إن الناظر في المتون القديمة يلاحظ، في يسر، أن النقاد والمفكرين العرب القدامى كانوا على وعي تام بأن الغرضية التي انبنى عليها الشعر العربي هي التي مافتئت ترسم حدوده وضفافه. ومنها استمد أغلب أسرار قوته وفاعليته حتى أنه اعتبر أرقى أنواع الخطاب وأجودها. فهو "علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه" (1) بهذا يحدثنا ابن سلام. والى الرأي نفسه يذهب ابن رشيق فيعلن في خطة كتاب العمدة، "فقد وجدت الشعر أكبر علوم العرب، وأوفر حظوظ الأدب، وأحرى أن تقبل شهادته، وثمتثل ارادته (…) والشعر أعلى مراتب الأدب."(2) "وهو صنو الحكمة (3) وديوان العرب" فيه علومهم وأخبارهم وحكمهم كما يقول ابن خلدون.(4) والاحتفاء بالشعر على هذا النحو إنما يرجع الى أهمية الوظيفة التي ينهض بها في المجتمع. إنه خطاب جمالي داره مدح الخصال الممدوحة للحث عليها واستنهاض الملقي لطلبها، وذم الخصال المذمومة للتنفير منها واستنهاض المتلقي لرفضها والعدول عنها. وهو إنما ينجد في النهوض بهذا الدور على أكمل وجه بما ينبني عليه من أبعاد جمالية تشد المتلقي إلى الكلام شدا عن طريق إمتاعه وإثارة اللذة في نفسه، وما يحتوي عليه من معان مدارها ومحصل أمرها إعلاء قيم المجموعة وتمجديها والحث عليها.
لكن هذا الوعي باهمية الغرضية ودورها في مد الشعر بفاعليته والشاعر بمنزلته ومكانته تشكل وهو يحمل فيما خفي منه تسليمها مضمرا بأن هذه الغرضية التي عليها جريان الشعر هي الشعر؛ نفسها التي تحتوي في تلاوينها على أغلب إمكانيات انكفاء الشعر وهوان الشاعر. ففيها تكمن قوة الشعر؛ وفيها أيضا تكمن انكفاءاته الحاصلة والممكنة. بها نال الشاعر الحظوة والسؤدد وعلو المكانة والمنزلة؛ وفيها أيضا تكمن المسالك التي يمكن أن ترمي بالشاعر على درب الهوان.
لهذه القضية تاريخها. ولها ايضا مظاهرها واستثناءاتها كما سنبين. ف" الشعراء امراء الكلام" كما يعبر الخليل بن احمد الفراهيدي.(5) ومعنى كونهم امراء الكلام انهم يمتلكون مقدرة فائقة على اجرائه والتصرف.في بدائعه بالوقوع على ما في الفطام اللغوي نفسه من بنى توليديا تسمح بابتداع طرائق في التعبير جديدة ترفد النظام التعبيري نفسه، وتفتحه على ممكناته ومحتملاته. ثمة علاقة سرية بين الشاعر والكلمات تتولد عن استعداد الشاعر، بحكم طبعه الشعري، للاصغاء لا إلى ما تقوله الكلمات وتشير اليه فحسب، بل الى ما يمكن أن تقوله وما يمكن ان تبنيه من دلالات جديدة لا وجود لها في المواضعة اللغوية اصلا. وهي تتولد ايضا عن الدربة وتمرس الشاعر بالكلام وانساقه واساليبه. لذلك ذهب القدامى الى حد الجزم بان شاعرية الشاعر انما ترجع الى شرطين اساسيين هما: الطبع والدربة. فان عدم الشاعر احدهما لا يمكن ان يبدع اصلا، لان الطبع هو الملكة التي تجعل الشاعر مهيأ لقول الشعر: والدربة هي التي تشحذ تلك الملكة وتخرج بها من حيز الامكان الى حيز التحقق بالفعل.(6) بالطبع، اي بالاستعداد والتأتي لقول الشعر، وبالدربة ايضا يتمكن الشاعر من "استخراج ما كلت الالسن عن وصفه ونعته، والاذعان عن فهمه وايضاحه. (7) ان الشاعر لا يتصرف في الكلمات تصرفا جديدا لم يسبق اليه فحسب، ولا يتعامل مع الكلمات من جهة كونها مجرد اوعية يقطنها معنى محدد معلوم، بل يقوم – فيما هو يجريها ويتصرف فيها تصرفا لم يجر في الكلام مجرى العادة – الى تجديدها، فيفتحها على دلالاتها الممكنة أو المحتملة. وبذلك يخرج بها من مستوى المعنى الواحد الى مستوى الدلالات المتعددة.
وبالمقابل تكون الكلمات قد خلعت على صاحبها، فيما هي تتعالق وتنتظم في قالب شعر، لقب الشاعر "أمير الكلام" واحاطته بهالة الشاعر ومدته بفضل الشعر. "من فضل الشعر أن الشاعر يخاطب الملك باسمه، وينسبه إلى أمه، ويخاطبه بالكاف كما يخاطب أقل السوقة فلا ينكر ذلك عليه، بل يراه أوكد في المدح، وأعظم اشتهارا للممدوح، كل ذلك حرصا على الشعر، ورغبة فيه، ولبقائه على مر الدهور واختلاف العصور.(8)" غير أن هذه الفرضية التي استمد الشعر منها جانبا مهما من فاعليته ومكانته بين بقية أنماط الخطاب، وبها حظي الشاعر بفضل الشعر، هي التي حملت في تلاوينها أغلب مأزق الشعر وهوان الشاعر وترديه. لذلك كثيرا ما صدر القدامى في كتاباتهم النظرية عن نوع من الاحساس الحاد بأن مأزق الشعر أعتى من أن تواجه أو ترد. إنها متأتية من طبيعة الشعر ذاته، ومن الفرضية التي عليها جريانه ومتصرفه. فالشعر مدح وهجاء. غرضان كبيران إن تخطاهما الكلام خرج من دائرة الشعر وبطل أن يكون شعرا وعدم فعل الشعر ووظيفة الشعر. غرضان كبيران ينتظمان الممارسات الشعرية، وما بعدهما الخروج من دائرة الشعر. غير أر المدح يتفرع ويتعدد الي أغراض صغرى، مثل مدح المحبوب في الغزل، ومدح الميت في الرثاء، ومدح الذات في الفخر. ومن هنا تتأتى أهمية المدح وخطورته أيضا. إنه غرض يجعل الكتابة تتفتح مجراها في منطقة الخطر. ذلك أن المدح وما يمكن آن يدره على منتجه من عطايا وهبات من شأنه أن يغري الشاعر بالتكسب والارتزاق فيخرج بالشعر عن حده ويحوله إلى صنعة ذات قيمة تبادلية.
هذا الإحساس بخطورة الغرضية وما تحمله في تلاوينها من مأزق قد تعصف بالشعر وتحط من مكانته، كثيرا ما تحكم بكتابات النقاد والمنظرين العرب القدامي، وأعلن عن نفسه في مؤلفاتهم في شكل وعي بأن هذه المفارقة أعتى من أن تحل أو تحسم. فالمدح غرض متولد عن رؤيتهم للعالم وطريقة مقامهم على الأرض. وهو يرجع إلى موقفهم من الكلمة وما يطلبونه منها. ولما كانت الغاية من الكلام، في تصورهم، إنما هي "استجلاب المنافع واستدفاع المضار(9)" والشعر من جهة كونه أرقي أنواع الكلام هو الذي يحقق هذه الغاية على أكمل وجه، فإنه من الطبيعي أن يصبح المدح غرضا أساسيا لا مناص منه. إن المدح يعلي القيم المطلوب ترسيخها والحث عليها. وهذا هو الهدف النبيل الذي ينشده الشعر في تصورهم. وإبطال المدح يعني الخروج بالشعر عن حده والنزول به في غير أوطانة وتعطيل وظيفته. لذلك ظلت إمكانية اللهج بفكرة عدول الشعر من المدح أو إبطال غرض المدح مسألة مائلة بالنسبة إليهم في عداد اللافكر فيه أصلا. ولذلك أيضا لم يعن وعيهم بخطورة الفرضية التي انتظمت الشعر العربي عن نفسه صريحا صارما بل جاء في شكل إيماء إلى أن المدح منطقة رجراجة فيها من مهاوي السقوط ومزالقه ما يجعل ارتيادها أمرا غير مأمون. وهو يرد في كتاب العمدة مثلا في شكل إدانة وتشهير بالشعراء الذين اتخذوا من الشعر وسيلة تكسب، ومضوا بالفن وأصحابه على درب الهوان. يكتب ابن رشيق في "باب التكسب بالشعر والأنفة منه (10)".
