كانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير. فقد عاد إلى الفندق قبل وقت الغداء وصعد إلى غرفته. كانت زوجته تمشط شعرها في الحمام، ولم تقفل الباب على نفسها، كما تفعل عادة. لذلك اعتقد أنه لا مشكلة من دخوله. لكنها صرخت في وجهه بكره، نعم، كانت هناك نغمة كره في صوتها «هلا أغلقت الباب من فضلك؟»
أغلق الباب، وخرج من الغرفة، ثم غادر الفندق. كانت لا تزال تثلج.
وبينما كان يتغدى في المطعم القديم بديكوراته المذهبة، ومراياه، وزجاجه المبقع، حدق خارجا في الثلج المتساقط على الخلفية الخمرية الغامقة لقصر كاريغنانو. كان الثلج يتساقط على الأفاريز الباروكية، على إطارات النوافذ، نماذج الخطوط المائلة، المزينة، المكررة، المنقلبة، الدقيقة، على الضربات الخفيفة لقلم «غواريني(1)» عندما رسم بسرعة الصور الأولى لواجهة مبنى القصر. بينما كان يغوص تمثال جيوبرتي(2) في مركز الساحة بالثلج، حتى الكتفين، واليدين، وثنيات عباءته، وحول رأسه. بدا وكأنه ليس تمثالا، بل صورة لتمثال مرشوشة بضربات فرشاة الرسام فيليبو دي بيسيس بلون أبيض. بدا جميلا بالرغم من أنه ليس كذلك.
بسط الثلج كل شيء مثل مصمم عظيم.
فكر بوالده، الذي منذ اختلف مع أمه، كان يتناول غداءه في الخارج، دائما في نفس المطعم الذي يجلس فيه الآن لأسباب مشابهة، والذي كان يبدو في زمن والده بنفس تفاصيل اليوم، وكان قد مضى على بنائه 130 عاما. وبإضافة 130 إلى 40 عاما يصبح التاريخ 170 عاما.
فكر بحياة والده، ثم فكر بحياته، كان الاختلاف كبيرا في الماضي، لكنهما الآن متشابهتان. ألا يوجد امرأة في الوجود يمكن أن تكون الحياة معها محتملة؟
ومرة تلو الأخرى، فكر بجميع النساء اللاتي مررن في حياته قبل زوجته. حاول أن يكون موضوعيا. ومرة تلو الأخرى، صرف النظر عنهن. فلم يكن أفضل من زوجته. جميعهن النسخة نفسها. الفرق الوحيد، كان في التفضيل الهزيل أنه تزوجها هي ولم يتزوج الأخريات. ولو تزوج أي واحدة منهن فستتحول فيما بعد إلى مخلوق ممل، كان متأكدا من ذلك.
ربما كان عليه أن يوفر الوقت ويتوقف عند الأولى، قال لنفسه، وهو يسحب نفسا عميقا. لكن من كانت الأولى؟
من هي المرأة الأولى التي كان معها عندما برقت في رأسه فكرة الزواج المحتومة هذه؟
كانت عودة للنبش في حلم يقظة، طويل، بطيء، وغير مؤكد. حفر في الماضي السحيق المنسي، عودة إلى أيام مراهقته. وبينما كانت عيناه تقومان بتمرين نظري وتغرقان بالثلج الذي كان يتساقط برقة وثبات باتجاه الخلفية الداكنة لقصر كاريغنانو، شعر بالثقة وبعض السعادة ، واللامبالاة، والبلاهة. متتبعا الكسفات الثلجية الكثيفة، وطريقة سقوطها المتغير التي كانت تأخذ أشكالا متحولة، وهي تتطاير على تشكيلات الأرابيسك وتتحطم قبل أن تلتقطها العين.
حلم يقظة طويل. كان من المستحيل تذكرهن جميعا. مرت سنوات طويلة. لكن من كانت الأولى؟ من كانت الأولى؟
لينا كانت الأولى، بدون أي شك.
