منذ وقت غير بعيد رقدت في مستشفى بمدينة كبيرة غريبة حيث أجريت لي عملية شعرت بأنها مزعجة نوعا ما، إلا أنها مرت بنجاح وتوفيق. لكن الحديث يدور ليس عن ذلك الموضوع… فقد قابلت هناك ثانية، في المستشفى، نتاشا.
قابلت ثانية – هذا صحيح، وغير صحيح. وما أود الحديث عنه، أنه يوجد تواصل غريب للحلم، وربما ليس لحلم واحد، مع الواقع الذي أسبغ على هذه القصة معنى كاملا وان كان غير واضح حتى النهاية ليبقى على الأرجح، أكثر غموضا وإبهاما. فالكشف عن كل شيء أمر مستحيل، بل وغير ضروري أيضا، حيث ما يتم الكشف عنه سرعان ما يصبح عديم الفائدة، ثم يضمحل ويتلاشى، وبرغم أننا كثيرا ما أفسدنا بذلك أروع ما في عالمنا، الأمر الذي لم يعد علينا بنفع يذكر، فإننا ننزع ثانية بطبيعة طفولية -خالية من الأعباء -الى الأحاسيس والهواجس الداخلية وإلى كل ما هو قريب منها.
رأيت نتاشا، على ما يبدو، في اليوم الثالث من وجودي بالمستشفى. لكن لماذا لم يكن ذلك في الصباح عندما تبدأ الممرضات نوباتهن، أو خلال اليوم الطويل الرتيب، كيف تسنى لي طوال ذلك اليوم الا أصادف نتاشا، وأن يظل ذلك حتى المساء. لا أدري، فقد كان هناك شيء ما غير عادي، قبل نهاية النوبة كالعادة، مر الطبيب المناوب على المرضى وبرفقته ممرضة. كنت مستلقيا في فراشي، أقرأ عندما دخلا: رجل مكتنز البدن، بصوت غليظ، مفرط النشاط في أواخر شبابه الذي حافظ عليه بجهد ومثابرة، وفتاة لا تزال شابة تماما، طويلة القامة، مكتنزة قليلا ولكنها في اكتنازها هذا بدت على نحو ما أنيقة جدا دون اسراف، مغرية كما لو كانت قد خلقت هكذا منذ البداية، بوجه رحيب ناعم عامر بالطيبة لو قابلته حتى في أي مكان باستراليا أو نيوزيلندا من الممكن دون توجس أن تبدأ في التحدث اليه بالروسية، هذه كانت نتاشا. عندما دخلت ورأتني احمر وجهها وارتبكت. لاحظت ذلك ولاحظت أنني لاحظت فازداد اضطرابها، وبينما رحت أجيب على أسئلة الطبيب الاعتيادية عن الصحة، أخذت أراقب بهدوء الفتاة التي تحاول الاختفاء وراء ظهره ولا يمكنها بأي حال التموضع خلفه، ثم تعرفت عليها أكثر فأكثر. لم يكن هناك أي شك في أنني التقيتها من قبل، صادفتها ليس في هرج ومرج الشوارع عندما يمكن للوجه الذي يمر سريعا، ولمرة واحدة، الا يعلق طويلا بالذاكرة، وإنما في مخالطة مباشرة غير عفوية أو تافهة بالنسبة لي، والتي من الضروري أن تكون قد حدثت خارج نطاق الأمور المألوفة، ولكن كان هناك شيء ما غير مفهوم، وعبثا حاولت تنشيط ذاكرتي الا أنني ظللت لا أتذكر. وبينما كانا ينصرفان، لم تتمالك نتاشا نفسها بالقرب من الباب، فسمحت للطبيب أن يتقدمها والتفتت نحوي بابتسامة وجلة مشجعة، وكأنها تؤكد بأنني لست على خطأ وبأنها هي فعلا.
