ظلت معلقة في فراغ، كدمية مربوطة من أطراف خفية بخيوط لا مرئية، ترتدي فستانها الفضفاض الطويل الأحمر ذا الذيول المنتشرة حول أطرافه السفلي، وكانت تلك الذيول تتشعب مع حركة الرقص وتذهب بالفستان، وبكنزة نحو هالة من فراغ كبير يصير أكبر من اتساع الصالة وانفتاحها على متسع من مرافق الفيلا وأنحائها، وكل ذلك يقع تحت أضواء خلابة وكأننا في مهرجان. ولم أدر متى كانت كنزة قد تعلمت الرقص على هذه الطريقة ولا متى خاطت ذلك الفستان، فقد فاجأتنا بخروجها من غرفة نوم والدها حيث اختفت هناك لبعض الوقت ثم خرجت وهي ترتدي ذلك الفستان وأخذت ترقص، وأنا بالرغم من زواجنا الذي مضت عليه سنوات لم أتمكن من التحقق من إنها هي كنزة إلا بعد مضي وقت، فالألوان التي اصطنعت منها زينة وجهها، والبقع الزرقاء على العينين، وتسريحة الشعر، كلها القت على شكل كنزة ظلالا غامضة مما جعلها تشبه إحدى راقصات الفلامينكو أو مهرجة في سيرك، وكل هذا إضافة إلى نظرات عينيها، وتعلقها بالفراغ الذي بدا الجسد نفسه معلقا فيه، وذهاب تلك النظرات نحو غياب ذاهل مجنون، حتى ظننتها سوف تنهار وتبكي في منتصف الرقصة، أو ستمزق ذلك الفستان على جسدها، وتخلط ما تكاثف من أصباغ على وجهها، ولكنها ظلت ترقص، ووالدها يبتسم لي، وزوج أختها يركز نظراته على صدرها وحركات جسدها خلال الرقص، وعيناه تلمعان. عجبت كيف ترقص الآن وهي التي ظلت تتكبد كل لحظات الفرح بكلمات جارحة كأنها كانت خبأتها لتلك اللحظات، أو بانزواء نحو حزن غامض ما كنت أجد له من الأسباب ما يجعلها تنكس نظراتها لأيام ولا تحب أن تخرج من غرفة النوم التي كانت قد صرفتني عن دخولها بصفة نهائية، وما كانت تمشط شعرها وتتزين إلا حينما أدعوها للعشاء في أحد المطاعم، فتشترط هدية ثمينة مقابل ذهابها معي، وتقول هي التي سوف تختار تلك الهدية، فأفتح دفتر الشيكات ولما أهم بكتابة الرقم تقول لي وهي تضع يدها على القلم أنت وقع وأنا أكتب الرقم، إن كنت حقا تحبني، وتريدني جليسة لك على مائدة ذلك العشاء الذي دعوتني إليه، وأحيانا ينتهي ذلك الموقف الذي وضعتني فيه أما بأن أتجاهل كلامها فأكتب رقما محترما على الشيك وأسلمه لها، فترده لي، أو تمزقه، وتقول أنا ست طماعة ولكن أريد أن اطمئن على إن النساء الموشومات في عين اللوح لا يسيطرن على أحوال زوجي، وأحسن أن تذهب يا عبد الحميد إلى عين اللوح وتصرف مبلغ هذا الشيك معهن، ولن أقلق لأنه مبلغ زهيد، وإما ينتهي الموقف بالغاء دعوة العشاء، ولو حدث وذهبنا إلى مطعم فهي تفتعل المغص في أمعائها أو معدتها وتجعلنا نعود الى الدار في الأوقات التي يخرج فيها الناس من بيوتهم عادة، وان أخذت المبلغ، وتعشينا، فهي تستعجل عودتنا إلى الدار لكيلا تضيع منها حلقة من أحد المسلسلات، تشاهدها في تليفزيون غرفة النوم، وتطلب مني إلا أدخل، فلو كان العشاء والشيك شرطا في أن أعود للمبيت في غرفة النوم لما كانت