المفردات التي يحفل بها كتاب شعري جديد، للطيف الأخير من التسعينيين لاتختلف عن سواها في كتب مجايلة لتجربته. لا بل يكاد يشعر القارئ بأن الأشياء والتفاصيل خضعت لمشغل تمرَّن عليه شعراء جيل كامل. ويحلو للبعض التبرم من تجارب يعوم فيها التشيؤ إلى هذا القدر من العلنية. في الوقت الذي يعتبر فيه طرف ثانٍ أن الفضاء مفتوح لتجاوز بلاغات قيل أنها خلت من لغة الحياة والخبرة الفردية.
ويبدو بعد عشرات الكتب الشعرية التي صدرت منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي أن ثمة اختصاراً حاداً قام به الطيف الأخير من جيل التسعينات لنموذج الشعر الثمانيني، الأخير الذي لعب على فكرة توازن ما، سمح بتجاوز اللفظية والبلاغة، فيما لم يتنازل عن الصوغ الشعري الذي لن يقع في كل الأحوال في تشيؤ يكاد يكون صدماً للشعرية ذاتها. وبدا الاختصار الذي قام به الطيف الأخير من التسعينيين في شكل تطابق بين اللفظ والمعنى إلى الدرجة التي تتحول فيها اللغة إلى تداولٍ صرف. هذا التطابق الذي ارتاب منه الثمانينيون رغم احتفالهم التاريخي بالعالم والجسد والخبرة الفردية. حتى ليمكن القول أن الطيف الأخير من التسعينيين أحدث نوعاً من «القنطرة» وتجاوز اقتراح الثمانينات الذي يعزى إليه هذا الانحراف الشعري الكامل، بل الاختبار، من حداثة الرواد العليا، إلى حداثة الثمانينات الدنيا ! من طريق يتضمن فيه المنتصر صفات المنتصر عليه، تلك هي الحداثة الجدلية التي نجح الثمانينيون في تثبيتها. على غير مانرى الآن، وفي بضع سنوات، لاأكثر، حيث خرج الثمانيني، مكرها، من النص الجديد وبدت الكتابة الجديدة تطابقاً مسرفاً بين اللفظ والمعنى.
كان لابد من الاعتراف بأن الحس الجمالي بات عبئاً معنويا على الشعراء الجدد. فمن جهة ينتمي هذا الحس إلى آباء بعيدي الغور، أو إلى حداثة رومانسية المنشأ جعلت من الطبيعة والأسئلة الأولى جوهرها التعبيري. ومن جهة، يتناقض الحس الجمالي مع البطل المقلوب الذي يظهر في القصائد الجديدة. فغالبا مايأتي صمير المتكلم ?545;والمسرف هو الآخر?547; ليشير إلى تصدع كينونة الشاعر وفراغه من أي انتصار، حتى في قصائد الحب لايجرؤ الشاعر الجديد على دعم أناه من خلال تموين وهمي يستمده ولو موقتاً من إحساس الحب نفسه. صار الحس الجمالي طرفا مقابلا للتجربة، يجادلها من خارجها بعدما نبذَ من هذا العالم اللغوي الذي لم يعد مزيجاً من التصور والاشتغال واختبار الجسد. الحقيقة صار السؤال مربِكاً وبمفعول مضاعف : قصيدة بلا طبيعة وبلا تصور كيف تدافع عن نفسها؟ كيف يقوم نموذج البطل المقلوب، متصدع الكينونة، مقام الأثر الوهمي للبطل القديم؟
من الحس الجمالي إلى المعنى، المعنى البشري الذي يقوم عليه «حراس الهيكل» وهم فئة الشعراء المتكلمين والذي أجازوا لأنفسهم حق الدفاع الحصري والمخلص عن هيكلهم. المعنى البشري الذي عبّر عن صفته طاقة دفع لشيء صار اسمه لغة أو شعرا. ذلك الأب الميتافيزيقي الذي لم يعد يحصي أبناءه لكثرة تنوعهم شرقا وغربا. فأين المعنى البشري الآن؟ وكيف يعرف الأدب نفسه خاليا من الهيكل المزعوم؟ كان الثمانينيون، بحق، حراس هيكل، فلقد تكلّموا، وخرجوا من النص الصامت إلى النص المتكلم، وفي حداثتهم الدنيا عملوا على جدلٍ صاعد عوضاً من الجدل الهابط الذي ميّز الحراس البعيدي الغور، من رواد وسواه لأسماء أولئك الممتلكين حقا حصريا بحراسة المعنى البشري. الحراسة الثمانينية للمعنى البشري تجلت في نموذج معتدل بين الخبرة الفردية وحق اللغة على الشعر، وكانوا هادئين وهم ينتصرون على النص الصامت، كما أن قلق كينونتهم لم يتوقف عندما تقع عليه اليد وحسب. مثلا، وللوهلة الأولى، من يقرأ السوري لقمان ديركي أو اللبناني شارل شهوان، يظن أن تطابق اللفظ مع المعنى أخذ منهما كل مأخذ، في الوقت الذي عملا به على نوعٍ من التنقيح الشديد الذي يظهر به ولع الثمانينيين ببناء الجملة فتبدو على شيء من الخفة التي فهمت خطأً بأنها تطابق بين اللفظ والمعنى، وتبدو على شيء من النثر والتي فهمت خطأً أيضاً بأنها «استسهال» ذاك المصطلح العقابي الذي ابتدعه الصف الثاني من حراس الهيكل، وهم بضعٌ يسير من السبعينيين الذين عوقبوا في المقابل بمصطلح لايقل عقابية عن الأول وهو «اللفظية» وأدى ظهور هذا الانشقاق بين الحراس إلى ولادة ظاهرة هي الأولى من نوعها، بل الأكثر خطورة، وهي خضوع الهيكل ذاته، المعنى البشري، الشعري، إلى النفي نفسه، فصار هناك من يقول : لاشعر، أي لاهيكل! وهناك من قال : هذا شعر، أي هذا هو الهيكل ! فتبعثر هيكل المعنى البشري ولم يعد متفقاً لاعلى مكانه ولا على طاقم حراسه الشعراء الذين لم يبرحوا مكانهم ومقاعدهم تلك إلا الآن، وفي السنوات الأخيرة، حيث أفاد طيفٌ أخير من التسعينيين من دمار هيكل المعنى الشعري ولم يعد هناك من يشيد ببشرية المعنى لتتحول التجربة إلى تشيؤ فادح. من الحس الجمالي، ثم إلى المعنى، وصولا إلى أدوات الحراسة. فقد أفرط الشباب الشعراء بالتشبيه والتمثيل، وذلك من خلال أقصر الطرق عبر كاف التشبيه التي باتت تظهر بإمعان وإفراط، ظن البعض أن ذلك من آثار الراحل محمد الماغوط، وفي الأمر شيء من الحقيقة. فقد سحر الماغوط في حراسته للهيكل كل العابرين بكاف تشبيه تجعل وجه الشبه توسيعاً للمسافة بين اللفظ والمعنى. إلا أن غلبة التشبيه، وتحديدا في الكاف، كان من تبعات نزعة التشيؤ الحادة التي توطنت النص الجديد للطيف الأخير من التسعينيين. استخدمت كاف التشبيه للربط بين صورة وأخرى، بين شيء وشيء، لتحديد المعنى وضغطه إلى الحد الأقصى. بدا التشبيه كما لو أنه توليدٌ متواصل للتشيؤ فيما انحبس اللفظ في معناه وتحدد به على نحو لايشبه، في وجهه الإيجابي، سوى اللغة العلمية التي لن توفر سبيلاً للتعريف والوصف والتفسير. كالإفراط في ضمير المتكلم، تحرك إفراطٌ للتشبيه، والاثنان لخدمة المباشرة التي ستتولد حكماً كلما تطابق اللفظ مع المعنى. وذلك عمل على نقيضه الثمانينيون حيث وبشيء من الأخلاق التقنية عمل نموذجهم على فتنة الدال لمدلوله، لاالعكس، تمنع في أي حال من الأحوال تطابق اللفظ مع المعنى أو إسعاف النص بعلاقات غير ضرورية بين أداة التشبيه ووجه الشبه.
انتهاءً بالإيقاع، يمكن إجمال حال الحراس الآن. فقد تمت التضحية، مجددا، بالبناء الثمانيني المتوازن لعلاقة المكتوب بالملفوظ، عبر اندفاع طيف أخير من الجدد إلى تجاهل معيارية التقطيع السطري، فلم يعد يتضح أي معيارية للتقطيع، تلك الفوضوية بترتيب الأسطر تجلت بغياب الأثر اللفظي للنص، ففي حال خضع لمعيارية الجرس الإيقاعي يفقد كثيرا من أثره، لا بل يكاد يبدو واهيا ضعيف التركيب. والغريب هو القرار الذاتي والحر الذي اتخذه الطيف الأخير من التسعينيين بتجاهل الصوت والنطق، أو مايسمى، بعامة، الإيقاع، حيث اعتبر مجازاً أن الإيقاع وقفٌ على العموديين والتفعيليين، وذاك من قبيل مبالغات الثوار بنفي النموذج الذي ثاروا عليه. في الوقت الذي يمكن للإيقاع الظاهري، المنطوق ، أن يتكفل به تركيب الجملة بما يجعل، تقريبا، من نهاية السطر نهاية للدفق الشعوري أو نهاية للمعنى إن كان ذلك ضروريا.
جملةٌ من المعايير التي تأسست ثمانينيا، في النص النثري تتبدى الحاجة إليها الآن كما كانت الحاجة إليها في وقتها، فالثمانينيون ليسوا أباً أو أخاً كبيرا، بل الاقتراح الذي وازن بين الثورة وعنفها، فلم يفرط الثمانيني في أدواته، ولم يفرح – بل لم يقبل! – لأن الموسيقى ليست من بيت أبيه، ولم يقع تحت وطأة الانسحاب التدريجي من حراسة هيكله. لدى الطيف الأخير من التسعينيين مايستدينون منه، فالمعنى، دائما، تحت طائلة المديونية، كما عُبِّر في «مديونية المعنى». وتلك السلسلة التي تجمع النار الأولى بنار السيجارة تتكفل بجمع ما لم يجتمع. مجرد قراءة في كتاب الثمانينات، حراس الهيكل الشعري الجدد. لا أكثر.
القول بأن النص الأدبي مستقل، بالمطلق، عن المحتوى التاريخي الممكن،في مرجعياته، هو قولٌ يتحقق في الاطار الفني،للغة الشعرية، وحسب، أي مايتعلق بنظام الكتابة من قوانين القواعد النحوية والجمالية. أما المرجعيات الممكنة، أو المتخيلة، فلا مناص من اعتبارها الأساس الذي يربط الشعر بالشاعر، أو الاثنين بالمعرفة والتاريخ. هذا لايعني تحوُّل «المناسبة» في الشعر الى إطار نهائي لاكتشاف المدلول، بل يعني ان اللغة، وفي قوة نموذجها المجرد، لاتكون غير علامات دالة، بل تدل وتعكس، وتَرِث، لاشعوريا، وعن غير تعمد، البنى الاجتماعية البعيدة، مهما بدا الأمر، للوهلة الأولى، غير ممكن التحقق منه والكشف عنه. وكما يتبادل صانعو الكلام قوانين اللغة، يتبادلون تاريخها، في خلفية من النقل العصي والمستتر لحركة التاريخ.
من هنا يمكن إجمال تعريفات قرائية لبعض النماذج، حيث ينوب مزاج التلقي على مزاج الممارسة المباشرة لإنتاج النص. والتعريف جملةٌ من الصوت وجملةٌ من الحرف. ومنها :
٭ أبو بكر زمال، وكما اضطر مرة لتعريف شعره، وقد تقصدنا الافتتاح به لأن تجربته أكبر تمثيل عن ضرورة التعريف مقابل المختارات، حيث قام زمال نفسه بتأليف «أنطولوجيا» وعرّف فيها نفسه. وكانت «أنطولوجيته» على المقاس الذي ارتضاه له وتركت ماتركت من أسئلة. الأمر الهام الأساسي هو شعرية الرجل، والتي يعرفها بـ : يكتب بقلق مستديم ولايعترف بحدود معينة في الكتابة. ونكتفي بالتعريف الذي رسمناه بتصرف جزئي.
٭ مع ابراهيم الملا، نجد العلاقة مع الاختبار الشعري، من داخل. وتبدو تجربته جزءا من تصدير القيم الشعرية الذي تقوم به الاختبارات بعد عمل منظور ولامنظور في التجربة الشعرية وأدواتها. شعرية الملا متجاوزة أنا البلاغة، مع سواها من شعريات، ومتفلتة من العقد الضابط للتعبير. لذلك انبثقت الآلية، آليته، من داخل، وبعد كم التراكم والحواريات الدقيقة بين الشعريات.
