منذ التجلي الأول لظاهرة الموت، والبشر ما يزالون أمامه على ذهولهم الأول عينه، وعلى رعبهم الأول ذاته، وعلى حيرتهم نفسها، لا شيء، تغير، وكأنما حكمة القرون، وفلسفة الدهور، وعلم الأجيال هباء يتبدد أمام الموت سيد الحقائق جميعها.
بمعنى من المعاني فإن هذا كلا لا يمكن إلا أن يكون طبيعيا ومنطقيا، وعقليا، فلوان كلا منا حاول أن يتذكر تلك اللحظة الأولى المتشحة برماد النسيان، التي صفعته للمرة الأولى في حياته حقيقة الموت كبرق يملا السماء ويكاد يودي بالبصر، وامتدت به عين التأمل الى اللحظة التي يطالع فيها هذه السطور، ثم حاول أن يسأل نفسا عما أفلحت يداه في الإمساك به من حقائق لغز الموت، لما وجد في يده إلا ذرات من تراب أقرب الى الهباء، بل وألفى نفسه أمام هوة تتسع كلما غربت شمس يوم آخر من العمر. وما من سبيل الى مواجهتها إلا بالتشبث في رعب بحبال النسيان أو التناسي والتجاهل والتعامي.
ولكن من ذا الذي يملك رفاهية التعامي عن حقيقة هي سيدة الحقائق بامتياز؟
من ذا الذي يملك القدرة على التناسي وهو يمني في نفق مغلق يعلم أنه لابد له من أن يرتطم في نهاية المطاف بالصخر الصلد الذي لا سبيل الى خطوة للأمام حياله ؟
من ذا الذي يملك اجتراع التناسي وهو يعرف أنه يمني في غابة موحشة يطلبه في ظلالها وتحت أشجارها تنين كلى القدرة يملأ السمع فحيحه والآفاق ناره ودخانه ؟
في هذه اللحظة التي أسطر عبرها هذه التساؤلات تتداعى الى ذهني تأملات سنوات طويلة في الموت، وليست إلا محطة من محطاتها المتعددة إنجاز ترجمة كتاب "الموت في الفكر الغربي" لجاك شورون الذي أصدرته سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية في ابريل 1984.
ولست أريد أن أثقل على القاريء بفيض من هذه التأملات، ولكنني أتمنى أن يسمح لي بأن أفكر معه بصوت عال في ست نقاط عن الموت، تشكل جوانب شتى من أشكال أعترف بأنها تشغلني، وتملأ على تفكيري الآن وهي:
أولا: هذا الموت المطلق والشامل والكلي الحضور، هو أيضا، وفي الوقت نفسه، موتي أنا، لا موت أحد غيري. فرغم أنه حقيقة مطلقة تنطبق على كل المخلوقات إلا أنه حينما يحين موتي فإني حتما سأموت، (كل نفس ذائقة الموت ) (الأنبياء – 35 العنكبوت – 57). وهذه الرحلة التي لن أعود منها أبدا سأفضي فيها وحيدا، إذ لا سبيل الى تجاهل القطار الواقف على محطة أنا الراكب الوحيد على رصيفها ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )(الأعراف – 34). وهذه الرحلة لا سبيل أمامي الى الإمساك بالحد الأدنى من المقومات التي تؤهلني للانطلاق فيها، فمن يمضون الى ضفة الموت لا يعودون ليلقوا الضوء على ما وجدره هناك، ونحن حتى حين نحيط بهم في لحظة الرحيل، فإن المعرفة بمغاليق أسرار الرحلة تظل قاصرة عليهم، ولا يبقى في أيدينا إلا تلويحة وداع، ودموع في العيون، وخوف يملأ القلوب وحزن يملأ الأفق، لأننا كنا شهودا على جانب موحش من جوانب الشرط الإنساني سينطبق علينا بدورنا.
وهذه الرحلة، رحلتي، يشكل جزءا من أصعب مخاوفها أنها ترتبط بأن ما مر لابد أن يرصد، ولابد للحظة الختام أن تكون لحظة استرجاع ما مضى، لحظة كل الحسابات العسيرة، (وكل إنسان الزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا. اقرأ كتابك، كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) (الاسراء: 13- 14).
وهي رحلة تحيرني؟ لأن المجهول الذي يكتنفها، ربما أكون قد عرفته على نحو جزئي، لكنها معرفة لم تزدني إلا جهلا، ولم تملأ قلبي إلا خوفا. (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم اليه ترجعون )(البقرة: 28).
ومأساتي المطلقة تصل الى سقفها حيال الموت حين يحيرني التساؤل عما إذا كنت سأترجل من رحلة، أم أنني الآن في سبيلي الى الانطلاق في رحلة. أليس الرسول (ص) هو القائل: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا".
أجل إن هذا الموت المطلق، موت الجميع، هو أيضا موتي أنا، إنه موتي الفردي والشخصي والخاص، وحدي أموت، وبذاتي سأرحل الى ضفة الموت وما من أحد سيموت نيابة عني، وما من أحد عاد من تلك الضفة ليحدثني عما ينتظرني هناك، وأنا نفي حين أرحل لن أعود لأفض المغاليق حتى لأقرب الناس الى وآثرهم على نفسي.
ثانيا: الموت، الذي تحدد على هذا النحو الواضح، والصريح والمتعين، حقيقة حتمية، لا سبيل الى الهرب منها، أو الى تأجيلها، أو الى تجزئتها: (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) (الرحمن: 26).