قد قبلت. ظل والدها يمسك بيده المتشنجة الحركة على حافة كرسي الاعاقة وهو يتأهب بنظراته لاصطياد نظراتي، حتى يبتسم لي، ويدعوني من الاقتراب من أذنه ليهمس لي بأنها ها هي الآن ترقص، فرحة بنفسها ويزوجها، فلا داعي للقلق، أو التفكير فيما لا تحمد عقباه، وما هو أبغض الحلال الى الله تعالى كما قال نبينا الكريم، ثم يقرص أذني ويقول لي افرح بامرأتك يا عبد الحميد، كنزة غزالة، شف، ها هي فرحانة بك وبالعائلة. وقفت على قدم ثم وقفت على رؤوس الاصابع، وأمالت عنقها ونشرت هالة الثوب حول جسدها ودخلت الهالة الكبيرة التي دخلنا معها فيها وصار البيت كله كهلام فنظرت نحو زوج أختها ونحو والدها وبدا لي وكأني لا أعرفهما، وتبدد من ذاكرتي ما كان يجمعني مع هؤلاء الناس وهذا البيت، وتمنيت لو كان بإمكاننا أن نستمتع بالراحة التي يقدمها لنا هذا النسيان، فما بقي شيء من ذكرى كنزة يفرحني أو يخلج جسدي ويذكي عواطفي أو يشعرني بحاجة الرجل إلى احتماء دافئ بامرأته ويعيد إليه توازن نفسه ومواقفه مع تقلبات اليومي وألاعيب السياسة ومع من يفتعلون عداوات لا أساس لها من أساس الصراع، ولا عيب أن يجد هذا العقل المكدود راحته في امرأة هي الفه وشقيقة روحه وهي هدهدة اليد التي تبعث في تعب الجسد الراحة والهدوء، ولكن امرأة محتملة تأتي من الاخاييل هي التي يمكن أن تفعل ذلك، ولربما تأتي من الطفولة أو من صحراء هذا العمر ومواطن تيهه وانهياراته، وتمنيت لو نسيني كل هؤلاء الناس، ليصبح بامكاني أن أتأكد من أن كنزة قد صارت شبحا غريبا كما أنا روح غريب في مكان جلوسي هنا في الصالون، كما أنا غريب في أماكن أخرى، من أهمها، مكان غربتي الأول، غرفة النوم. رقصت أمام زوج أختها، فملأ نظره من عينيها وجسدها وقبل ذيلا من تلك الذيول الثوبية وهو يمسك به فأعاق حركة رقصها وكادت تسقط، وتجاهلت أختها أن ترى شيئا من كل ذلك ولكنها التفتت نحوي وقالت لي هل يمكن لأحد أن يرقص بغير موسيقى؟ وعض زوج أختها طرف سباسته وقال لزوجته التي لم تكن تسمعه آه لو كنت ترقصين لي لفرشت لك طريقا بأوراق المائتي درهم، وبدت كأنها حقا لا تسمعه، وهي حالمة بعالمها الذي لم أحدد شيئا من عوالمه، فنهض وهو يضطرب في مشيه وعاد يحمل في يده كأسين شرب من إحداهما وسقى صهرنا برشفة من الكأس استبقتها شفاه برضا، وأشار بعينه ونظرته إلى مزيد حتى أفرغ الكأس وقد كانت مترعة في جوفه، وحوصل وحوقل، وتجشأ وقالت له حماتي أما كفاك ما شربت آ الحاج في أيامك، وقال لي زوج أختها أنت تعرف كيف تصب من تلك القارورة في كأسك فاتركني أسقي نفسي وأسقي الحاج، وسقاه بكأس أخرى قربها من شفتيه فجعل منها الحاج حليب رضاعة وكأنها ثدي أمه أو مرضعته، وصار في تلك الليل زوج ابنته مرضعا له وهو نهم لذلك الحليب الذي كان قد تعود على الرضاعة منه من قبل. ورقصت كنزة من غير توقف، وقالت حماتنا ها قد تفجر داء السكري وجعل إحدى قدميه تنز