٭ الشاعر عبده وازن اقترح لقصيدته مناخاً مفارقاً عن الذي ساد من نماذج تعبيرية في الشعر الثمانيني. فهو لم يكثف السعي باتجاه اليومي في وجه البلاغي. كما ميز تجارب أخرى. ولم تتمحور تجربته في الكشف عما سمي تفاصيل وسواها.إنما أقام مناطق اتصال غير معلنة مع مجموعة متعددة من المعاني وأدوات التعبير. هذا الذي منح شعره شيئا من الهدوء وشيئا من الانفعال الظاهري في الوقت ذاته. بسبب الجمع بين التجربة المباشرة الحية، والتجربة الداخلية ذات الأساس المفهومي المعياري.
٭ عاشور الطويبي، أكثر من مناخ في مستوى تعبيري واحد، لغة حية بنت السرد والانخطاف، في آن واحد معا.تجربة تبرز كلما قرئ الشعر على أنه «تعريف» دائم.
٭ خضر الآغا : امتزاج حركة المضمون مع ثبات تعامل حرفي في الصوغ. لتأدية واجب الأدب. وهو إذ يتحرك بينهما يعرف الشعر في مضمون وصوغ ينهلان من آباء بعيدي الغور. ونتعرف على تعريفه بدون إعاقة. شعرية الآغا ذات مفعول يعكس التحدي وابتداء الصراع مع الأقوى. هي شعرية تحمل القوة والانسياب، المواجهة والاستسرار. شعرية خضر شعرية البادئ وشعرية الجديد.
٭ مع رشا عمران، سنجد مزجاً يعيد كرة الايقاع إلى الحوار مجددا. ففي صوتها الشعري تتداخل قوتان صانعتان للأثر الشعري : الصوت، والمدلول. وفي اتحاد هاتين البنيتين نجد شيئا من «اللاثورية» في العمل الشعري. أي أنها تجربة اكتشفت الجسور والممرات البعيدة بين نظامين تعبيريين اختلفا طويلا : نظام الايقاع، الذي اختطف كثيرا في الموسيقى الرسمية، التفعيلات والبحور، ونظام المدلول التعبيري المباشر الذي وفر أرضية من شعر جديد تتجاوز المكتمل في وحدات المعنى الشعري الصغيرة، السالفة والمتراكمة.
٭ ناظم السيد، صانع دور للحكاية في رسم العالم الشعري. وهو اقتراحٌ أتقنه ويسّر له الوحدةَ والاستخدام السهل للأدوات.
تبرز لديه دوافع ملحّة لتوحيد نبرتين، نبرة الجملة الشعرية المكتفية بمعناها، ونبرة الروي الخفيضة الهامسة المجانبة للحدث. في هذين الحدين تتحرك شعريته التي نجحت وتنجح في هذا المقترح. وقد يتحول هذان الحدان إلى تمظهرين مختلفين هما الكثافة والإسهاب. كثافة المعنى والصوغ، وإسهاب السرد الذي يؤسس للحكاية. ولشخصيته الشعرية ركائز متعددة أهمّها معنيا الزمن عنده، الزمن المستعاد، والزمن القهري. الأول خيار، والثاني يشترك فيه مع الكل البشري الشاعر.
٭ في قراءة عناية جابر، يظهر التجريبي والقريب متجاهلاً بنوّة الغير : فالأنا تبدو ملكية لانهائية للمتكلم، والمعنى الشعري مصنوعٌ بكامله في بيت الذات. فتوفر مساحةٌ من المدلول المباشر، الحميم والقريب. ليس القريب بما يتضمنه تبسيط الامتلاك، بل القريب كالسر، والحميم كالوراثة.
في شعرية عناية جابر تخلّص عبر أقل كلفة من «إحسان» المنجز. فاللغة تسير بين النقاط بخفة وفي كل عبور يظهر العالم مانحاً للمعرفة الشعرية : التفاصيل ملكية ذات، واليومي تأريخٌ لمنجز الأنا. لغة عناية لغة الأنا. لغة غير وسيطة. تنزل المالك نفسه إلى ملكيته ولاتستعين بسواه.
٭ حسن نجمي. الشعر لحراسة الغرابة. والغرابة بيت القصيدة. شاعرٌ يتحسس معنى في الصورة لم يعهد من قبل. يدمج موسيقى الشرق بعلامات الترقيم فينتج نصا غرائبيا مسكونا بالشاعرية العالية التي لم نتعود عليها كثيرا. إنه شاعر وارِثٌ ومورّث. يتنكب هو وبعض الشعراء حراسة الدرجة الأولى في الشعر العربي المعاصر.
٭ سميح القاسم، كيف يمكن التعريف الشعري في ظل ابتسار المدِّ؟يجيب القاسم، وهنا في النص الذي اخترناه، على طريقة الشعر مصحوبا بحراسة حس تاريخي طاغ. ليتحول المد جماليا بعد إفراط الصوت وعلوِ شأنِ النبر.
٭ زكي بيضون، صوتٌ جديد، مختلف. شعرية نزقة. بالمعنى غير الأخلاقي طبعا. إنه نزَقٌ من النوع التقني حيث تتساقط المدلولات عبر إنهاك بنيتها الصانعة : المسافة بين الدال والمدلول تحددها ضمائر مستترة غامضة. وليس هناك من ضرورة للتطابق بينهما. شعرية بيضون تهدد العلاقة بين اللفظ والمعنى على اعتبار مفاده أن الشيء الواحد الرابط للمعنى بلفظه هو الشهوة الشعرية المتفلتة من سلطة العائلة.
٭ في شعرية سيف الرحبي، اقتراحٌ ذو نكهة خاصة. فليس هناك من ضرورة للانقلاب وبعثرة بيت الأب.
يوجد أكثر من طريقة للحفاظ على العنب والناطور. وهي شعرية تميل إلى عبادة أسلافها كنوع من التوقع لشعرية قوية. وقد حظيت بذلك بالفعل. حيث أن الشعرية القوية تعكس عبادة أسلاف مجازية، ملتحقة وعصية وصعبة التفريق.
هو ذا سر هدوء صوت الرحبي الشعري إذ لايحمل مسلةً تحت إبطه ولايشعر بأن هناك من يريد أخذ أرضه.الرحبي، الشعري، مفتاح، ضمن مجموعة معينة، لفهم شعرية الثمانينات من خلال أرضية عبادة السلف : وصناعة الشعر.وهي العبادة غير الشعرية بالطبع.
٭ أحمد اسكندر سليمان، العلامات تعود إلى النص الشعري، لالتزيده غرابة، ولاليكون هناك إغراقٌ في الغموض. بل لأن للرمز طاقة لامنظورة على محاكاة الواقع والكشف عن طبقاته. أفاد سليمان من نظام القصة القصيرة التي يبتكرها على قاعدة العلامات، حيث لاشيء له معنى محوري تجريبي بقدر ماهو علامة. ومجرد علامة. موهبة كتلك تعرف الشعر عملاً موازيا للتجربة الحية لكنها تشحنة بطاقة التشفير ليصبح قابلاً للمتاه.
٭ مفتاح العماري : تحرير اللغة من عبء مالاطاقة لها به. اللغة عند العماري لتوطيد العلاقة بين الانفعال والرمز. ولم لا؟ طالما هناك مجال تعبيري واسع في الأدب ليكون مذهب كتاب وشعراء.
٭ شوقي بزيع، شعرية متواجدة. أسهمت في عودة الجذب إلى الفعل الشعري. وحققت شعريته معادلة صعبة. فهي مزيج بين التعبيرية والرومنسية. ففي الأولى، بزيع صانع دلالة، ومحتَرِف معنى. وفي الثانية، الأنا تواجه الجمع المعياري والاجتماعي.
للغته انسياب لايعاق بالضغط المعياري. وللأمر وجهان. الأول شفافية اللغة.والثاني تنازل الذات عن الحلول في قلب العالم. تحمّل بزيع مسؤولية التنازل السالف. وازداد اتجاه لغته للتعبير عن هذا الخيار. اتخذ قراره النهائي بشجاعة فظهرت اللغة تلقائية، سهلة، منشدة. أما قلب العالم فللحديث عنه بقية.
٭ الشاعرة أمل الجبوري، تعمل على الاحتفاظ بفاعلية المنطوق، كما لو أن نثرها الشعري يستعيد الأصوات والإيقاعات من ملكية البحور. ربما لأن وراثة ما تتحكم في عالمها الشعري. هذه الوراثة تركت أثراً ليس عند الجبوري وحسب بل عند الكثيرين ممن لم يتوقفوا عند معيارية نهائية ومطلقة لأسبقيات التفضيل التي سادت مطولا. هذا الأمر بدا في تجارب الثمانينات حلا ولو مؤقتا لمفهوم المعيار الحديث. إذ ترك النثر الشعري بلا أب وبلا مفاتيح ضابطة. في حال فاعلية المنطوق، كما عند الجبوري تُستَلْهم المعايير الخاصة، والنصية، للنثر.وهذا يسهل الرواج وأثر النموذج. بالاضافة إلى الإصغاء الذاتي، لديها، لمفهوم الحوار الصوفي المستوحى من تراث الأدب العربي.
٭ جوزف عيساوي. قسوة الشعر تستَمَدُّ من تضاد كامن في الواقع: قسوته على العكس من أصحاب الشعر اللابيجماليوني. عيساوي ينتج قسوة تعكس عشق الصانع لمصنوعه. ولكثرة ماهو من الشعراء البيجماليونيين يقرأ التضاد كوعي شقي حاد. يُلْمَس في شعره أكثر من رافد : فيه بقية لتأمل صوفي يواجه به الإحساس الحاد بالتضاد. بنية تعتمد مشهدية الواقع لاكمكان لاستلهام المبدأ الشعري بل للكشف عما يؤرّق موضوعه. أهو بيجماليوني؟ ولهذا تسير قصيدته في تفاصيل الواقع لتظهر المثال المناقض لجماله الذي يعشقه، ليس كآخر. بل كصانع لمصنوعه.
٭ علي صدقي عبد القادر. تجربة تذكر بالمختبر اللبناني. فيها تجريب يؤصل إشارة إلى اللاشعور واليومي المعاش وإلى ضمير المتكلم صورة عن المغيب اللامفكر فيه في جيل سبقه بقليل.
٭حلمي سالم : المهمة شاقة. والخروج أكثر مشقة.بين طغيان جيل وتجريب جيل آخر تتفتح هذه التجربة على مقترح خاص يزاوج النثر روحا تحل في أرواح أخرى. وهناك إفادة من موسيقى الكلام وحس السرد العالي. شعرية سالم شعرية تجرب فتح النوافذ وإغلاق الأبواب. والاشارة كفاية.
٭ عباس بيضون، الشاعر ذو الشهرة اللافتة. والمقروء الذي وحَّد أجيالاً في تلقي نصه، شاعرٌ تتمتع قصيدته بجاذبية الصناعة، التنقيح والإبدال. أدرك بيضون، في شكل مبكر، صعوبة الجديد. أدركها بدافع الموهبة والرغبة المتفلتة من ضغط الأب للتواجد. وبالفعل، تواجد عباس بيضون عبر مكان مفرد. أحبه التسعينيون والثمانينيون وأبناء جيله، السبعينيون، وكذلك دخل في مغامرة فرويدية بانتزاع ملكية الأب. وأخذ ماأخذ. فكان بيضون أباً وابناً في رحلة من غموض شعري تسببه أبوة مبكِّرةٌ ألمّت به من بداية التجربة. سحر شعرية بيضون تتولد، في بعض مما تولد، من هذا المكان الملتبس : نص من خارج الثورة. نصٌ هو نموذج، أو صار كذلك. كيف يحدث ماحدث مع بيضون؟ سؤال لاتجيب عنه إلا مواهب بهذا الحجم، وبتلك الخفة، وبذلك التعقل الأقصى.
٭ محمد نور الحسيني، صوتٌ شعري يتشكل في إيقاعين : اغتراب الشعر السوري. ووحدة القصيدة اللبنانية. الوحدة بالمعنى الذي يشي به المختبر. ولاتعني الوحدة هنا التشابه. بل تعني الحوار والأرضية المشتركة. شعر الحسيني مثالٌ عن الاغتراب والتشكل بدون انخراط كامل في المختبر، ربما لسبب الاغتراب. الاغتراب وحده. وهي ميزة سنجدها في عدد من المواهب السورية التي وقفت بجانب المختبر وجاءت من دون وحدة. في هذا الصوت اقتراح الاغتراب. سنقرأ.
٭ الشاعر سامر أبو هواش، تجربة جديدة غير عابئة بشروط الوراثة. في شعريته تجسيد لوحدة القصيدة اللبنانية. ونعود تذكيراً بأن الوحدة هنا مصدرها ونتيجتها الاختبار والكشف عن إمكانيات أخرى للتعبير. عالم هواش الشعري عالمٌ معنوي في المقام الأول، فهو – أي الشاعر – أفاد من طاقات أخرى تعبيرية كصورة السينما وألفة السيرة الذاتية. على خلفية إحساس عارم بالفقدان. وهو على الرغم من تسميته الأشياء بمسمياتها إلا ان فقدانه الخاص يمنح غموض الكآبة على المدلول فلايمكن، والحالة هذه، أن تختزل تجربته في تعابير كاليومي والتفاصيل. هذا لايكفي في شعريته. والقارئ سيقرأ. وشعرية هواش مقروءة ومنتشرة مما يعكس امتدادا لاقتراح المختبر الشعري.