ربما كانت أصغر منه بقليل. شقراء، طويلة، قوية، لكنها في الوقت نفسه مشرقة وردية اللون، جلدها ناعم، حيوية، عقلها متفتح، ذكية، والأكثر طراوة. فتاة حريرية. وكانت موظفة في البنك.
غرقا في المغازلة طوال الربيع، من مارس إلى يونيو أو يوليو ليس أكثر، حتى قال أهل المنطقة بأنهما «تحدثا مع بعضهما البعض». كل شيء كان جميلا. وكان سعيدا. أكثر سعادة من وجوده مع أي امرأة أخرى فيما بعد في حياته. لو كان فقط يعرف! لو توقع فقط! لكن مضت لينا وسعادتها الكاملة، المفاجئة، المجانية … لم لا تتكرر هذه النعمة مرة أخرى؟ كانت حياته برمتها أمامه! وتركها.
ومما لاشك فيه أنه هو، لا هي، من قطع العلاقة. لكن لماذا؟
لا لشيء. هكذا كان الأمر. كان الصيف قادما. الإجازات في الهواء الطلق، كانت شيئا جميلا. كان من الطبقة الوسطى، بينما كانت هي فتاة عاملة. لكن لم يكن هذا هو السبب الذي قطع علاقته بها من أجله. قطعها ببساطة لأنه كان في العشرين من عمره، لم يحصل على أي شهادة، ولا عمل في الأفق، فكيف كان بإمكانه التفكير في الزواج بشكل جدي؟
والآن يفكر بذلك، عندما كان في إحدى الليالي في حديقة فيلا قديمة، على بعد عدة كيلومترات خارج بلدة، أصبحت اليوم جزءا من ضاحية.
عندما كان يضم لينا، كان يشعر بشعور مختلف تماما عن كل ما جربه مع الأخريات. رغم أنها لم تتعد مرات قليلة.
كان باستطاعته خلال جلوسهما على العشب، وسط الماغنوليا الفواحة، ورغم الظلام الدامس تقريبا، رؤية شفتيها الحمراون، أسنانها البيضاء اللامعة القوية وفوق كل ذلك عينيها الكبيرتين الزرقاوين. كانت المرأة الحقيقية الأولى في حياته. كونها تتشابه مع نفسه وفي الوقت نفسه تختلف عنها بشكل يصعب فهمه. المخلوق الذي كان يبدو مغلقا، كان ينصهر معها، يطيع بطريقة غامضة وطبيعية الغريزة الأجمل والأعلى. وكان يشعر ببساطة أنه لم يكن يعانق نفسه بل شخصا آخر، وكأنه يعانق الأبدية.
على أرض الفيلا القديمة، ربما كان ذلك في مايو، اشتبك بقوة مع الأبدية، بشفتيه، ويديه.
إذن لماذا تركها تنسل بعيدا؟ لماذا لم يعيشا سوية، دائما، حتى يفرقهما الموت؟
لم لم يتزوج لينا؟
ويفكر بذلك، نعم، إنه يفكر بذلك. لكنه في الحال، أو تقريبا في الحال، أبعد الفكرة المجنونة.
الآن، وبعد مرور ثلاثين عاما، يعلم أنه فعل الصواب، أو على الأقل، لم يكن تصرفه ذلك أكثر جنونا من التصرف الذي ارتكبه مؤخرا.
لن يكون الأمر أفضل مما هو عليه الآن!
كان الوقت قد تأخر مع كل تلك التداعيات. وبعد الغداء جلس ساكنا ينظر عبر الثلج. كم من الوقت مضى عليه وهو على هذه الحال؟ استيقظ من تأملاته لدى سماعه صوت النادل المتردد وهو يعرض عليه الفاتورة. كانت صالة الطعام الضخمة الذهبية المتألقة فارغة تماما. وقد ميز على الطرف الآخر رجلين بمعطفين وقبعتين، كانا المالك ورئيس الندل، من الواضح أنهما كانا ينتظران ذهابه قبل مغادرتهما.