إنه نهاية النهايات، أو كما يعبر د. عبدالرحمن بدوي الفعل الذي ينهي كل الأفعال.. ولا سبيل أمامي الى الهرب منه، ذلك أنه: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ) (النساء: 78).
وأنا لا أملك له تأجيلا، ولا تأخيرا، فهو الطالب الذي لا يرد، واليد التي لا تدفع، والسيف المسلط على الأعناق الذي يجتر حين يهوي. (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) (الأعراف: 34).
مع ذلك فإن هذه الحتمية في الوقوع، إن تأملتها عن كثب، فلن تجدها عشوائية، وإنما وراءها أسبابها الموضوعية،التي تجعلها إمكانية معلقة بتكامل شروطها وضوابطها الموضوعية، ومأساتي الحقيقية هر أن عقلي، أنا الإنسان الفاني، يقصر عن استكناه أسرار هذه الشروط والضوابط (ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا..) (آل عمران 145).
ولكن إذا كنا نسعي الى تعميق الحديث عن أسباب موضوعية، وإذا كان قد أمكن للطم الحديث أن يتحدث، بفضل الإنجازات الطبية عن زيادة معدلات احتمالات الحياة وتحسين الظروف الصحية، وإذا كانت المجتمعات المتقدمة تتحدث اليوم عن متوسط للعمر يدور حول مائة عام. الا يعني ذلك ردا كميا للموت قد يفتح المجال في مستقبل غير منظور للحديث عن رد كيفي للظاهرة ؟
من المؤكد أن علامة الاستفهام هذه مضللة الى أبعد الحدود، فأيا كانت قدرة العلم على تحسين ظروف الحياة الإنسانية، ومن بينها الظروف الطبية والصحية بعامة، فإننا نتحدث هنا عن الحياة، أما الموت فما زال هناك في نهاية النفق… ينتظرنا جميعا، حتى إن عمرنا مثل عمر نوح.
ومن ناحية أخرى، فإن الحديث عن عمر بهذا الامتداد، وخاصة في عالمنا الثالث، قد لا يكون بالضرورة حديثا مشرقا أو بهيجا تماما.
ثالثا: هذا الموت الحتمي، الذي لا سبيل أمامي إلا الانطلاق نحوه، أنا ذاتي، يتخذ بعدا رهيبا حقا، في ضوء أنني لا أملك شيئا حياله، حتى ولو مجرد العلم بجانب من مداخل مغاليقه.
إنني لا أعرف كيف سأمضي، ولا إلى أين، وما الذي ينتظرني على وجه الدقة هنالك في ضفة الموت. حقا أن ديننا الحنيف يحدثنا عن السكينة.حينما يندلع الخوف في نفوس الآخرين، ويعدنا الرجعي، التي هي عودة القطرة الى بحرها، حيث العدالة المطلقة، وحيث الرحمة الكلية: (قل يترفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم الى ربكم ترجعون) (السجدة – 11).
هنا لابد لنا من التساؤل: هل من قبيل الصدفة أن المعنى الحرفي للموت في لفتنا، لفة القرآن الكريم، هو السكون ؟
هنا لابد من التساؤل أيضا: هل من قبيل الصدفة أن كلمة الموت ترد في القرآن الكريم في ا6ا موضعا؟.
والتساؤل لا يمكن إلا أن يرد على الذهن: هل من قبيل الصدفة أن العرب عرفت الموت من خلال منهاج التحديد بالسلب بأنه خلاف الحياة وذهاب القوة، وأنه يحصل بتوفي الأنفس، أي بقبض الروح ؟
هذا ينقلنا الى سؤال مؤرق: ما الروح ؟
أفق هذا السؤال مترامية، بلا انتهاء، ولكن في نهاية الأفق ينهض قول الحق سبحانه وتعالى (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي. وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) (الإسراء – 85).
والموت في جوهره قيد على وجود الإنسان، ولكن حيث هناك حديث عن القيد، فلا يمكن إلا أن تكون هناك حرية، وإلا كان الحديث عن القيد عبثا ومحض شقشقة لسان.
الآن قل لي: أي حرية هي تلك المتاحة لي في مواجهة الموت ؟
رابعا: هذا الموت، موتي أنا، الذي بقدر ما هو حتمي لا أملك شيئا حياله، حتى ولا مجرد العلم بجانب من أسراره، أليس مروعا أن كل ما في سجلات البشر عنه منذ حط رجل الكهف رسومه الأولى لا علاقة له بي؟
كيف ؟
دعنا نتأمل الأمر بقليل من الروية، إننا نحن غمار الناس، نحن ملح الأرض، نحن الرجال الذين يأكلون خبزهم بعرق جبينهم، والنساء اللاتي تلدن بالألأم، الذين لا ينتمي نسبنا الى السماء ولا رفعتنا اليها ثروتنا، الذين نمضي تحت شموس الدنيا، عارقين في كدنا، ليحيا أبناؤنا حياة خيرا مما قدر لنا، لا علاقة بيننا، على الاطلاق، وبين كل ما راكمته البشرية في سجلاتها حيال الموت.
ربما ليس من قبيل التعسف القس ل بأن ما في هذه السجلات، حيال الموت، ينتمي الى طموحات الملوك والنبلاء أو جمجمات الكهنة، أو انفعالات الفنانين أو تجارب العلماء.