وكانت العرب لا تتكسب بالشعر(…)حتى نشأ النابغة الذبياني، فمدح الملوك، وقبل الصلة بالشعر، وخضع للنعمان بن المنذر وكان قادرا على الامتناع منه بمن حوله من عشيرته أو من سار اليه من ملوك غسان، فسقطت منزلته، وتكسب مالا جسيما حتى كان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضة وأوانيه من عطاء الملوك. فلما جاء الاعشى جعل الشعر متجرا يتجر به نحو البلدان (…) ثم إن الحطيئة أكثر في السؤال بالشعر، وانحطاط الهمة فيه، والإلحاف، حتى مقت وذل أهله وهلم جرا، الى أن حرم السائل والمسؤول.
ويجزم ابر خلدون بأن الشعر قد فقد شرف الاسم بسبب المدح والتكسب، وابتعد عن أصول الفن، فصار أقرب إلى الاستجداء وبه أشبه. يكتب في نبرة طافحة بالازدراء: لقد "صار غرض الشعر في الغالب إنما هو الكذب والاستجداء (…) وأنف منه لذلك أهل الهمم والمراتب من المتأخرين وتغير الحال وأصبح تعاطيه هجنة في الرئاسة ومذمة لأهل المناصب الكبيرة والله مقلب الليل والنهار.(11)".
وليس الهجاء أقل خطورة على الشعر والشاعر من المدح. فالغاية منه ذم الخصال المذمومة لاستنهاض المتلقي للنفور منها والعدول عنها. لكنا يحمل في تلاوينه ما به يصبح الشعر وسيلة تكسب وارتزاق. لا سيما إذ ا انحرف الشاعر بالشعر وتهدد بالهجاء كل من لا يستجيب لمطالبه. ولقد جسد الحطيئة مثلا هذا الانحراف بغرض الهجاء في شعره وسلوكه وتمسك بفعاله حتى بعد أن عاقبه عمر بن الخطاب وتوعده. (12) عديدون هم الشعراء الذين انحرفوا بالشعر واتخذوا من غرض الهجاء وسيلة ارتزاق هتكوا بها اعراض كل من امتنعوا عن الامتثال لمطالبهم. والصورة التي ترتسم في كتاب الاغاني لدعبل بن علي مثلا تطفح بالدلالة على الرعب الذي أشاعه بين معاصريه. يكتب الأصبهاني معرفا دعبل: هو دعبل بن علي بن رزين (…) هجاء خبيث اللسان لم يسلم عليه أحد من الخلفاء ولا من وزرائهم ولا أولادهم ولا ذو نباهة أحسن اليه أو لم يحسن ولا أفلت منه كبير أحد. ونقرأ (13)" أيضا أنه قيل له (14):
ويحك قد هجوت الخلفاء والوزراء والقواد ووترت الناس جميعا فأنت دهرك كله شريد طريد هارب خائف فلو كففت عن هذا وصرفت هذا الشر عن نفسك. فقال: ويحك إني تأملت ما تقول فوجدت أكثر الناس لا ينتفع بهم إلا على الرهبة ولا يبالى بالشاعر وإن كان مجيدا إذا لم يخف شره ولمن يتقيك على عرضه أكثر ممن يرغب اليك في تشريفه وعيوب الناس أكثر من محاسنهم وليس كل من شرفته شرف ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة ولم يكن ذلك فيه انتفع بقولك، فإذا رآك قد أوجعت عرض غيره وفضحته اتقاك على نفسه وخاف من مثل ما جرى على الأخر. ويحك يا أبا خالد إن الهجاء المفرع أخذ بضبع الشاعر من المديح المضرع".
إن غرض الهجاء لا يتناقض مع غرض المدح بل يكمله. كلاهما فيه اعلاء لقيم المجموعة. فإذا كان المدح استنهاضا للمتلقي كي يتحلى بالقيم الممدوحة فإن الهجاء، بتركيزه على الخصال المذمومة، لا يكتفي بتنفير المتلقي منها بل يستنهضه للتحلي بنقيضها خشية أن يهجى أو يحقر. وهذا يعني أن الاختلاف بين غرضي المدح والهجاء إنما يكمن في الطريقة: فإذا كان المدح ترغيبا فإن الهجاء ترهيب. المدح ابتناء في الكلام لما يجب أن يكون؟ والهجاء ابتناء لما يجب أن يتغير. المدح يرفع ويمجد: والهجاء يضع ويحقر. لكن المدح والهجاء يتفقان من جهة الغاية التي ينشدها الكلام فيرسمان الحدود الفاصلة بين القيمة ونقيضها ويضطلع كل منهما بدور نفعي بالمعنى الاجتماعي.
والشاعر الذي يتقن الهجاء والمدح ويلتزم بأصول الفن يضمن لقبيلته المهابة والمكانة بين القبائل فيخشى جانبها. ويقوم في الآن نفسه، بتخليد مآثر بني قومه واستنهاضهم لطلب المجد والتحلي بالقيم الممدوحة. وإذا كان غرض المدح يمثل منطقه خطر من جهة كونه قد يغري الشاعر بالانحراف بالشعر وتحويله إلى وسيلة تكسب وارتزاق فإن غرض الهجاء لا يقل عنه خطورة باعتباره قد يغري الشاعر بتحويل الشعر إلى وسيلة بها يرهب كل من لا يهبه ما يريد إن هو قصده مرتزقا "منتجعا" بشعره. ولذلك أرجع القدامى هوان الشاعر والشعر إلى انحراف الشعراء بالفرضية التي انبنى عليها الشعر. فليس المدح وحده هو الذي دفع بالشاعر على درب الهوان بل الهجاء أيضا. فجزم الجاحظ مثلا بأن الشعراء إنما هان أمرهم عندما "تسرعوا إلى اعراض الناس (15)" أي عندما انحرفوا بالشعر ممن أوطانه "وتولوا به الأعراض وتناولوها(6ا)" كما يعبر ابن رشيق.
غير أن هذا الوعي بخطورة الفرضية كثيرا ما يغير من طرائق حضوره فيرد في شكل حرص عي رسم الحدود التي على الشاعر الالتزام بها حتى لا يخرج بالشعر عن حده، ويحافظ فيما يكتبا من مدائح على شرف التسمية ومكانة الفن. لذلك كثيرا ما عمد النقاد الأوائل إلى الاعتناء بفرض المدح وتقنينه محاولة منهم لتجنيب الشعر والشاعر التردي في مهاوي السقوط، وانتشالهما من المصير الفاجع الذي مافتئ يستكمل شروطه ويدفع بالشعر والشاعر إلى الحال التي وصفها ابن خلدون. مهنا تتنزل مثلا محاولة ابن طباطبا وقدامة بن جعفر وحرصهما في كتاب عيار الشعر وكتاب نقد الشعر على تقنين المعاني التي عليها جريان المدح. فلقد ذهب ابن طباطبا إلى أن الغاية من المدح إنما هي ترسيخ الخصال الممدوحة والحث على طلبها. وهي، في تصوره، عديدة متنوعا منها "السخاء والشجاعة والحلم والحزم والعزم والوفاء والعفاف والبر والعقل…(17)" وعنها تتفرع قيم أخرى مثل "قرى الاضياف واجتلاب المحبة والتنزه عن الكذب.(18) " والى الرأي نفسه يذهب قدامة بن جعفر في كتاب نقد الشعر فيجزم بأن وظيفة الشعر تتمثل، أساسا، في ترسيخ القيم والفضائل التي "يمتاز بها الإنسان عن سائر الحيوان وهي العقل والشجاعة والعدل والعفة.(19)
وتشمل كل واحدة منها مجموعة من الخصال. "فمن أقسام العقل: المعرفة والحياء والبيان والسياسة والكفاية والصدع بالحجة والعلم والحلم ممن سفاهة الجهلة. ومن أقسام الشجاعة الحماية والدفاع والأخذ بالثأر وقرى الأضياف وما جانس ذلك…(20)".
وههنا أيضا يتنزل إلحاح القدامى على أن المدح لا يقال الا في الملوك.(21) ذلك أن مدح الملوك يفي بغرض المدح ووظيفة الشعر في الوقت نفسه. إنه تمجيد لقيم المجموعة مجسدة في شخص واحد يحتل أطر مرتبة في السلم الاجتماعي. والمفترض في الملك، نظريا على الأقل، أن يكون عنصرا موحدا للمجموعة وحاميا لقيمها ومواضعاتها. حتى أننا إذا أعدنا النظر في القيم التي عددها قدامة بن جعفر نجدها تجسد الخصال التي لا يصلح الملك والملك الا بها. تبعا لذلك يصبح المدح حثا كلى تجسيد قيم المجموعة ودعوة إلى الارتقاء نحو الأفضل والأكمل والأبهي. ويكف ممن كونه حالا من الصغار أو التصاغر يتجرع الشاعر مرارتها، ليصبح رفعة وعلوا. فالشاعر، لحظة مدحه الملوك، إنما يكون ندا لهم أو أعلى منهم مرتبة لأنه هو الذي يمجد مآثرهم وخصالهم. بل إنه يهبهم ما تسمح به الكلمات من تخليد للأمجاد والأيام والمآثر. لذلك ألح القدامى على أن طلب مرضاة الملوك ليس عيبا أو مذلة وعطايا الملوك لا تشين لأنها هبات لا ترد. ولذلك أيضا شددوا على أن الشاعر الذي يراعي شروط الفن ويحافظ على شرف الاسم هو الذي يمدح الرجل بما فيه لأنه إن مدحه وأضفى عليه خصالا غير موجودة فيه أصلا يكون قد خذل الشعر وخرج به عن حده وانحرف بوظيفته.