نظر إلى الساعة. كانت حوالي الخامسة. لذلك لم تكن واجهة قصر كاريغنانو حمراء، بل سوداء. هبط الظلام. دفع الحساب وخرج.
تجول على غير هدى تحت المباني المقنطرة. وعندما شعر بالتعب عاد إلى المقهى. كان عليه العودة إلى الفندق لرؤية زوجته ثانية، لكن ليس الآن.
استمر في التجول تحت المباني المقنطرة، تتناوبه مشاعر اليأس والسعادة في نفس الوقت. استمر الثلج في الخارج. تذكر قراءته في دليل نادي السياحة بأن تورين تبعد 14 كيلومترا عن المباني المقنطرة. كم من مدن في العالم يمكنها تقديم مثل هذه اللياقة المتمدنة؟ بولوجنا، ربما؟ بادوا؟ لكنها ليست ضخمة، شاهقة وحديثة مثل تلك!
لذلك استمر في المشي إلى أن عم الظلام ووجد نفسه على زاوية شارعي فينزاجليو وفيتوريو التي كانت تبدو له دائما منذ أيام طفولته تخوم بورجوازية القرن التاسع عشر في تورين. تلك الزاوية، هي تماما النقطة التي تلتقي فيها المباني المقنطرة للشارعين الرئيسيين بعد قطع مسافة 14 كيلومترا عبر المدينة صعودا إلى المنحدر البسيط الذي تم بناؤه من ضفاف نهر بو، وخلف الزاوية كان الامتداد الأخير لشارع فيتوريو، الموحش لافتقاده إلى المباني المقنطرة، حيث كان السجن، برج سان باولو، العمال، المعامل والمستقبل الموحش.
ابتسم عند تلك الفكرة القديمة. فالمستقبل دائما موحش. وذلك هو الشيء الطبيعي. الآن، وبعد كل تلك السنوات، لا يزال يشعر بتلك الهاوية بين البورجوازية والطبقة العاملة في المدينة، رغم أنه في القرن العشرين وليس التاسع عشر. تلك الزاوية القديمة لشارع فينزاغليو وشارع فيتوريو التي تتمدد مثل سواد فاحم يخرج من الماء، حيث الليل والمستقبل لم يكونا أكثر من ذلك السواد، على أكثر تقدير. البحر الذي كان يواجهه، أصبح أرضا قاحلة. بات المستقبل حاضرا. وقبلت الطبقة البورجوازية في تورين بكل إرادتها معانقة الطبقة العاملة، بكل مجدها وغناها ودفاعها.
لكن بالنسبة لأي شخص، سوءا كان من البورجوازيين أو الطبقة العاملة، يتجول في ليلة مثلجة على غير هدى على طول الأبنية المقنطرة، محاولا الترويح عن نفسه، فإن زاوية طريقي فينزاغليو وفيتوريو لا تزال نقطة طبيعية للتوقف عندها.
كم مضى من الوقت على الربيع الذي عاشا فيه قصة حبهما، حين أنهى علاقته مع لينا، قبل أن يعود إلى ريبروسر شيمين!
وعند الزاوية لاحظ سيارة أجرة تركن في موقف عند الرصيف.
هل يعود إلى الفندق؟ ويواجه تلك العاهرة؟
شعر بانقباض في قلبه.
لكن ما الذي سيفعله الآن؟
خلال مشواره الطويل عبر الأبنية المقنطرة، وفوضى الذكريات وأحلام اليقظة التي استمرت في التوارد، تتراقص وتتمازج مثل رقاقات الثلج، الصورة المفضلة التي تلح عليه، المحبوبة، الجميلة، الصورة المواسية: الموقف في الفيلا القديمة، تلك الليلة من مايو، ووجه لينا يتلقى قبلاته.