ولكن ماذا عنا؟ ماذا عن هذه الجموع الهائلة التي تعمر الأرض وأقصى طموحها لقمة عيش للصغار؟ ماذا عن مخاوفنا؟ ماذا عن أحلامنا؟
تأمل معي قليلا. لقد كانت نصوص كتاب الموتى نصوصا مأتمية سطرتها أقلام الكهنة في إطار طقوس هي أقرب الى الأسرار، التي شكلت جزءا من امتيازات الفراعنة والنبلاء منذ أقدم العصور
الأمر عينه ينطبق على النصوص السنسكريتية العتيقة، على نصوص حضارات الدنيا من بلاد الأزتيك الى الصين مرورا بكل الحضارات النهرية وغيرها.
ربما لهذا، بالضبط، خرج نجار فقير من بيت لحم ليقدم لنا، نحن الفقراء الضائعين في عالم استحال غابة للباطشين، بشارته وعظته على الجبل.
ربما لهذا، بالضبط خرج راع فقير ابن إمرأة كانت تأكل القديد في مكة، ليحدث عن الموت والحياة، أناسا أنف سادة قريش من مجرد الجلوس معهم، لكن الله أراد أن يجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين فكانوا كذلك. وكانوا هم الذين نقلوا لنا كلمات المصطفى (ص)، التي تأخذ بمجامع القلب وتمس النفس، حيث يقول: "إن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له، إذا انصرفوا عنه".
فتأمل !
خامسا: الموت الذي تحدد على هذا النحو حقيقة رهيبة الى حد أنها يمكن أن تبطش بالحياة وتحيلها عدما، ما لم تكن هناك قوى مضادة، في صميم الحياة الإنسانية نفسها، وفي قرارة الوعي الإنساني ذاته، تجتذبنا الى مشاعر السكينة وتتيح تجاور الحياة والموت على هذا النحو العجائبي.
وأحسب أن المرء لا يتعين عليه، أن يرحل طويلا في الأرض، ولا أن يتأمل طويلا في تاريخ البشر، لكي يدرك هذه الحقيقة البسيطة.
دعنا نتوقف قليلا في الطابق الأرضي من متحف قبرص، على بعد مرمى حجر مما يسمى بالخط الأخضر، الفاصل في قلب نيقوسيا بين شطريها، ولنتأمل القبر الأول، الذي يعد من أقدم القبور التي عثر عليها في المواقع الأثرية في "جزيرة أفروديت".
نظرة واحدة ستضعنا وجها لوجه أمام الأمرين معا، الطابع الرهيب للموت، وذاك الاستدعاء الإنساني المدهش للسكينة في مواجهته.
إن القبر ليس إلا جزءا لا يتجزأ من قلب إحدى الدور السكينة، لم يعثر عليه الباحثون في البرية، في العراء ولا في ساحة أمام تجمع سكني، ولا في فناء دار أو باحته. وإنما في قلب الدار ذاتها، وفي الوقت نفسه وجد الجثمان المدفون فيه وقد وضع حجر كبير على صدر الجثة !
ما الذي يعنيه هذا؟
إن الموت هذا المجهول المطلق والرهيب، سيدفع أهل الميت الذي لفظ نفسه الأخير ربما قبل الميلاد بخمسة آلاف عام، الى وضع حجر على صدره، لدى دفنه تحسبا لإمكانية انبعاثه وتحوله الى قوة مجهولة مطلقة السراح قد تقترن بالشر ولكن شعورا مدهشا بالسكينة سيدفع أهل الميت الى دفنه في أرضية الدار، معهم، تماما كما كان يعيش بينهم، قبل هموده الغامض والغريب والملتبس، قبل موته.
وعند سفوح الهيمالايا قد يتاح لك أن تصغي الى تلك القصائد القصيرة المترعة بروح الرثاء وهي تلقى على نحو مفعم مع رحيل الميت الى مثواه الأخير، وستصغى الى طقس صب الماء مع ترديد أصوات الأجراس الفضية الصغيرة، وكأن هذا كلا يستهدف بعث السكينة في الروح الراحلة وفي أعماق من بقوا ومضوا يلوحون لها تلويحة الوداع.
ولكن هذا الطقس لن يتم قبل أن يتجمد الدم في عروقك مع دوي نفير هائل، كأنه إعلان بحضور قوى الموت الغامضة والملتبسة والباطشة أيضا.
فهل البوق إعلان برهبة الموت والأجراس وخرير الماء اعلان بالسكينة في مواجهته ؟
لا أحد سيقول لك ربما لأن ما من أحد يعرف جلية الأمر، على وجه اليقين.
أنت الحائر _مثلي _الذي ستمني في الدنيا باحثا عن إجابات لأسئلة تعذبك لتجد نفسك في سنوات الرماد مثقلا بمزيد من علامات الاستفهام ربما تقف معي في متحف اللوفر وسط القاعات العتيدة التي تضم الآثار الفرعونية، لتتجمد أمام نص لا تزيد ترجمته عن هذه الكلمات "ملعون أنت، حرمت عيوننا نظرة الصفاء".
هذا النص ليس إلا لعنة يضمها قبر يعود تاريخه الى حوالي سبعة آلاف عام، وهو موجه الى لصوص المقابر.
ما الذي نحن حياله ؟
لقد افترض كاتب هذا النص أنه سيحيا بعد الموت، وأن عينيه ستعرفان في تلك الحياة الأخرى نظرة الصفاء، وأنه لن يسلبه إياها إلا لصوص المقابر الذين يهتكون أسراره ويفضون مغاليق لقائه مع الموت. إنها السكينة في رحاب تلك الحياة الأخرى، ولكن الموت الرهيب يملك أسراره التي قد ينقلب كل شي ء في ظلها الى النقيض، إذا ما تلاعب لصوص المقابر بتكامل معادلة السكينة – الرهبة هذه.