٭ سعدية مفرح. لغتها الشعرية من داخل مختبرين : المختبر اللبناني، والمختبر المصري. من الأول استعارت خبرة الجسد الفردية. ومن الثاني أضافت ظل الحكاية والتفاصيل السردية التي تفك بنيتها بين الحين والآخر مناشدات ذات سمت تراثي. لغة ناجية لشعر بأكثر من طبقة.
٭ بلال خبيز، جزءٌ من الاختبار الذي لم يحقق انتشارا كاملا. يتجلى لديه ضمير المتكلم عاكساً الموقف الباطني ضد الجماعة. ففي استخدامه، ذلك، لايعود مضطراً إلى استخدام منهج نقد تاريخي لينقد «الجماعة الاجتماعية». بل يكتفي بمَحْوَرَة الأشياء حول أناه المتكلمة لتتأتى مواقف الرفض والسخط الهادئ.
٭ علي مطر، شعريةٌ تمتد بين معايير وتتبسّط في جدلها. أنا مخفية مستترة. وأنا تظهر هنا وهناك. يبدو العالم المباشر مكاناً ملائماً لفاعليتها. تبرز في هذه التجربة الثمانينات كقيمة اختبارية فاعلة. وهي من البروز إلى الدرجة التي تعاود أثرها حتى ولو لم تحقق الرواج والديمومة اليومية. فمطر شيه منقطع عن النشر. إلا ان مكانه على المائدة ظل مكانه. وحتى لو جاء متأخرا، أو لم يجئ، يظل المدعوون يتساءلون: أين علي مطر؟. يميل البعض إلى تسميته من شعراء جيل الحرب. إلا أننا نسجل تحفظنا على التعبير السالف. إذ لم يتكون حتى الآن تحليلٌ كاشف للمعنى التقني الذي تفرضه جيلية الحرب. إلا إذا كانت التسمية مرتبطة بالزمن وحده.
٭ الشاعر نزيه أبو عفش، في عز غربة الشعر السوري، غربته الاختبارية العنيفة، ولدت تجربته الشعرية. ومهما كانت الولادة عسيرة إلا أن التجربة شكلت نموذجاً فاعلا ومنتشرا ترك الأثر ومازال. أبو عفش صعد سفينة النجاة في الوقت الذي كانت فيه الأغلبية تعصم نفسها بجَبَل الالتزام(!) وهذا يحسب لتلك الشعرية التي اكتشفت خلاصها في مناخ يحتشد بالشفوية واللفظية.
يمزج أبوعفش بين مستويات متعددة بين العالم الشعري والأدوات. ومن أهم ميزات تجربته تلك الوحدة والتلاؤم بين المدلولات والايقاع. إذ لايمكن الفصل في شعره بينهما مما يؤكد الصدق الفني وأولوية الموهبة. ويوجد نوعٌ من الشبه، لاالتماثل، مع الشاعر عبدالله باشراحيل، لجهة وحدة المدلول والإيقاع. وهما من جيل السبعينات ذاته. كما يوجد شبهٌ في عالم الكآبة الخفي والمسيطر على تجربتهما كما سيرى القارئ. نزيه أبو عفش، الناجي، بندرة، في غربة الشعر السوري. وهو من «فحول» السبعينات العربية.
٭ جمانة حداد. في ظل من تأرجح تعبير الأدب النسائي، وكذلك غياب فاعليته الاصطلاحية، ارتأت حداد ممارسة نوع من الامتداد الأدبي اللامشروط في نصوصها فأفادت من استعادة الأنا التي لم تستعرها أساساً من الأنا الذكورية المتوارثة، بل أناها الذاتية الخاصة التي وإن أشارت فهي تشير إلى المالك، لاأكثر ولاأقل. فتخلصت من عبء التصنيف الجائر بين أدب ذكوري وأدب أنوثي. هكذا يحصل شِعرها على مرتبة أدبية فكَّكت الإطار اللامجدي للتصنيف ودخلت في الشعر وحده. هي تجربةٌ تعتمد قوة الغنائية في مضامينها، ونقول غنائية المضمون للتفريق عن غنائيات أخرى. إلا أنها توسع من دائرة الإيقاع هذا ليشمل حركة الجملة لديها ليتحصل القارئ على وحدة تامة في شعرها.
٭ مياسة دع، صورةٌ عن نجاح الاختبار الذاتي. الاختبار بلا مياومة. وتكاد شعريتها، هذه الشاعرة تحديدا، أن تمثل اقتراحاً ناجيا بالكامل. ففي جملتها نلمح ذلك المزج بين قوة النطق وحركة المعنى، كما سنرى عند غسان جواد – وخضر الآغا وأكرم قطريب – الذي يعمل على هذه الوحدة المعيارية. مياسة نموذجٌ للشرط الشعري النافي لـ «الثورة» إلا ان تضمنت الحفيد والابن والأب. هي ذي «الحفادة» الشعرية الصارمة الصانعة للشعر. في الانتباه إلى وحدة المنطوق والمدلول – الذي يقسِّم السطر بمعيارية ضابطة – نفهم نجاةَ مياسة دع من غربة الشعر ودخولها في خلق نموذج شعري خالص.
٭ أحمد محمد سليمان، جاء من «الأخير». مسألة الوراثة لم تشغل تجربته. لم يضيع الوقت في ذلك. جاء من الفصل الأخير وعبّر عن سوريالية متكونة من مظاهر فنية مختلفة: سوريالية الفن التشكيلي وسوريالية اللغة الشعرية. وبسبب قوة البنية «الثورية» المتحكمة بوعيه لم يقبل على اللفظ لتوحيده بمعناه.هذا أثر عنده على السطر وتقطيعه. أليس هذا اقتراحاً ذاتيا خالصاً؟ نعم ولقد دفع تكاليف الاقتراح، هذا، من خلال التفرج على الوارثين يتقاسمون ملكية الأب، وحدهم.
٭ نصيرة محمدي، مقدرة على التوقف في اللحظة المناسبة. مهما كان المناخ جاذبا للإسهاب. وهي ميزة تندر في الوقت الذي يطرب فيه بعض الشعراء لنقطة وصلوا اليها في التجربة. نصيرة محمدي تتوقف في المكان الملائم لأنها تتقن صوغها وتتقن الابتداء.
٭ محمد علي شمس الدين، من شعراء السبعينات. يمثل الاقتراح الذي اشتهرت به تلك المرحلة. شعره يوحي، بذلك، بطرق متعددة. الميزة في شعر شمس الدين هو ذلك التقلب في المناخ الشعري، بل تباين الأدوات الشعرية بما يترك أثراً على معيارية النصوص. إلا أنه شاعر مستمر في إنتاج شعره وتجربته مقروءة على صعد مختلفة.
٭ شاكر لعيبي، شاعر تجريبي، في الوقت الذي تحول فيه التجريب إلى ذكرى مضت. عوالمه متعددة على شيء من غموض تتركه مسافةٌ ذاتية بين اللفظ والمعنى.تظهر الحياة الواقعية العصرية، مفردات، في شعره. إلا أنه يمنحها، باطراد، طاقة شعرية المنشأ ليحول بينها وبين المطابقة أو التعبير الواقعي المباشر.
٭ أحمد ديبو، من التسعينيين البارزين. في صوته الشعري أصوات. ويعمل على خفض النبر الشعري إلى الحد الأقصى، نوعاً من الوعي الشعري الذي يستهدف فيه «انقلابا» أبيض على الشفوية والتفاصيل والبلاغة. جمع في تجربته أسسا مختلفة للصوغ الشعري الجديد. فلم تظهر لديه الأنا بانتفاخٍ متوارث كما درج في السابق. بل أناه صورة عن مطابقة الحميم الواقعي غير المباشر بخفايا الذات ومكوناتها اللاشعورية البعيدة.
٭ عقل العويط. ثمانيني يمزج الموسيقى المباشرة بوحدة معنى ما. تقترب لغته أحياناً من موسيقى التفعيلة لما تحمله من اشتغال على الايقاع والمنطوق. المعنى لديه أقصوي، متطرف، وأحياناً هادئ وملموس. تظهر في لغته، في أكثر من مكان، طاقة على توسيع الهوة بين اللفظ والمعنى وعدم الانحياز للمطابقة.
٭ محمد عضيمة، الغرائبي والسوريالي، بطريقته. بسرعة اكتسب صوته خصوصية، وبسهولة. ذلك أنه وبشكل مبكر قام على إحداث مستويات مختلفة لتوليد المعنى الشعري والإفادة من منجزات مافوق الواقعيين المقربين إلى صميم تجربته. شعره صادم ولم يأت من مكان يتألق فيه الجَمال اليوناني القائم على التناسق. بل يجيء ذلك الشعر عبر إيحاء أن النقص الانساني، ومثاله المقلوب، هو المكان الملائم للكشف عن جماليات التشوه.
٭ الشاعر بول شاوول، والمسرحي والناقد والمترجم. من «فحول» الشعراء العرب، إن لم نقل شعراء السبعينات فقط.تجربة متقلبة عنيفة تتخذ من تبديل المعيار أساسا للشعرية. مرة يتألق فيها التكوين الذهني المصمم بعناية الصانع. ومرة يتألق الكاهن الوجودي عبر «نفاد الأحوال» ليكشف عن سر الهشاشة ومجد الكائن. شعرٌ زوالي، باق، متفلسف وواقعي مجرب. لغة ذات أفقين : أفق الحداثة، وأفق اللاشعور البعيد.لغة قادرة على إنتاج الصمت كما لو أنه صوت الصاعقة أو الانفجار الأول- اللغوي الشعري.
٭ أحمد الواصل، صوت شعري جديد. قرب المختبر أو خارجه. تظهر سهولة في اجتناب المعايير ولم يتضح فيها بعد نتائج هذا الاجتناب. الاقتراح فيه يتمثل بالمقدرة على البدء أو في طرح السؤال التالي : هل هناك من ضرورة للبدء لطالما هناك من المشترك أكثر من المغاير؟
٭ هالا محمد، من الجيل الذي استمر بعيد تولد الصوت الثمانيني. لغة أليفة قريبة من أشيائها ولاتفارقها بحجة استعلاء مفهومي معين أو عبر حداثة قاطعة حاسمة. ينتمي صوتها الشعري إلى ذلك المناخ الذي رفض وراثة الالتزام السبعيني. شعرها شهادة على ذلك الرفض.
٭ هاشم شفيق.من التجارب التي لم تطيّر أوراق التراكم. ولم تدخل الفيل إلى غرفة الزجاج. شعرية بين الصمت والحركة والاستعادة. أليفة تقرب البعيد من خلال شبكة اتصال متقنة تردم هوة وتوسع مسافة وتزيد من جرعة الاقتراب.
٭ الشاعر محمود السيد، قد يظن البعض أن السيد وقف عن «النفري» ولم يغادره. هذا لأن السيد منذ فترة لم يطلع أحد على تحولات تجربته. قد يتوقف البعض عند قوة منطوق لافته في أدائه الشعري. إلا أن تلك ميزته الأساس. عدا عن كونه الصامت المنعزل الغائب. غنائية مسيطرة تحاصر أي مدلول. غنائية نجحت بتجاوز المقترح الذهني البارد. يعطي شعره انطباعا بوحدة مناخ شعري واسع.الحب فيه له دور تقني : ربط الحاضر بالغائب عبر تحويل اللغة الشعرية إلى فتنة جذب واستدعاء للمستتر. يمكن إدراج تجربته بين جيلي الستينات والسبعينات لسبب زمني وآخر يتعلق بفضاء اللغة التي استعارت شيئا من المنطوق السبعيني وشيئا من اجتهاد الستينات اللغوي.
٭ اسكندر حبش، في شعريته تخلّصٌ من عبء المعايير لاعلى خلفية النقض والإلغاء، بل لابتكار خاص يتضمن موقفا من حداثة الصوغ التي لها دور بإبعاد الشعر عن محبه. ويتبدى الموقف التلقائي بطبيعة الحال في العبارة السلسة غير المدعية وفي إعطاء الأنا الحميمة هامشاً لايضج بتفاصيل ترتهن لحدود التجربة.شعرية اسكندر حبش كسبت صوتها وعرّفت الشعر من زاويتها ولم تخسر معركة اللغة.
٭ الشاعر قاسم حداد، تجربة نجحت في عدم الارتباك إزاء المعيار. ذلك أن قوة الاقتراحات التي سبقت تجربته تمتلك المقدرة على إحداث إرباك معين، إما لسبب فني أو لسبب يتعلق باشتهار النموذج. الذي فعله حداد يكمن في نظام الحذف الذي برع فيه، فهو إن اتصل بمنجز صوفي معين فهو يحذف مشهديته الراهنة عبر تعامل جديد وطازج مع فاعلية التعبير الصوفي بالاضافة إلى أنه أفاد من أناه الشعرية ليشكل ذلك الحذف لتحقيق الإضافة. قاسم حداد من الناجين المستمرين في الشعر.