انقلبت كل الأيام التالية، بالنسبة لي، بعد ذلك الى عذاب، حاولت التذكر فلم أستطع وكلما راجعت، بشكل أكثر همة وعزيمة، كل ما جرى معي في السنوات الأخيرة، شعرت بيأس أكثر: في مكان ما، ليس هناك، كان ذلك، وشيء ما ليس من هناك.. ويبدو أن نتاشا كانت تنتظر، فراحت تراقبني خلسة في صبر وعتاب. كنت بمجرد أن أرفع نحوها عينين تبحثان عن نأمة مقصودة أو غير مقصودة، تحول عينيها في الحال وترتبك. وكم كانت تلك القدرة على الارتباك والخجل، الغائبة اليوم تقريبا عن الفتيات، لطيفة وطبيعية فيها، ومتوائمة معها، مع وجهها العريض وجسدها الكبير، الأمر الذي يمنعك بعد الدهشة الأولى أن تتصور نتاشا غير ما هي عليه، بينما يمنحك التطلع اليها متعة وكأن روحك نفسها تشتعل، تتوهج تفيض بنزق حلو شفاف، مرضى كثيرون يتعالجون هنا، كانوا تعساء في مرضهم بسبب استحالة اخفائه، ولأنه كان يعلن عن نفسه، بمعنى الكلمة – على وجوههم. وبالنسبة للشخص الصحيح المعافى الذي لا يعرف ما هذا، كان ذلك المرض يعتبر دمامة فظيعة لا يقدر أي انسان أن يتمالك نفسه أمامه، هذا من جهة الانسان الصحيح. أما المرضى فكانوا يشعرون بأنهم مثل البعبع المخيف بغير ارادته هل سيوافيهم الحظ ويشفون، أم أنهم لن يصيروا ثانية، في أي وقت من الأوقات، أصحاء معافين، وكما يقال بصحتهم، هذا بالطبع بالنسبة للمرضى الذين كان العمل معهم في غاية الصعوبة بسبب يأسهم ونزقهم. ومع ذلك، فأمام وجل ورقة نتاشا كان الجميع لسبب ما يتهيبون ويخافون. لم أسمع ولو مرة واحدة أن أحدا ما حتى أكبر اليائسين قد أظهر في حضورها فظاظة وخشونة أو نزقا وتدللا، والا بدا ذلك ليس فقط بذيئا، وانما كان معناه أن قوى المريض قد انهارت تماما وينبغي على وجه السرعة – اذا كان المرض يسمح – اخراجه وتركه يعيش ويستريح بين أهله، وبعد ذلك يمكن استدعاؤه ثانية. هكذا كانت نتاشا الصموتة الخجولة الوديعة التي لا ترد على ذهنها ولو حتى فكرة الشكوى، قد أصبحت بالنسبة للمرضى والأطباء أكثر من مجرد ممرضة تقوم بواجباتها بدقة واخلاص، كيف يمكن تسمية ذلك ؟ لقد كانوا، على الأرجح ينظرون اليها كإنسان ليس من هذا العالم، كواحدة من هؤلاء الناس الذين بدون غرائبهم وكراماتهم وعجائبهم لكنا، نحن أناس هذا العالم، قد فقدنا عقولنا منذ زمن بعيد في فضم منافعنا ومطامعنا الهائلة، ولكنا منذ زمن قد حطمنا رؤوسنا لو لم توقفنا براءتهم الرقيقة.
كانت نتاشا تناوب مرتين في الأسبوع، ولم تكن تفصل بين النوبتين أيام متساوية،انما على نحو ما خاص بها، كان ذلك وفقا لجدول غير ثابت، كانت تظهر على الدوام بجوار منضدتها بالممر في هدوء دون أن يشعر بها أحد: لم تكن موجودة لتوها، وها هي فجأة، تتحرك بشكل غير مسموع، تضبط شيئا ما بالأوراق الموجودة في أشيائها، تفتح خزانة الأدوية، تذهب الى المرضى في عنابرهم. في كل مرة، كلما رأيتها كنت أرتجف – كان ذلك قريبا جدا حتى أنني أتذكره، كنت قد قمت بحركة عصبية مفاجئة تجاه نتاشا. لاحظت أنها رفعت وجهها تجاهي في توقع، تجمدت تماما قبل أن أستيقظ من وقع المفاجأة، بدا لي أنني تذكرت، ولكن بسبب العجلة والتحرق أو شيء ما آخر، لم أتمكن من القبض على الذكرى. وبينما تهدل وجه نتاشا في ضيق، واعتورته حمرة الخجل، ألقيت عليها التحية في ارتباك وابتعدت، ومرة وراء أخرى حاولت ولكن دون جدوى.
