في بداية الممر وبعد خطوات قليلة فوجئت أني أضعت سليم.
سليم رجل طيب. ونحن نترافق أحيانا في المهمات التي يبعثنا اليها مدير قسمنا، قسم الدراسات في وكالة حماية التراث حيث نعمل.
يسمينا رقم عشرة، فسليم فخم مثل زعيم وأنا ضئيلة مثل قطة وبيننا فارق عمر يبلغ خمس سنوات ومحطات لقاء تشبه لقاءات القمة العربية. وكان الجميع ينتظر زواجنا قبل سنوات، لكننا ظللنا نتردد في اتخاذ القرار، وما زلنا. مثل معظم المدراء الذين اشتغلنا معهم، نلتقي ونتشاجر ونفترق، ثم نلتقي ونتصالح ونتفاهم.
لكننا لا نتزوج، وقد عملنا وكبرنا معا في هذه الوكالة منذ أن كانت مكتبا تابعا لفصيل في المقاومة الفلسطينية الى أن التحق بجامعة الدول العربية ثم نقل الى المنظمة الإسلامية واستطاع مديره بعد تعثر في تمويله أن يربطه فترة باليونيسكو الى أن عاد الآن وكالة مستقلة تديرها شخصيات غامضة تعرف أنها تضع دراساتها لمراكز بحث جامعي، أمريكية وأوروبية.
كنا أكملنا زيارتنا الى قاعة القرن العشرين في متحف مدام توسو وكانت مهمتنا تقديم تقرير عن وضع بعض التماثيل، قاماتها، ملابسها، والاختلافات بينها حسب مناطقها الجغرافية وحقباتها التاريخية.
لم نفهم تماما ما يريده مدير القسم. وقد استغرب سليم وجود علاقة بين تماثيل شخصيات القرن العشرين في المتحف وبين الدراسة التي كان اقترحها وكانت حسب علمنا تتناول تاريخ حركات وملابس راقصات الشرق الأوسط وتطورها منذ مطلع القرن. ولم يكن مجديا أن نسأل مدير القسم هدف التقرير المطلوب وفيما اذا كان يعني بالنحت ومواده أم بالمفاهيم المتوارثة في التعامل مع التماثيل. كذلك فشلنا أن نلفت نظره الى ركن في المتحف البريطاني قد نجد فيه فنونا تملك علاقة أقوى بتراثنا.
كانت لدينا ساعتان نمضيهما بحرية قبل أن نعود الى المكتب، لذا حلا لنا اكمال الجولة في المتحف. لم نغادر من الباب الخلفي بل قررنا أن ننعطف الى الممر. قادتنا اشارة ضوئية وكان كل منا قد تناول تذكرة من الفتاة الشقراء التي وقفت ما بين الباب الخارجي والممر تغري بابتسامتها الجميع لينعطفوا مثلنا ويعيشوا كما تقول الدعوة ساعة من الدهشة. قرأت أننا سنكون بعد الممر مباشرة أمام نفقين الكترونيين وعلينا بسرعة وبدون أدنى تردد أو توقف أن نختار المرور من أحدهما لنعيش بعدها المفاجأة والأعجوبة. أي مفاجأة ؟ تساءلت وما هو أكثر عجبا من هذا الذي نعيش ؟
لم أتوقع أن يضيق الممر فجأة ويعتم وأفقد سليم. افتقده وأبحث عنه وسط ظلمة كأنها الحلم. كان آخر ما قاله : "هي لعبة ستؤجل معاركنا قليلا." وكنا أنهينا وصلة من الشجار. بل وصلتين. الثانية كانت حول الشقراء التي رأى شقرتها أصلية ورأيتها مصبوغة والأولى عندما أعجبت بسمرة تمثال مانديلا وعندما قرص هو ياسر عرفات من شفتيه وسأله : "وين الكشرة يا ريس ؟ شو راحت مع الزواج ولا مع السلام ؟." ولأنه قال إني بلا عقل وأتغزل بعيون عبدالناصر وابتسامة مانديلا فقد رددتها له وقلت انه لا يتشطر الا على تمثال. يقرصه ثم يؤيد صاحبه. بعد ذلك سكتنا. ثم أعجبته دعوة الممر ثم اختفى فيه. هكذا خلال لحظات اختفى. تضايقت وخفت فالممر أخذ يضيق والناس حولي أصبحوا أشباحا ممغنطة بالقراءة. أعناقهم منحنية وأجفانهم منسدلة وأيديهم تحمل بطاقات الدعوة بحرص. أبحث بينهم عن سليم فأجد من يشبهه ولا أجده. خفت وحاولت العودة. لكني لم أقدر.