من هنا يتبين لنا أن مأزق الشعر وهوان الشاعر وسقوط منزلته ليست وليدة لحظة محددة في مسار الشعر العربي بل هي نتاج للتناقضات المندسة في رؤية العرب القدامى للكلمة ومفهومهم للشعر وما يطلبونه منه. فالشاعر في تصورهم لا يمكن أن يخدم المجتمع والمجموعة علو التمام إلا إذا التزم بالفرضية التي عليها جريان الشعر العربي، والشعر نفسه لا يمكن أن يؤدي وظيفته على التمام أيضا إلا إذا افتتح مجراه ملتزما بها. وهذا يعني أن عمليا انحراف الشاعر بالشعر وتحويله إلى وسيلة تكسب وارتزاق لم تكن حدثا طارئا عارضا بل كانت مأزقا مؤجلا ظل يتحين فرصة استكمال شروطه ليصبح بمثابة نهج يخرج بالشعر إلى الصنعة ويمضي بالشاعر على درب الهوان. وهو يعني أيضا أن التحولات الاجتماعية التي نتجت عن استبدال مفهوم القبيلة بمفهوم الأمه والدولة وما أدت اليه من اندحار للقيم القبلية التي كانت تحيط الشاعر بكثير من الأمن وتجنبه مهاوي السقوط، ليست هي التي قادت إلى هوان الشاعر وانحراف الشعر بل هي التي عمقت مأزق الشعر. وهي التي جعلت الشاعر يواجه قدره وحيدا أعزل من سند القبيلة ودفء الجماعة. فصار "ينتجع بشعره" كما يعبر الأصبهاني. (22).
لقد عني جمال الدين بن الشيخ في كتاب الشعرية العربية بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية التي نتجت من نشأة المدينة وبروز مفهوم الدولة وذهب، مثل شارل بلا، إلى أن الجاذبية التي مارستها بغداد على الشعراء وكتاب إنما ترجع إلى حرصهم على الخروج من الوحدة التي تردوا فيها نتيجة التحولات الاجتماعية ومواجهتهم لأقدارهم فرادى بعد أن تفككت الرابطة القبلية التي كانت تحيطهم بالكثير من الامن والحماية.(23) يقول شارل بلا متحدثا عن رحيل أصحاب المواهب من المدن والأقاليم إلى بغداد: لقد "ظل العديد من الشعراء الجيدين مستقرين في مدنهم،حتى عهد هارون الرشيد، واكتفوا بزيارة البلاط والإقامة فيه لفترات متقطعة، وحصل عكس ذلك ابتداء من عهد المأمون، بمعنى أن بغداد أصبحت مقر الإقامة الدائم والمعهود لأفضل الشعراء.(24)" ويكتب جمال الدين بن الشيخ مؤكدا الرأي نفسه (25):
لقد فهم الشعراء، شأنهم في ذك شأن العلماء والناثرين، أن لا اعتراف بالفضل إلا في بغداد. فإذا كان علي بن الجهم بغداديا فإن أبا تمام والبحتري كليهما من سوريا، أحدهما من منجب والأخر من جاسم في حران، لكنهما لم يجربا حظهما في سوريا. ودعبل قضى فترة شبابه في الكوفة، لكنه حظي بالشهرة عند الرشيد، وكذلك شأن أبي العتاهية عند محاولته الأولى للفوز بالشهرة على عهد المهدي. وشهدت البصرة أبا نواس وهو يرحل عنها كما رحل عنها بكر النطاح والحسين ابن الضحاك. لقد التحق بن الضحاك بالعاصمة سنة 190هـ ليصبح نديما للأمين. إن هجرة الشعراء، حرصا منهم على الاعتراف لهم بالفضل، قد واكبت بطبيعة الحال هجرة الملحنين والمغنين.
ويتوسع جمال الدين بن اشيخ في رسم بنية المجتمع الجديد وتبيان هرمية السلطة التي تتحكم به وموقع الشاعر في الترتيب الاجتماعي. فيخلص من ذلك إلى أن الطبقة الحاكمة كانت متكونة من "عائلة الخليفة التي تمارس حكما معلقا ومن حولها الوزراء والكتاب السامون وأصحاب النفوذ من رجال الدين وقواد الجيش والولاة.(26)" ولم تكن هذه الطبقة مهددة في مصالحها. ذلك أن المواجهة بين العشائر والاجناس بحثا عن التقرب من السلطان هي التي جعلت الأغلبية تساند الطبقة الحاكمة لتستفيد منها. لاسيما أن هذه الطبقة هي التي تتحكم بمصائر الجميع "والتعيينات في المناصب التي تدر الربح إنما تتم بقرار من الحاكم وحده أو بقرار من أعوانه المقربين.(27)" ولم يكن الكتاب أو الشعراء يجرؤون حتى حتى على التفكير في الاحتجاج على الأوضاع الاجتماعية المتردية أو المطالبة بقليل من العدل: بل كان همهم البحث من السبل المؤدية إلى نيل الحظوة لدى الطبقة الحاكمة. لاسيما أن الأفراد المنتمين إلى "الشريحة الحاكمة والبورجوازية الراقية يسخرون الشعراء لخدمتهـم. إن العلاقة التي تربـط بين صاحب النفوذ ومادحـه هي علاقة السيد بخادمه.(28)".
هكذا يرسم جمال الدين بن الشيخ صورة الشاعر الذي اختار المضي على درب الهوان قاتمة في منتهى القتامة. إنه خادم أمين لسيده. وهو تابع يمني النفس برضى مولاه. ويخلص من ذلك إلى أن مأزق الشعر العربي وعجزه من تطوير أشكاله إنما تعود إلى ارتباطه بالطبقة الحاكمة التي رسمت حدوده وضفافه.(29) غير أن تفخيم دور التحولات الاجتماعية والعوامل الاقتصادية في تفسير ما الى اليه أمر الشعر والشاعر في الثقافة العربية يظل، رغم ما يحققه من كشف لآليات السلطة وكيفيات اشتغالها واحتوائها لكل من هو مؤهل للاعتراض عليها ومنازلتها، موقفا لا يكشف من أبعاد الظاهرة المدروسة إلا بالقدر الذي يحجب. ذلك أن في التركيز على العوامل الاقتصادية إهمالا للعوامل الثقافية وللأنظمة المعرفية التي حددت موقف القدامى من الكلمة وما يطلبونه منها، وتحكمت بمفهومهم للشعر وأغراضه ووظيفته. لذلك يكفي أن نحيط برؤية القدامى للشعر وموقفهم من الكلمة، وننظر في القوانين التي تحكمت بنظريتهم في الشعر والشعرية وموقفهم من الشعر إنتاجا وتقبلا، حتى ندرك أن مأزق الشعر قادمة من بعيد.
والناظر في تاريخ الشعر العربي منذ المعلقات يلاحظ أن تلك المأزق إنما تمثل جزءا من محتملات الشعر وممكناته. وهي لم تبدأ مع التحولات الاجتماعية التي عصفت ببنية المجتمع القبلي بل شرعت في العمل في صلب التنظيم القبلي نفسه، أيام كان الشاعر يحتل مكانة في السلم الاجتماعي، وأيام كانت القبيلة توسع للشاعر في صفوفها منزلة لا يحظى بها غيره. بهذا يحدثنا الجاحظ في البيان والتبيين (30):
وقال أبو عمرو بن العلاء: كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب، فرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى اعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر.
وبهذا يحدثنا ابن رشيق أيضا في كتاب العمدة فيذهب إلى أن هوان الشاعر وانحرافه بالشعر إلى منطقة الخطر مسألة قد بدأت تباشيرها مع الشعراء الأوائل. منذ بداياته كان الشعر يحمل في أغراضه ذاتها إمكانية تحوله إلى وسيلة ارتزاق وتكسب. ومنذ الجيل الأول من شعراء ما قبل الإسلام مثل التكسب والارتزاق، على ما فيهما من مذلة وهوان، طريقا مغرية مافتئت تجتذب الشاعر وتغريه. ويصل ابن رشيق إلى حد الجزم بأن منزلة الشاعر قد أخذت في التداعي ابتداء من اللحظة التي شرع فيها يجوب الأرض "منتجعا" بشعره (31):
وقالوا كان الشاعر في مبتدأ الأمر أرفع منزلة من الخطيب، لحاجتهم إلى الشعر في تخليد المآثر، وشدة المعارضة، وحماية العشيرة، وتهيبهم عند شاعر غيرهم من القبائل، فلا يقدم عليهم خوفا من شاعرهم على نفسه وقبيلته، فلما تكسبوا به وجعلوه طعمة، وتولوا به الأعراض وتناولوها صارت الخطابة فوقه، وعلى هذا المنهاج كانوا حتى فشت فيهم الضراعة، وتطعموا أهوال الناس وجشعوا فخشعوا، واطمأنت بهم دار الذلة، إلا من وقر نفسه وقارها، وعرف لها مقدارها، حتى قبض نقي العرض مصون الوجه، ما لم يكن به اضطرار تحل به الميتة، فأما من وجد البلغة والكفاف فلا وجه لسؤاله بالشعر.