وصل الامر الى اننا رحنا نتحاشى بعضنا البعض – لم أكن ألجأ اليها إلا في حالات الاحتياج الضرورية والملحة. أما هي، فنادرا ما كانت تأتي الى العنبر، ولكن في مخزننا، أو في قسمنا المكون من ستة عنابر، كان من الصعب تماما الا نتقابل، حيث كان كل منا -أنا وهي – مضطرا لتنفيذ تعليمات الطبيب، كانت نتاشا في تلك الحالات تقوم بعملها في عجلة وتنصرف، حتى شعرت في النهاية بأنني مذنب: إذ أنه كان بإمكانها أن تتصورانني أذكر كل شىء بشكل جيد، ولكن لغرض ما في نفسي لا أود المكاشفة. أما أن أسألها عما كان، نظرا لأنني لست في حالة تتيح لي التذكر، بدا لي أيضا شيئا محرجا -اذ أنه من الممكن الا يكون هناك أي شيء، وأنني قد قمت باختلاق كل ذلك بسبب تهيؤات المرض، ولمجرد التطفل والفضول وجذب الاهتمام ليس إلا. ظللت أراقبها في الخفاء.
في بعض الأحيان كانت تطيل النظر، مستغرقة في التفكير، في النافذة الموجودة بالممر مصوبة عينيها نحو جهة ما فوق الشارع والبيوت الى أن تصل الى شيء ما هناك تعتريها السعادة عند رؤيته، حتى أن وجهها يتخضب ليس بحمرة الخجل، وإنما بسورة واحتدام احساس أنيس ملاصق لها ومفهوم فقط لديها. بعد ذلك لاحظت مرة ثانية نظرتها لنفسها – تارة ثاقبة نافذة، وفطنة مليئة بالهواجس والهموم وتارة زائفة تراوح فيها فكرة ذاهلة حائرة، وتارة أخرى سريعة خفيفة مداعبة في حرص شديد.
في الأسبوع الأخير ناوبت نتاشا لسبب ما كثيرا – ربما تكون قد نابت عن أحدى صديقاتها التي مرضت. ليس هناك ما يثير الدهشة في أنه قد كان من نصيبها أن تنقلني الى العملية. وبينما كانت ممرضة غرفة العمليات تسير معدلة العربة من الامام، راحت نتاشا تدفع من الخلف. من خلال الملاءة التي غطتني، رأيت أمامي عينيها الواسعتين فقط، اللتين بدتا كبيرتين للغاية في وجهها المنكس، في ذلك الصباح لم أكن أقوى على التذكر. وقد خمنت من الضوء الكهربائي الباهر أنهم حملوني الى غرفة العمليات. ظلت نتاشا في الخارج، أمسكت بالباب وراحت تطالع من الممر كيف أوصلوني بسرعة الى الطاولة وأخذوا يساعدونني على الانتقال اليها. وبعدما اضطجعت كما ينبغي، أدرت رأسي نحو الباب – كانت نتاشا لا تزال تطالعني، ولكنها سدت الباب أمام نظراتي. عندئذ بقيت وحيدا بين هؤلاء الناس الذين كان من الصعب التعرف على أي منهم بوجوههم المغطاة. وحتى أصواتهم التي بدت مدوية، كانت ترن بنغمة معدنية واحدة حاولت الاستماع اليهم، لكنني لم أفهم شيئا، فقد كانوا يتحدثون بلغة غير مفهومة. بعد عشر دقائق، دون أن أعي لنفسي، كنت قد استغرقت في النوم.
