..
ليس أكثر فجوراً مما نشاهد ونسمع ونرى في البرهة الراهنة، في انعكاسها العربي خاصة.
(أفضل الكلاب على من لبس الثياب) وأي ثياب يلبسها ملوك ميديا هذا الزمن من الترف والبريق واللمعان الاستعراضي لأقصى الموضات وهم يتلون ليل نهار ، أنباءَ الكوارث والدماء والانهيارات الوحشيّة.
أي ثياب وأزياء لا يتخيّلها محمد ابن المزربان ولا كلابه ذات الوفاء النادر والقيم الرفيعة، كما ورد في حكاياته المشوقة وأشعاره الطريفة الدالة.
وروي عن بعضهم انه قال:
«الناس في هذا الزمان خنازير، فاذا رأيتم كلباً فتمسكوا به فانه خير من أناس هذا الزمان»..
قال الشاعر:
«أشددْ يديك بكلب إن ظفرت به
فأكثر الناس قد صاروا خنازيرا»
يقيناً حتى الخنازير تستنكف عن الوصف والتشبيه.
* * *
كان يمكن القول بسهولة ان الحياة العربية، السياسيّة خاصة (سيرك) ببهلواناته ومهرجيه وأقزامه وعمالقته الوهميّين، الكل يؤدي وصلته ودوره حسب السيناريو الموضوع سلفاً لمهرجان هذا السيرك الجماعي. وإذا سَلمنا بهذه الاستعارة، سيرك الحياة العربيّة الراهنة، نسارع القول بأن أوضاع العرب الماثلة ليست مدعاة للكوميديا والضحك البهلواني، بقدر ما هي منذورة بقدر التراجيديات والمآسي، الأكثر عتواً وألماً، الى البكاء والنحيب. إلا إذا مضينا مع (صموئيل بيكت) بأن ليس هناك مدعاة للضحك مثل الشقاء أو المتنبئ، ولكنه ضحك كالبكاء…
لتمضي المقاربات والتعريفات والمفاهيم، في سياق سُبلها المتشعّبة، ونمضي نحن في الراهن العربي الذي لايشبه إلا نفسه وعصور الانحطاط المظلمة، حيث الدموع الدامية، مع ضحكات المواخير وفجورها. وناطحات البذخ القاهر تضرب أبنيتها ومخططات إعمارها وسط مضارب المجازر والمذابح والحطام، الذي تتصاعد من أنقاضه صرخات الأطفال والنسوة الذين ما زالوا عالقين وسط الأبنية المهدّمة، على آخر نبض لحياة قضت في انتظار بزوغ الأمل المولود ميتاً والخراب العميم..
سيرك وماخور، سلخانة وألم أقصى وضحك دموي هستيري في هذا الفضاء العربي المشرع على فصول الجحيم وأعاصير الصحراء.
عرّافة الأحوال والأزمنة المتقلبة، ترى الأطفال عالقين في أرحام الأمهات. أجيال الأطفال القادمين، متجمدين على حافة ظلام الرحم، وضوء العالم الخارجي المكفهر مثل صرخة هائلة توشك على الانفجار.
ترى التيه والظلم والدم في كل زاوية ومكان، وتلك الارتدادات الطوفانية التي تحصل بعد الزلازل واستفحال الفوضى والتدمير. لتكنس قذارة البشر في هذا الكون الفسيح .. ترى كل شيء ولاترى شيئا في لحظة الغيبوبة والزوغان، من فرط أثقال العذاب المتجدّد وحمولات الانهيار.
* * *
الحياة العربيّة تشبه ذلك الوعل الجريح، وحيداً في سهْله المحترق تتلاطم حَوله أمواجُ السراب؛ أو تلك الشجرة اليتيمة على حافة الصحراء التي تحلم بالخضرة والنماء، فاذا بتحولات الرمال الساحقة تحيلها الى عريٍ ويباب..
* * *
صيف الجزيرة العربية بدأ بعتاده الثقيل وأشباحه، في الزحف جيشاً مغولياً لا يترك من القرى والبلدات غير أسمائها وأجسادٍ أثخنتها الأسنّة والغياب..
أين المنتأى والمفر؟! كما يقول النابغة الذبياني:
(فإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلتُ أن المنتأى عنك واسعُ)
* * *
المُدن التي صنعها خيال الرحّالة والشعراء ، هي الأجمل والأبهى، من مُدن الوقائع والتاريخ، المدن بأقواسها وأنهارها ونسائها الباسقات، ملفّعات بالشفافية والضباب.. تلك المدن اللامرئية.