إنها دروب الهوان إذن.حالما ارتادها الشاعر تصدعت العلاقة بينه وبين الشعر. فقد الشعر شرف التسمية، وتخطى أصول الفن فصار مجر "طعمة". وأقصي الشاعر من نتاجه وفقد سلطته على الكلمات فالمطلوب في المدح أن ينال النص رضى الممدوح وإعجابه. وتحقيق هذه الغاية على التمام يتطلب من الشاعر أن يكره الكلمات ويرغم نفسه على إجرائها وفق نسق به يقتلع الرضى ويستدر العطايا. ومن هنا تتأتى خطورة المدح: إنه يشيع في عملية الإبلاغ الشعري كثيرا من الزور ويدخل الفوضى على أطرافها. فيوهم الشاعر بأنه هو الباث وهو منتج الرسالة؛ وتوهم الرسالة بأنها تدور حول موضوع هو من ابتنائها؛ ويوهم الممدوح المخاطب بأنه متلق عادي يستجيب لكل شروط التلقي. والحال أن الأدوار جميعها قد انقلبت: إذ يكون الممدوح موضوعا للقول وهو الذي يحدده لأن الشاعر إنما يكيف كلامه وفق ما يتماشى مع ما يريده هذا المتلقي الذي يستحث سلطته على القول وقائله مما يقدمه من هبات وعطايا. وبذلك يوهم النص بأنه من وضع الشاعر، والحال أنه من إعلاء الممدوح. حتى لكأن الشاعر، في لحظة الكتابة، يوسع في نفسه للمدوح مكانا، ويسمح له بالتسلل إلى النص ليجريه كيفما شاء. إنه الإكراه يمضي في جميع الاتجاهات: إكراه الشاعر لنفسه على تمجيد من يطمع في عطاياه؛ وإكراهه للكلمات بتحليتها وفق ما به تجلب إعجاب الممدوح: وإكراهه للشعر حتى يخرج عن حده ويصبح وسيلة تستدر الرزق. وبذلك يكون الشاعر مسلوب الإرادة، ويرغم ارغاما على التخلي عن قناعاته؛ فيصبح حضوره في نصه وفي عملية الإبداع نفسها مجرد حضور شبحي. وتصبح الكتابة، فيحث ذاتها، عامل تغريب للشاعر؛ والشعر حدث اقتراب في منتهى الخطورة يطال كيانه في الصميم ويباعد بينه وبين قناعاته الشخصية.
إن الوعي بخطورة صنيع الشعراء الذين مضوا بالشعر على درب الهوان هو الذي جعل المتون القديمة تطفح بالنقمة، بالتشهير، بالفضح، بالإدانة. وكثيرا ما تتوالى النعوت المشينة وتسند الى الشاعر المداحة. وابن رشيق مثلا إنما يرصع كلامه بعبارات طافحة بالنقمة والقرف والازدراء لحظة حديثه من الشعراء الذين "اجشعوا فخشعوا، واطمأنت بهم دار الزلة، وانحطاط الهمة" كي يشهد على أن السقوط كان عظيما. ومثله يفعل حازم القرطاجني فينعت هذا الصنف من الشعراء بكونهم "أخساء العالم" ويدينهم الإدانة كلها ويحملهم مسؤولية الضيم الذي أودى بالشعر إلى مهاوي التهلكة، فيكتب في نبرة يمتزج فيها الحداد على الشعر بالنقمة على الفعلة الذين اقتادوه إلى خرابه: لقد "صارت نفوس العارفين بهذه الصنعة بعض المعرفة أيضا تستقذر التحلي بهذه الصناعة إذ نجسها أولئك الأخساء.(32)" وإلى الرأي نفسه يذهب ابن خلدون معلنا أن الشعر ما فتئ يحول عن مقاديره حتى صار "صنوا للكذب والاستجداء" و "أصبح تعاطيه هجنة (…) ومذمة.(33)".
غير أن نبرة التشهير كثيرا ما ترسم لنفسها مسارب ملتوية مواربة وتمعن في التخفي. فترد مندسة في تلاوين الأخبار التي تنقل حياة الشعراء وتقول ما كان من أمرهم مع أولياء نعمتهم من الملوك وذوي المال والسلطان. يكفي هنا أن نعيد النظر في لأخبار الواردة في كتاب الأغاني وكتاب العمدة وسترتسم صورة العديد من الشعراء قدامنا صادمة قاتمة القتامة كلها. حتى أننا إذا أجرينا مقارنة بسيطة بين ديك الجن والبحتري مثلا سرعان ما يتبين لنا أن الأخبار لا تلزم الحياد أبدا بل تنهض محملة برغبة خفية في الانتصار للشعر والثأر من الشعراء الذين مضوا به على دروب الهوان. إن ديك الجن شاعر لم تفوه تلك الدروب ففضل البقاء بحمص على الرحيل إلى بغداد طلبا للرزق. والأخبار تحيطه بهالة من التمجيد فتلح على أنه "شاعر مجيد (…) من شعرا، الدولة العباسية.(34)" ويقع الإلحاح على أنه رفض التكسب والارتزاق فهو "من ساكنو حمص ولم يبرح نواحي الشام ولا وفد إلى العراق ولا إلى غيره منتجعا بشعره ولا متصديا لأحد.(35)" وتقول الأخبار أيضا إنه كان يجاهر بمواقفه واختياراته السياسية ولم يكن يمارس التقية والمواربة ويخفي تشيعه مثل غيره من الشعراء،(36) بل "كان يتشيع تشيعا حسنا وله مراث في الحسين بن علي عليهما السلام.(37) ويؤكد العديد من الأخبار أنه لم يكن يقيم أي اعتبار للمال بل "كان منعكفا على القصف واللهو متلافا لما ورث من آبائه.(38)" وهو يختلف في موقفه من المال عن الشعراء المتكسبين الذين أفنوا أعمارهم في الجمع والمنع وقد ذكر ابن رشيق البعض منهم فقال: و"منهم سلم الخاسر مات عن مائة ألف دينار ولم يترك وارثا(…) ومروان بن أبي حفصة: أعطي مائة ألف دينار غير مرات، وكان لا يقابل إلا بالكثير.(39)" ونقرأ في الأغاني ( 40) أن النابغة كان "يأكل ويشرب في آنية من الفضة والذهب من عطايا النعمان وأبيه وجده لا يستعمل غير ذلك."
هكذا ترسم الأخبار صورة ديك الجن وتلح على أنه شاعر أرغم إرغاما على التكسب. فلقد "أعسر واختلت حاله فرحل إلى سلمية قاصدا لأحمد بن علي الهاشمي فأقام عنده مدة طويلة.(41)" لكن الارتزاق بالشعر سرعان ما يودي به إلى ارتكاب جريمة فكراء تملأ بالدمع والأحزان والنكد ما تبقي من أيام حياته. حتى أنه يحتمي بالشعر- ملاذه الأخير- ويكرس ما تبقى من عمره في كتابة مراث طافحة باللوعة والحرقة والسواد ولا ينجح في التطهر من احساسه العاتي بهول مصابه وفداحة فعلته: ويمضي إلى قبره مكللا بالحزن، محاطا بالسواد. ثمة في أخبار ديك الجن إلحاح على أن التكسب بالشعر يقود صاحبه إلى التهلكة. لكن الأخبار تعتمد التخفي والمواربة وتتبع في الإيحاء بهذا التصور طرقا ملتوية وتعدل من المجاهرة إلى الإيماء واللمح. إن سفر ديك الجن إلى أحمد بن علي الهاشمي حصل بعد أن وصل الحال بديك الجن إلى حد الفاقة. فلقد "أعسر واختلت حاله". هذا يعني أن الشروط التي اشترطها ابن رشيق – عندما قال إن الشاعر يجب أن يوقي نفسه دروب الهوان ويمتنع عن التكسب "ما لم يكن به اضطرار تحل به الميتة" أما إذا "وجد البلغة والكفاف فلا وجه لسؤاله بالشعر" – قد اجتمعت ودفعت بديك الجن الى "الانتجاع" بشعره. هل بلغت الفاقة بديك الجن إلى حد أنه لم يعد يجد "البلغة والكفاف" أم أن ديك الجن قد تعود على اللهو واقتناص المتع واللذات حتى صارت المتع واللذات، في نظره، جزءا من الكفاف والبلغة بدونهما تحل به الميتة؟ إن ديك الجن قد قصد أحمد بن علي الهاشمي مرتزقا بعد أن كان ممتنعا عن التكسب بالشعر. ولم يبق صنيعه هذا دون عقاب. لقد انحرف بالشعر وحوله عن مقاديره فكان عقابه عسيرا. واقامته عند أحمد بن علي الهاشمي مدة طويلة في طلب الرزق هي التي سمحت لابن عمه بانتهاز الفرصة ونسج حكاية تنال من شرف الزوجة النصرانية التي عشقها ديك الجن ومجد حبها فبادلته عشقا وصل بها إلى حد الخروج من النصرانية واعتناق الإسلام.
