– مواجهة:
كنت أغني في الظلام, دون بهجة, ومصحوبا بخوف شفيف, لم أكن استطيع التخلص من تلك الحالة الموسيقية, لذلك قلت لها أريد أن أحبك هكذا بكل بساطة, بكلمات لم تقل حتى الآن, وبنار لم تشتعل حتى الآن, وبرسالة لم تصل من أحد.. ثم أنني غنيت بكلمات غامضة.
الظلام يلف الغرفة, لا يهم إذا كان الظلام ظلامي أو ظلام الأغنية أو ظلام الخوف القديم الذي يربض في صدري. لكن الحجرة, هكذا بلا مقدمات, سقطت بجدرانها الورقية على كلمات الأغنية, في مشهد سينمائي مؤثر, وأنا استسلمت لنومة أبدية, موت مبكر, محروما من كل ذكرياتي, ومنذ ذلك الوقت تركت عادة الغناء في الظلام.
قررت الافصاح عن مشاعري دائما في الهواء الطلق, أمام الناس, حتى لا أموت مرة أخرى ميتة مجانية, بلا جماهير, فلماذا أحبس أنفاسي وخوفي في صدري, وأنا أشعر أن الكرة الأرضية, بقضها وقضيضها, تسكن في صدري.
2 – رحلة:
تستلقي وحيدا..
هناك .. حيث لا أحد.
تريح جسدك المتعب وذهنك المتعب.
تريح كل شيء بالكامل.
تغمض عينيك بهدوء ثم تطرد كل شيء من رأسك..
تغمض عينيك وتنزل هناك بعيدا..
تتطامن وأنت تمضي هناك في منطقة جديدة..
ثم تدحرج أمامك سؤالا حفيفا:
من أنا.. ماذا أريد?
3 – نفق:
باتجاه ضوء صغير تسير في النفق المظلم, رأيتك تدخله وأنت نائم, قبل عدة أعوام أو أيام, ولازلت هنا تسير, وكان الطريق مثل إغفاءة طويلة, تنهض منها قبل ان تصحو, تخرج من وقتك وتدخل النفق باتجاه فجوة في جدار, وكنت قبل أن تدخل تحمل على شفتيك طعم موسيقى حالمة تقول بعض ألحانها: نريد أن نركض طويلا خلف تلك الأضواء البعيدة.. نحيا هناك معا أو ننام الى الأبد.
أيها الصديق الذي يمشي بنصف حلم ونصف يقين وخوف كبير.. في نفق مظلم طويل: لقد مضيت وصوتك يجلجل في أوقاتنا.. أنت تركض بدلا من الجميع.. وتخاف بدلا من الجميع.. تبحث والناس خلفك نيام.
4 – رؤية..
يرى الأشياء البعيدة,
البعيدة, والمخبأة هناك,
يراها قبل أن تعلن عن نفسها, وقبل أن يشم رائحتها كل سكان الحارة, وهم نائمون, او على وشك اليقظة.
لكنه لم ير شيئا مثل هذا من قبل, لم ير من بعيد, حارة جديدة, تركض اليهم هكذا, بشوارع فسيحة, وبيوت كبيرة, لها أسوار عالية وملونة.
قال لهم: رأيتها, من البعد, قادمة تركض إلينا, بأسنان كبيرة مدببة.
لكنهم لم يستمعوا له, حتى باغتتهم خلسة, وهم نيام, في سطوح منازلهم المتربة.
5 – رحيل..
تمضي بعيدا تبحث عنه, ويمضي في اتجاه آخر يبحث عنك, كنتما تمشيان في طريقين مختلفين, حتى التقيتما في شارعكم الاول, ذلك الشارع الذي أقلعت منه طائرتكم الصغيرة الأولى, عندما حلقت بعيدا, ولم تعد حتى الآن.
مضيتما بعيدا, تبحثان عن بعضكم البعض وعن الأصدقاء وعن أنفسكم, هل تغيرتم كثيرا لكي تبحثوا عن الأطفال القدماء في داخلكم, أم أن الذي تغير شيئا سواكم.
وأنتم تمدون أصابعكم أسئلة.. ثم تشكلون وقتا يليق بأحزانكم.
6 – نسيان:
ذات مساء, تركت رأسي بكل أسئلته الضالة عند باب البيت لا أعرفه وخرجت, كنت أشعر أني خفيف إلى درجة الطيران.