ويوسعنا أن نمضي في الأمثلة الى ما لا نهاية ولكن كلمة الصدق هي التي تتوج حديثنا (خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وهو العزيز الغفور)(الملك: 2) فالحق تعالى قدم الموت على الحياة تنبيها الى أنه يتوصل به الى الحياة الحقيقية وعد الموت نعمة أنعم بها على عباده: (كيف تكفرون بالله وكنتم أصواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم اليه ترجعون ) (البقرة: 28).
إنها الرهبة، إذن، تشف عن انسانيتنا، لكنها تفسح المجال لأفق لا ينتهي من السكينة في رحاب النعمة الأسمى والأعظم.
سادسا: الموت، في جوهره "حد" أو "نهاية"، ولكنه في الوقت نفسه حد يمض بنا وراء كل الحدود، ونهاية تقودنا الى ما وراء كل النهايات.
والمأساة الحقيقية هنا هي أننا بدلا من أن نتأمل الموت ونفهمه بمعناه الصحيح، أي من حيث ارتباطه بالحياة، فإن المكتبة العربية تعرف دفقا مروعا من الكتب التي تدور حول القبر، وعذابه، ومخاوفه، وبالتالي فإنه في غمار هذا كله يغيب البحث والنظر الجاد في الحياة والموت على السواء.
لقد كان زمّل هو الذي قال "إن الحياة تقتني بطبيعتها الموت بحسبانه هذا الشيء الآخر الذي بالنسبة اليه تصير شيئا والذي بدونه لن يكون لهذا الشيء معناه وصورته ".
هذا القول الذي يندرج في صميم المذهب الحيوي، يصب في أن الحياة تقتني الموت، وما هو حي هو وحده الذي يموت، وما الموت إلا حد للحياة، هو الصورة التي تلبسها الحياة وتحطمها من بعد، وهي صورة لا توجد في اللحظة الأخيرة فحسب، وإنما في كل لحظة من لحظات الحياة.
وربما كان هذا الفهم، أو بالأحرى الحرص على تملك ناصيته، وإيضاحه، هو الذي يبرر وجود هذه الصفحات بين يدي القاريء، فالإدراك الأفضل والأكثر عمقا للموت هو نفسه، يقينا، من أهم المداخل الى الحياة أكثر امتلاء، وخصبا، وعطاء.
وقد كان من الطبيعي أن ينعكس إدراك الإنسان لأبعاد مشكلة الموت منذ وقت بعيد، في تعبيره عن مشاعره حيال هذه المشكلة، ويبدو ذلك كأوضح ما يكون في !لأساطير والملاحم، والتراجيديات الإغريقية، ومسرح النو الياباني، والجداريات الكنسية وشعر الشعراء منذ أقدم العصور وصولا الى قصائد المنعطف الرابع للقرن العشرين.
لكنني أزعم أن التعبير عن مشكلة الموت في الفن لا يحلق الى قمة شموخه إلا في الموسيقى الكلاسيكية، وإن من أهم الأعمال في هذا الإطار، وأكثرها جدارة بالاهتمام والتحليل والتذوق متتالية موديست بتروفيتش موسورسكي "أغنيات الموت ورقصاته ".
هنا قد يبادر الى الإعتراض على الفور من يقول متسائلا:
أ – من الذي قال إن الموسيقى الكلاسيكية هي التعبير الفني الأكثر سموا وتألقا وتحليقا عن المشاعر الإنسانية في مواجهة مشكلة الموت ؟
ب – من الذي قال إنه حتى في إطار الموسيقى الكلاسيكية تعتبر متتالية موسورسكي من الأعمال الجديرة بالاهتمام والتحليل والتذوق على نحو يفوق غيرها من أعمال عمالقة الموسيقى الكلاسيكية؟
في مواجهة الاعتراض – التساؤل الأول – سأبادر، على الفور، الى التسليم بأنه لا حصر للتعبيرات الفنية الإنسانية البالغة الرقي عن المشاعر الإنسانية في مواجهة الموت.
ولست أملك إلا التوقف طويلا أمام الفكر الأسطوري، في تعامله مع هذا اللقاء، الصدام بين الحياة والموت، وانني على تمام اليقين من أن الملايين من الناس جيلا، وراء جيل قد توقفوا أمام الموت في أسطورة إيزيس وأوزوريس، وفي أساطير العالم شرقا وغربا.
وشأن الكثيرين أيضا فإنني لا أملك الوقوف طويلا عند مشاعر جلجامش، وهو يرى صديقا، انكيدو يسقط في قبضة الموت، فلا يملك إلا أن يقع بدوره في هاوية الحزن، وينطلق، رعبا من الموت، يبحث عن الخلود، ويوضح لنا موقفه، إذ يقول: لقد أفزعني الموت حتى همت على وجهي إذا مت أفلا يكون مصيري مثل انكيدو؟
والى أتونا بشتيم أخذت طريقي وحثثت الخطي لأسأله عن لغز الحياة والموت.
والمرد لا يمكن إلا أن يتوقف طويلا عند هوميروس، وهو يجعل ظل أخيل يهتف، ضارعا:
"أناشدك، يا أوديسيوس الشهير، الا تتحدث برفق عن الموت، فلان تعيش على الارض عبدا لآخر خير من أن تحكم كملك لا ينازعه السلطان أحد في مملكة الاشباح اللاجسدية ".