كان من الصعب تماما بعد ذلك أن أستيقظ. أحيانا كنت أعود الى وعيي كي أشعر بأنني موجود،. فأحس بقشعريرة وألم حاد، ثم أقع مرة ثانية في غيبوبة ثقيلة لا نهائية. كانت تصل الى أسماعي أصوات نسائية. ميزت الصوت الأول، ثم الثاني اللذين طلبا مني الا أنام، لكنني لم أكن أقدر الا أنام، كان ذلك فوق طاقتي. كل شيء كان فوق احتمالي، كان بامكاني فقط النوم – وحتى ليس النوم، انما الوقوع في وحتى ليس النوم، انما الوقوع في تلك الاغماءة الخانقة، والتي بالرغم منها كنت أتنفس بوعي أنه سوف ينفتح فيها مخرج في أية لحظة. وبالفعل فقد راح ينفتح تدريجيا بداخلي. شعرت كيف تناولوا يدي لجس النبض، وكيف قاسوا حرارتي، وغرسوا الحقن. أتذكر احساسا: بأنني أحاول النهوض من بئر عميقة مليئة بغاز خانق لا أدري كيف سقطت فيها في طريقي.. أسرع كيلا أختنق بداخلها، لكنني كنت أحلق وأسبح وليس هناك ما أتنفسه. اتضح انني كنت مغطى بأكياس الماء الدافىء. تقلبت مصدرا أنينا، أدركوا – على نحو ما – ما يحدث لي، أزالوا أكياس الماء، صارت حالتي أهون. في الضباب القاتم راحت تظهر لي أحلام وخيالات متفرقة، غير مترابطة الى ذلك الحد الذي بدت عنده وكأنها أحلام أناس آخرين غيري تتطاير الي، وربما لم تكن فقط من الناس. واحد منها لم أكن أود لسبب ما أن أتخلص منه نهائيا حيث أفعمني بلذة غامضة وذكرني بشيء ما وأذهلني تماما عندما اختفى على هذا الحال.
في النهاية فتحت عيني، رأيت أنني راقد ووجهي نحو نافذة رحيبة واسعة تحتل الجدار بأكمله. كان ضوء النهار ما يزال ساطعا في الخارج – الشيء الوحيد الذي لاحظته ثم استغرقت ثانية في النعاس. لكنني الآن تمالكت نفسي، لم أعد أسمح لها بالسقوط في النوم العميق. كنت أسمعهم عندما يقتربون مني ثم يبتعدون، وأسمع أصوات النساء اللاتي يتحدثن مع بعضهن البعض ويجبن انسانا ما على استفساراته عني. بعد ذلك توقف أحد ما على رأسي وراح ينتظر ريثما أفيق، كانت نتاشا. بدت قامتها في العتمة أطول وأخف وكأنها كانت تتبخر في الهواء. عدت في الحال الى كامل وعيي. بصوت سعيد واهن وأنا لا أكاد أسمع نفسي، رددت في اجهاد نتاشا، أنا تذكرت، تذكرت.. لقد طرنا معا…
أومأت لي برأسها في قلق، مسحت على جبهتي الملتهبة بكفها الطرية الرقيقة، انصرفت هكذا بسرعة لدرجة أنني تصورت أنها قد ركضت.
ما تذكرته كان يعيش بداخلي منذ زمن بعيد، لا أدري من أين جاء. أغلب الظن أنني رأيت شيئا في الحلم، لكن ليس بصورة كاملة، فيما بعد اكتملت تلك الصورة عندما أمعنت التفكير حول ذلك في اهتمام، وكالمعتاد، بتلك التصورات والافتراضات الارادية الحرة التي تتشكل بداخلنا الى ما لا نهاية، كان من الصعب عدم التفكير في ذلك، فنحن بشكل لا ارادي نعلق أهمية كبيرة، ونبحث عما يفسر وينبيء بالمغزى والمعنى في تفاصيل الأحلام، خاصة وأنه من الممكن العثور على كل ذلك هنا.
لكن لماذا لم أحزر في الحال أنها هي نفسها، تلك الفتاة من الحلم ؟ كان التطابق بتلك الدرجة من الكلية التي جعلت هذا الوجه يرابط على الدوام أمام عيني بلحمه ودمه مما كان يحتم علي أن أعرفه في نفس اللحظة دون ابطاء. التقيتها. تحيرت، تعذبت بالذكرى التي لازمتني طوال أسبوعين، وبسبب ملازمتها لي – على الأرجح – كنت أعاني وأتعذب – فنحن لم نعتد أن نثق بكل ما هو قريب منا. والآن فهذه الصورة التي أرقتها تلك الحبة المزعجة راحت تنبحث وتنتعش أمامي بشكل أكثر وضوحا وجلاء، وأنا طوال الوقت أميل أقل فأقل للاعتقاد بأنها قد انحدرت الي من الحلم. الألوان، الروائح، الأحاسيس – لا، هناك العديد من التفاصيل تبدو في الأحلام على نحو مختلف تماما.