٭ باسم المرعبي، شهادةٌ كاملة عن الاقتراح الثمانيني. صورة بالطول الكامل لمشهدية شعر تلك المرحلة. عدة بنى تستتر وتلتحق في صوته : لافداحة ولاإفراط للفظ. على خلفية انقلاب أبيض في وجه التراكم السابق. أنا هامسةٌ تحفر في طبقات المعنى الشعري. ومقدرة على إعادة التوازن التي افتقدت بين اللفظ والمعنى. وذلك انقلاب أبيض ثان أجراه في وجه الفداحة التي ميزت تحديثا يقوم على توسيع الهوة بين الكلام والمدلول.
٭ عماد فؤاد، مزيجٌ من ألفة السرد وغرابة الصوغ الشعري. الأنا عنده هي هي غير عابئة بانحراف رمزي يحولها إلى إشارة تتضمن الغير. أنا المتكلم، المالك، الذي هو وليس لآخر، أنا الحياة بأكثر من مستوى.
٭ عابد اسماعيل، ناجٍ تسعيني بارز. أفاد من حركة الشعر العربي وغير العربي ليطرح أسراره في شكل مضامين. السر لديه ليس مسألة محكومة بأصل المنشأ : المعنى. بل السر الذي هو حركة القصيدة أو القصيدة ذاتها. شعريته نجحت في تجاوز الثنائية الكلاسيكية بين أنا وآخر. وهو نوع من الشعر الجديد والصعب، الأليف والفاتن.
٭ صقر عليشي، من الأمثلة الواضحة على الحوار الشعري. فهو عصي على الضم أو التصنيف الجيلي لناحية محددة : ميل إلى الصورة. تفعيلات البحور الشعرية. ثم تضاف ألفة المناخ الثمانيني المياوم. وإذا قلنا الغنائية فإنه يتجلى مثالاً للجسر بين نماذج شعرية مختلفة أو أجيال شعرية متضاربة النموذج. بعد كل هذه الاتصالات يظهر شعره سهلاً يتبسط في طرح عوالمه. لقد نجح بالإفادة من خبز الثورة دون أن يساهم في صناعته. صقر عليشي،وفي القبض على جمر التفعيلة وماء النثر وحّد لديه تصالحاً خالصا مع نفسه في الشعر. فلاترتبك العبارة أمام مشهدية المعايير ولاتستعير من الغير نموذج تعبير. نكهة الانشاد عنده بادية وتعكس التصالح وتخدمه. التصالح السالف. هذا جعل كل من يقرأ شعره يحس بأن تجربة صقر عليشي، مثل تجربة شوقي بزيع، تحبب القارئ بالشعر،وتعيده إليه.
٭ الشاعر كمال سبتي، اقتراحٌ يشدد على اللغة علامةً بارزة في شكل القصيدة. وعلى الرغم من منحه دوراً كبيرا للمنطوق إلا أن جانب المخيلة الشعرية يتأصل لديه كلما جمع بين وراثة الفصاحة وحداثة الأنا الشعرية. الغنى الظاهري في شعره مرده إلى نوع من الاستلهام غير المباشر إلى التزيين الذي تمنحه «ألف ليلة وليلة» على مياومات الشاعر والشعر. سبتي يعمل في شكل مستمر على تنقيح نصه وممارسة إبدالات وإحالات فيه. وهذا التوتر علامة على القيمة التي يمنحها الشاعر للاشتغال على اللغة.
٭ أكرم قطريب، النجاح الذي ميز صوت قطريب الشعري هو دخوله في المنجز الراهن مباشرة لاقتراح الثمانينات. لم يبدأ من أول ويتأخر. على الفور قدم أناه غير مثقلة بتعال متوارث فخري. بل أنا الجزء الحميم من الوجود الانساني، ذلك الذي تخفى كثيرا في تجارب أخرى ولم يتأصل إلا في العقدين الأخيرين. جاء قطريب إلى النهاية فورا. وذاك معنى هام من معاني وقيم المختبر الشعري.
٭ لقمان ديركي، أدرك هذا الشاعر في شكل مبكر تلك الأزمة التي تقف عائقاً في وجه الشعرية الجديدة. أسس مع رفقة شعريين نماذج شعرية تجاوزت الإرث السبعيني. فتدفقت الحياة في القصيدة وعاد الإنسان الطبيعي إلى مملكته بدون كلفة الترميز والشحن الماورائي أو الذهني. ديركي ناجٍ ثمانيني مؤسس على خلفية الناجي الذي غاب : رياض الصالح حسين.
٭ عبدالله باشراحيل، شعرية أربكت المعايير ووضعت حدا للخلاف الدائر بين المذاهب. فطرح هذا الشاعر السبعيني عدة مستويات تعبيرية كي يحقق النجاة الشعرية التي ظفر بها. فقدم الأنا الواقعية مترافقة مع الأنا البلاغية. وطرح الواقعي بالاشترك مع الرومنسي. وكتب التفعيلة إلى جوار العمودي.هذا بالاضافة إلى المحتوى الفلسفي الذي يميز تجربته الشعرية التي استطاعت أن تحقق تفردها الخاص ونموذجها غير القابل للنقض. باشراحيل عرَّف شعره أكثر ماعرَّف في قصيدة الكآبة وقصيدة سيد الخلق وسواهما. وهو من التجارب الهامة التي تأخذ حظها ومكانها في خارطة الشعر المعاصر.
٭ منذر مصري، خصوصية تركت أثرها في أكثر من مجال. الواقعي مضافاً إلى لامعقوله عبر تشبث الشاعر بشعريته التي لم تقف عند التفصيل كما لو أنه غاية شعرية محكمة. شعرية المصري الثمانينية نموذج لذلك النصر المجازي بغير ضجيج. وهي من شعريات الفواصل المميزة للماقبل والمابعد في إشارة مضمرة بأن هذه المسافة الفاصلة أيضا هي مسافة جامعة ذات أساس حواري مجادل.
٭ علي الحازمي. تجربة جديدة استعارت من الموروث إمكانية التعبير والصوغ، في إيقاع غير متكلف وغير عابئ بإدهاش سطحي عابر. تتضمن هذه التجربة كثيرا من مبررات الاستمرار والفاعلية. هي شعرية محمية بالموهبة والاستدارة إلى معايير ثابتة مؤثرة. سيرى القارئ شعرية الحازمي على طريقته وضمن شروط الشاعر.
٭ سعاد الكواري، ومياسة دع تمثلان الصوتين الأكثر اشتغالا على علاقة المنطوق بالتقطيع والمضمون. تجربة الكواري تمثل حال النجاة بعد الصعود إلى سفينة مضمونة النتائج : الصوت والأنا الحميمة والايقاع. شعرية لافتة تمثل الحال القوى لما يسمى الشعر النسوي، وهي تسمية لانعبأ بها. الكواري صوتٌ تأسس بعمق وصمت عبر سر الإحساس الشعري والصوغ المشتغل على الدمج.
٭ غسان جواد، ختم جواد شعرية التسعينات بكتابه «تمرين على الاختفاء». لقد استطاع هذا الشاعر الخارج من المختبر الأقوى عربيا، المختبر اللبناني، أن ينهي مرحلة التردد التسعيني الخجول والمبطِّئ. والاتصال الذي أقامه جواد مع الأصوات الأخرى سهلت عليه مسك ختام عقد التردد التسعيني. مع كتابه أصبح هناك تعبيرٌ له أسسه الفعلية : شعر مابعد التسعينات. ولنسمه : الشعر الخامس. الأجيال الأربعة التي سبقته، والجيل الذي يتضمنه. في صداقته الشعرية مع ناظم السيد شكلا ثنائيا ممانِعاً لصراع الديوك: ذاك الصراع المنتشر الآن لإخفاء ملامح موت بعض التجارب. وهو ماتناقض معه جواد والسيد ليتعالى الدويتو هازِماً الدِّيَكة المنقَّطة.
٭ علي سفر، تجربة التسعيني الهادئ علي سفر تعتمد اعتبار الأساس التالي : التجربة الأدبية اشتغالٌ داخل اللغة، في المقام الأول. كل من يقرأ شعرية علي سفر يلمح ذلك الاشتغال والمقدرة على توليد الصمت في عز تعدد الأصوات. أشير إليه، أحيانا، كما لو أنه «ضد» جيله، على المستوى الفني. إلا أن الحقيقة أن شعريته هي جزءٌ من المختبر النادر داخل سوريا حيث كانت النجاة – ومازالت – بالغة الصعوبة.
أسباب المعنى الكلاسيكي(١)
وقف الكثير من قراء الأدب ونقّاده على اهتمام النقاد العرب الأوائل بالمعنى أو المضامين، على حساب الشكل أو الأدوات الفنية. فمن أولى وكبريات المسائل التي شغلت بال النقاد كانت قي قضايا السرقات الشعرية أو دور الأخلاق في الشعر أو قضية الصدق ودور الكذب في قوة القصيدة وأثر الشعر والشاعر. لم يكن النقد يتعامل مع الشكل كحركة قابلة الاعادة التعريف الكامل. بل تعامل النقاد مع الشكل الخليلي كما لو أنه آخر شكل يمكن أن تصل إليه التجربة الأدبية. فانصرفوا إلى المعنى أو إلى المضمون غير عابئين بالنتيجة القاسية التي يمكن أن يخلّفها تجاهلٌ للشكل كهذا المشار إليه.
أرجعَ النقاد العصريون السببَ في تلك الظاهرة إلى السياق التاريخي أولا، والذي يفترض نوعاً من التلاؤم. وثانياً اعتبار النقاد العرب مقدِّسين للشكل الأدبي فلم يتمكنوا من تجاوزه أو تطويره. والحقيقة أن هناك سبباً ثالثا يقوم على أن قليلا من النقاد العصريين اهتم بظاهرة كتلك. فأغلب العصريين درس النقاد الأوائل على خلفيتين : التمجيد أو النَّيل، وفي الحالين بقي السؤال معمَّدا بغموضه : لماذا اهتم النقاد العرب القدامى بالمضامين على حساب الأشكال؟
مما لاشك فيه أن نقادا كابن طباطبا……- ٣٢٢ هجرية وقدامة بن جعفر 260-327 هجرية والجرجاني…. -471 هجرية يعتبرون المبرّزين في هذا المضمار، أي الوعي النقدي. إلا أن الأول انشغل بـ«تخليص المعنى الجديد من المعنى القديم.. في أحسن كسوة» كما يعبّر في (عيار الشعر). والثاني ركّز اهتمامه على على ماسمّاه : معاني نعوت الشعر في كتابه (نقد الشعر) وهي : صحة التفسير و والمبالغة و التكافؤ والطرافة. ثم يهتم بـ«ائتلاف اللفظ مع المعنى» عبر المساواة والإرداف والتمثيل وسواها. أما الجرجاني فهو «مَلِكُ المعنى» إذ كان السبّاق في تمييز المعنى الأول عن المعنى الثاني، حسب ترتيبه. وكان يقصد المعنى الأول هو معناها التداولي الوظيفي الذي يمكن أن نسميه، الآن، المضمون، أما المعنى الثاني، والذي هو بطبيعة الحال المعنى الشعري، فهو المتولّد من الأوّل. أي الدلالة المجازية الفنية غير التداولية. ولذلك اهتدى إلى صيغة شهيرة عُرِفت بـ «معنى المعنى».
في العموم بقي اهتمام النقاد منحصراً في قضايا المعنى والتشبيه والاستعارة والصورة والمجاز. أي مايمت بصلة إلى داخل الشعرية، العالم والمدلول، بل توسّع الأمر ليكون الناقد بمثابة تحرٍّ كما فعل الآمدي في الموازنة. وتضخم الأمر ليكون النقد متقاطعاً تماماً مع التفسير ليصبح الناقد، بعامة، شارحاً مفسّرا. وهي الصورة السطحية غير الدقيقة التي ترسخت في أذهان البعض عن النقد العربي. والسبب الأساس في رواج هذه الصورة المحرّفة هو اهتمام النقاد بالمضامين والموضوعات على حساب الشكل الشعري ذاته. وهي مسألة تتعلق بجزئية تنسجم مع الكل وهي دور الهوية في الوعي الشعري سنعود إليها في بحث متمم مستقل تال.
تمهيدنا بفكرة كتلك لايحمل هدفا من نوع قراءة البنى الاجتماعية المستترة، في التجارب الشعرية، بل يهدف الى قراءة مسبوقة بنظام جمالي شعري، سواء في الشعر العربي في ذروته العباسية، مرورا بأدب المرحلة العثمانية، ومن ثم المرور على التفجر الكبير، بل الثورة، الذي مر على الشعر العربي بمجرد الوفادة الرومنسية عليه، والانتقال الى مرحلة «الحداثة» الشعرية وتبلور أسلوبين اثنين راسخين تجليا في قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة ومارافقهما من جدل نقدي. ولذلك نتعامل مع مرجعيات هذا البحث، بحرفيتها، في كل مرة ننشر فيها تصورا عن مسألة المعنى والمضمون، بالمادة الأدبية نفسها وماتتضمنه من مراجع وماتتضمنه من صوغ، ليس تكرارا أو اعتمادا على متن مصاغ منشور، كما يتضح معنا في مرجعيات هذه المادة تحديدا، بل القصد منه اعتماد الأساس نفسه، وبحرفيته ومراجعه بالكامل، ريثما يتم إنجاز بحثنا الذي نعمل عليه بعنوان أشمل وهو : المعنى والمضمون في الشعر العربي المعاصر. لهذا نتمنى على القارئ اعتبار هذه المادة، ومواد أخرى تم الإفادة منها في المتن، بأنها من قبيل الهاجس الدراسي الموحد والذي يجعل من كل مقال منفصل جزءا منفصلاً بالظاهر، ومتحداً في أساس البحث الذي هو في أوله بطبيعة الحال.