تلح الأخبار، في اظاهر، على أن ديك الجن سيندم الندم كله على قتل زوجته بد أن تنكشف له حقيقة المكيدة التي حاك خيوطها ابن عمه. لكنها ترشح بالإيماء إلى أن الخطأ الثاني، أي قتله لزوجته ضربا بالسيف، قد جاء بمثابة نتيجة للخطأ الأول الذي ارتكبه، وهو خروجه إلى سلمية مرتزقا بالشعر. لقد كان خروجه من حمص مفجرا لبقية الأحداث جميعها. إنه خطأ يعادل الخطأ التراجيدي الذي يقترفه البطل التراجيدي فتنجر عنه سلسلة من الأخطاء لا يمكن أن ترد. وتظل تتتابع وفق منطق المحتمل والضروري وتمضي بمعاناة البطل إلى حدودها القصوى، حتى يلقى حتفه ويدفع حياته ثمنا لخطئه. وبذلك تتبع الأحداث في تسلسلها وتعاقبها مبدأ المحتمل والضروري، إذ يودي بعضها إلى البعض الأخر ويقود اليه.
هكذا تنفتح حكاية ديك الجن على هذا البعد التراجيدي وتصطبغ به. فليس الخطأ التراجيدي الذي اقترفه ديك الجن هو قتله لزوجته ضربا بالسيف دون أن تقترف أي ذنب، بل هو خروجه متكسبا بالشعر. حتى لكأن الراوي يمعن في التشفي من ديك الجن بطريقة ممعنة في التكتم، ويسوغ الأخبار وفق نسق بموجبه يثأر الوجدان الجماعي من ديك الجن الذي يخرج متكسبا بالشعر، فتلطخ يداه بدم زوجته التي شفه عشقها وملأ دنياه بغبطة لا تطفأ. أو لكأن ابن عم ديك الجن هو الذي يثأر لنفسه منه بسبب هجائه له وخروجه بالشعر عن مواضعه. فديك الجن لم "يتسرع إلى اعراض الناس "فحسب، ولم "يتول… الأعراض" فقط، بل تسرع بشعره إلى عرض ابن عمه وتناوله تناولا. أو لكأن الشعر هو الذي يثأر لنفسه من ديك الجن فيكلله بعار لا يزول الدهر كله. لقد شرف الشعر بديك الجن أيام كان ديك الحن يقيم في حمص ولا ينتجع بشعره. لكنه انقلب عليه وخذله عندما انحرف به عن مواضعه ونزله في غير أوطانه.
غير أن محنة ديك الجن وما تنبني عليه حكايته من أبعاد تراجيديا هي التي تجعل المتلقي يتعاطف معه. إن حكايته قائمة فيما يخص تتالي أحداثها وأفعال شخصياتها علو مبدأ تراجيدي متعارف وهو تشكل الأحداث وأفعال الشخصيات وفق مبدأ الضروري والمحتمل كما قلنا. وهو مبدأ بدونه لا يمكن أن يحدث التعرف anagnorsis الذي يؤدي إلى انقلاب الأحداث. وديك الجن حين اكتشف أنه قد قتل زوجته دون أن تأتي أي ذنب انقلبت حياته وجعا وضني. وشخصية ديك الجن التي ترسمها هذه الأخبار ترد، هي الأخرى، حاملة لسمات البطل التراجيدي. وهي إنما تتمكن من جعل المتلقي يتعاطف معه في محنته، بتك السمات وبما تثيره في نفسه من شفقة ورحمة أو من خوف وفزع. فشخصية ديك الجن شبيهة بنا، وما وقع له ليس أمرا خارقا لا يمكن أن يعاود الظهور ويحدث ثانية بل هو من الأمور المحتمل وقوعها.
هذه الهالة التراجيدية التي تحيط الأخبار بها صورة ديك الجن وشخصيته وما تثيره في نفس المتلقي من تعاطف سرعان ما تتراجع وتستبدل بحشد من النعوت والصفات المذمومة المنفرة حين يصبح مدار الكلام إيراد أخبار البحتري وأفعاله. ثمة تأكيد على أن البحتري كان من أبرز الشعراء الذين اجتذبتهم دروب الهوان فشدوا الرحال إلى بغداد متكسبين بالشعر. بل إن البحتري يمثل نموذجا للشاعر الذي ينحرف بالشعر عن مقاصده ويمضي في تلك الدروب إلى نهاياتها الفاجعة. لقد بدأ حياته الشعرية بعرض نتاجه في حمص على أبي تمام الذي يشهد له بالشاعرية ويقول له: "أنت أشعر من أنشدني فكيف بالله حالك؟ (42)" فيتهالك شاكيا سوء الحال. وتبدأ رحلته مع التكسب بالشعر في تلك اللحظة بالذات. لكنها لا تتوقف أبدا بل تطول العمر كله. وهو يحدثنا عن هذه اللحظة التي التقى فيها أبا تمام فيقول: شكوت له خلة فكتب إلى أهل معرة النعمان وشهد لي بالحذق بالشعر وشفع لي اليهم وقال امتدحهم فصرت اليهم فأكرموني بكتابه ووظفوا لي أربعة آلاف درهم فكان أول مال أصبته. (43)".
ولم تكن رسالة أبي تمام إلى ناس معرة النعمان شهادة على نبوغ البحتري فحسب، بل كانت تطفح بالشفقة والرحمة. فلقد كتب اليهم ما نصه: "يصل كتابي هذا على يد الوليد بن عبادة الطائي وهو على بذاذته شاعر فأكرموه.(44)" ولم يفته الإلحاح على أن الكرم المفترض فيهم سيمضي في اتجاهين إكرام شاعر مبتدئ يشهد له أبو تمام نفسه بالنبوغ: والتصدق على رجل بائس مدقع رث الهيئة سييء الحال.(45) بالشعر وما يدره التكسب بالشعر من مال سيتغير حال البحتري. سيشد الرحال إلى بغداد ويمضي على دروب الهوان حتى المنتهى. فيلبس لكل حال لبوسها. وقي حين لا يخفي ديك الجن تشيعه، يعمد البحتري إلى تغيير قناعاته ومواقفه كلما دعته الحاجة إلى ذلك. فهو "معتزلي، وسني، وشيعي بحسب الظروف وبحسب ما تسمح به التقية من مراوغات تصل إلى حد العهر.(46)" بالشعر وما يدره الارتزاق به من أهوال تغير حال البحتري وصارت الناس تخدمه. يقول عنه ابن رشيق في معرض حديثه عن الشعراء الذين اتخذوا من الشعر وسيلة تكسب: "وكان البحتري مليا قد فاض كسبه من الشعر، وكان يركب في موكب من عبيده. (47)".
غير أن الأخبار التي مجدت ديك الجن وأحاطته في الوجدان الجماعي بهالة تراجيدية تعمد إلى تحقير البحتري وتمعن في التشفي منه فترسم له صورة في منتهى القتامة والقسوة وتضعنا في حضرة الذاكرة الجماعية وهي تنتقم من شاعر كرس مجمل أشعاره للتكسب والتقرب من ذوي المال والسلطان. ههنا تتنزل جملة من الأخبار توهم في الظاهر بأن البحتري لم ينس فضل أبي تمام عليه ولم يجحد معروفه. لكنها تمضي بالاعتراف بالفضل إلى نهاياته القصوى فيصبح نوعا من التصاغر والمهانة. وترسم البحتري وهو يجاهر بتصاغره ذاك قدام الناس في أكثر من منتدى فيقول: "ان أبا تمام للرئيس والأستاذ والله ما أكلت الخبز إلا به. (48)" وحين يقال له إنه أشعر من أبي تمام يمضي في الاعتراف بفضل أبي تمام عليه إلى حد المهانة فيقلل من شأن نفسه ويرفع من شأن أبي تمام ويقسم قائلا: "والله ما ينفعني هذا القول ولا يضر أبا تمام والله ما أكلت الخبز إلا به ولوددت أن الأمر كما قالوا ولكني والله تابع له أخذ منه لائذ به نسيمي يركد عند هوائه وأرضي تنخفض عند سمائه (94).