الآن أرى، كما لو كان في اليقظة، مرجا كبيرا في غابة على الجبل (وهو، هذا المرج، موجود، رؤيته لا تشكل أية صعوبة) مليئا بالزهو – ورود الحب الخضراء الزاهية والحمراء الجرمية، والأقحوان الأبيض والبنفسجي الفاتح. أجلس بينها، على الأرض، في توقع ما قلق ومبهج يفعمني أكثر فأكثر حتى أنني أشرع في التلفت حولي والبحث عن شيء ما. أمامي مباشرة بحيرة بايكال محمولة باتساع، متدفقة جامحة صوب المدى، وهناك بعيدا ترتقي الى السماء. من اليسار نهر انجارا، وفي الأسفل، تحت الجبل يقع منزلي الصغير الذي نادتني منه قوة مجهولة آمرة، اجتذبتني الى هنا، الشمس، السماء زرقاء صافية، الرياح تأتي من بايكال معتدلة رطبة، والمياه تتألق من أسفل في زرقة وبهاء – أواصل التلفت حولي باهتمام زائد وشيء ما يختلج في صدري يتزايد قلقي، أتوقع شيئا ما أنا نفسي لا أعرفه، لكنني أنتظر في ثقة واضحة وتامة بأن حياتي كلها سوف تتغير من جراء ذلك، ها هو حفيف الأعشاب يتناهى الى سمعي، ألتفت أرى فتاة مقبلة بابتسامة، في فستان صيفي بسيط ملتصق بجسدها التصاقا شديدا، حافية، بشعر أشقر فاتح ينسدل في حرية على كتفيها – لولا القدمان الحافيتان، لكان كل شيء فيها طبيعيا ومألوفا، لكنني عندئذ تقبلت القدمين الحافيتين كشيء بديهي وقد حدث ذلك فيما بعد فقط، بعد تحليل كل تفصيلة والتفكير فيها جيدا، تعثرت: لماذا حافيتان ؟ وما معنى ذلك ؟ راحت تقترب، نهضت مندفعا لاستقبالها، لا يمكن أن يكون هناك شك بعد: انها هي التي انتظرها، تدهشني فقط بعض التفاصيل البسيطة حيث بدت أطول قامة، وأبدن مما كنت أتصور على الرغم من أنه منذ دقيقة واحدة فقط قبل ذلك لم يكن باستطاعتي تخمين ذلك، مع احساسها بارتباكي، راحت تبتسم. ومن ابتسامتها أشرق وجهها ذو الملامح الكبيرة الواضحة بنور وضاء عجيب عن النفس بدا نادرا في روعته.
راح، بظهورها، كل شيء حولنا يتغير دون أن نشعر، يتشكل من جديد بدقة ومن أجل حدث ما. المرج يتحول الى حقل ممتد نحو انجارا، مفروش في كل الأنحاء بكثافة بالورود التي بدت مثل شعر ممشط ومغروق من المنتصف، حيث الحقول من ناحية تنحدر نحو بايكال، ومن ناحية أخرى نحو الجبل، ونحن نقف في المنتصف، الشمس التي كانت معلقة لتوها فوق رؤوسنا راحت تنحدر نحو الغروب بينما يهبط نورها الدافيء الى أسفل، على الأرض. صارت بايكال أكثر صفاء ونقاء ووضوحا، أصبح مداها المرتفع صوب السماء أكثر تجليا وظهورا. أنظر الى كل ذلك دون دهشة، وكأنما هذا ما ينبغي أن يكون. لكن الحيرة تتأجج في روحي، أخشي الا أستطيع أن أفعل شيئا ما، وأخيب أمل أحد ما. اذا لم أستطع وخيبت الأمل، سأموت ولن يبقى لي أثر. لكن يخيل الى، على نحو غريب، أنني لن أصبح أنا حتى وان تمكنت من الفعل ولم أخيب أمل أحد. يتملكني كبرياء وحسرة على نفسي. تسألني الفتاة:
– مستعد؟
– لا أدري، لا أستطيع.
