إلى فراس وعبد العزيز
– لماذا لا تذهب للصلاة على قبر جدي؟.
– لأننا نعيش في جزء آخر من البلاد،وقبره يبعد من هنا كثيرا.
– أعتقد أنه يجب علي أن أذهب للصلاة على قبر جدي.
– سنذهب يوما ما.
– آمل ألا نعيش في مكان لا أستطيع أن أذهب فيه للصلاة على قبرك عندما تموت.
– علينا أن نتخذ ترتيبات خاصة لهذا الأمر.
– ألا تعتقد انه يمكننا جميعا أن ندفن في مكان ملائم؟. .ألا يمكننا أن ندفن جميعا في مزرعة؟.
– فكرة سديدة.
– عندئذ يمكنني أن أتوقف للصلاة على قبر جدي وأنا في طريقي إلى المزرعة.
– أنت عملي جدا.
– لأنني لست مرتاحا إطلاقا،كوني لم أزر قبر جدي.
( هذه الفقرة والعنوان استعارة من قصة للكاتب الأمريكي إرسنت همنغواي )
[ [ [
لقد مات أبي بعد فترة معاناة مع المرض ليست بالقصيرة،وذلك بعد أن سقط فجأة في صباح أحد الأيام وهو يستعد لمزاولة عمله المعتاد،مريضا على درجة شديدة من المرض أدى إلى شل جسمه كاملا،مات بعد أن مكث طويلا في المستشفى،في قريته وهو المكان الذي يأنس إليه كثيرا،فبعد أن سئم من طول مكوثه في المستشفى بلا فائدة ألح علينا بأن نعيده إلى بيته في القرية .
لقد مات أبي بعد أن سئم المرض وضعفه وهوانه،بعد مدة كان فيها مريض البيت أو رجل البيت المريض المحاط بالشفقة من كافة أبنائه وبناته وكافة أفراد العائلة والأقارب الذين كانوا يتقاطرون على بيتنا،فيتحلقون حول أبي المسجى صامتين في بلادة، يعكسون على ملامح وجوههم شفقة مؤذية .
ذات صباح مبكر رحل أبي بعد أن مل ضعف وهوان المرض،والشفقة المؤذية التي أحيط بها من قبل عائلته وأهله وأقاربه،اختار طريق السماء هربا من ذل المرض والشفقة البليدة التي انطبعت في نظرات من يزورونه، فكان قد أصبح في عيونهم مجرد موضوع للموعظة البائسة وهو بجسده الضعيف الهزيل المهزوم بالمرض .
لم يعتد أبي أبدا حالة الضعف والهوان هذه في حياته،فطوال السنين التي عاشها في الدنيا كان مبادرا دائما إلى ركوب الصعب حين اضطر إلى ذلك من أجل تحصيل قوته وقوت عياله،ولم يستسلم يوما للظروف وقسوتها، وحتى أخريات حياته كان يعتمد يوما بيوم على نفسه في السعي إلى رزقه،حيث اعتاد يوميا الخروج منذ ساعات الصباح الأولى،للجلوس في متجره البسيط والذي كان يشكل له مصدر الرزق الوحيد،مكنه من إعالة عائلة كبيرة نوعا ما كانت تتكون من تسعة أشخاص،بالإضافة إلى الضيوف الذين يترددون بكثرة على البيت وهم أكثرهم أقارب ومعارف قادمون من القرية من أجل بعض المراجعات الضرورية في الجهات الحكومية،والمواعيد الطبية في المستشفيات،التي تضطر أهل القرى لزيارة المدينة عادة.
لم يكن لأبي حتى وفاته ملف طبي مقلق، فلم يكن يشكو من علة بعينها في جسمه، سوى بعض مضايقات عسر الهضم والذي يكاد يشكو منه أفراد العائلة كافة وإيمانا بمقولة تقليدية بأن لكل داء دواء فقد ذهب أبي لطلب العلاج في الهند، إلى جانب ذلك كان أبي يعاني شيئا من ضعف النظر في عينيه والذي يبدو انه ضريبة أو نتيجة طبيعية لكبر السن، أما في عاداته الغذائية فكان ما بين الاعتدال والتقشف في طعامه،كما لم يكن له طوال حياته عادات ضارة يمارسها أو يسرف في ممارستها، تفضي على مدى بعيد إلى نتيجة صحية سيئة محتومة، كالشرب والتدخين.