قد توهم هذه الأخبار بأنها إنما تدل على مدى اعتراف البحتري بالجميل وعلى وفائه أيضا. لكنها سرعان ما تلحق بخبر آخر يكشف جانبا من شخصية البحتري فإذا به أبعد ما يكون من الوفاء. بل إن الوفاء عنده مجرد قناع للطمع. فلقد كانت علاقة البحتري بمحمد بن يوسف الثغري مثلا، علاقة تابع بسيده وخادم بمولاه وكان مداحا له طول أيامه ولابنه من بعده ورثاهما بعد مقتليهما. (50) وحين سئل عن ضعف مراثيه قال: "كنا نعمل للرجاء ونحن نعمل اليوم للوفاء وبينهما بعد. (51)" هكذا تمعن الأخبار في الحط من شخصية شاعر نذر شعره للتكسب وتعمد في ذلك الى انتهاج طرق مواربة ملتوية. لكنها كثيرا ما تعدل عن التخفي والتكتم الى المجاهرة. فتتوالى الى الأخبار طافحة بالتشفي. بالتحقير، بالادانة، وترتسم صورة الشاعر جامعة الى الفظاعة الخسة والوضاعة. نقرأ مثلا:
حدثني حكم بن يحيى الكنتحي قال كان البحتري من أوسخ خلق الله ثوبا وآلة وأبخلهم علي كل شيء وكان له أخ وغلام معه في داره فكان يقتلهما جوعا فإذ ا بلغ منهما الجوع أتياه يبكيان فيرمي اليهما بثمن أقواتهما مضيقا مقترا ويقول كلا أجاع الله أكبادكما وأطال إجهادكما.
ولا تكتفي الأخبار بهذا التحقير بل تمضي إلى حد التنفير من الشاعر وتحوله إلى مهرج في قصر المتوكل يستدر العطف والرثاء أو السخرية والاستهزاء. نقرأ:
حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أبو العنبس الصيمري قال كنت عند المتوكل والبحتري ينشد (…) قال وكان البحتري من أبغض الناس إنشادا يتشادق ويتزاور في مشيه مرة جانبا ومرة القهقري ويهز رأسه مرة ومنكبيه أخرى ويشير بكمه ويقف عند كل بيت ويقول أحسنت والله ثم يقبل على المستمعين فيقول مالكم لا تقولون أحسنت هذا والله ما لا يحسن أحد أن يقول مثله فضجر المتوكل من ذلك وأقبل علي وقال أما تسمع يا صيمري ما يقول فقلت بلى يا سيدي فمرني فيه بما أحببت فقال بحياتي اهجه (…) قال فغضب وخرج يعدو وجعلت أصيح به (…) والمتوكل يضحك ويصفق حتى غاب عن عينه.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن التسليم بواقعية هذه الأخبار واعتبارها أحداثا حدثت فعلا في التاريخ لا يتناقض من جهة دلالاتها وفاعليتها مع كونها يمكن أن تكون أخبارا موضوعة متخيلة ابتدعتها ذاكرة الرواة. فإذا كانت أحداثا واقعيا فإنها إنما تدار على أن الذاكرة الجماعية ليست مجرد إدراك يحفظ الوقائع بل ينتقيها ويسوغها وفق نسق بموجبه تصبح عملية الانتقاء، في حد ذاتها، دالة على المنزلة التي يحتلها الشاعر المتكسب في الوجدان الجماعي. وهي منزلة دونية حرصت الأخبار كلها على تجسيدها والتنفير منها. أما إذا كانت هذه الأخبار موضوعة متخيلة فإن دلالتها تصبح أشد عنفا. إنها تصبح دالة على الطريقة المواربة التي تتبعها ثقافة رأت شعراءها ينحرفون بالشعر، في الانتقام لنفسها والثأر من الشعراء الذين مضوا على درب الهوان. لاسيما أن الأخبار الواردة في الأغاني كثيرا ما تنفتح على الغرائبي والمدهش، فتصبح الأحداث أقرب إلى الخيال حتى لكأن الراوي يستسلم لفتنة السرد ويمتثل لسلطة الحكي أو لكأن الحكايات تنثال انثيالا مجسدة بتتاليها وتتابعها استسلام الشارد لفتنة السرد وامتثاله لإغواء الرغبة في الحكي فتضعنا في حضرة الثقافة وهي تحلم ذاتها وتتفنن في الثأر لنفسها.
يكفي هنا أن نقرأ أخبار علقمة الفحل وما كان من أمره وسنلاحظ، في يسر، أن الأخبار تشرع، حال تشكلها، في الانحناء والتعرج فيقطع الراوي حديثه من علقمة وذكر نسبه وينتقل فجأة إلى الحديث عن أحد أسلافه وهو زيد بن مناة بن تميم. ويورد حكاية تجمع إلى الغرائبية الفظيع والمتوحش، وترسم للشاعر المتكسب صورة شيطانية تجسد الانحطاط والسقوط والتردي. تفتتح الأخبار بالتعريف بنسب علقمة، فنقرأ (52): "هو كلقمة بن عبدة بن النعمان بن ناشرة بن قيس بن عبيد بن ربيعة بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار." لكن الراوي ينحرف بالقول فجأة من الحديث عن علقمة إلى الحديث عن سلفه زيد بن
مناة:
"وكان زيد مناة بن تميم وفد هو وبكر بن وائل وكانا لدة عصر واحد على بعض الملوك وكان زيد مناة حسودا شرها طمعا وكان بكر بن وائل خبيثا منكرا داهية فخاف زيد مناة أن يحظر من الملك بفائدة يقل معها حظه فقال له يا بكر لا تلق الملك بثياب سفرك ولكن تأهب للقائه وادخل عليه في أحسن زينة ففعل بكر ذلك وسبقه زيد مناة إلى الملك فسأله عن بكر فقال ذلك مشغول بمغازلة النساء والتصدي لهن وقد حدثت نفسه بالتعرض لبنت الملك فغاظه ذلك وأمسك عنه ونما الخبر إلى بكر بن وائل فدخل إلى الملك فأخبره بما دار بينه وبين زيد مناة وصدقه عنه واعتذر اليه ما قاله فيه عذرا قبله فلما كان من غد اجتمعا عند الملك فقال الملك لزيد مناة ما تحب أن أفعل بك فقال لا تفعل ببكر شيئا إلا فعلت بي مثليه وكان بكر أعور العين اليمنى قد أصابها ماء فذهب بها فكان لا يعلم من رآه أنه أعور فأقبل الملك على بكر بن وائل فقال له ما تحب أن أفعل بك يا بكر قال تفقأ عيني اليمنى وتضعف لزيد مناة فأمر بعينه العوراء ففقئت وأمر بعيني زيد مناة ففقئتا فخرج بكر وهو أعور بحاله وخرج زيد مناة وهو أعمى".
هكذا يستسلم الراوي لفتنة السرد ويبتني حكاية تجسد الفظاعة التي يمكن أن يصل اليها بني البشر عندما يستبد بهم الطمع ويستدرجهم إلى الهاوية. والحكاية لا تتكتم على مقاصدها ولا تمارس أي تستر، بل تحرص على ابتناء الفظيع ملحة على أن الشخصين المحوريين يجسدان الانحطاط. فتسند اليهما من النعوت أشدها دلالة على السقوط والتردي. إن زيد مناة "حسود شره طمع" أما بكر بن وائل فهو "خبيث ماكر داهية." فإذا تأن العرب القدامى ينزلون الشاعر منزلة النبي ويحيطون صورته بهالة من العزة والمهابة والمجد، فإن كلا من زيد وبكر ينحرفان بهذه الصورة إلى حدود البشع والفظيع. إنهما كائنان شيطانيان. وبذلك تصل الحكاية إحساس المتلقي بالفجوة الهائلة بين صورة الشاعر باعتباره أمير كلام مجدته الثقافة العربية واعترفت له بالفضل والمكانة وعلو الهمة والمنزلة، وصورة الشاعر التي يجسدها هذان الشاعران.
هذه الفجوة بين صورة الشاعر في الذهن والصورة التي تبتنيها الاخبار هي التي تمد الحكاية بمقدرتها على الفعل في المتلقي. فالحكاية عادة لا تشد المتلقي بوقائعها وأحداثها فحسب، بل تجتذبه اليها أيضا بما ينشأ في لحظة التلقي من تماه أو تعاطف بينه وبين الشخصية المحورية. لكن حكاية زيد وبكر وما وقع لهما تسد السبل كلها على القارئ وتجعل إمكانية التعاطف وما ينتج عنه من تماه مع أحدهما أمرا مستحيلا. إنه في حضرة شخصين متساويين في الخسة والضعة والانحطاط، ولا يمكنه أن يفضل أحدهما على الأخر. فتصبح صورتهما بمثابة حافز يستدعي في الذهن الصورة التي ابتنتها الثقافة العربية للشاعر صاحب المكرمات وصاحب السلطان على الكلمات. وبذلك تنجح الحكاية في جعل المتلقي يدرك أن السقوط كان عظيما.
لذلك لا تشرع الأحداث في التشكل إلا بعد أن تتم عملية رسم هذه الصورة المسخ للشاعر. إننا في حضرة كائنين إبليسيين. ولذلك أيضا، ما إن تأخذ الوقائع في التتابع حتى ينكشف لنا أن الحكاية تخرج بنا من حدود الممكن والمحتمل إلى حدود الفظيع والبشع. وتتخذ السخرية من الشاعر المتكسب – وهي سخرية مضمرة في وقائع الحكاية، معلنة في أوصاف الشخصيات – منحى بموجبه تكف عن كونها مجرد إضحاك لتصبح سخرية في غاية التشفي والازدراء. فثمة منازلة تتم بين شاعرين يلتقيان ولا يتباريان في الشعر مثلما جرت به العادة بين الشعراء الوائل من أمثال امرئ القيس وعلقمة حين حكما أم جندب (53) بل يتباريان في السقوط والتدني، في المكر والخديعة والدهاء.