تقول في جزع:
– كيف لا تستطيع اذا كنت تقدر. لو لم تكن تقدر لما أمرتك بالمجيء الى هنا.
– هل أنت التي أمرتني بالمجيء؟ – لا أشك في أن هذا هو ما حدث بالفعل، لكنني أسأل لمجرد كسب الوقت فقط.
– لنذهب ! – تأخذني من يدي، توقفني على طرف الحقل ووجهي صوب انجارا حتى صار ضوء الشمس يضربنا في ظهورنا ~-لنركض ! هيا، لنركض ! نركض !
أشعر بأنني أركض الى جوارها، أركض أسرع وأخف، تفلت يدي، تبقى في مكان ما ورائي، لكنني أسمع صوتها الذي يطالبني بالركض أسرع. أندفع في قفزات واسعة،يبدو لي أنني أواصل الركض حتى ألمح في الأسفل السقف المعدني ذا الانحدارات الأربعة، الذي يبدو سابحا هو الآخر، للمنزل الذي يعيش فيه رفيقي. أصيح بشيء ما، تارة له وتارة لكل من تبقى على الأرض، وأسرع في الركض.. قدماي تطولان، يداي تمتدان الى الامام، يلتقطني ضوء الشمس في عاصفة قوية، يحملني الى أعلى، أجد الفتاة بجواري، تحاول بابتسامة أن تهديه من قلقي وتوتري، لكن قواها لا تسعفها حتى على ذلك، يغمرني احساس عارم بالتفاؤل يكاد قلبي يتوقف له، أتحرك مضطربا في عشوائية، أحلق سابحا باندفاعات شديدة وقد أصبح الطيران لا يسبر غوري. تتملكني الرغبة لعمل شيء ما ضخم، نهائي وقاطع، أود العودة نحو الشمس التي استشعر منها جذبا لذيذا، أندفع اليها لا أتوقف، لكن الفتاة تشير الي بيدها في حذر: الى أين اتوجه. نحلق سابحان فوق انجارا، نصنع دائرة وأخرى فوق منبعه، نذهب بعيدا عن الضفاف في بايكال. أهدأ تدريجيا، يصير احساسي العارم أقل فأقل، يصبح بعد ثورته وجيشانه عاقلا متنكرا. الآن أتأمل في امعان، أسمع، أتدبر فيما يجري بالحياة من حولي. نصل الى منطقة البخار عند ذلك الحد الفاصل بين الهواء اليومي الساخن، وبين ذلك الهواء الرطب الذي يمكن الاستلقاء عليه في استكانة وهدوء دونما حركة تذكر. يرتفع متموجا، نتهادى عليه كما لو على موجة متعبة أتت من بعيد ووصلت الى الشاطيء، ثم راحت تضمحل وتلهو بجواره. السماء تسكن، تهدأ وتبرد. أرى بوضوح على الشاطيء ظلال الطرق والممرات المرسومة والقنوات الصغيرة لمياه ما بعد الذوبان متقوسة تتشعب في اتجاهات مختلفة، خالية من المياه، ولكن من خلال آثار التقعرات البسيطة عليها يتضح أن هناك من مر شوقها، لم يدهشني كثيرا أنه من الممكن أن تهتز وتتساقط من أقل نفخة، وأنها تميء تشتعل في أماكن مختلفة بألق غامض متقطع.
الشمس تميل الى أسفل، موسيقى الغروب العظيمة المهيبة تبلغ درجة من الرضا والسلام حتى يخيل أنها السكينة والهدوء. وفي هذا الهدوء تتناهى الى السمع بوضوح أصوات حفيف يتخللها صوت ما لتيار هواء نازل يمس سطح الماء الأملس الناعم. هناك أيضا، على الشاطيء، في تلك الغابة فوق الجبل يصأصيء عصفور بصوت مفطور، اسمعه، ليس متوافقا مع الايقاع العام للموسيقى، لقد صأصأ ثم تلعثم ولفه الصمت. أتلفت حولي في جزع: ماذا سيحدث له. أرى وأسمع كل شيء، أشعر بنفسي قادرا على فهم وادراك السر الرئيسي الموحد والمفرق لكل شيء، ذلك السر الذي ولدت منه الحياة من البداية حتى النهاية.. وهاهي تتكشف لي بكل همومها المرة وأحمالها الثقيلة، أخطو على أقرب الطرق.. فجأة تلتفت نحوي الفتاة قائلة:
– حان وقت العودة.