ولا يمكن إلا أن يجتذب اهتمامنا، بقدر نفسه، موقف عمالقة التراجيديا الاغريقية من الموت، وقد كان يوربيديس هو الذي اختزل هذا الموقف، في إيجاز واقتدار، بقوله: "ليس هناك ما هو أكثر عذوبة من رؤية نور الشمس" وكذلك قوله: "عندما يدنو الموت لا يعود أحد يرغب في الهلاك، ولا تغدو الشيخوخة عبثا" ومن ذد الذي يستطيع نسيان كلمات سوفوكليس الخالدة: "من بين العجائب العظمي جميعا ليس هناك ما هو أعظم من الإنسان… الموت وحده هو الذي لا يجد الإنسان شفاء له"؟
والمرء يتوقف طويلا عند مسرحيات النو اليابانية الرائعة وخاصة تلك التي كتبها زيا مي، الدراماتورجي الياباني العظيم قبل قرون حيث نلتقي بتلك المقاطع التي يرثي البطل نفسه فيها، وقد اتخذ صورة هامشية، بعد أن أطاح به الموت من علياء البطولة والمجد، ليسقط في وهدة الظلال الشبحية المترعة بالآلام.
ولكن مع التسليم بهذا كله، ومع الاقرار بشموخ التعبير عن الموت في العديد من الأعمال الفنية الكبرى، ليست أقلها شأنا مسرح شكسبير، فإنه لابد كذلك من التسليم بأن الموسيقى الكلاسيكية تنفرد بالطابع الكلي في تعبيرها عن الموت كظاهرة كلية.
فالموسيقي الكلاسيكية تملك عبقرية الانتقال من الجوانب الجزئية، المتعلقة بالألم في مواجهة الموت، لتجسد الحيرة والضياع والتخبط الإنساني، حيال هذا العدم الهائل والنهائي والمخيف والمتشح بالغموض، هذا الانقطاع النهائي الذي لا يدري أحد حتى مجرد وجود استمرارية بعده، دع جانبا أي نوع من الاستمرارية هي.
إذا انتقلنا الى الاعتراض الثاني، المتعلق بالاهتمام بمتتالية موسورسكي، فإنني سأبادر على الفور أيضا الى التسليم بوجود أعمال رائعة في إطار الموسيقى الكلاسيكية، تتعلق بمفهوم الموت، وأخص منها بالذكر تعبير فيردي الرائع في أوبرا "عطيل" وكذلك في أوبرا "عايدة" والذروة الرائعة التي يحلق اليها موتسارت في "الريكويم" بالاضافة الى أعمال كنسية لا حصر لها.
لكن جدارة "أغنيات الموت ورقصاته" بالاهتمام والتوقف عندها طويلا، والاعلاء من شأنها، وتذوقها وفهم أسرار جمالياتها تضرب جذورها في العديد من الجوانب أبرزها، بعيدا عن الجوانب الفنية المتخصصة، بعدان محددان:
1- طبيعة الموقف الإنساني من الموت الذي اتخذه موسورسكي وتعبيره بجلاء عن هذا الموقف في متتالية "أغنيات الموت ورقصاته ".
2 – ألتأثير الكبير الذي تركته هذه المتتالية في نفوس العديد من كبار المبدعين الموسيقيين على نحو يعكس اختلالا بين العمل نفسه، الذي لا تتجاوز مدة أدائه ثلث الساعة، وبين تأثيره الهائل في الابداع الموسيقي العالمي، وهو أمر ينطبق، إن شئت الدقة على موسيقى موسورسكي بأسرها.
ما الذي نعنيه بهذا؟
لست أريد الإطالة على القاريء أكثر مما فعلته حتى الآن ولكنني أعتقد أنه لابد من الإشارة الى أن معظم الأعمال الموسيقية الكلاسيكية التي تناولت ظاهرة الموت تنقسم الى قسمين محددين:
أ – الغالبية العظمي بما فيها "ريكويم" موتسارت الخالدة نفسها، تنطلق من مفهوم أساسي واضح وصريح ومحدد، هو التصالح مع الموت بشكل مطلق، تنطلق من الوصول الى نوع من السكينة الروحية، الى لون من التسليم بالموت، باعتباره مصافحة ولقاء أقرب الى عناق الأصدقاء.
ب – الأقلية التي تتمثل في أبرز نماذجها في سيمفونية ديمتري شوستاكوفيتش ترفض هذا الموقف رفضا تاما، وتتصور الموت حاصدا كبيرا يجز الأعناق جزأ، ويحصد الأرواح بلا رحمة، وترى أنه من المستحيل التصالح مع هذا الحاصد الكبير.
وف مواجهة هذين النقيضين في التعامل مع ظاهرة الموت يتبنى موسورسكي موقفا لا يمكن إلا أن يوصف حقا بأنه "إنساني، إنساني جدا" كما يعبر نيتشه.
كيف ؟
إنه ينظر الى الموت في ضوء الجانبين اللذين سبق أن أكدنا عليهما في الاقتراب من الموت: الرهبة منه والسكينة حياله.