«تاكسي»، نادى فجأة كحل مفاجئ. ودخلها بسرعة، أخبر السائق باسم المنطقة التي بقيت لسنوات طويلة مجرد قرية، ثم انفصلت عن المدينة لتصبح الآن ضاحية صغيرة.
عندما وصل، توقف الثلج. غادر التاكسي في ساحة القرية، التي لم تتغير بمنازلها المنخفضة ومداخلها الكبيرة وجدرانها السميكة: منازل البلدة القديمة وأكواخ قروية بنيت جنبا إلى جنب. لكن في نفس الوقت، خلف الأسقف المحملة بالثلوج، وليس أبعد من مائتي متر باتجاه تورين، كان يمكن مشاهدة أبنية شاهقة هندسية، مختلفة الألوان بآلاف النوافذ والشرفات المضاءة، بالإضافة إلى أبنية ملكية عامة، منازل تحت الرهن، وأبنية منازل العمال البشعة.
شاهد مقهى لا يزال مفتوحا. قدم شرابا للسائق وطلب منه الانتظار هناك. فغيابه لن يطول.
لم تكن الفيلا تبعد سوى خطوات، حوالي مائتي متر عن الساحة. حسب ذاكرته. ظهرت البوابة فجأة في زقاق القرية القديمة. ومن هناك، أصبح الزقاق طريق ينحدر إلى نهر دورا القريب ويطوق من جانب واحد على بعد بجدار حدودي للفيلا. تذكر جرن الماء المقدس على بعد أمتار من البوابة، جرن ماء مقدس أو مزار نذور تقريبا مقابل الجدار، وثغرة في الجدار مسدودة بأجمة كبيرة تخفيها. كانت الحديقة كبيرة، الفيلا، من القرن التاسع عشر وغير مأهولة عادة في الخريف بسبب موسم العطلات.
ربما تغير كل شيء اليوم. ربما لم تعد الثغرة موجودة هناك. مرت سنوات طويلة! لا يهم، إذا لم هناك شيء آخر عليه رؤيته غير ذلك الجدار القديم، كما يبدو عليه اليوم على الأقل، وتعانق اللحظة القريبة ليحول حياته برمتها إلى حقيقة … ليجعلها حقيقة أم ليسعدها؟ كلاهما. أصر على الاثنين.
وفي جميع الأحوال، لم يكن ذلك سهلا. تجاوز الساحة ببساطة، وتبع الزقاق حيث البوابة. غاص في كتل الثلج الطرية لأنه لم يكن يرتدي حذاء مناسبا. كان الزقاق مهجورا وكئيبا. لمبات قديمة بظلال لامعة، تتباعد عند زوايا المنازل، تبدو مثل الجواهر في البرد، هواء ليلي نقي. إذا لم يتم سماع أصوات موسيقى، أغان، ضحك، زعيق وتصفيق من أجهزة التلفزيون من المنازل التي يمر بالقرب منها، فذلك يعني أنه يمر بقرية مهجورة. الأصوات، إما بسبب سماكة الجدران أو عمق الثلج الذي يغطي كل شيء، كان مكبوتا بشكل غريب وكأنه ملفوف بقطن وصوف.
ثم اختفى كل شيء. كل ما كان يمكنه سماعه هو تنفسه العميق والضوء والصوت الخافت لخطواته التي كان يغرسها في الثلج، متبوعة بدمدمة وهي تقطر بينما كان ينزل قدمه ثانية.
كانت البوابة أمامه هناك، بينما كانت تستلقي خلفه القرية والمدينة. كان يواجه فقط الفيلا والريف المفتوح. إذا توقف لفترة وأخذ نفسه، سيشعر به من شدة الصمت. وفي ذلك الصمت، تقريبا كل شيء كامل، وحالما تحرك ثانية، بدا صوت أقدامه في الثلج وكأنه تصم.