ولعل السبب الأساسي الذي أدى بأبي إلى حتفه،في نظري فهو قسوته على نفسه والخشونة في تحميل النفس أعباء فوق طاقتها، وهو الأمر الذي اعتاده منذ الصغر،حينما يسرد لنا أبي أنا وأخوتي في بعض الأحيان بعضا من حالات البؤس والمشقة والمعاناة التي واجهها وعانا منها في طفولته وفي صباه وحتى في صدر شبابه، حيث إن الظروف في الزمن الماضي ليست من السهولة واليسر كما هي عليه الآن مثلما يحدثنا أبي،فقد كان في ذلك الوقت مجرد تحصيل اللقمة اليومية يتطلب تعب ومشقة كبيرين تستغرق نهارا بطوله في ظل ظروف سيئة من ندرة العمل والفقر وقسوة لقمة العيش في المجتمع بأسره، مما حدا بالكثيرين ومن ضمنهم أبي في ذلك الوقت للهجرة خارج البلاد واللجوء لطلب الرزق في دول الجوار اتقاء لشدة الفاقة والعوز في مجتمعهم الذي يعيش حال مؤسية من البؤس الاجتماعي والاقتصادي،برغم إن الهجرة لم تكن تبدو بديلا ورديا مع مشاعر الغربة الصعبة التي كانوا يعانون منها وهم بعيدون عن وطنهم وأهلوهم، ومع المهن الصعبة والمزرية التي كانوا يضطرون للانخراط في ممارستها بعض الأحيان خارج البلد.
لقد جعلت المشقة من أبي الذي تربى وترعرع عليها في زمن عرف بقسوته وصعوبته حين لم يكن من بديل آخر متوفر فيه سوى هذه المشقة،جعلت منه صديقا لها طوال عمره فلم يأنس ولم يثق إلا بها في حله وترحاله، عكس ذلك لم تشكل له الراحة إغراء أبدا ولا دعة العيش برغم إنه في الواقع لم يحقق أبسط معاييرهما حتى وهو في أخريات حياته،هو الذي كان يبدأ يومه بالكدح وينتهي به، فقد كان ملزما حياته بشكل قاسي بالخشونة الشديدة،الأمر الذي جعل هذه الخشونة في عيش الحياة هي النظام الذي ينتظم به البيت بكافة أفراده،، فكان أبي بالقسوة والصرامة التي يحاول بأن يلزم كل من حوله بمشاركته فيها ينصب حاجزا من الصعوبة عبوره أو تخطيه بيننا وبينه، فهو لا يتزحزح خطوة واحدة عن مفهوم ثابت للحياة يتمسك به لا يتغير مطلقا هو مفهوم المعسكر، حيث الأوامر والنواهي الصارمة والاستنفار المستمر من أهم ما يميز هذا المفهوم لديه، وكان من عادات أبي تحت إلحاح الاستنفار الدائم أن يكلفنا بمهام وبأمور فوق طاقة سننا الصغيرة البضة في ذلك الوقت، لكن أمره منذ ساعة صدوره يكون نافذا ولا سبيل لمخالفته أو التملص من تنفيذه والقيام به،خوفا من ردة فعله العنيفة والتي يختزل فيها أحقيته المشروعة كأب في عقاب أبنائه، والذي يأتي قاسيا في العادة هذا العقاب بدرجة كبيرة من القسوة على محاولة التملص أو التقصير على الأمر الصادر، وكان يفرض علينا مرافقته في بعض المشاوير كالقيام ببعض واجبات الزيارة للأهل والأقارب في عدة أماكن متباعدة في اليوم ذاته برغم إنه من حيث المبدأ لا اعتراض على ذلك،لكن تلك الطريقة للزيارة كانت تشكل إرهاقا من الصعب تحمله،فكان عادة ما يبدأ مشوارا يوميا يكون محدد مسبقا، من على عتبة الصباح الباكر مباشرة، مستنفرا كل من في البيت وهو ما يعكس سيطرة صارمة من قبله بالنسبة لمواعيد النوم والاستيقاظ المبكرين في البيت، فلم يكن يتساهل أبدا معنا نحن أولاده إذا ما عدنا متأخرين بعض الشيء ليلا أو بقينا نائمين إلى وقت متأخر وعد ذلك الأمر استهتارا يتوجب العقاب المباشر العنيف عليه برغم إن السهر المعتدل في الليل أو التأخر المعتدل في الاستيقاظ من النوم لا يعتبران من الأمور التي تستوجب العقاب عليها حتى في عرف أشد المربين وأولياء الأمور صرامة.
مات أبي رحمة الله عليه وهو يحمل على كاهله تعب الحياة ومشقتها، فلم تسعفه هذه الحياة الظالمة بفترة استراحة من تعبها ومكدتها حتى في أخريات حياته، حيث استغرقته بأعبائها منذ شبابه حتى مشيبه، فلم يحظ بهدنة معها ولم ينل منها ما يكافئ بذله وتعبه فيها، فخرج من الحياة وهي تدين له باعتذار، ولكن هيهات لهذه الحياة الظلوم أن تعتذر لأحد.
قاص من عُمان