ففي القصائد التي تنطلق منها المتتالية، التي كتبها أرسني جولينشتتشيف كوتوزف، صديق موسورسكي، يتم تصوير الموت في تجليات شتى، فهو في القصيدة الأولى "هدهدة" يتبدى لنا رقيقا، رهيفا، ناعما، وحانيا إذ يشكل الراحة الأخيرة لطفل يعاني من المرض، حتى ليوشك أن يكون أرحم بالصفير المعذب من أمه، وهو في القصيدة الثانية "سرينادا" سيتجلى لنا فارسا نبيلا يسعى الى عروسه، ثم هو ذا في "رقصة التريباك" يراقص الفلاح السكير فوق الجليد الموحش، لكنه في نهاية المطاف يتبدى لنا في قصيدة "القائد" عملاقا شامخا ينتصب في الميدان، ميدان المعركة، ليحصى غنائمه من البشر التي غدت ملكه من الآن والى الأبد.
والمدهش حقا أن كلا التيارين الموسيقيين في التعامل مع ظاهرة الموت لا يتردد في القول بأن موسيقى موسورسكي تصب لصالحه وتدعم رؤيته وتفسيره وموقفه.
إننا نعلم حماس ديبوسي وغيره من الموسيقيين العظام لموسيقى موسورسكي، ولكننا في الوقت نفسه سنجد شوستاكوفيش هو الذي يعد التوزيع الأوركسترالي لمتتالية موسورسكي في عام 1962، ويوضح لنا بجلاء أنه يسير في سيمفونيته الرابعة عشرة التي كرسها للموت، على خطي موسورسكي.
إن شوستا كوفيتش لا يتردد في كلمة ألقاها في تدريب في الهواء الطلق على السيمفونية الرابعة عشرة، وأدرجت في كتاب "ديمتري شرستا كوفيتش يتحدث عن نفسه وعن عصره والصادر في عام 1980 عن دار التقدم في موسكو، لا يتردد في القول عن سيمفونيته هذه:
"إنني أحذو حذو الموسيقار الرومي العظيم موسورسكي، الذي تعد متتاليته (أغنيات الموت رقصاته) وربما ليست المتتالية كلها وإنما دعنا نقل على الأقل مقطع (القائد) احتجاجا عظيما على الموت، وتذكيرا بأن على المرء أن يعيش حياته بشرف ونبل ورقي… ذلك أنه – ويا للحسرة – سيمر وقت طويل قبل أن يخترع علماؤنا الخلود، والموت ينتظرنا جميعا، ولست أرى شيئا طيبا في مثل هذه النهاية لحياتنا، وهذا ما حاولت أن أعبر عنه في عملي الجديد".
ورغم أهمية هذا المقتطف، فإنه في الحقيقة يقدم لنا قراءة شرستا كوفيتش لمتتالية موسورسكي، ولكنها يقينا ليست القراءة الوحيدة الممكنة.
وربما تفيدنا في هذا الصدد إشارة شوستاكوفيتش الى مقطع "القائد" في المتتالية، فهو أقرب الى روح السيمفونية الرابعة عشرة،وتحنه مجرد جزء واحد من رؤية موسورسكي للموت، وهي رؤية لا شك في اتسامها بالرحابة والاقتراب بدرجة أكبر من جوهر المشاعر الإنسانية في مواجهة الموت: الرهبة التي تملأ الأفق، والسكينة التي هي المدخل الى التصالح.
ترى أكان من قبيل الصدفة أن هيجل يعلمنا أن الموت هو تصالح الروح مع ذاتها؟
ومن المؤكد أن هذه الرؤية الرحبة للموت تعكس ما كان عليه حال موسورسكي، لدى انجازه للمتتالية، فتلك هي المرحلة التي أعقبت نجاح عمله الأوبرالي الشهير "بوريس جور ونوف" ودخوله رغم هذا النجاح، في نفق من العزلة المريرة.
إنه أحد الخمسة الكبار في عالم الموسيقى القومية الروسية، ولكنه على المستوى الإنساني سيعيش على الذكرى الباقية من ابنة عمه التي أحبها وماتت في ريعان شبابها – ترى هل هي العروس التي جاء النبيل ليصحبها في المتتالية.ولهذا لم يتزوج أبدا، وأقام عقب وفاة أمه في العام 1865 مع أخيه ثم مع نيكولاي ويمسكي كورساكوف حتى العام 1872 حين تزوج صديقه، وتركه لوحدة مريرة لم يخففها إلا الانشغال في إنجاز أوبراه التي أكملها كورساكوف بعد وفاته، والمعروفة باسم "خوفانشيشتا".
وبعد شهور طويلة من العزلة، وجد ما يخفف عنه مشاعر الوحدة في قريب من أقربائه البعيدين هو كوتزوف، الذي استلهم موسورسكي من قصائده متتالية "أغنيات الموت ورقصاته" و "متتالية "الغسق ". ومن الطبيعي أنه في تلك الفترة كان ظل الموت الطويل يرتمي على حياة المبدع الروسي الكبير، دون أن يدري أنه هو نفسه لم يبق له من العمر إلا سبع سنوات فحسب. فقد راح منجل الموت يحصد أصدقاءه واحدا وراء الآخر، بداية بالرسام فيكتور جارتمان الذي ألهم موسورسكي عمله الشهير "لوحات من المعرض" الذي أنجز توزيعه الأوركسترالي الموسيقار الفرنسي موريس رافيل في العام 1922.
ويكفي لكي نطل على مشاعر موسورسكي في هذه المرحلة أن نتذكر أنه كتب في أغسطس 1875 الى صديقه الناقد الكبير فلاديمير ستا سوف يقول: "لقد حمل صديقنا أرسني مفتاح البيت معه الى الريف، ولم أستطع الدخول، لذا مضيت الى الاقامة مع صديقي الموقر نوموف الذي أنهيت لتوي في داره الفصل الأول من (خوفانشيشنا)".