وتنتفخ باستمرار، فأراد زوج ابنتهما العزيزة أن يسكتها عن هذا الكلام فأتى بقارورة عطر وأخذ يرش منها على عنق وثياب حماتنا العزيزة، ثم قال آه، هذا عطر رجالي، وذهب إلى مكان فعاد بقارورة أخرى ورش منها على عنق وثياب وراحتي يد صهرنا العزيز، ثم قال آه لقد أخطأت فهذا عطر نسائي، واقترب مني ليرش علي من ذلك العطر فاعترضت بحركة من يدي واقترب من زوجته فاعترضت وقالت أنت سكران ولا تميز بين عطور النساء وعطور الرجال، وقال لها هما سواء، وضحكت كنزة وهي ترقص، فأخذ يلاحقها وهو يرش عليها من القارورتين معا، وضحك صهرنا كيخ كيخ بيخ بيخ، وظلت أخت كنزة كأنها غير موجودة، تقرأ في كتاب، وتسرح بأفكارها متجاهلة رقص كنزة الذي بدا مضحكا وطيش زوجها الذي أخذ يقبل يدي صهرنا من الوجه والظهر ويسقيه كأسا بعد أخرى ثم يقبل يدي حماتنا وهي تضحك وتقول له هكذا يكون أولاد الناس. جاءت كنزة تقترب مني بجسدها الراقص فتجاهلت أن تلتقي نظراتي مع نظراتها، وظل والدها ينظر إليها ويبتسم بغباء وقد احمرت وجنتاه وانتفخت عروق راحتيه، وقال آخ على شيء طروح د الكارطة مشحرين، آيما فين أصحابي وفين هي الليالي، أنا مشيت وتقاضيت، وقالت له حماتنا باسم الله عليك، باقي دارنا تغمر بالصحاب وبالخير، ولما جاءت كنزة ترقص أمام والدتها شدت على وسطها حزاما وضحكت، وحاولت أن ترقص جسدها الثخين وهي جالسة، وأخذت كنزة تميل وتدور وتلك الهالة نفسها تتسع، لتخفيها وتخفي البيت كله في دوامة من الفراغ، فاختفى وجه والدها الجزار المقعد، واختفى زوج أختها واختفى معه ما كان في يديه من كأسين مترعتين، واختفت المدينة والمحاكم والسجون وما عاد ثمة سوى نار كانت تأكل جسدين لرجل وامرأة وقد التفا في ازار كان أبيض ثم تدخن ثم ما عاد يتقلب في الفراغ سوى ثينك الجسدين وقد شممت رائحة الشياط. وتأملت تلك النار وقلت أنا رجل سياسة وعضو قيادي في حزب مهم فما معنى أن يكون سبب تلك النار هو هذه الأمور الخاصة جدا، التي لا تعني أكثر من ثلاثة أشخاص، بينما يحتمل أن تشتعل حرائق أكبر لتأكل الوطن كله، وليحتاج الى مواطنين مخلصين لهم تضحياتهم التي وحدها يمكن أن تبعث الوطن كله من رماد لا كالرماد؟ وعاد زوج أختها يضحك ضحكاته التي ما عاد من ورائها أو أمامها شيء سوى تآكل عظام تفحمت وبدأت تندثر، فهل النار تشتعل في هذا البيت، أم أنها تشتعل في المدينة والوطن، أم إنها نار تشتعل في عيني؟ في مساء البارحة ذهبنا إلى الضيعة وخرجنا إلى الحقول المجاورة وكان زوج أختها يدفع عربة الحاج ويقول آه ها هو الهواء النقي وها نحن ننتشر في الأرض ونشم رائحة التراب ورائحة روث البقر، بعض الناس لا أدري لماذا يتضجرون من زقزقة العصافير عند الغروب وربما يكونون مصابين بالضغط الدموي، وحماتنا تقول سوف يحترق ذلك الحولي الذي وضعناه في الفرن، وأنا ذاهبة لتحضير العشاء، وكنزة تقول يا أمي أنا لن أتناول سوى قطعة من ذلك