إصرار الكتابة على المعنى، إحساسٌ ما بالاكتشاف. فالمعنى اكتشافٌ للعلاقة، تمجيدٌ لها. بعد إبراز المعنى، ذاك، يتحول الى ماض، يصبح حكاية، و يصبح القراء أبناء منصتين لروايات الجدة قبل النوم.
المعنى، في هذا المعنى، خطِر.
الزمن الذي يمر على المعنى يضعه في المقارنة. فيتدرج ويتراكم ويسمَّى. هنا يتدخل النقد للتمييز والبحث عن الاكتشاف فيه، والجديد، والاضافة.
ضرورة الاحساس بالتغير والتطور ملازمة لضرورة المعنى. فعبر التغير هذا يتم الفحص على أساس من المقارنة والموازنة التي قد تؤدي بالنقاد، كما فعل ابن قتيبة وابن طباطبا والآمدي والجرجاني، الى اعتبار الشعر في أزمة(٢).
لكن المعنى لايخرج كما يخرج الصمغ من جذع الشجرة. وجودهما مختلف كليا. الصمغ يخرج عبر الضرورة، أما المعنى فهو مُخْتَلَق، ذاتي، يجيء بعد العالم، لاقبله ولامعه. المعنى، إذن، صنيعةٌ انسانية، رغم وهميتها تحمل اختراعا إنسانيا لايخلو من منفعة. ليكون المعنى الذي اخترعه الانسان-الشاعر ردا، غير مباشر، على المعنى المفروض بالقسر.
المعنى الشعري، هنا، أخلاقي، بالضرورة. لأنه على صورة الانسان، ومن بنات أفكاره. ويختلف صانعو الكلام على المعنى فإنهم يختلفون على سمك اشتروه في البحر. ليس لأحد. بل ليس هناك من أسماك، في الأصل!
مشكلة المعنى في العمل الشعري انه يدافع عن نفسه – بطريق الخطأ – بادعاء القرابة مع أسرة لايمت اليها بصلة، فيبدو في الأول، مع أنه في الأخير، ويبدو أبا مع أنه إبن، ويتمظهر حقيقيا، مع انه وهمي.
هنا يبدو المعنى نوعا من التفصيل الجزئي الذي يدور الخلاف حوله، أكثر من الأساسيات في المقام الأول. فالوقت الذي تستغرقه مدبرة المنزل لاختيار مكان اللوحة قد يتجاوز الوقت الذي تطلّبه اختيار مكان أساس المنزل نفسه. هذا الخطأ الرهيب كلّف الأدب العربي كثيرا من الأشعار التفسيرية المعتمدة على افتراض المعنى سابقا للطبيعة (كأن يتم اختيار مكان تعليق اللوحة قبل بناء البيت!) فيكون بديلا ماكرا للمعنى غير العقلي الذي يؤخر الطبيعة الى المربع الثاني. ماأدى الى حصول تشابه جوهري بين المعنى الديني الالهي والمعنى اللغوي الشعري. حتى ان المعنى الأدبي صار في الثقافة الشعرية النقدية، في تاريخ الشعر العربي، نوعا من تلميع وتنظيف وتنقية للمعنى بوصفه كلا مكتملا يستمد اكتماله من وراثته اكتمال المعنى الالهي، فلهذا لايكون دور الشاعر سوى إبراز المعاني القديمة، ولضمان ماء الوجه فعليه أن يظهرها «أحسن من الكسوة التي عليها» أي أن دور الشاعر وقف على ضمان اكتمال المعنى على اعتبار ان الشعراء «سُبقوا الى كل معنى بديع»(٣).
صار المعنى لدى النقاد العرب الأوائل مرادفا للمضمون. فصار يشار اليه بصفة تنتمي الى الحالة الشعورية، كما يصف الجرجاني في «المعنى الرديء» و«المعنى الجيد» وعن الوصف المستمد، في العمق، من التمييز الديني المنشأ. معنى جيد/معنى رديء ?543; اله / شيطان.
ان اعتماد النقاد العرب القدامى المضمون معياراً نهائيا للمفاضلة والموازنة والحكم جعل منه يتخذ أشكالا بطيئة في التطور والانقلاب على دوره. الى درجة صار فيها أجمل الشعر أكذبه، كما هو معروف، كاشارة الى «مضمونيته» القصوى التي وصلت الى منطقة لايستطيع معها الشكل أن يتضمنها. يضاف اليها المنشأ الأسطوري الأول والذي يربط الشعر والشعراء بالجان، ربطا بصفة «الغواية» التي نزلت في القرآن الكريم صفةً لمريدي الشعراء، فصار من المحتم على المعنى أن يتخذ شكل المضمون ناسيا معنويته : مجازه. هذا مع تذكر العلاقة اللغوية بين الشعر والشعور، فلم يتبق للمعنى من مجال تعبيري إلا أن يكون مجرد مضمون، أو شعور، أو كتلة من المفردات تقود، بالضرورة، الى المضمون، لاالمعنى.
الأزمة المتولدة من الارتهان للمضمون، واعتبار اللغة إطارا له، هي في هذا التطور البطيء، أو الامتناع عن التطوير الذي رافق الشعر العربي قرونا، على الرغم من قوة مبدأ الرؤية في حركة الشعر، الا ان الرؤية لم تكن أكثر من تحريك نسبي لمبدأ المضمون. فمجرد التذكير بالرؤية يحيل الى الداخل، الى مايتضمنه الجسد، لاالجسد نفسه. ومنها دور التصوف في الشعر الحديث الذي عاد وأسس للداخل، للمضمون، وإحالة المرجعية الى دور اللغة في النقل، من غير قصد، طبعا. والملاحظ في تطور العمود الشعري، في حالة الموشح، نجد سرعة اختفائه بالكامل ولم يوجد بعد من يتبع نهجه الا في أضيق المساحات وأندرها، بل كان يتم التعامل مع الموشح كتمارين نحوية
استطاع المختبر الشعري في العصر العباسي ان يوصل مدّ المعنى الى أقصاه، وأن ينفلت من النظام الأخلاقي الذي أحاط به زمناً طويلا، ومن النظام العقائدي. في ذلك الزمن تخلخلت الأسس المانحة للهوية، ووصل الأمر الى ماعُرِف بالشعوبية، أي اعلان التفاضل العلني بين العرب وغير العرب في الدولة الاسلامية، ولم يعد الشعر وقفا على العرب وصارت المنافسة القوية تأتي من المكان الثاني، من المولّدين ومن غير العرب. واضطراب أساس الهوية انعكس تفكيكا لدورها في تثبيت المعنى المضموني، فكان المد المعنوي بلا حدود. إلا ان سقوط الدولة العباسية أرجع البحث مجددا عن تثبيت ما للهوية، خصوصا أن سقوط بغداد ارتبط، في العمق، بموضوع الآخر وتهديده لاستقرار الهوية مما أثر سلبا على صوغ معنى الهوية فعادت، مرة أخرى، كمعطى، من خارج، وتحولت مضمونا مانحا للذات. ويعرف قراء الشعر ونقاده كيف كانت آخر علامات العطاء الشعري العربي ترافقت مع سقوط بغداد تقريبا، فرجع النظام الشعري الى استقراره القديم وصار يتم التعامل مع النحو والصرف كركائز مجازية عميقة للهوية. ولم يعد من المستغرب ان الشعر العربي المدون منذ نهايات القرن الثاني عشر الميلادي وصولا الى القرن التاسع عشر كان في مجمله يتسم بالمحافظة والاتباع واللفظية وغياب المبادرات الشعرية اللافتة الا في أضيق الحدود.
اشتمل العصر العباسي على مجموعة من العناصر مكّنت الجماعة العربية من اتخاذ وضعية مختلفة عما كانت عليه في البدء. فلقد وصل أمر التمايز بين العرب وغيرهم درجة من التوتر والصراع بعدما تم إعلان التمايز منهجا في الحكم والتقييم، الشيء الذي وصف به ابن خلدون بالشعوبية.
الاطار التاريخي لمسار تغير الشعر العربي في تلك المرحلة هام بالقياس الى مامهدنا به عن المحتوى الاجتماعي، أو التاريخي، للتجارب الشعرية، من حيث هي النقطة التي تواجه بها الذات أسئلة الراهن، وأسئلة الهوية، وبه لايكون للنص المجال اللغوي بؤرة وحيدة للرؤية، بل بذلك التلاؤم غير المسيطر عليه بين الخارج والداخل، اللغة والتاريخ، الذات والآخر. ومهما بقي النص مستمدا قيمه الجمالية المجردة فلايعني الأمر أن النص نسيج لغوي طافٍ بلا تاريخ، وبلا محتوى عام حدد مساره أو هيّأ له. من هنا يجمع النقاد على تغير موضوعات الشعر في أدب المرحلة العباسية على خلفية التأثيرات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والدينية. وكان أولها توقف الشعراء عن الاستهلال بالبكاء على الأطلال، إذ صاروا يعيشون في مدينة أثرها أقوى من الاستعادة المتخيلة للمكان الصحراوي البعيد، ومن هنا من يعتبر بقاء بشار بن برد مفتتحا قصيدته بوصف الاطلال يعود الى نشأته نشأة عربية خالصة تكاد تكون بدوية في مظهرها(٤)، وتذبذب أبي نواس بين الافتتاح بالأطلال والافتتاح بسواها له أسباب سياسية تكتيكية من قبل الشاعر، فعلى زمن الرشيد استخدم الأطلال تعميةً منه(٥)، أما على زمن الأمين فوجد أبو نواس الفرصة سانحة للخروج على المذهب القديم في المدح(٦)،فاستهل كلامه قبل البدء بمدح الأمين بإعلان واضح لمذهبه الأدبي بقوله : ياأمير المؤمنين : ان شعراء الملوك قبلي شببوا بالمدر والحجر، والشاء والبقر، والصوف والوبر، فغلظت طباعهم، واستغلقت معانيهم، ولابصر لهم بامتداح خلفائنا، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في الانشاد. فلما أذن له الخليفة بدأ بوصف الخمر مباشرة دون تورية :
ألا دارِها بالماء حتى تلينها
فلن تكرم الصهباء حتى تهينها (٧)
ويرجع الباحثون سبب التذبذب بين القديم والجديد في أشعار البعض، ومنهم أبو نواس، الى دور رواة الشعر العربي الذين يعتبرون الشعر الجاهلي هو المثل والنموذج الذي يجب أن يحتذى(٨)، ويصل الأمر مع بعض جهابذة الرواة الكبار، كالأصمعي، الى الانقاص والنيل من شعرية جميل لقوله :
ألا أيها النوّام ويحكم هبّوا أسائلكم: هل يقتل الرجلَ الحُبُّ؟
بسبب الليونة والترقق في القول، فوصفه الأصمعي بـ«المخنث» الذي يتفكك(٩)، بل يقف آخرون الموقف ذاته في نقدهم لليونة وترقق المشاعر التي في البيت على اعتبار ان العربي ابن الصحراء لايترقق الى هذا الحد، فقال البعض : كأنه، والله، من مخنَّثي العقيق(١٠) .
فكان أن برزت الى السطح اتجاهات جديدة على الشعر العربي، وإن لم تكن جديدة بالمطلق على اعتبار أن للشعر والتعبير الأدبي حلقات متسلسلة مترابطة، وتحديدا في رواية الشعر العربي، فأخذ التعبير الذاتي الفردي يتقوى بوضوح وصارت الواقعية منهجا يسير عليه الشعراء في وصف العالم الخارجي. ثم باقي التصنيفات المعروفة كالمجون الذي ارتبط بالمدنية والزندقة التي وفدت من الثقافة الفارسية، والشعر ذو الطابع المذهبي الناشئ من الصراعات الدينية آنذاك، وكذلك أشعار الزهد والوعظ. هذا العالم الشعري الذي فيه من التنوع في المصادر والمرجعيات كما فيه من التنوع في الموضوعات والتعبير الأدبي كان الاطار العام لولادة «انحراف» في نظرية الشعر عند العرب، بعد كل هذا الاختبار، تناقضا وجدلا ونصوصا، وخلق الاطار العام لما يمكن تسميته النقد الأدبي العربي.