وفي البيت شعرت أن الكلام يهرب مني, فكلما أنطق كلمة تخرج معكوسة, أو تطير في الهواء بلا صوت, أحسست أن أعضاء جسدي تتساقط الواحد بعد الآخر في معركة يبدو أنها محسومة, وحين قررت الهرب والنوم, صحوت فجأة.
كنت أحاول أن أترجم تلك الكلمات التي خرجت معكوسة حين قفز السؤال مثل عمود النار: هل أنا الذي كنت نائما? أم أن الذي كان يقظا أحد سواي?
7 – رؤية:
كان يسير بمحاذاة رصيف مظلم مكسور, السيارات تتجاوزه بسرعة كبيرة, والأضواء تتخاطف منه النظر الضعيف. وفي لمحة بصر واهن, فجأة, لم يجد نفسه, هكذا.
قال إنه ربما سقط في بئر مهجورة, أو حفرة خادعة, أو غياهب لا يعرفها, وكان كلما حرك يديه تصطدمان في جدار صخري, يفتح عينيه فلا يرى شيئا, والمكان ممعن في ظلام عميق معبأة أجواؤه بخيالات موحشة.
كان يسمع أصواتا بعيدة تأتي من كوة ضئيلة فوق رأسه, وكان يشعر أن صوته بدا أكثر ضعفا من ذي قبل, وروحه تصفق بأجنحتها كل شيء حولها.
حاول أن يتحرك فلم يستطع, كان يشعر بشلل في كافة أطراف جسمه, حاول أن يصرخ فخرج صوت خافت يشبه العواء الصغير, فأمضى وقته ما بين غيبوبة وصحو مريض.
كان يسير بمحاذاة رصيف مظلم مكسور, السيارات تتجاوزه بسرعة كبيرة, والأضواء تتخاطف منه النظر الضعيف.
كان يفكر بأشياء كثيرة متداخلة ممعنة في السواد فيبكي, وأحيانا تمعن أشياؤه في البياض فيضحك.
وصل بيته يقطر خوفا وتعبا وعرقا, ثم بدا يقصص رؤياه الحزينة بكلام لا يفهمه وعلى أناس لا يراهم في وقت حالم ومثير, له رائحة الحمى.
8 – ربما يأتون:
ربما يتركون بيتهم القديم, ويأتون, أخيرا.
يأتون الى مدينتنا التي ستحتفل بأرواحهم المبتهجة وملامحهم الجميلة.
يأتون الينا..
يأخذون بيتا جوار بيتنا, فنسمع أصواتهم في الليل والنهار.
ربما يتركون بيتهم, يحملون سيارتهم ويدخلون المدينة من كل أبوابها دفعة واحدة, ثم تتبعثر أقدامهم في تراب حارتنا, وتنطق مهرة الغناء في أرواحنا.
ربما يأتون, هم ودماؤهم, وبعض أسرار الطريق.
ينظرون خلفهم الى بيتهم القديم وآثار إعمارهم.. ثم.. يأتون الينا.
ربما..
9 – حلم:
استيقظ الساعة السابعة صباحا, خرج الى الشارع, فرأى المنظر غريبا, الشوارع مزدحمة والمحلات التجارية مكتظة بالبشر على غير العادة, المطاعم مغلقة, والحي يتحرك مثل كومة نمل تفرقت بها السبل.
كانت الوجوه تحمل ملامح أكثر صرامة, وكان كل انسان يركض وحيدا والفضاء بكامله يغلي, يمنح الحي شكل الورشة.
تأمل المنظر قليلا وهو يشعر بدوار السهر.. ثم قرر أن يعود ليستمع الى الاذاعة, دخل البيت وهو يردد.. ربما أن هذا اليوم إجازة.. ثم.. نام.
10 – قصة:
أكتب الآن على أوراق صفراء..
في السابق كنت أكتب على أوراق خضراء, وكنت أعزف على أشياء حزينة.. حين انتهت أوراق الدفتر الأصفر وجدت أن الموسيقى طاغية على مفردات الكلام. وضعت الأوراق البيضاء على المكتب وبدأت أكتب, حتى (رن) جرس الهاتف, رفعت السماعة, فإذا بصديق يسأل عن صديق غائب, وضعت السماعة فرأيت وجه صديقنا الغائب مرسوما على الورق الأبيض, وأسفل الصورة مكتوب: إلى رحمة الله. أكتب الآن على أوراق الليمون والبنفسج.
تركت أوراق الموسيقى والحزن والموت وخرجت إلى الحارات والحقول..
أكتب على الجدران.. على حصى الطريق..
أكتب على أوراق الشجر.
فهد العتيق قاص من السعودية