الممر يضيق أكثر مما يضطر البعض أن يمشي عرضا، يحف صدره وظهره بالجدارين ألمح امرأة بدينة تنحشر فتصرخ وكأن رجلا يدفعها بدأ الخوف يقوى ويعم والممر يضيق ويعتم. كانت خيوط ضوء تصل كالبرق ثم تختفي. كأنها تبعث من قوى خفية. لم أعد أخشى أن يلتصق بي أحد. أخذت أخشى الجدارين وقد بدوا وكأنهما ينطبقان. زمان كانت العتمة والزحمة في مداخل دور السينما تحشرنا بين أيد غريبة وقرصات. كانت بعض الأصابع تلمس جلدنا. تكهربنا. وكنا نخاف أن نعلن احتجاجنا فنفضح. الآن. خوف آخر. خوف من جدار.
لم أعش رعبا مثل هذا في هذه المدينة منذ أن نقل قسمنا في الوكالة اليها قبل ثلاثة أعوام. قبل قليل كان خوف كأنه اللعب يجتاحني وكنا صعدنا في آخر مرحلة من زيارة المتحف في مركبات الكترونية على هيئة سيارة أجرة قديمة وقادتنا الجولة الى لندن بدايات القرن. أردت الا أذهب فدفعني سليم الى العربة وقال “هذه هي جولة التراث الحقيقي”. رأينا المدينة داخل قبو. حانات وقلاع وسجون وفقراء ولوردات. شكسبير وديكنز وراقصات سوهو. كنت خفت قليلا من اندفاع المركبات وانحرافها وانزلاقها وما أن عادت بنا حتى تنهدت.
أين سليم ؟ أتراه غير رأيه وانصرف ؟ لكنني متأكدة انه دفعني ولحق بي. مثلما دفعني الى مركبة القبو. لا أستطيع الاستمرار الآن دونه ولا أقدر أن أعود. أين أذهب ؟ لماذا يتركني في هذه الوحدة ؟ كلهم ينحشرون في الممر والممر يأخذهم في اتجاه واحد ولا أحد يقدر أن يرجع. أتلمس لحظات الضوء لأتعرف عليهم. كأنه قصير ياباني هذا الرجل. كأنه طويل افريقي ذاك. كأنها امرأة. كأنها بغطاء رأس. أسمع ضحكات هستيرية وصرخات. أراهم. يخافون ويسرعون. والى أين ؟ وماذا في نهاية الممر؟ أين سيقودنا أحد النفقين ؟ كلمات الدعوة وشروط الجولة فوق التذكرة تؤكد ضرورة الاختيار بسرعة وبلا أي توقف أو تردد. علينا أن نتوجه الى أحد النفقين. الكلمة تقول. Either أحدهما. أين سليم ليشرح لي أكثر؟ لماذا يتركني حائرة. هل حلا له الحديث مع الشقراء التي تشبه الأمريكيات ؟ هو يحب الشقراوات. لا يحبهن تماما، بل يفضلهن. ذات يوم صبغت شعري بلون أصفر فاقع لأجذبه عنهن ففقعت ضحكته وقال : أهلا بمسز يلو براون. ثم غنى لي من مسرحية فيروز:
جينا عالبنان جوزونا ظريفة
تاري صبغوها أشقر وحلت على الليفة
وظل يردد حلت على الليفة الى أن بكيت.