قراءة بغداد مختبرا ثقافيا، فلسفيا ودينيا واجتماعيا وأدبيا، هو المفتاح لفهم التغير الذي طرأ على الوعي الشعري لدى النقاد العرب القدامى، وكي تفهم بغداد مختبرا نشير الى الدلالة نفسها في بيروت الخمسينيات والستينيات،من القرن الماضي، حيث شكلت مصبا شاملا للثقافة العربية والفرنسية الانكليزية وكذلك بقية المؤثرات الايديولوجية كالقومية والماركسية والليبرالية، فعرفت بيروت في تلك المرحلة كرائدة للاختبار الثقافي العربي، وكان من إحدى نتائج هذا الاختبار ولادة مجلة «شعر» وباقي الاقتراحات الأدبية المعروفة والتي مازال سائدا منها الشيء الكثير، كموضوع الحداثة الشعرية وقصيدة النثر، والأمر ذاته انعكس بين النثريين والعموديين، تماما، كبغداد، فحول ومولدون، حدا بحد، ومازال الجدل الأدبي في شأن التفعيلة والنثر والعمود الى الآن.
كانت بدايات الحكم النقدي على الشعر تنحصر في أوليات بسيطة كحكم اللياقة والاسناد والاقواء والفحولة والتشبيه. وسواها من معايير أولية تختلف لكنها تتفق على باقي المسائل. لكن مع الجمحي(١١) يصبح لقارئ الشعر ومريده الحكم عليه، فهو «الناقد» المتبصر بمقارنة الأشعار واكتشاف النحل في الشعر، والحق يقال أن كتاب الجمحي «طبقات الشعراء» فاتحة باتجاه تأسيس وعي نقدي جديد يقوم على اكتشاف المحتوى التاريخي للغة شعرية بعينها، وهو مادفع بالجمحي ليكون السباق الى كشف مسألة التدوين في الشعر العربي ودور الرواة في النحل. ومع ابن طباطبا نقرأ التركيز على دور المتلقي وذوقه وصولا الى رؤيته للشعر «جيشان فكر»(١٢)، والآمدي في الموازنة، وتأثر نقاد بالثقافة اليونانية كقدامة بن جعفر والفارابي، انتهاء بالجرجاني، والمعري الشاعر ناقدا. من نهايات القرن الثاني الهجري الى القرن الخامس نجد شدة التغير في النظرة الى الشعر والشاعر، والى مفهوم التاريخ واللغة كما فعل الجمحي، في إطار من وفادة ثقافية شاملة واختبار مع الشعر المنقول وصل في ذرواته شعرا ونقدا الى مكان يعرفه متتبعو الشعر العربي، سواء منهم المختص أو القارئ، وليس المقام الآن مقام نقل تفصيلي الى تلك المراحل فهي أخذت من الدارسين، كل على حدة، مأخذا كاملا، بحثا وتمحيصا، أهمها العمل الكبير الموسوعي للناقد الراحل احسان عباس في كتابه «تاريخ النقد الأدبي عند العرب». وكذلك كتاب الدكتور محمد مصطفى هدارة «اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري».
من القصيدة المعبرة عن الاستعادة، الى القصيدة المنطلقة من واقع التجربة، ومن الوصف والنقل الى الذات والأنا، ومن موضوعات محددة سائدة الى تنوع لامحدود، ومن محتوى النسيب والهجاء والرثاء والمديح الى التفلسف والتزهد، ومن مبدأ اللياقة الى مبدأ الفكر، ومن مبدأ الصدق الى مبدأ الصوغ، ومن مستوى الشفوي الى مستوى المدوّن، انتقل الشعر العربي الى مكان صناعة الشعرية الجديدة التي ترافقت ذروتها، على وجه التقريب، الى وقت سقوط بغداد. ويجمع الدارسون على ان المرحلة التي تلت سقوط الدولة لم تكن في الغالب الا فترة تصنيف وجمع وتأليف، مع بعض تغير في نظرية الشعر طرأ في الأدب الأندلسي وولادة أشكال جديدة كالموشح والذي كان بدوره استمرارا لرواية الشعر العربي التي ضبطها الجمحي(الضبط بمعنى معرفة النحل وأسبابه، لابمعنى القوانين)، وسواهما، حتى توقف الموشح، الى درجة كبيرة، وعاد الشعر في العصر العثماني الى مرحلة التطبيقات الفنية التي تخلو من المبادرات، ويمكننا الآن المرور سريعا على بعض أسماء المرحلة العثمانية وشيء من سياقها العام.
أهم الأسماء التي أفرزتها المرحلة العثمانية يمكن حصرها بالأسماء التالية : عبد الغني النابلسي(١٣) (1641م- ١٧٣١ م) وابن النقيب الحسيني(١٤) (1638- 1670م) ومنجك باشا اليوسفي (المولود عام 1598م). بالاضافة الى الخال الطالوي وبعض الأسماء التي لم يصل من شعرها الا القليل، لكن الاشارة الى الحسيني هامة بمكان لأنه كتب مايشبه المسرح والشخوص والحوار(١٥) . كان مجمل شعر النابلسي بمثابة شعر تعليمي نقلي يوضح فيه معتقداته، ولم يكن مثل آبائه البعيدين كالحلاج والشبلي والقاسم جنيد، أو سواهم، من شعراء التصوف، بل كان شعره اتباعيا تطبيقيا لايخضع لتوتر واشتغال لغوي خاص، جريا على أسلوب أبناء جيل – بل شعر- تلك المرحلة، في الشعر القواعدي اللفظي غير الجريء على إدخال الذات وإشراكها في الرؤية، أي ان شعره يمثل الاستعادة والطقوسية لقانون الصوغ المتمثل بالعروض، دون إضافات تذكر إلا في بعض اللمع كما في هجائه لأهل الشام :
أتعبتني بقرُ الشام
وهي في نقضٍ وإبرامِ
بطنهم والفرج أهلكهم
مثل ثيران وأنعامِ
فتراهم لاعقول لهم
إنما هم أسْرُ أوهامِ (١٦)
ويتابع معارضا البيت الشهير للمتنبي(١٧) :
مولدي فيهم ولاعجبٌ
جوهري في صدف كامِ
وصولا الى أشد قدح وذم بحق قومه كاشفا مدى الشدة التي كانت تسم الخلاف بينه وبين محيطه الاجتماعي :
الجفا والبغيُ في الشامِ! (١٨)
في شعر ابن النقيب الحسيني يتجلى تأثير الطبيعة الدمشقية عليه فجاء شعره وصفيا متنعما بجمال الطبيعة بالاضافة الى موضوعات الشعر الأخرى مثل تفاصيل الأحداث اليومية كما يصور حالة الختان :
ليهن عليك طهرٌ
يفضي لأحسن حالِ
حلّيت منه حساما
فعاد زاهي الصقالِ
ولااستقامت نِصالٌ
إلا بحثّ نِبالِ(١٩)
وفي وصف الطبيعة له :
ولغصن الريحان مع يانع
الوردِ ازدواجٌ في قوة الامتزاج(٢٠)
وهنا في تصوير دقيق للورد :
فتحت أحمرَ قان أبيض غرق
على أصفر فاقع في أخضر نضر(٢١)
كان منجك اليوسفي من أصل شركسي، وأبوه من رجال الملك الناصر قلاوون(٢٢). عاش حياة متناقضة عنيفة بسبب تبدل ظروفه من الغنى الشديد الى العوز المدقع بعد تبديد ثروة أبيه. يعكس في شعره كثيرا من التفاخر بالمحتد وعراقة الأصل مع أن التاريخ الفعلي للعائلة يكشف أنهم كانوا عبيدا فصاروا أسياداً كما يعبّر في شعره :
جدي الذي ملك البلاد برأيه
لابالجنود، الباسل البسّامُ
قد كان مملوكا وأصبح مالكا
كل الملوك ببابه خدّام(٢٣)
وكذلك يستعيد من أسلافه الشعريين مبدأ الصدر في المكانة والتفاخر بالنسب والذات :
فما أنا من يرضى القليل من العلا
ولاأنا ممن يحتسي فضلةَ الكاس(٢٤)
أغلب شعره الوصف وبعض المدائح الدينية.
هذه الأمثلة التي اخترنا بضعا قليلا من أشعارها، وكما يتبين، فلم يكن ليجترح رؤية ذاتية للشعر وخصوصا في ظل الحال الذي كانت تمر فيه الثقافة العربية على المستويين السياسي والقومي فجاء الشعر اتباعيا صرفا لاابتكار فيه الا في الحدود التطبيقية المتشابهة مع الأصل. ولم يتحصل القارئ على نوعية من التي تعود عليها في «عصر الأنوار» الشعري في القرن الثاني الهجري ومابعده،وهذا طبيعي إذا ماسحبنا كل المواصفات الاختبارية التي مرت بها بغداد المدينة ونقطة التلاقح الحضاري.
بقيت الطريقة الشعرية على الحال الذي تحدثنا عنه من اتباعية وغياب للمواقف الذاتية المجترحة للرؤية حتى نهايات القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر ودخول الشعرية العربية في مرحلة المثال الرومنسي الذي ترك أثره الى أبعد الحدود مع ترجمة قصيدة البحيرة لـ «لامرتين» وتأثر الشعراء العرب في الروح الجديدة التي ستضخها هذه القصيدة وسواها من الأدب الرومنسي في الشعرية العربية المعاصرة.
ينفعنا في هذا الحال الدخول سريعا في الظروف التي رافقت دخول الرومنسية الى الثقافة العربية عموما والشعر العربي على وجه الخصوص، والاشارة الى أهم ملامح تلك الرومنسية وأهم روادها الذين عرفهم التاريخ الأدبي المعاصر.
تختلف قراءة الرومنسية العربية من دارس الى آخر، وكل دارس لتلك المرحلة يقع على كم معين من التجارب التي تعكس نظريته الأدبية. وحتى الآن لايوجد إجماع نهائي بين النقاد والقراء على ان الرومنسية تمثل بشاعر دون الآخر. وهذا من طبيعة الفكر الشعري والتجربة الشعرية بوجه عام ومن طبيعة التذوق الأدبي بعامة. الناقد محمد بنيس يختار لدراسته القيمة عن الرومنسية العربية، جبران خليل جبران، الذي يسمّيه ممثلا أعلى(٢٥) لتلك الرومنسية، وخليل مطران ممثل «الحد الأدنى»(٢٦)، وأبو القاسم الشابي، كتنويع على الحدود العليا(٢٧)، ويختار شاعرا غير معروف لقراء العربية هو عبد الكريم بن ثابت من المغرب. كانت الرومنسية نقطة هامة في دراسة أدونيس في كتابه الشهير «الثابت والمتحول»، لكنه لايتفق تماما مع محمد بنيس في ماذهب اليه عن جبران خليل جبران، واختلفت آلية التناول بين الاثنين، لأسباب متعددة لسنا في معرض ذكرها الآن. يهمنا، هنا، أن نفيد من دراسة الناقد والشاعر محمد بنيس وتقسيماته التي أسس لها في هذه الدراسة، فيتحدث عن الرومنسية الأولى(٢٨) بوصفها معطاة من الآخر الأوروبي، ثقافة وتاريخا، معتبرا ان المعطيات التي أنتج في ضوئها مصطلح الرومنسية هو التاريخ اللغوي لأوروبا حيث كانت اللغات الرومنسية في العصور الوسطى كلها تعتبر لغات مبتذلة(٢٩) وأنه كان ينظر اليها كلغات مشتقة من الرومنسية المعارضة للاتينيةِ رجال الكنيسة والمثقفين، ويؤكد أن الوقت الذي جاء في مابعد أعطى مشروعية لهذه اللغة الجديدة عبر مصطلحات متعددة، ويشير بنيس الى أن تسميات من مثل romancero أو romanze أو romant كانت تدل على القيمة المحتقرة لنوع الأدب العجائبي. ومع مجيء القرن الثامن عشر في ألمانيا اكتسب المصطلح قيمة جمالية وتاريخية لأنه أفاد من الفن القوطي. على عكس الرومنسية الانجليزية المرتبطة بالضباب والطبيعة والمعمار حيث تكون الرومنسية هي هذه الأشكال. أما تعريف جماعة «يينا» للرومنسية فتشير الى أن الشعر الرومنسي هو شعر كوني متقدم ليست غايته هي فقط جمع الأجناس الأدبية المتفرقة وكذلك ربط الشعر بالفلسفة والبلاغة. بل يريدون صهر الشعر بالنثر والنقد ومما يجعل الحياة شعرا اجتماعيا(٣٠). ويحصي دأب جماعة يينا في التالي : أولا في تجديد الرؤية الى القديم، من طريق ربط الصلة مجددا بالشعر القديم باختراق الحاجز السائد الشعري، والشعر القديم بالنسبة اليهم هو الشعر اليوناني. المسألة الثانية، ماسمي المطلق الأدبي، مالم يقل ومالايمكن تحديده من خصيصة جنسه الأدبي. الثالثة هي تصور الذات، بشأن العلاقة التي ربطت «كانط» بالرومنسيين من خلال مقاله في «الاحساس بالجميل والسامي» وبهذا تصبح الذات الرومانسية مختلفة عن نظيراتها وحيث لم تعد الفردية التائهة سمة الرومنسية، ويؤكد بنيس، ذلك، ومعه، صعوبة تعريف الأنا الرومنسية وعصيانها عن الاختزال واستحالته(٣١) بسبب تقلبها الدائم ولانهائيتها واستحالة تنميطها كونها منفلته من الحتمية التجريبية ومن المقولات العقلية التي كانت تسيج الفاعليات الفردية وتخضعها للاستتار والقمع المستمر، آخذا أسباب وطبيعة العلاقة التي تربط الذات بغير الذات وكيفية أن يكون الداخل عكسا للعالم الخارجي.