تشير نحو الشاطيء. أجيب في توتر وفزع:
– لا، لا، لنواصل، أنا لا أريد العودة.
– الشمس تغرب. لنعد – تلح في لطف ونفاد صبر، وفي صوتها مهابة وجلال.
أدرك: لقد آن الأوان. نحلق سابحين في اتجاه الشاطيء، وقد خيمت على الأرض ظلال زرقاء، والأصوات التي فقدت موسيقاها تنسكب في صوت صغير واحد أخرس. نهبط على نفس المرج. أدفع بقدمي، أخطو خطواتي الأولى التي تولد في جسدت كله ألما عظيما. الفتاة تراقبني بابتسامة وجلة مجهدة. أسألها:
– وبعد؟
تتصنع هيئة وكأنها لا تفهم:
– ماذا بعد؟
– اذا لم يكن هناك شيء بعد، اذن فلماذا كان ذلك ؟ انني أود أن أواصل، أريد الاستمرار، لم يعد هناك الا مسافة قليلة. ترد بعد أن صعقت برهة:
– سوف أعود.
في هذه المرة تتحدث دون ابتسامة. ألاحظ أنه بدون الشمس قد توترت ملامحها وارتعبت بحدة، قامتها تبدو خرقاء غير رشيقة. هي تعرف بداهة، الى أي حد تبدلت، لمستني بيدها الرقيقة، وراحت تتوارى بعدما حاولت محاولتها الأخيرة كي تبتسم.
أنظر في اثرها، أشعر في نفسي وفيها بذلك التوتر الذي وحدنا بانتقاء غامض ومبهم مرتبط بكل شيء وفي كل شيء حولنا. أشعر بتلك الكآبة وبذلك الأسى. الآن فقط، بعدما طرت ونظرت الى الأرض من أعلى، عرفت في نهاية الأمر الحدود الحقيقية للفزع والحزن والكآبة. وها هي تتوارى، العتمة المتكاثفة تخفيها سريعا، لكنها قالت: سوف أعود.
***
بعد يومين من اجراء العملية نقلوني الى العنبر السابق. وبينما رحت أتعثر في سيري بالممر في رفقة الممرضة، تطلعت من بعيد: واذا بنتاشا اليوم مرة أخرى؟ لا. لم تكن هي، كانت تناوب فتاة لطيفة ولكنها فتاة اخري. أخذتني من يد الممرضة ارقدتني في الفراش. ثم راحت تخبرني كم مرة وفي أي ساعات قد سمحوا لي بتناول الدواء وأخذ الحقن. أصغيت في استسلام، ورحت أتخيل كيف سألتقي أنا ونتاشا عندما تعود، وعن أي شيء سوف نتحدث، وعلى هذا النحو كان ينتظرنا لقاؤنا غير العادي.
انتظرت يوما، واثنين وثلاثة – لم تظهر نتاشا. بالطبع كان من الجائز أن تكون قد تراكمت لديها أيام راحة عوضا عن النوبات الاضافية، وكان من الممكن أن تكون مريضة. كان من الممكن أن تكون هناك أشياء كثيرة، لكنني بدأت أشعر بأن كل هذا ليس كذلك، عندئذ عندما قررت في النهاية، سألت عنها، أجابوني عنها. أجابوني بأن نتاشا قد تركت العمل ورحلت عن المدينة. واتضح أنها اشتغلت في المستشفى لفترة قصيرة.
ــــــــ
– الكاتب فالنتين جريجوريفيتش راسبوتين من أكبر الكتاب الروس المعاصرين، ولد في قرية على نهر انجارا بسيبيريا في 15 مارس 1937.
– صدر أول أعماله عام 1961. ونال جائزة الدولة عام 1977.
– كتب قصة «نتاشا» عام 1981م وقد اخترناها من مجموعته القصصية «عش قرنا أحبب قرنا» الصادرة عن دار «الحرس الفتي» بموسكو عام 1982.
قصة: فالنتين راسبوتين
ترجمة: أشرف الصباغ (كاتب من مصر يقيم في موسكو)