هل يتركني الآن ليمد حديثا مع الشقراء؟ هو يحلو له الحديث أحيانا ولا يحسب حسابا للوقت خاصة اذا اصطدم برأي مخالف، هو عنيد وصاحب موقف. رمى ذات يوم باستقالته في وجه مدير القسم لأنه طرد ثلاثة من الباحثين بدون اشعار وتعويض. قال له المدير: ”ما يخصك“. فرد:”يخصني ونص“ وعلى كل حال كانت استقالته مسودة، رماها بغضب قبل أن يطبعها على ورقة رسمية. أيضا كانت بين الباحثين. باحثة شقراء. تشبه فتاة الممر. أيضا كان مدير القسم السابق صديقا له، يعرفه ويتفهم نزواته. مع ذلك فهو صاحب موقف. مستمر على وعده لي بالزواج. كل عام يحتفل بوعده ويقدم لي هدية للذكرى. لا. لا أحسب أنه يتركني الآن وحيدة في هذه الورطة. أحس الممر يضيق أكثر وأسمع صرخة. أرى شبح المرأة البدينة يتهاوى، كأنها ترددت وتلكأت أمام النفقين فدفعها أحدهم. أسمع أزيزا يقترب يشبه اختراق طائرات كانت عدوة. أتذكر ملاجئنا عندما كان مقر وكالتنا في بيروت لفترة، ثم في بغداد. عشنا هم خلافات مسؤوليها ومدرائها وهم للحربين اللبنانية والعراقية. والآن لا مشاكل ولا خلافات والوكالة مستقلة ونحن مستقلون. طوال عمرنا أردنا أن نكون مستقلين. نكتب تقاريرنا للدراسات ثم تنتهي الدراسة وتوجه ولا نعرف كيف والى أين. لكن هذا التقرير الأخير كما يبدو سيذهب بنا الى الجحيم. بل سيذهب بي. سليم فركها. هو يشتم الحدث قبل وقوعه. يقول ويقسم لي. والله. والله العظيم شممت الطبخة قبل أن تدبك في بيروت وبغداد قبل كل حرب. مع ذلك يقول : المشكلة ليست في الشم. بل في الذوق. نحن شممنا وهربنا وغيرنا أكل العصا. أنا آكل العصا الآن. آكلها هنا في الممر بين دفعة ورطة، يوصلني الحشر الى عذاب ما قبل النفقين. ضوء خاطف ساطع يتيح لي أن أقرأ اللافتتين في مقدمة النفقين. الأولى كتب عليها: انت التمثال، والثانية : هم التماثيل. لا أفهم أكثر ولا وقت لدي لأقرر أين أدخل وكيف. لا أدري. لم أعد أعي. عتمة. عتمة. عتمة… كأنه يتقدم مني. ولكن لا. ما زال جامدا. يفاجئني هذا الذي يحدث له يهلعني. خطأ مؤكد أنه خطأ. كنت أظن أهل الدول المتقدمة يجيدون عمل كل شيء ولا يخطئون ثم اكتشفت أنهم يبرعون في فن الاعتذار عن الخطأ. عليهم الآن أن يعتذروا من سليم، ومني، كان ينبغي أن يتركوه مثلي ومعي، نعبر النفق ونرى التماثيل حولنا معا. مدراء الوكالة ورؤساؤها. الزعماء والأدباء والممثلون والراقصات والشعوب. لكني أرى الجميع وحدي. عراة بأصالة أو مكسوون بفن وكلهم هنا شقر.