وفي حقيقة الأمر أن أرسني لم يحمل المفتاح معه، وإنما صاحبة البيت وضعت حقيبة موسورسكي المغلقة على الدرج، وأغلقت الباب لتبقيه في الراء.
كانت تلك هي بداية الأنحدار الوئيد الموجع نحو الموت الذي انطلق فيه موسورسكي، وسط عزلة تامة زاد من إيلامها التجاهل التام من أصدقائه ومن وبينهم الموسيقار بالاكرييف، الذين عاملوه باعتباره منبوذا لا يقترب منه أحد. ومع ذلك فإن موسورسكي تشبث بالحياة ليقدم الأوبرا التي تركها دون أن يتمها،والمعروفة باسم "مهرجان سوروشنتسي" والتي استلهمها من إحدى قصص جو جول.
وتوهجت الإضاءة الأخيرة في حياة موسورسكي مع قيامه بجولة في جنوبي روسيا والقرمز كعازف مصاحب لغناء داريا ليونوف، ثم عمل في تدريس الموسيقى في مدرسة صغيرة في سانت بطرسبرج.
وفي 24 فبراير 1881 تعرض موسورسكي لثلاث أزمات قلبية، فنقله أصدقاؤه الى المستشفى حيث تحسنت صحته قليلا، بحيث أتيح للرسام الروسي إليا ريبين أن يرسم صورته التي نعرفه بها اليوم.
وفي 28 مارس سمعت الممرضة التي ترعاه صيحته الأخيرة "انتهى كل شيء.. كم أنا تعس !"
ولكن الموسيقار، الذي يعزينا بموسيقى في مواجهة الموت، قد حمل لنا العزاء عن المشهد المروع الأخير في حياته، حيث تشير السجلات الى أن معاناته الأخيرة على فراش الموت لم تدم إلا خمس عشرة دقيقة.
ربما كانت القيمة الحقيقية لنتاج موسورسكي، القليل نسبيا بمعايير عصره، وأيضا قيمة "أغنيات الموت ورقصاته" تكمن في أنه ألهم العديد من المبدعين الموسيقيين من بعده، ومن وحي أغنيا ته الستين استلهم الكثيرون مشاعر فياضة متدفقة بالوهج عن الحياة الروسية.
ولعله ليس من الغريب أن ديبوسي وجد في موسيقى موسورسكي أحد المداخل الى تجاوز الطريق المغلق الذي وصلت اليه الموسيقى الكلاسيكية مع فاجنر.
ولئن قدر لهذه الترجمة التي سيجدها القاريء العربي عبر السطور التالية لـ "أغنيات الموت ورقصاته" أن تحمل العزاء لقاريء واحد، وأن تساعد عاشقا واحدا للموسيقى الكلاسيكية على تذوق متتالية موسورسكي، فإن ذلك سيكون خير مكافأة لي على ما تكبدته من عناء، ولئن وجد القاريء في ترجمتي تقصيرا، أو لم ترض ذوقه، فإني أرجو أن يغفر لي هذا التقصير، وأن يتذكر ماقلته دائما وأحسب أنني سأظل أقوله حتى نهاية العمر، وهوان المكافأة الحقيقية لأي مترجم هي الا يكال له اللوم.
الآن هل نمضي الى موعدنا مع "أغنيات الموت، ورقصاته" لنحاول أن نتابع ما نسعي الى اجتراحه ؟
هدهدة
طفل يثن، شمعة تذوي
تلقى خفقة نور كابية حولها
طوال الليل، فيما الأم تهز المهد،
لم يعرف النعاس طريقا الى جفنيها.
مع إطلالة الصباح يطرق الموت الرحيم
الباب برفق بالغ
ترتجف الأم فرقا، وفي هلع ترنو..
"لا تخافي، يا عزيزتي!"
ينسل نور الصباح الشاحب الآن من خلل النافذة
في غمار البكاء، الحنين، الحب
أرهقت نفسك حتى التلاشي، الآن هوني عليك
فإني سأجلس، هاهنا الى جواره !
ما استطعت الى تهدئة الطفل المسكين سبيلا،
سأغني له بصوت يتجاوزك عذوبة.
"هوذا طفلي يتململ، يتقلب قلقا.
يعتصر الحزن فؤادي لمرآه على هذا النحو."
"هلمي الآن، سرعان ما يصغى الي.
هون عليك، يا وليدي، يا طفلي أنا !"
"الشحوب يكسو خديه الحبيبين، أنفاسه تتقطع..
صمتا الآن، أتوسل اليك !
تلك بشرى خير فسرعان ما ينتهي عذابه
هون عليك، يا وليدي، ياطفلي أنا!"
"إمض بعيدا، ملعون أنت ! تربيتاتك
ستطيح ببهجة فؤادي"
"لا، سأسدل السلام على الوليد.
هون عليك، يا وليدي، يا طفلي أنا!"
"رحماك، انتظر، ولو للحظة واحدة
قبل أن تنهي أغنيتك الراعبة تلك".
"أنظري الآن، هوذا يغفو على وقع الغناء العذب
هون عليك، يا وليدي، ياطفلي أنا!".
سرينادا
الوهن السحري، زرقة الليل،
غسق الربيع المرتجف..
تصفى المريضة، رافعة رأسها،
لهمس كلمات الليل المتشحة صمتا.