هكذا تمعن الذاكرة الجماعية في الانتقام من الشاعر الذي انحرف بالشعر إلى التكسب. تفضحه، تعريه، تنفر منه. إنها تحوله إلى كائن فظيع مرعب يأتي من الفعال مع بني جنسه ما لا تقدر عليه الأبالسة فيما بينها. غير أن طريقه الحكاية في تهزئة الشاعر المتكسب الذي يخذل الشعر ويحرفه عن مواضعه لا تطال الشاعر وحده بل تشمل الملك الممدوح، صاحب المال والسلطان أيضا: حتى لكأنها تعتبره مسؤولا هو الآخر عما الى اليه أمر الشعر من هوان وأمر الشاعر من ضعة وسقوط. والناظر في كيفيات توالد الحكاية وكيفيات حبكها لوقائعها يدرك أن السخرية التي تطفح بها تتخذ في الكلام طابعا انتشاريا وتتشكل في شكل مستويات متراكبة، بعضها يستتر بالبعض الأخر ويكمله. إنها تطال الشاعر المتكسب وترسم له صورة شيطانيا تجسد المنزلة البشرية في أشد لحظاتها سقوطا وفظاعة. وهي تطال الشعر أيضا. إن الشعر في هذه الحكاية لا يرفع صاحبه بل يجتذبه اجتذابا إلى مهاوي السقوط ومزالق الهوان. أما السخرية من الملك الممدوح فإنها تتجلى في الصورة التي ترسمها له. إنه يجسد البلاهة. فيصدق زيد مناة وينقاد لقوله، ثم يصدق بكر بن وانل ويمتثل لقوله متراجعا بذلك عن تصديقه زيدا. إن الملك يظل في هذه الحكاية رمزا للسلطة، لكنها سلطة حمقاء تعول في كل قراراتها وأفعالها على ما تسمعه دون رويا وفكر واختيار. ولنا أن نتخيل مشهد فقء العيون حتى ندرك كم هي بائسة هذه السلطة التي لا تتورع من إتيان الفظاعات وتلتذ برؤية الدماء تتحدر من المآقي المفقوءة.
هكذا تمضي السخرية قدما حتى نهاياتها، وتظل تعدد من مستوياتها وأبعادها فتصبح طافحة بالازدراء محملة بالإدانة، إدانة زمن الهوان والضعة والفساد. لقد هان الشعر على الشاعر فحوله إلى وسيلة تكتب وارتزاق. وبلغ الشاعر من الضعة مبلغا جعله يتحول إلى كائن مسخ، كائن فظيع لا يبرع في نظم الكلمات وابتداع طرائق في التعبير جديدة، بل يبرع في حبك المكائد ونسج الأحابيل والشراك. لقد فسد الزمان حتى صار الفظيع فيه أليفا وصار الواقع أكثر غرائبية من الخيال. هكذا تمعن الحكاية في نسج دلالاتها ورمزيتها. ذلك أن فقء العيون إنما يومئ إلى فقدان المقدرة على الرؤية بالمعنيين: فقدان البصر وفقدان البصيرة. وليس ثمة ما يفقدهما معا كالطمع والحسد. والشاعر الذي يمضي بالشعر على دروب الهوان وينحرف به إلى التكسب إنما يفعل تحت مفعول الطمع او الحسد. وهو إنما يصبح كائنا مسخا لأنه لم يحافظ على شرف الاسم، ولأنه "استظل بظل الشعر" كما يعبر ابن رشيق (54) ومضى به على درب الهوان.
من هنا يتبين لنا أن ظاهرة التأسي على الشعر والشاعر التي تحكمت بكتابات النقاد والمنظرين من أمثال ابن طباطبا وابن رشيق وحازم القرطاجني تعلن عن نفسها في الكتب التي عنيت بأخبار الشعراء وسيرهم وفق طرائق أكثر تكتما، لكنها أشد عنفا. فللذاكرة الجماعية شاراتها. ولها أيضا أساليبها في الإعلان عن نفسها وفق طرائق مواربة تضمن لها التكتم والتخفي. فتوهم الاخبار والروايات بأنها تتشكل ملتزمة بالحياد مكتفية بنقل الوقائع والأحداث التي جرت في التاريخ: والحال أن تلك الأخبار والروايات إنما ضمنت بقاءها فاعلة فينا إلى اليوم لا بما تقوله فحسب، بل بما تتكتم عليه أيضا. وهذا الذي تتستر عليه ولا تجاهر به إنما هو ما تحتوي عليه من أبعاد ودلالات رمزية تضعنا حين نتملاها في حضرة ثقافة تفصح عن مكبوتاتها وتقول رغباتها وتحلم ذاتها معتمدة على اللمح والإيماء متبعة مسالك يدق المسلك اليها.
لذلك يلاحظ الناظر في هذه المتون التي استسلمت لفتنة السرد واتخذت من سير الشعراء وأخبارهم مادة في نسج الحكايات والقصص أنها تشكلت محكومة بذلك الوعي المأساوي بالنهايات والأفول، الوعي الذي لون أطروحات النقاد والمنظرين. إنه الوعي المضني ذاته، ذاك الذي جعل النقاد والمنظرين يكتبون دفاعا عن الشعر لانتشاله أو لانتشال ما سر منه لو تعصف به المأزق، هو نفسه الذي يعاود الظهور ويتخذ لنفسه مسارب ملتويا مواربة في كتب الأخبار. وهذا ما جعل الحكايات والقصص التي تبتنيها الاخبار والروايات تتحول إلى ميدان مواجهة بين الواقع والخيال، بين الوقائع التي تجري في التاريخ فعلا وكيفيات تدخل الخيال في صياغتها وتوسيعها من الداخل وفتحها على دلالاتها وأبعادها الرمزية. لا سيما أن الأبعاد الرمزية إنما تمثل من الحدث الواقعي جانبه المحجب الملتحف بالظل، واستدراجه إلى النور لا يأتي اتفاقا أو صدفة بل ينتج عن كيفية صياغة ذلك الحدث وكيفيات إعادة ابتنائه في الكلام لحظة تتم عملية الانتقال من واقع لا نصي (الحدث كما جرى) إلى واقع نصي هذه المرة (الخبر وكيفيات تشكله وتعالق ملفوظاته وعلاقاته التي يقيمها مع غيره من الأخبار والروايات).
غير أن هذه المواجهة التي تنشأ في السر وتتحكم بالأخبار والروايات كثيرا ما تتحول إلى نوع من الصراع بين أنماط الخطاب. فتضعنا حين نتملاها في حضرة الخطاب الفقهي الديني وهو يطبق على الخطاب الجمالي، أو في حضرة الخطاب الجمالي وهو يعصف بسلطان الخطاب الديني ويثأر لنفسه منه. وبذلك توهم الأخبار والروايات بأنها تلزم الحياد وتنقل الوقائع، فيما هي تتحول إلى ميدان صراع بين المقدس والمدنس، بين السماء والأرض، بين سلطة المحرم واغواء الخروج على الممنوعات كلها والمحرمات جميعها. وسواء اعتمدت الروايات والأخبار على قانون الإضحاك كما هو الحال في أخبار أبي دلامة، أو اعتمدت التعجيب وإضفاء مسحة من الغرابة على الأحداث والشخصيات كما هو الشأن في أخبار عمر بن أبي ربيعة ووضاح اليمن، فإنها تظل ترشح بذلك الصراع المتوتر الذي لا يهدأ ولا يعرف الأناة والتوقف. ولذلك أيضا كثيرا ما يغير الصراع بين المتضادات من موضوعه، فيصبح مداره تجسيد الفجوة الهائلة بين صورتين للشاعر: صورة كانت في البدء تحيطها الذاكرة بهالة من المناعة والعزة وعلو الهمة والمنزلة، وصورة أخرى في منتهى القتامة تجسد المهانة والمذلة والضعة التي الى اليها أمر الشاعر بعد أن ارتضى لنفسه أن يستظل بظل الشعر ويمضي في دروب الهوان حتى نهاياتها الفاجعة.
إنه الحنين ذاته يعاود الظهور، الحنين إلى ما كان في البدء من أمر الشعر والشاعر. الحنين الذي اضطلع بدور الأرضية التي انطلق منها المنظرون والنقاد وأعلنوا عنه صراحة في من لغاتهم يندس في كتب الأخبار ويشرع في العمل لا يكل. ثمة تمجيد للماضي. ثمة إلحاح على ان الماضي هو زمن الشعر. أما الحاضر والمستقبل فإنهما مجرد رحيل بطيء ثقيل باتجاه النهايات. ولا خيار هناك. إن الدروب جميعها مقفلة مسدودة لائذة بالمستحيل إلا تلك السبيل المؤدية إلى الهوان، هوان الشاعر وهوان الشعر.