بعد هذا صراخ ونور يطغى كأنه نهار. أصل هنا في فضاء آخر ومكان لا أعرفه، أحاول أن أتعرف على نفسي. لعلها الضفة الأخرى من المدينة. يكاد هذا المقهى يشبه مقهى المركب الثقافي الضخم. أنا هنا لكني لست أنا. لم أعد أنا. لا أعرف هذا تماما ويبدوان أحدا ينبهني لا. لا ينبهني، بل يتصرف معي. بي فأفهم لا. لا أفهم بل أعرف. أحدهم يضع يده على خصري. أحدهم يقيس قامتي. ولد يتطاول ويقرصني من أنفي وآخر يصفعني ويضحك يمر بقربي أجانب ويتساءلون عن ملابسي وبشرتي. يمر رجل كأنه أحد أقاربي. يقول لماذا لم يضبط النحات غطاء رأسها؟ أحاول أن أخطو. أن ألحق بهم لأفهمهم. أحكي للأجانب عن بشرتي وقامتي وقومي وتراثي. أحكي لأهلي عن غطاء رأسي وعن بي نظير بوتر. لكني لا أقوى على الحركة. ثقل يشدني ويجمدني. كيف أصبحت على هذا النحو؟ لا أصدق. لا يمكن أن تكون اللعبة سمجة الى هذا الحد. هل عبرت النفق لأصبح تمثالا؟ هل أنا تمثال ؟ هذا خيال. بل افتراض. بل أظنه الوهم. الوهم الكبير انه يزعج ولا يطاق. لا. لو كنت تمثالا حقا لما استطعت أن أفهم وأحس. لكان جهازي العصبي قد طلي بالشمع أو الجير أو دك وتعطل داخل الحجر. لكان رأسي أصبح تجويفا خاويا مثل جمجمة ووجهي اتخذ شكل قناع. لكنت الآن احدى شخصيات قاعة القرن العشرين، بي نظير بوتر أو جون كولينز. أو لعل تمثالي من تاريخ آخر. روح أراد الفنان أن يمنحها لكتلتي. اني أعي ما خبأه الفنان في تجويف عيني وما عناه بصلابة أنفي لكني أخذت أفقد علاقتي بإحساسي فهذا رجل يمد كفه. أصابعه تتحسس خدي، ثم تهبط ذراعه فوق صدري. لا يسمع دقات قلبي. وحدي أسمعها. أدركها ولا أحسها. لا ملمس. لا رعشة ولا انكماش. لا شيء. وهذا الصغير يقرصني ولا أتوجع. صغير آخر يتفل ويضحك هاربا فيصلني الرذاذ ولا تصلني ملوحة البصاق أو سخونته.
كل هذا يحدث لي وسليم يغيب، يبتعد كأنه ينقرض. ثم أتذكر أن اللعبة لن تستمر أكثر من ساعة، لكني لا أعرف كيف سأرجع الى حالتي الأولى ؟ شروط اللعبة لا تسرح وحولي كل شيء يتحرك ولا يتحول تمثالا مثلي. أرى الناس كأنهم في مهرجان. أراهم وأسمعهم ولا أمس بهم. عيناه بعيدتان. موضوعيتان. محايدتان. مثل دراساتنا. أرى أطفالا سمرا بجماجم كبيرة وأعمدة فقرية تنفر من جلودهم الرقيقة. أرى نساء منتحبات أمام قبور. أرى فتيات يرقصن مثل هادونا. وشبانا يتقافزون. أرى جحافل من رجال شقر وبيض يحملون حقائب سامسونيات. أرى سكارى ومشردين. أغنياء يطلون من القصور وبشر يقبلون الأقدام. أرى طاولات تمد ومايكروفونات، وخرائط تفتح وتطوى، وتكبر وتصغر. أرى كل شي ء يتحرك والجميع غرباء. كلهم غرباء. لماذا أصبحت تمثالا بينهم ؟
لا أستطيع أن أتلفت. ثقلي يعيقني. مؤكد أن قومي يحيون في منطقة ما خارج اللعبة. أم تردهم تماثيل مثلي داخلها؟ وعلى أية هيئات ؟ لا أقوى على التخيل. أعتبر نفسي أهذي ويعتقد رأسي الذي بدأ يعمل بلا انضباط أن التمثال لا يقوى على غير الانتظار، الى أن يذوب أو يحطم أو يبلى أو يبقى..
أما اذا كان بشرا في.. لكنها لعبة. يتذكر رأسي انها لعبة وينتظر نهاية تخرجه من التمثال وتنقذني.