* * *
الزعامات التي أفرزتها دولة «الاستقلال» بعد حقبة الاستعمار والانتداب والتي كانت أكثر مرارة على مسار وأحلام الانسان العربي الطامح الى بناء دولته الحرة المدنية، القومية العادلة في حدود ما تمليه معطيات الوقائع والتاريخ.
وهي أكثر مرارة بسبب طبيعة الاستعمار البنيويّة وهيمنته على مقدرات الشعوب وثرواتها. وتزدوج وتتضاعف هذه المرارة كون هذه الحقبة ولدتها وعود كاذبة وخيانات تاريخية ساهم الغرب مساهمة حاسمة في إجهاض أحلام العرب وطموحهم في دولتهم العتيدة، بعد عصر مديد من الهيمنة الامبراطورية العثمانية امتدت لقرون طويلة.
وقف العرب أو بالاحرى قياداتهم الفكرية والسياسية آنذاك الى جانب الدول الغربية ضد العثمانيين الذين بدأت عظمة دولتهم في الأفول. فكانت المكافأة الغربية، الاستعمار والانتداب وكل مظاهر الهيمنة والإقصاء..
أزفت لحظة التحرر وبناء الدولة الوطنية، لحظة الدخول في التاريخ وتحقق أحلام الشعوب المهانة والمُذلة، تحت نير الهيمنة العثمانية والغربية لاحقاً…لم تدم فترة أعياد الاستقلال وكرنفالاتها طويلاً، إذ قفز الى سدة السلطة، زعماء معظمهم تحدّروا من ثكنات العسكر ومن بيئات بسيطة إذ ارتفعت الى «الطبقة المتوسطة» التي افترست نفسها مع الأيام والسنين كما افترسها الآخرون ففقد المجتمع صمام توازن كان ضرورياً..
تحولت الدولة- الزعامة- الى دكتاتورية كبرادورية تهيمن على فضاء المجتمع والسلطة وكل نوافذ الحياة والأحلام، محتكرة كل شيء لنفسها، وقد اختُزلت هي ورموزها ومؤسساتها إن صحت العبارة، الى شخصية الزعيم الأوحد، وقبضته الحديدية المزاجية والطائفية ان كانت في بلد ينقسم الى طوائف. تلك القبضة اللامحدودة بسقف ودستور وقانون. ومن فرط هيمنته وأجهزته الحامية لسلطته المطلقة، انحصر مفهوم الدولة الواسع والعميق، في شخص الزعيم وتعاليمه وخطاباته التي لا يرقى اليها السؤال والشك، حتى خرج أو كاد، من طوره البشري الى طور إلهي مقدس.. كل كلمة أو إيماءة أو عطسة يعطسها الزعيم المبجل الضرورة، تكون مصدر حكمة ومصدر سر يستعصي على وعي البشر الفانين تحت حكمه… إن عطسته ستكون نفحة من المقدس.
ها هو التاريخ وللمرة الثالثة عبر أقل من قرن من الزمان يمارس مكره التدميري على أحلام هذه الشعوب وبأكثر رعباً وقسوةٍ هذه المرة بعد رحيل الاستعمار المباشر وحضور الدولة الوطنية المحلوم بها، وحضور الزعيم الوطني المطلق المحارب الشرس ضد امبرياليات العالم، أبو الشعب الحنون ورب العائلة المتماسكة التي لا تنطلي عليها مؤمرات المتكالبين ضد حكمه العادل النزيه، كما تهذي وسائطه الاعلامية وخدمه.
هل بقي من مبرر لسؤالٍ، بعد هذا المسار من الفظاعات الوطنية والإذلال، أن تندفع الجماعات او الشعوب الى هذا الدرْك من جحيم الحروب، التي أسس لها ذلك النوع من الحكام والزعامات المسعورة بعقد الانتقام والتدمير؟! حيث الوطن والتاريخ والقيم ليست إلا استعارة لذلك الزعيم الأوحد..
هكذا استوطن سرطان الاستعمار الداخلي بقسوة أكبر من ذلك الخارجي الواضح والمحدد، الذي سُفحت حوله الدماء والأهاجي والأحبار. وعكس المثل السائر الذي كان يقول ان الاستعمار خرج من الباب ودخل من الشباك، فقد دخل من الأبواب الأكثر سعة واستباحة لأرض الثروات والجثث والأحلام المؤودة.