الهوامش
1- ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، تحقيق وشرح محمود محمد شاكر، القاهرة 195، ص 22.
2- العمدة افي محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق محمد محيي الدين عبد للحميد، بيروت: دار الجيل، الطبعة الرابعة 1972 ص /16، 1/29
3- منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة تونس: دار الكتب الشرقية 1966ص 124، والعمدة 1/16.
4- المقدمة، بيروت: دار الكتاب العربي (د. ت) ص 580.
5- العبارة للخليل بن أحمد أوردها حازم القرطاجني في كتاب منهاج البلغاء وسراج الأدباء ص 143.
6- حللنا هذه المسألة وتوسعنا فيها في كتاب الشعر والشعرية: الفلاسفة والمفكرون العرب ما أنجزوه وما هفوا اليه. نشر الدار العربية للكتاب، تونس 1992.
7- العبارة للخليل أوردها القرطاجني في كتاب منهاج البلغاء وسراج الأدباء ص 143-144
8- العمدة 1/22
9- حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء ص 337.
10 – العمدة 1/80-81. يحدثنا ابن قتيبة من حجم العطايا التي كان النعمان يهبها للنابغة. فلقد كان النعمان بن المنذر يملك "كل النعم السود ولم يكن بأرض العرب بعير أسود إلا له في مر له منها بمائة بعير معها رعاتها ومظالها وكلابها" راجع الشعر والشعراء، تحقيق محمد المغربي الزواري، بيروت: دار عالم الكتب الطبعة الثالثة 1984 ص 21.
11- المقدمة ص 581.
12- يذكر ابن قتيبة في الشعر والشعراء أن الحطيئة "جاور الزبرقان بن بدر فلم يحمد جواره فتحول عنه إلى بغيض فأكرموا جواره وأحسنوا اليه فقال يهجو الزبرقان ويمدح بغيضا:
ما كان من ذنب بغيض ان رأى رجلا
ذا فاقة عاش في مستوغر شاش
جار لقوم أطالوا هون مغزله
وغادره مقيما بني أرماس
ملوا قراه وهزته كلابهم
وجرحوه بأنياب وأضراس
دع المكارم لا تنهض لبغيتها
واقعد فأنت الطاعم الكاسي
فاستعدي عليه الزبرقان عمر بن الخطاب وأنشده (دع المكارم البيت) فقال له ما أراد هجاءك أما أن ترضى أن تكون طاعما كاسيا قال إنه لا يكون في الهجاء أشد من هذا فبعث الى حسان بن ثابت يسأله عن ذلك فقال ما هجاه ولكن سلح عليه فحبسه وقال يا خبيث لاشغلنك عن اعراض المسلمين." ص 67.
13- الأغاني، بيروت مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، (د. ت) ص 18/29. ويورد ابن قتيبة القول نفسه منسوبا إلى أبي يعقوب الخزيمي. يقول: "وقال أحمد بن يوسف لأبي يعقوب الخزيمي مدائحك في منصور بن زياد يعني كاتب البرامكة أشعر من مراثيك فيه وأجود قال كنا إذ ذاك نقول على الرجاء ونحن اليوم نقول على الوفاء وبينهما بون بعيد" ص 8.
14- نفسه، ص 31.
15- الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة: مكتبة الخانجي (د.ت) ص 241
16- العمدة 1/ 82
17- ابن طباطبا، عيار الشعر، تحقيق عباس عبد الستار، بيروت: دار الكتب العلمية 1982، ص 12.
18- نفسه ص 12
19- قدامة بن جعفر، نقد الشعر تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي، القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية 1978، ص 96.
20- نفسه.
21- العمدة1 ص /82ه ما بعدها "باب التكسب بالشعر والأنفة منه." و انظر أيضا ص 1/42 حيث يحتفي ابن رشيق بموقف علي بن الجهم من الشعر وأنفته من التكسب بالشعر. يكتب: "وقال علي بن الجهم في مدح المتوكل:
وما الشعر مما أستظل بظله * ولا زادني قدرا، ولا حط من قدري
ثم قال:
ولكن إحسان الخليفة جعفر * دعاني الى ما قلت فيه من الشعر
فذكر أنه ثم يستظل بظل الشعر، أي: لا يتكسب به، وأنه لم يزده قدرا لأنه كان نابه الذكر قبل عمل الشعر، ثم قال* ولا حط من قدري* فأحسن الاعتذار لنفسه وللشعر، يقول ليس الشعر ضعة في نفسه، ولا صنعته فيمن دون الخليفة، وما كفاه ذلك حتى جعل نفسه بإزاء الخليفة، بل مكافئا له بشعره على إحسان بدأه الخليفة به، ولم يرض أن يجعل نفسه راغبا ولا مجتديا".
ويذهب ابن رشيق إلى أن امرئ القيس إنما فاق الشعراء وحظي بالمنزلة والمكانة في الذاكرة الجماعية لأنه لم يقل الشعر رهبة أو رغبة. يقول: "حكي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: لو ان الشعراء المتقدمين ضمهم زمان واحد ونصبت لهم راية فجروا معا علمنا من السابق منهم، وإذ لم يكن فالذي لم يقل لرغبة ولا لرهبة، فقيل: ومن هو؟ فقال: الكندي، قيل: ولم؟ قال: لأنني رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة." ص 1/41-42
22- الأغاني 12/136
23- جمال الدين بن الشيخ، الطبعة الفرنسية، باريس: منشورات أنتروبو 1975. ص 21 وما بعدها.
24- نفسه، ص 63.
25- نفسه، ص 21
26- الشعرية العربية ص 24
27- نفسه.
28- نفسه ص 27.
29- نفسه ص 27.
30- الجاحظ، البيان والتبيين، ص 241.
31- العمدة 1/82-83.
32- منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ص 125.
33- المقدمة، ص 581.
34- الأغاني 12/136.
35- نفسه
36- يكتب جمال الدين بن الشيخ في الشعرية العربية متحدثا عن التنازلات التي أرغم البحتري على تقديمها فيشير الى أن البحتري كان يلبس لكل حال لبوسها. فهو "معتزلي وسني وشيعي بحسب الظروف." ص 31.
37- الأغاني 12/136.
38- نفسه.
39- العمدة.
40- الأغاني،ص 9/165.
41- نفسه ص 137.
42- الأغاني 18/169.
43- نفسه
44- نفسه
45- نقرأ في لسان العرب مادة بذذ: بذذت تبذ بذاذا وبذاذة وبذوذا: رثت هيئتك وساءت حالك."
46- الشعرية العربية ص 31. ويحدثنا أبن قتيبة في الشعر والشعراء عن الكميت وتشيعه فيقول: "وهذه عندي قصة الكميت في مدحه بني أمية وآل أبي طالب فإنه يتشيع وينحرف عن بني أمية بالرأي والهوى وشعره في بني أمية أجود من شعره في الطالبيين ولا أرى ذلك إلا قوة أسباب الطمع وإيثار عاجل الدنيا على آجل الآخرة." ص 8.
47- العمدة 2/185.
48- الأغاني 18/168.
49- نفسه.
50- نفسه 18/170.
51- نفسه. ويورد أبن قتيبة القول نفسه منسوبا إلى يعقوب الخزيمي. يقول: "وقال أحمد بن يوسف لأبي يعقوب الخزيمي مدائحك في منصور بن زياد يعني كاتب البرامكة أشعر من مراثيك فيه وأجود قال كنا إذ ذاك نقول على الرجاء ونحن اليوم نقول على الوفاء وبينهما بون بعيد." ص 8.
52- الأغاني 21/111-112.
53- الأغاني 21/112 نقرأ خبر ما جرى بين أمرئ القيس وعلقمة وأم جندب: " أخبرني عمي قال حدثني أبو عبيدة قال كانت تحت أمرئ القيس امرأة من طيء تزوجها حين جاور فيهم فنزل به علقمة الفحل ابن عبدة التميمي فقال كل واحد منهما لصاحبه أنا أشعر منك فتحا كما إليها فأنشد امرؤ القيس قوله * خليلي مرا بي على أم جندب * حتى مر بقوله
فللسوط ألهوب وللساق درة * وللزجر منه أخرج مهذب
ويروى أهوج منعب فأنشدها علقمة قوله ذهبت من الهجران في غير مذهب* حتى انتهى الى قوله
فأدركهن ثانيا من عنانه * يمر كغيث رائح متحلب فقالت له علقمة أشعر منك قال وكيف قلت لأنك زجرت فرسك وحركته بساقك وضرته بسوطك وانه جاء هذا الصيد ثم أدركه ثانيا من عنانه فغضب أمرؤ القيس ليس كما قلت ولكنك هويته فطلقها فتزوجها علقمة بعد ذلك وبهذا لقب علقمة الفحل." ورد الخبر نفسه في الشعر والشعراء وابن تقيبة يذكر أن امرأة امرئ القيس هي أم جندب ص 31.
54- العمدة 1/42.
محمد لطفي اليوسف (ناقد واكاديمي من تونس)