مع أن الخروج ليس الى الجنة. بل الى قسم الدراسات ومديره الذي يعتبر تراث الرقص الشرقي أهم الثروات القومية والى سليم الذي يعتبر السخرية من المدير أهم الواجبات الوطنية. ويبدو عند هذا أن البقاء في التمثال أكثر رحمة ولكن أية رحمة ؟ فقد أخذ الرجال يتحسسون ما يشاءون من جغرافياتي وزاد الصغار من قرصاتهم لخدي وجسدي؟ انتظر أن يدرسني أحد مثل الخبراء أو يتأملني أحد كالفنانين. أنتظر أن أكون ملكة الثلج أو تحفة أثرية. لكني لا أجد الا الاحتقار أو الاهمال. على كل حال لن تزيد حيرتي أكثر فقد حدث أن اخترقتني اللعبة من جديد وبلا أدنى تردد مني وجدت نفسي أحمل بأيد خفية وأوضع في النفق من جديد. أدرك أنه النفق الآخر، ومنه أخرج هذه المرة. لأتحسس نفسي. أتلمس جلدي. أقرص خدي. أعض أصابعي. أتنفس حياتي وأفاجأ بسليم على مقربة مني. يوجهني كأنه ينتظرني. يبتسم لي كأنه يؤكد حبه ووعده. أتذكر غيابه فأعنفه لأنه تركني وحيدة في الممر المعتم ثم في النفق فيرد علي بابتسامة. أعاتبه لأنه تركني أصبح تمثالا ولم يتعرف علي فيرد علي بابتسامة. انتظر أن يشرح لي موقفه وتصرفه فيظل على ابتسامته. أنتظر أن يسخر فلا يزيد عن الابتسامة. أزعل وأشد شعري وأطلب الا يحرقصني أكثر فلا يقوى على غير الابتسامة. يزداد ضيقي وغضبي وأوحي أني سأتركه وأبتعد عنه ليلحق بي ويصالحني فيظل على وقفته وجموده. كنت بدأت أخمن ما حدث له، لكني رفضت تخميني وحاولت كمثل من يضحك على نفسه ولكن دون جدوى.
أدرك أني لن أجد بعد هذا النفق غير التماثيل. أتذكر اللائحة المعلقة في مقدمة النفق. أتذكر ما قرأت : هم التماثيل. نعم. هم. الآخرون. فكيف أصبح سليم واحدا منهم ؟ من حوله الى تمثال ؟ اذا كان مثلي قد عبر هذا النفق فسوف يكون الآن مثلي. معي. وسيري التماثيل في الآخرين. هكذا هي اللعبة كما يبدو. هكذا فهمتها. ولكن من حمل سليم الى هنا؟ من وضعه في هذه المنطقة ؟ وكيف يحدث له هذا ان كان أضاعني ومر قبلي أو بعدي من أي معبر مر؟ وهناك في النفق الأول لماذا لم أجده ولماذا لم يتحول هناك مثلي ومعي لنعود معا ونكمل اللعبة وننهي الزيارة معا. شيء ما خطأ قد حدث. سليم أقول له وأسأله. شيء ما حدث. خلل. خطأ. أربت على كتفه. خده. رأسه. أحاول ايقاظه. انعاشه. لكنه يجمد. أتذكر أمي وعلاجها فأرفع كفي وأهوي بصفعة على خده صفعة تحمل كل غيظي وخوفي ثم أغمض عيني وانتظر ثم افتحهما واتطلع اليه. اتنهد. يبدو كأنه أفاق. كأنه يتحرك. كأنه يتقدم مني. ولكن لا. ما زال جامدا. يفاجئني هذا الذي يحدث له يهلعني. خطأ. مؤكد أنه خطأ كنت أظن أهل الدول المتقدمة يجيدون عمل كل شيء ولا يخطئون ثم اكتشفت أنهم يبرعون في فن الاعتذار عن الخطأ. عليهم الآن أن يعتذروا من سليم ومني كان ينبغي أن يتركوه مثلي ومعي، نعبر النفق نرى التماثيل حولنا معا. مدراء الوكالة ورؤساؤها. الزعماء والأدباء والممثلون والراقصات والشعوب. لكني أرى الجميع وحدي. عراة بأصالة أو مكسوون بفن وكلهم هنا شقر وبيض وصفر وسود. كاملون أو ناقصون وسليم في مقدمة المكان واقفا كما أحبه كزعيم كنبيل من القرون الوسطى ويرفع رأسه كما كان يعجبني كمناضل زمان حينما كان للطمة معنى وأنا قربه انتظر استعادته ونهاية اللعبة. انتظر انتهاء الزيارة. لكن سليم يجمد ويبتسم وأتحسس قربه نفسي فأجدني ولا أجدني.
لندن – أكتوبر 94 – يناير 95.
هاديا شعيد (كاتبة لبنانية تقيم في لندن)