* * *
ليس أكثر دلالة وفصاحة من تلك الرسالة التي وجهها الشاعر والفنان الاسباني (فرناندو أرابال) الى الجنرال فرانكو رغم أن هذا أقل شناعة من الجنرال العربي. أذكر أن أرابال لم تمنعه عدميته ورؤيته العبثية الى الحياة والتاريخ من ممارسة حقه في النقد اللاذع والاحتجاج بل زادته حرية وعمقاً.
«أعتقد أنك معذب بلا حدود، إذ أن الانسان المقهور فقط من يستطيع فرض القهر حوله، حياتك مُتشحة بالسواد، أتخيلك محاطًا بحمام بلا أرجلٍ بأكاليل سوداء، في أحلام تطحن الدم والموت. لقد اخفيت في إسبانيا جبالاً من البراز بمروحة يد صغيرة. حدادٌ عميقٌ من ضباع تجهش قيحًا يسقط على رجال إسبانيا، ألم تكن من صرح في تلك الأعوام: إذا تطلب الأمر سنقتل نصف البلاد»..(*)
الدكتاتور العربي قتل، والقتل هنا بكل معانيه المادية والمعنوية، ثلاثة أرباع البلاد، والحبل على غارب أزمنة القتل والانحطاط.
* * *
“لستُ يتيمًا في هذا العالم ، مادام يسكنه هذا الرجل”
هكذا عبر جوركي عن مشاعره تجاه تولستوي … اليتم هو الذي يسود هذا العالم ، اليتم والوحشة خاصة في هذا الجزء من العالم ، الذي أنجز فيه مخطط تسميم الروح وإنسانيّة الإنسان وتسميم الجمال بسموّه ورفعته ، أنجز مهماته بضراوة لا مثيل لها حتى في مجازر الحروب الصاخبة.
من هنا تبحث الأرواح والأفئدة الخاصة عن ما يشبهها ويتواشج معها في عمق الحلم والأمل المكسور.. النبي سليمان حين أراد عقاب الهدهد أقصاه إلى جنس من الطيور غير جنسه. الطيور وليس كواسر البشر..
” أضحت يباباً وأضحى أهلها ارتحلوا”
هكذا عبر الشاعر القديم عن مشاعره في وقفة طللية حارقة ..
وبمنحى آخر، هناك القصيدة الخالدة (الأرض اليباب) لإليوت، التي تتحدث أو تعبّر عن وضع مأساوي للحضارة الأقوى والأعظم في التاريخ، الاوروبيّة، الأمريكية.. وَيرِد فيها جسْر لندن. والحشود المندفعة لا محالة الى حتفها ، أو أن الموت طواها أصلاً منذ زمن بعيد ، والشاعر الأمريكي الأصل الإنجليزي الإقامة ، لا يرى الخلاص إلا في اعتناق المسيحية الكاثوليكيّة . أفق خلاصهِ ربما لا يعنينا ما يعنينا تلك التراجيديا المدوّخة في الارتطام بعالم الحضارة .. وتلك المناخات المقفرة والمفردات التي تحمل قسوة الصحراء، نباتاتها الجافة وأجواءها المدلهمّة، وكأنما يتحدث عن الجزيرة العربيّة أو بصورة أدق، الربع الخالي…
لطالما بحثتُ في ظلّ حشدنا القطيعي المندفع في المعالف والاسطبلات والمجمّعات التجاريّة، علامة الاستهلاك الباهظة، بحثت عن فرديات تشبه الروح العطشى الى الصدق، العدالة والجمال، لكن التسميم المهجيّ قد أحكم قبضته… لكنا لا نعدم عشبة متفتحة هنا، فسيلة خضراء هناك. وحين نلتقي خطفاً بهذه الروح المفارقة خيالاً ورهافة، بذلك الحضور المفرد، الذي يكاد يطغى بضوئه الجماليّ على ثقل القطيع الكاسر وعلى غائية المنفعة والغريزة .. يقيناً نكون سعداء بهذه اللقيّة التي تبدد شيئاً من اليتم والوحشة والاغتراب بكل أنواعه ومراجعه..
هذه القطعة الصباحيّة ، وددتُ مُشاركتك فيها ، وأنت تُحدقين في الأنهار والجسور والأشجار الباذخة.
الطقس هنا ما زال حاراً وثمة أخبار فلكيّة عن إعصار أو عاصفة مداريّة، على الأرجح هنا ، في العاصمة لن نرى من آثارها غيمةً شاردة ؛ أتمنى أن أكون مخطئاً وتغمرنا الغيوم كما تغمرنا صيحات أطفالنا المرِحة والعصافير.
سيف الرحبي