المزار كان هناك. قديم، مقشر ومتهدم. لابد أن شكله بغيض الآن، وشعر بالضيق لاحتمال إصلاح الفجوة. لكن لم يفترض أنهم قاموا بذلك؟
جاهد في صعود الركام. بدأ صعوده فوق الثلج، الذي كان ينحدر تحت أقدامه على شكل كتل، ليعيده ثانية إلى الأسفل. لكن نجح أخيرا بسبب ارتدائه القفازات والعمل على تكسير الكورنيش الذي يفصل قاعدة المزار عن المحراب الذي يضم تمثال العذراء أو قديس. كان هناك حاجز حديدي، لكن لم ير أي ضوء في الداخل، لم يستطع الرؤية أو التذكر.
غطى الثلج الأجمة والحائط بكتلة واحدة. لتكتشف الفجوة عليك أن تعرف بوجودها.
لا، لم يتم إصلاحها، وأصبح من الأسهل العبور من خلالها بكل هذا الثلج الذي يغطيها.
عندما وصل إلى طريق في الحديقة، توقف، أخذ قلبه يطرق بعنف، واستمع أكثر من مرة إلى الصمت، لكن مضى زمن طويل، وكأنه في العمق.
كان الهواء ساكنا، نقيا وباردا. وبالقرب منه، الأصوات الوحيدة المسموعة كان صوت طقطقة الأغصان وكأنها تتكسر تحت ثقل الثلج وصوت الارتطام المكبوت المتلاحق. الله وحده يعلم لماذا يملك الارتطام والطقطقة نوعا معذبا من الحياة. وبعيدا كان يسمع صفير قطار يحول في محطة ألبيغنانو، ودمدمة شاحنة متوجهة إلى بيانيزا، على الجانب الآخر من الطريق إلى دورا.
عندما جلس ساكنا في منتصف الطريق، مصغيا إلى جميع الأصوات، القريبة والبعيدة، اعتادت عيناه بشكل تدريجي على الظلام. أو ربما كان الثلج نفسه هو الذي يحجب الضوء. وبعيدا عن الظلام، الظلال الغامضة لمجموعات أشجار الأجمة دائمة الخضرة، شجر الأرز، المغنوليا، شجر البلوط، بدا كل شيء ساطعا له مثل اليوم، لكن بدون ألوان.
بدأ بالتقدم، ببطء. هنا وهناك بين الأشجار المزهرة، دوائر ضخمة وبيضوية حيث كان يتحدب الثلج ويظهر وكأنه أعمق. لاحظ في الفسح الدائمة على كلا الجانبين متاريس مستطيلة من القمة التي تنبثق من الخلفيات المقوسة لمقاعد الحديقة الحديدية. ثم نافورة متجمدة، وتمثال نصفي حجري.
وفوق كل ذلك، رأى على الجانب الأيمن عبر الأثر الرقيق الواضح للشجر العاري، في فضاء خلا من الخضرة، واجهة الفيلا الرمادية الضخمة.
لم يكن بعيدا الآن. بضع مئات الكيلومترات وسيكون هناك. هناك، بين أسرة الزهور، سياج الأشجار، في ذلك الفضاء المفتوح في مقدمة الفيلا، في تلك الروضة في الحافة، تحت شجرة المغنوليا الضخمة، حيث يعتقد أنه عانق الخالدة: لينا!
وبينما كان يحدق في واجهة الفيلا وبدأ بكشف معالم النوافذ، الرواق الروكوكي، الشرفات الحديدية، توقف فجأة، مجفلا بفكرة طبيعية، لكن لم تخطر بباله، ربما بسبب سحر الذكريات أو سحر الزمان والمكان، ماذا لو كان هناك أحد في الفيلا؟
كان يعلم أنه خلال الحرب وبعدها بفترة طويلة كان يسكنها عدد من العائلات التي تم إجلاؤها على مدار العام، بما فيه الشتاء. وقد كرهوا الغرف الكبيرة بالمواقد، الطبخ في المصطلى، وباختصار فعلوا ما بوسعهم.