الطحال المحشو، الخراف المشوية طلعت في رأسي، وحبذا لو كان بابا بياع البيصارة ولم يكن جزارا، ولو كان عبدالحميد هو بياع البيصارة لكان أحسن من عشاءات المطاعم، وقالت حماتنا أنت يا كنزة تعلمت النكد من النكد الذي أفسد مزاج زوجك بخوضه في أمور السياسة، ولو كان ينسى الهم لنسيناه معه ولعشت ضاحكة فأنت ما تزالين كالوردة التي تتفتح، فلماذا صار وجهك منطفئا وصار شعرك يتساقط؟ وقال صهرنا دعي الرجل من لسانك فهو في ضيافتنا، ولو كان قد نجح في الانتخابات للبرلمان لكانت معه الحصانة ولما قدرت على أن تطيلي لسانك معه في الكلام، وهو سينجح في الانتخابات القادمة، والتفت نحوي وقال أتذكرك يا عبدالحميد وأنت ما تزال ولدا صغيرا في حومتنا، فداركم قرب التوتة، في درب البشارة، ونحن كنا نسكن في عين الخيل، وأتذكر أنك كلما رأيتني أمر في الطريق يحمر خداك من الخجل وتتنحى جانبا لتترك لي أن أمر، ويوم جاءت جدتك الله يرحمها بكل ما معها من خواتم ودمالج وخيط الريح الذي هو من اللويز وقدمت كل ذلك في سبيل الله للأيتام، يوم أردنا أن ننشئ دارا خيرية، وكنت أنت تلعب في الدرب، وتراني أنظر إليك فتخفض بصرك، وسبحان الله، فمنذ ذلك الوقت كنت أتمنى لك كنزة، فلما جئت تخطبها لم أفاجأ، وقلت هي الأحداث التي يخبر القلب بوقوعها، ولابد أن تقع، ولما انصرفت حماتي لمراقبة نضوج الخروف في الفرن طلب مني أن أقترب منه فأمسك بأذني وقال لي يا ولدي امرأتي هبلاء وكنزة إمراتك هبلاء فاصبر كما أنا صابر، وقال لي ها هي ابنتي العاقلة، وأشار إلى أخت كنزة التي كانت تسمع كل ما قال، ومضينا حول النهر وأطراف الغابة وحكيم زوج بشرى أخت كنزة يشير الى الأقاحي النابتة حول الزرع ويتحدث عن السحب التي تنذر بمطر قادم ويحذرنا من برد المساء وما يمكن أن يسببه من زكام، ونصحني بالكف عن التدخين، وظلت بشرى تتجاهل كلامه بينما تحمست كنزة لعودتنا إلى الضيعة، وكان والدهما مدفوعا في العربة، لا يختار هل يبقى قريبا من الغابة أم يعود إلى الضيعة. وفي الضيعة انتشرت الحرائق التي رأيتها تأكل الأشجار وأعشاش العصافير، والدخان الأسود يتصاعد، وقلت هل أنا منذر بشؤم، والبلاد تستعد لارساء قواعد الديمقراطية، فما معنى أن يحترق الخروف في الفرن وأرى كل الغابة تحترق؟ هل أنا سوداوي الى هذا الحد؟ وقال لي صهري الحاج، شف آعبدالحميد، شفها تترقص وتبسم لها الله يخليك، ولكن حكيم هو الذي نهض في تلك اللحظة وأخذ يراقص كنزة وهي تميل على جانب وتحرك وسطها وتغمض عينيها تلك الاغماضات الفاجعة، حتى ظننتها سوف تسقط،وتعمل لنا مناحة، لكنها قبل أن تسقط، دخلت تلك الهالة وأدخلتنا فيها معها، وسمعت نفير سيارة الاطفاء، فلم أدر أجاءوا لاطفاء تلك النار التي شبت في جسدين تدثرا بازار كان أبيض، أم لاطفاء نار الغابة وأعشاش العصافير، أم لاطفاء نار القلب، ونار هذا الوطن.
محمد عزالدين التازي (كاتب من المغرب)