عيناها النجلاوان، المتقدتان، مغمضتان في إغفاءه
الحياة تدعوها، مازالت الى مباهجها.
رغم ذلك فتحت نافذتها، وفي صمت منتصف الليل،
ينشد الليل سريناداه الرقيقة.
في وحشة السجن المعتمة، الضارية، المكبلة نصيحتها
سيذوي شبابك توا
لكنني، فارسك الذي لا اسم له، وبقرتي الرائعة
سأحررك.
انهضي، تأملي نفسك ! ياللجمال
الذي يتوهج به محياك !
وجنتاك يكسوهما الورد، وفرعك المتموج
ينسدل نقابا لكيانك مثلما سحابة
ألق عينيك الأزرق البالغ التوهج
أشد بريقا من السماء أو النار…
ممتزجة بدفء الظهيره، تتناهى الى أنفاسك
إني مفتون بك يا حبيبتي
أسرت سريناداي العذبة أذنك
كلماتك المهمومة استدعت فارسك
فارسك جاء لينال جائز ته الأخيرة:
فاقد دنت ساعة النشوة.
بديع هو بدنك، وتبعث النشوة رجفتك
آه، لسوف أضمك، يا حبيبتي!
في عناق حميم، وال غمار حبي
عودي… أسكني.. فانت لي !
رقصة التريباك
في الغابة والمروج لا يلوح أحد للعيان
هوذا رفيف العاصفة الجليدية وعويلها..
كأنما في عماء الليل
يدفن الجليد الضاري رجلا مسكينا.
أنظر! هو ذا في الظلمة
فلاح يعانقه الموت مربتا
الموت يراقص سكيرا رقصة التريباك
ويهمس له بأغنية عذبة.
"أيها الفلاح المسكين، أنت أيها العجوز التعس ! ساقك الخمار الى الترنح وضاع منك الطريق، لكن العاصفة الجليدية، مثلما ساحرة، نهضت وعابثتك وتصادف أنها دفعتك من المروج الى الغابة الكثيفة. شفك اللغوب عبر الأسي والحزن والعوز، فارقد، ولتعمك الراحة، ويغمرك النعاس، يا صديقي! ولسوف أدفئك، يا عزيزي، بكساء من جليد. وحولك سأشرع في مطاردة بديعة ".
هدهد الفراش، أيها الجليد الذي يشبه التم، أنت هناك ! ابدأ! استهل الأغنية، أيها الطقس الضاري! أغنية تدوم طوال الليل،
حتى ينزلق هذا السكير الى رحاب النوم على إيقاعاتها. آه، أنت، ايتها الغابات، السماوات، السحب، أيها الظلام، النسيم، الجليد العاتي، أدر جوه في كفن من أرق الثلوج ولسوف أحمي العجوز في طياته مثلما طفل وليد.
أرقد، يا صديقي، يا فلاحي، موغلا في السعادة ! ها قد حل الصيف، وعم الازدهار كل شي ء! وعبر حقول الذرة تبتسم الشمس، وتتقافز المناجل،
تعلو الأغنية، وتحلق الحمامات عاليا!
القائد
ترعد المعركة، تلتمع الدروع،
تهدر مدافع البرونز،
تهاجم الفيالق، تندفع الجياد،
وتتدفق أنهار الدم القانية.
تتقد الظهيرة ضارية، يواصل الناس الاقتتال ! وعندما تغوص الشمس خفيضة في الأفق تزداد المعركة ضراوة !
يلتف المغيب بالشحوب، غير أن الجيوش توالي القتال
بمزيد من الضراوة، ما تزال، والوحشية !
يتهاوى الليل على ميدان ا لمعركة،
وفي العماء تتفوق الفيالق،
يعم السكون، وفي ظلام الليل
تتعال الأنات الى عنان السماء
عندئذ، وفي سنا البدر،
وعلى متن جواده،
فيما تتألق عظامه الشهباء، في الضوء الشاحب،
يقبل شبح الموت، وفي غمار السكون
تتناهى الى سمعه الأنات والابتهالات
يتيه فخرا ورضا،
وشأن قائد للمحاربين يدور
حول ميدان المعركة
يصعد تلا، يتطلع حوله،
يتوقف، تتلاعب على شفتيه ابتسامة..
وفوق سهل المعركة
يسمع صوت القدر:
"انتهى القتال ! وقهرت الجميع استسلمتم لي، أيها المحاربون جميعا!
فجرت الحياة الصراع بينكم، لكنني لملمتكم في رحاب السلام،
انهضوا في مودة لتصغوا لنداء الموت !
امضوا رتلا مهيبا جميعكم، أمامي،
فإنني أود أن أسجل عدد قواتي،
ثم بوسعكم، عقب ذلك، أن تمددوا عظامكم في الأرض،
في حنو، لترتاح من عنت الحياة على الأرض ".
سينقضي العام إثر الآخر دونما اكتراث بكم،
وبين البشر لن يبقى لكم ذكر،
لكنني لن أنسى وفوق عظامكم هاهنا
سأقيم مأدبة صاخبة في انتصاف الليل.
وفي خطو الرقص الثقيل، على الأرض الرطبة،
سأدهس، حتى لا تهرب من ظلال القبر
أبدا، أبدا عظامكم،
ولن تنهضوا من الأرض ثانية قط !
شعر: أرسني جولينشتتيف كوتوزوف
ترجمة وتقديم: كامل يوسف حسين (كاتب ومترجم من مصر)