والآن ماذا لو كانت واحدة من تلك العائلات لا تزال هناك؟
أو ماذا لو كان هناك وكيل، أو بستاني؟
ومن المحتمل جدا أن يكون هناك كلب. والآن، وبعد خمس دقائق منذ تسلقه الجدار ومشيه عبر الحديقة، كان على الكلب أن ينبح أو على الأقل يهدر خلف الباب إذا كان محبوسا. لكن، بالرغم من أنه شنف آذانه، لم يسمع شيئا.
في الواقع، تذكر أنه سمع عن بعض كلاب الحراسة الضارية والذكية التي تسمح للص أو المتسلل أن يدخل المناطق التي تحرسها بدون إثارة أي ضجة، وتدعه يصل تقريبا إلى المنزل، ثم تفاجئه وتقفز على قدميه أو حنجرته.
هل كان خائفا؟ تذكر زوجته أثناء التداعي الطبيعي للأفكار. هل كان هناك أي شيء ضار يمكن أن يخيفه؟ ثم تابع وهو يبتسم لنفسه.
وصل الفيلا. وقف على بعد عشرة أمتار في مركز الفضاء الفارغ الواسع أمام المنزل. هنا كان وهج الثلج لا يزال كثيفا. نظر إلى السماء وكأنه ينظر إلى القمر والنجوم. لكنها كانت معتمة ، متسقة، عالية، بسحب رمادية، لكن بمسحة من البياض، كانت بالتأكيد انعكاس من الثلج.
أين هي شجرة المغنوليا الكبيرة؟
كانت هناك. على اليسار. ضخمة جافة، صلبة، قشرتها مدبوغة بالأبيض والأسود. أغصانها المنخفضة، مثقلة بالثلج، محنية على بعد متر من الأرض، ويمكن أن تلمح تحتك كهفا معتما، عميقا، ضخما. هناك في الكهف نهل السعادة الحقيقية لأول وآخر مرة في حياته.
وبينما كان ينظر إلى الكهف، تذكر في الحال عبارة محددة قالتها له لينا، وعند سماعها شعر بحاجة ملحة للبكاء، الصراخ، أن يصبح برسركي(3)، أن يهرب مع لينا إلى أمريكا أو أستراليا، لوحدهما، يتزوجان ويبدآن من جديد، بعيدا عن كل ما يحيط بهما من واقع. كان التأثير قويا بحيث شعر بالخوف فورا. حاول نسيان تلك العبارة، ثم، وبعد عدة أسابيع، حاول نسيان لينا. ونجح بذلك، لكن فقط لمدة ثلاثين عاما.
الآن لينا كانت هناك. حية، هناك، بداخله. والعبارة؟ … العبارة؟
أغلق عينيه في محاولة لتذكرها تماما، كلمة، كلمة. أغلق عينيه، شبك يديه واستند بظهره على شجرة المغنوليا، التي يمكن أن تساعده كثيرا في التفكير، وفي تفادي إغراء النظر إليها حتى يتذكر التعبير تماما، فشجرة المغنوليا التي تسحره، ببياضها وسوادها، غموضها واستبدادها، ستشتت تفكيره.
حسنا، انزلقت لينا في لحظة من بين أحضانه، ونظرت مباشرة إليه بعينيها الزرقاوين الضاحكتين، لفظت اسمه وهمست برقة، وكأنها تنفخ في وجهه.
«ماذا ستقول أمك إذا شاهدتك هنا؟»
تلك كانت الكلمات، كان متأكدا، لن يتذكر في حياته كلها كلمات أكثر جمالا منها.