هذا عن الرومنسية الأوروبية، الرومنسية الأولى. الرومنسية العربية لاتشبه مثيلتها الأوروبية الا من حيث الدعوة لها، لكنها تستحيل تعريفا وضبطا بسبب اختلاف معناها من رومنسي الى آخر ومن جماعة رومنسية الى أخرى. والنقطة الأساسية في مشكلة الرومنسية العربية هي في كونها حماسية انفعالية أكثر من كونها على نظام منطقي محدد، فهي بدون خطاب فلسفي(٣٢). ولهذا الرومنسية كنسق شمولي الى الأدب والحياة لم تخترق بنية الثقافة العربية. يؤكد بنيس. نكتفي هنا بالقدر الذي أخذنا منه من نقد بنيس للرومنسية العربية لكننا لن نكون في معرض العرض لكل تعيناتها، لذلك سنهمل اختيارات بنيس، أو بالأحرى سنضيف عليها اختيارات أخرى، لأنه ليس من المنطقي تجاهل أثر الرومنسية في مصر، مثلا، فكيف بنا، والحالة هذه، أن نتجاهل الياس أبي شبكة، في لبنان، ذلك المتفجر العنيد الذي تنعكس الرومنسية في أدبه بكل ماتحمله من «الأدب المحتقر» الذي أشار اليه بنيس في عرضه لتاريخ الرومنسية الأولى.
اتفقت أغلب القراءات العربية على وجود عدد لابأس من أدباء المرحلة الرومنسية في الأدب العربي، لنقل، مع بنيس، وهذا حق، جبران خليل جبران وأبو القاسم الشابي، لكن لماذا لانقول، أيضا، وفي المقابل، الياس أبو شبكة وابراهيم ناجي وعلي محمود طه؟ هذا بالاضافة الى عشرات الأسماء التي راجت منذ الثلاثينيات وحتى أواسط الخمسينات من القرن الماضي. لكن الحق يقال ان ابراهيم ناجي(٣٣) وعلي محمود طه(٣٤) والياس أبي شبكة(٣٥) وخليل مطران(٣٦)، بالاضافة الى الرومنسي الأول جبران خليل جبران وأبو القاسم الشابي يمثلون المساحة التأسيسية للتغير في الشعر العربي المعاصر. والحقيقة أن هذا المذهب الأدبي هو الذي تحمل عبء الاتيان بأسلوبية جديدة على الشعر العربي وهو الذي مر بمرحلة الاصطدام مع البنى القائمة، قبل الحداثة وقبل مجلة «شعر» بوقت طويل، مع أن الياس أبي شبكة في شعره الشيء الكثير من الرمزية الا ان شعره بمجمله ينتمي الى تلك الروح الوثابة المتمردة على سلطة المجموع وإبراز دور الأنا مقابلا ضديا للجماعة،و هو من أهم سمات المذهب السالف التي انعكست في شعرية أبي شبكة، على غير الشابي مثلا أو حتى جبران اللذين عبرا عن التزام كامل وتطبيقي بتاريخية المذهب الرومنسي كما وصل في الطبعة المحلية لذلك الأسلوب في الأدب. عكس ذلك الأدب دور الخيال وقوة الأنا الشعريين وكذلك رسّخ لمعنى الروح الجديدة القائمة على تداخل الثقافات كما ألمح مطران في بيانه ولم تعد موضوعات الوصف والنقل عالما شعريا كما درج مع محمود سامي البارودي، بل صارت القصيدة تعكس مزيجا من التوتر بين الموروث والحاضر، كما لدى الشابي، والتعبير عن دور اللاشعور، كما مع الياس أبي شبكة الذي كان رائدا في ذلك، أو في فتح أساليب التعبير الأدبي الى أقصاه ومايستلزمه من إزالة للفوارق بين النظم والنثر كما أسس جبران وكان المبتدع الأكبر لهذا الدمج بين الأجناس الأدبية المعروفة. ولبنيس الحق في اعتبار جبران ممثلا أعلى لهذا المذهب، على الأقل لهذا السبب.
ان دور الرومنسية في الأدب العربي لم يكن مجرد تأسيس لأساليب كتابية وتعبيرية جديدة ومارافقها من ثقافة وروح جديدين، وحسب، بل يكمن دورها الفاعل، جوهريا، في التأسيس لامكانية التغيير والتطوير التي تلتها بالكامل. فالرومنسية هي التي تصدت مباشرة للمنظومات الاجتماعية القائمة، وهي التي فتحت مقولة الجنس الأدبي الى أقصاها حتى صار من الطبيعي، بالضرورة، ولادة باقي حركات التجديد التي تقف على رأسها مجلة «شعر» اللبنانية التي ظهرت الى الوجود عام 1975، وعكست في جدلها النقدي آخر ماوصل اليه الأدب في الثقافة العربية إبان قوة وفاعلية الرومنسية، ويقف على رأس المجددين فيها أدونيس وأنسي الحاج، كأهم اسمين عرفهما القارئ العربي من جهة التنظير أو النص الأدبي، وإن كان أدونيس المنظّر الأكبر، وكما درج النقاد على تسميته بـ«شيخ المنظرين»، الا ان دعوة أنسي الحاج الشهيرة في مقدمة «لن» كان لها أثر كبير مازال صداه يتردد الى الآن. وكذلك الاحتواء الذي مثلته «شعر» حيث احتضنت المواهب الجديدة ومنها محمد الماغوط وخليل حاوي. وصارت قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة الى جوار القصيدة العمودية التقليدية، واتخذ التنظير النقدي والفكري حول الشعر والشاعر مكانا واسعا حتى بدا رواد الحداثة الشعرية مفكرين متكلمين بالاضافة الى كونهم شعراء مجددين.
القيمة المستمدة من اتحاد الرومنسية بالحداثة الشعرية تكمن في أن مفهوم الجنس الأدبي لم يعد معيارا مطلقا للشعرية، وهو تطور ترك أثره حتى الى مابعد الجيل التالي، جيل السبعينات والثمانينات وتجارب التسعينيين، إذ صارت الشعرية مفهوما غير قابل للتعيين، على الأقل في الشكل العام، وصار بالامكان أن تكون الشعرية مساحة متاحة بالكامل للاختلاف الجذري، كما نرى في تجارب التسعينيين، أو الاضافة التي مثلها الشعر الثمانيني والتي تتجلى بنسيان البلاغة والانصراف الى العلاقة المحددة بين اللفظ والمعنى على خلفية العيانية والحسية والذاتية. اتحاد الرومنسية الطبيعي مع الحداثة الشعرية هو الذي أوصل الوعي النقدي العربي، والشعري، الى تلك المكانة الهامة التي يحتلها الآن. إذ لم يعد الجنس الأدبي معياراً للشعرية، ولم تعد الكتابة الشعرية حكرا على شكل دون آخر، وتجاور النثري بالعمودي والتفعيلي دون أي إعاقة ممكنة، هنا يجب التذكير بالاصطدام الذي عانت منه المرحلة الرومنسية إذ انها كانت تكافح حتى في أبسط القناعات التي نعتبرها الآن بديهية، ويعرف القارئ كمية ماواجهت الرومنسية، والحداثة، من عوائق سواء في القبول أو في الفهم أو في الاتهامات التي أخذت حيزا كبيرا ثم مالبث أن نسيها التاريخ وبقي النص ومنجزاته.
الحال الراهنة الآن هي حال من الا نفتاح اللامتعين على الشكل، سواء منه التفعيلي أو النثري وشيء من العمودي. المواهب الآن تقطف ثمار ذلك «الكفاح» القاسي الذي قامت به الرومنسية والحداثة، وماكان في السابق مختلفا عليه شكلا ومضمونا صار الآن حقيقة غير قابلة للنقاش. أي أن المتاح للأبناء من الثراء بمكان يمكن معه الممارسة النصية في أعلى الأشكال تلقائية وبساطة وتجريبا. بدءا من الاصطدام الذي مثلته الرومنسية ورموزها الذين أشرنا اليهم، ومرورا برواد الحداثة وماتلاها من أجيال.
إلا أن الجزء المتمم، بل في الأساس التكويني، هو دور الوعي بالهوية في تأسيس نظرية الشعر العربي وهذ يقود إلى خريطة الرواة والمصنّفين وكذلك دور الصراعاة الدينية في هذا الأمر.وسنعمل في مقال لاحق على توضيح دور الصراع الهوياتي الطابع في غلبة العمل على المعنى أكثر منه عملاً في الأدوات، على اعتبار أن المعنى الشعري كان يقود على الفور إلى سمات حياتية معينة استخدمها النقاد المتحرّرون عن المنحول والأصيل في المنقولات الشعرية لكشف بنية النحل الشعري التي كان للمعرفة بايام العرب وعاداتهم الدور الأكبر في الكشف عن منحولها وأصيلها. لهذا اكتفينا هنا بنشر بنية العمل نفسها ومصادرها ومراجعها وصوغها الحرفي الكامل ما خلا تعديلات معينة افترضتها الزيادة والتوسع. وهنا ننتقل إلى الإشارة لموضوعة مزاج شعري محدد اختيرت في سنة معينة سبق ودرسناها مع نماذجها، توضيحا لمسألة الحس بالزمن تلك التي أشار إليها الراحل الكبير إحسان عباس.
مزاج الألفية أم تغير فطري؟
في نظرة منتقاة من بعض مانشر،يكاد يكون المزاج الشعري الواضح المعالم، للكتب الشعرية الصادرة، مثلا، في العام 2003 يحمل الكثير من علامات التشابه، لالجهة التكرار والتطابق، بل لجهة تأصل بعض من القيم الكتابية الجديدة، والتي تتوحد في مستوى ما للأنا الشعرية يتناقض مع شكلها الاستعلائي البلاغي. وكي يتم التعبير عن«الحجم» الجديد لـمعنى «الأنا» تلك هو العلاقة المباشرة مع أشياء العالم المحيط، من خلال تطابق اللفظ مع المعنى في حالات متعددة تتجاوز الاسم الى الفعل وتتجاوز مستوى المجازي الى مستوى الخبري. في تداخلات تحصّل في نهاية مدلولها أساساً بطابع اشتغالي محض، لايخص منتجي النصوص بقدر ما يخص العملية الأدبية برمتها.
وبالانتقال إلى الطابع الاشتغالي، ذاك، ومن خلال أساسه المعرَّف في السابق، يمكننا أن نقرأ السمات السالفة، أو بعضها، في الكتب التي صدرت في العام المشار إليه، ككتاب أرق النموذج للشاعر المصري محمد المزروعي. وكتاب الشاعر اللبناني فوزي يمين (توقفوا أريد أن أنزل) وكتاب الشاعر السوري حسين درويش (حديقة الغرباء). في مستوى ثان نجد الميل، مرة أخرى، الى تعويم اللغوي البلاغي لناحية تجسيم الأثر الصوتي للكتابة الشعرية مثل كتاب الشاعر السعودي أحمد الواصل (هشيم) وكتاب الشاعر السوري هادي دانيال (كأن الردى بردى). من ناحية أخرى تنتمي لامكانية النثر المفتوحة على السرد، وتحديدا نجد كتاب الشاعرة الاماراتية ظبية خميس (درجة حميمية) والشاعر اللبناني سامر أبوهواش (جورنال اللطائف المصورة) وكتاب الشاعر اليمني منصور راجح (بعيد – قريب). كذلك كتاب الشاعرة العراقية أمل الجبوري (تسعة وتسعون حجابا) الذي يعكس جدلا عميقا بين قيم كتابية تنتمي لأكثر من مزاج من اللغوي الى البصري الى البلاغي والى السردي والتقويمي. لم يعد هاما ذكر تلك الظواهر تراكميا، أي ماصدر بالترتيب في عام واحد، فقد عرفها القارئ منفردة، لتنتقل الاهمية الى المزاج الشعري العام المشترك في مايمكن أن تقوم به الكتابة الجديدة. ونقصد في الكتابة الجديدة التحول الداخلي الجوهري الذي حصل في ثمانينات التجربة الشعرية وامتدادها المفتوح والمتسع. وهناك بعض تجارب شابة نذكر منها الشاعر الكويتي سعد الجوير في كتابه (ظل لاترسمه نخلة) وكتاب المغربي محمد المغربي (على العتبات الأخيرة).