سمع صوت خطوات على الثلج، ثم تكاثرت الخطوات خلفه. جفل، كان رعبا يخالطه شيء من المتعة. شعر بأن عليه أن يستدير، لكنه لم يملك الشجاعة للقيام بذلك. ربما باستدارته سيرى. آخ، كانت المسألة تستحق العناء، بدون شك. لكن الخوف كان أقوى.
توقفت الخطوات قريبا منه، ربما على بعد أقل من متر خلفه. بدا وكأنه يشعر بنفس بارد على قفا رقبته. هل كانت الريح؟
شعر فجأة بعينيه تمتلئان بالدموع. الشفقة! التسامح! أراد الصراخ. ليست الشفقة أو التسامح تجاه لحظة حرجة من حياته مثل لحظة هجره لينا، بل الشفقة والتسامح لسبب غير محدد، ببساطة لأنه كان خائفا. ولينا؟ أين هي لينا الآن؟ لم يسمع عنها منذ ذلك الوقت، هذا هو الأمر، ولا يوجد مبرر للتفكير بذلك …
ضرب ضوء شبكة الشمس بسرعة وقوة، ثم سمع صوت ارتطام وصرير. وكأن الشخص الذي وصل إليه في الثلج وتوقف خلفه، والذي كان قريبا منه حتى يكاد يلامسه، قد استدار فجأة وهرب. أو ربما كان مجرد تخيل، الأصوات الحقيقية الوحيدة كان الطقطقة والارتطام الأخير، ربما غصن آخر، مثل الكثير من الأغصان التي تكسرت تحت ثقل الثلج. وربما تكون الجهة الموجودة فيها شجرة المغنوليا هي الوحيدة مصدر الصوت.
استدار ليرى.
استدار ورأى في الثلج، مباشرة باتجاه شجرة المغنوليا، حيث كانت ترتسم خطوات حديثة وواضحة لقدمين صغيرتين، قدمي امرأة، آثار أقدام اتجهت إليه من شجرة المغنوليا ثم عادت إليها.
أول ما تبادر إلى ذهنه، بالطبع، هو أن يهرع إلى شجرة المغنوليا. لكنه لم يستطع. شعر وكأن قدميه لا تساعدانه.
والخاطر الثاني كان الصراخ.
وخلال ذلك تساقطت كسفة ثلجية، ثم أخرى، وخلال لحظة، بدأت بالثلج ثانية.
وحالما شعر بقوة كافية، صرخ: «من هناك؟ من هناك؟»
لكن صوته تلاشى، بدون صدى، تشتت في الهواء متلحفا بالثلج الذي أخذ يتساقط بقوة.
لماذا فقط شجاعته في تتبع تلك الخطوات الصغيرة إلى شجرة المغنوليا؟
خلال لحظات، سيمحوها الثلج ولن يكون بإمكانه تمييزها، سيفقدها، ويفقد البرهان على أنها لم تكن مجرد هلوسات وأن آثار الأقدام حقيقية، إنها الفرصة الأخيرة للمعرفة.
لكن ربما كانت هذه نيته بالضبط. لم يكن يرغب المعرفة. كان خائفا من المعرفة.
قطع الحديقة المهجورة باتجاه فجوة الجدار، وقدماه تغوصان في الثلج، يتعثر، يقع، يغطس بشيء ما، تسلق ولم يتوقف حتى وصل القرية ورأى هيكل التاكسي الصغيرة، البعيدة والخضراء تقف في الضوء الذهبي، خارج المقهى حيث تركها.
الهوامش
1- غوارينو غواريني: معماري ورياضي إيطالي، يميل إلى التعقيد في تصميماته
2- فينسيزو جيوبرتي: رجل دولة وفيلسوف
3 – برسركي: واحد من محاربين اسكندنافيين قدماء عرفوا بقتالهم المسعور.
———————
ماريو سولداتي
ترجمتها عن الايطالية: نجاح سفر