وفي شكل آخر ومن الوجهة ذاتها، يبدو الى حد ما ويستمر توضّح السمات العامة تلك في الكتب الشعرية التي تمكن القارئ من الاطلاع عليها. مع متابعة الشعراء لمشاريعهم الشعرية كما في كتاب (لاتعتذر عما فعلت) للشاعر محمود درويش. وكتاب (ملك أتلانتس) للشاعر سميح القاسم. أما أدونيس فقد صدر له اسطوانة عن شعر الحب سجلها بصوته. وكذلك (الجسد بلا معلم) للشاعر عباس بيضون. ليس من الضرورة بمكان أن تتم قراءة العمل الشعري على ضوء منهج الاسبقية النقدية، وهو مالم يحدث، الا أن بعضا من الكتب تجمع، بوضوح، في أكثر من مزاج، مع أن للأمر ماله في «الهوية» الشعرية وربما الصوت الخاص مثل كتاب الشاعر والمسرحي اللبناني شكيب خوري (حروف الأزمنة). لكن يبقى الكتاب الأخير في إطار من الامكانية المفتوحة للتعبير الشعري. نجد كتبا جديدة، في زمن نشرها، الا انها آثرت إلحاق الزمن الجديد بآخر لاينتمي للتخوم ذاتها بل يكاد يناقضه مثل كتاب الشاعر اللبناني لامع الحر (أبابيل على وتر الكرنفال) وهو من الكتب التي تنتمي الى ذاتها الى الدرجة التي لايمكن أن تستمد أي قيمة شعرية حقيقية من مزاجها الشعري. بمعنى جانب التطابق والتكرار الذي تمثله على خلفية المحاكاة غير الفلسفية.
هل يمكن الاعتراف بأن هناك نوعاً من الاتفاق المشروط بين التجارب الشعرية العربية الجديدة؟،والملاحظة التي تبرز، هي الدور المنظور الذي لعبته الصحافة الالكترونية في وضع هذه التجارب في مواجهة النماذج وفحصها وإخضاع المبادئ الى آلية الجذب والاصطفاء. هكذا يمكن فهم ذلك المناخ الشعري، الموحد، في «الشعرية العربية» التي تتقارب وتنسجم لتشكل مايمكن أن يكون، وبقوة، المناخ الشعري الجديد. الى الدرجة التي يمكن فيها أن يكون تسارع المقاربات الشعرية جدلاً وفرزاً يتحول المركز ويلغي التفاوت «التقليدي» بين مكان وآخر، أي ان العاصمة الشعرية حوّلت نفسها نصا قابلا للتنقل والتغير على أساس من حمل قيم الكتابة كما لو ان مايكتبه محمد متولي في مصر قد استفاد من العناصر التي رافقت نص اسكندر حبش أو أحمد النسور مثلا أو نص أحمد السلامي أو خضر الآغا. هذه نقطة تتوضح بتسارع وللصحافة العربية الجادة والواسعة الانتشار دور أساس في تحويل «العاصمة الشعرية» الى نص، وإمكانية تغير هذا النص عبر الطبعة المحلية لنظرية «موت المؤلف».
القصد الاشارة الى الحوار الشعري الفعلي، الجوهري والدينامي الذي لايجعل من المعطى ملكية خاصة للنص، لأن هذا المعطى انتقل من كونه أثرا خارجيا صرفا الى أثر لغوي دال وفاعل، وإلا كيف يمكن أن نفهم النجاح الذي حصل ، دفعة واحدة ، في عد ة عواصم شعرية، لنقل، بحيث أن مانجح في اختباره فوزي يمين أو محمد المزروعي أو عبد المنعم رمضان قد تم تعميمه كما لو أنه لم يعد هناك من نص منعزل يصغي الى نفسه؟ ان نجاة النص من الابتداء المتكرر الممل والأقل ذكاء صار سمة وصار الزمن مرتبطا في ساعة النص ووقت الكتابة وليس التوقيت الخارجي القديم الذي بالفعل أسس، أحيانا، للعواصم، ونفى النموذج أو المناخ الشعري. وهنا، مرة ثانية، ودائما، يرجع الدور في تموين هذه الظاهرة للصحافة العربية «القوية» والمنتشرة في أرجاء العالم الى الصفحة الثقافية النشيطة والعاكسة للحراك في تلك الصحف أو «تلك الصحيفة!» له الدور التقني في خلق النموذج الحواري الفاحص والمحدد.
الهوامش
١- يشار إلى أن مصادر هذه الدراسة، وبنيتها المنهجية، نشرت في غير مكان، كتاب وسواه. وتحتمل استخداماً متكررا بصفتها أساساً معرفيا يتغير بتغير السياق الخاص.
٢- تاريخ النقد الأدبي عن العرب. إحسان عباس. دار الثقافة- بيروت. ويعني في قوله «لم يأت أي من النقاد العرب القدامى الا واعتبر الشعر في أزمة» ان المعيار النقدي،دائما، يطرح نفسه بديلا وحيدا لايقبل غير نفسه، مع أن الشعر، إذ ذاك، يكون في أحسن أحواله.
٣- عيار الشعر. ابن طباطبا. القاهرة. 1956.
٤- محمد مصطفى هدارة. أشير اليه سابقا.
٥- المصدر السابق.
٦- المصدر السابق.
٧- المصدر السابق، بيت الشعر وماسبقه، ويحيل هداره المرجع الى ديوان أبي نواس طبعة «فاجنر».
٨- المصدر السابق.
٩- الموشح، في مآخذ العلماء على الشعراء. المرزباني.ص 234 دار الكتب العلمية. بيروت. الطبعة الأولى. 1995.
١٠- المصدر السابق.
١١- محمد بن سلام الجمحي، توفي سنة 231 هجرية. في كتابه «طبقات الشعراء»(دار الكتب العلمية. بيروت. 2001. تقديم : جوزف هل) يعرض لكثير مما شاب رواية الشعر العربي وكان سباقا جريئا الى كشف المنحول منه والحقيقي عبر مبررات مختلفة : «ولم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا أبياتٌ يقولها الرجل في حادثة. وإنما قصِّدت القصائد وطُوِّل الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف» ويسمي الرواة المتزيدين «داوود بن متمم وحماد الراوية، الذي كان ينحل الشعر غيره ويزيد في الأشعار» وحسان بن ثابت «وضعوا عليه أشعارا لاتليق به «وعدي بن ثابت» يسكن الحيرة ومراكز الريف فلان لسانه وسهل منطقه فحمل عليه شيئا كثيرا «وعن قريش فهي «تزيد في أشعارها». وعن سبب ضياع حقيقة الشعر العربي «جاء الاسلام فتشاغلت عنه – أي الشعر – العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزوا فارس والروم ولهيت عن الشعر وروايته فلما كثر الاسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يألوا الى ديوان مدون ولاكتاب مكتوب فألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل فحفظوا أقل ذلك وذهب عنهم منه أكثره» وعن أسباب التزيد في رواية الشعر «فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وماذهب من ذكر وقائعهم وأشعارهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسن شعرائهم، ثم كانت الرواة فزادوا في الأشعار». هكذا ينتبه القارئ الكريم الى المدى الذي يعطيه الجمحي للاطار التاريخي في نظرية الشعر.
١٢- عيار الشعر. مصدر سابق.
١٣- ولد في دمشق وذكره عبد الرحمن بن يوسف الذهبي في «تراجم بعض أعيان دمشق» والمرادي في «سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر» والمحبي في «نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة».تأثر النابلسي بالمتصوف الشهير ابن عربي، حيث سكن النابلسي الحي الذي دفن فيها ابن العربي. وتأثره به جلب عليه متاعب شتى فترك دمشق وزار بغداد وفلسطين ومصر.وعاد الى دمشق وعاش عزلة شديدة ودخل داره ولم يكن يخرج منها، وبقي على تلك الحال حتى توفي عام ١٧٣١ م.
١٤- هو عبد الرحمن محمد الحسيني. من أشراف دمشق. مات صغير السن كما يلاحظ. كان يرافق أباه في الرحلات وألم باللغتين التركية والفارسية. موته صغيرا دفع الباحثين للتعاطف معه الى درجة يضخم فيها «المحبي» من خبر موته :«فجعت فيه بنو الآداب» حتى أن خليل مردم بك يقول عنه مبررا غياب الهجاء من شعره : تنزَّه عن الهجاء!. ويورد المحبي أن لابن النقيب كتابا في أهل الطرب والمغنين. وعلى الرغم من حبه لأهل الطرب الا انه لم يكن يحب الاختلاط بالناس فقد ولد عليلا ضعيف الجسم.
١٥- عمر يوسف باشا. تاريخ الأدب العثماني.
١٦- تاريخ الأدب العثماني. عمر يوسف باشا.
١٧- وماأنا منهم بالعيش فيهم ولكن معدن الذهبِ الرغام (المتنبي).
١٨- تاريخ الأدب العثماني. مصدر سابق.
١٩- ديوان ابن النقيب الحسيني. تحقيق خليل مردم بك. دمشق. 1963. وكذلك كتاب «جمهرة المغنين» للمؤلف نفسه جمع فيه أخبار الشاعر.
٢٠- المصدر السابق.
٢١- المصدر السابق.
٢٢- المحبي. مصدر سابق. ويضيف المحبي بأن أب الشاعر كان سيء الصيت ويغالي في الكبر والتيه، واذا خاطب الناس فبلسان بذيء فيصفه المحبي بقوله : رجلٌ إساءته أكثر من إحسانه. بعدما توفي الأب أراد الشاعر تعويض الناس عن اساءة أبيه ففتح بيته للجميع وبدد الثروة فابتعد عن دمشق باحثا عن حلول لمشاكله بعدما انصرف الناس عنه لفقره، وعاد الى دمشق ولم يخرج من داره وأصيب بنوع من أمراض الشيخوخة حتى مات وحيدا.
٢٣- تاريخ الأدب العثماني. مصدر سابق.
٢٤- المصدر السابق.
٢٥- الشعر العربي الحديث/ الرومنسية العربية. الجزء الثاني من مشروعه النقدي. دار توبقال. الطبعة الأولى. 1990.
٢٦- المصدر السابق.
٢٧- المصدر السابق.
٢٨- المصدر السابق.
٢٩- المصدر السابق.
٣٠- المصدر السابق. وفي الأصل المنشور يبدو البيان ثوريا الى الحد الذي يجعل منه، بحق، أول بيان جمالي شعري في الشعرية الأوروبية الحديثة.
٣١- المصدر السابق، وماسبقه.
٣٢- المصدر السابق. والصفحات من ٢٣ الى ٢٤ و٢٥ الى ٢٦.
٣٣- ابراهيم ناجي 1896 – 1953 درس الطب وتخرج عام 1922 وبدأ حياته الشعرية عام 1926 بترجمة أشعار الفريد دي موسيه وتوماس مور وانضم الى جماعة «أبولو» الشعرية عام ٢٣٩١ وأصدر ديوانه الأول» وراء الغمام» عام 1934 ثم» ليالي القاهرة». وبعد وفاته نشر له «الطائر الجريح». هاجمه في البداية العقاد وطه حسين لعلاقته بأبولو ووصف حسين شعره بأنه» شعر صالونات ماأن يخرج الى الخلاء حتى يأخذه البرد من جوانبه». أعلن ابراهيم ناجي أنه تلميذ مطران. من تاريخ الشعر العربي الحديث لأحمد قبش، دمشق، ١٩٧١.
٣٤- علي محمود طه 1902-٩٩٤١ ترجم قصيدة «الليل الكئيب» لروبيرت بيرنس وترجم من لامرتين وشلي والفرد دي فيني. بدأ النشر عام 1932 وزار أوروبا. كتابه الأول «الملاح التائه» 1934 ثم «ليالي الملاح التائه» و«أرواح شاردة» و«أرواح وأشباح» ومن قصائده الشهيرة «الجندول» و» كليوبترا» و» ليالي كليوبترا» وهو واحد من جماعة أبولو. من كتاب شوقي ضيف «دراسات في الشعر العربي المعاصر» وكتاب «الأدب العربي المعاصر في مصر» وكتاب «علي محمود طه. شعر ودراسة» لسهيل أيوب.
٣٥- الياس أبو شبكة 1903 – 1947 من مواليد الولايات المتحدة الأميركية لأبوين مارونيين من مسيحيي لبنان، لكنه ترعرع في لبنان الذوق بكسروان ودرس الفرنسية أيضا. وهو من أهم الأصوات الشعرية العربية الرمزية، والغريب عدم تصنيف محمد بنيس له. ضاع من شعره ونثره الكثير، وهو يمتاز بروح ثائرة متفجرة قل نظيرها في تاريخ الأدب العربي كله. صدر له قصيدة «غلواء» عام 1945 في كتاب كونها من ٩٨ صفحة وكتاب «في طريق السر» وهوقصيدة طويلة من 1800 بيت شعر وديوان «نداء القلب» و«الى الأبد» و«من صعيد الآلهة» و«الألحان» والديوان الشهير «أفاعي الفردوس» عام 1938 ويعبر أبو شبكة عن أسلوب رمزي واضح وخصوصا في «أفاعي الفردوس» الذي كان تحفة من تحف الشعر العربي. من كتاب صلاح لبكي «التيارات الأدبية الحديثة في لبنان» وكتاب» لبنان الشاعر» للمؤلف نفسه.
٣٦- خليل مطران 1872 – ١٩٤٩. يتفق أغلب النقاد على أن الدعوة التي أطلقها مطران عام 1905 في مجلة المجلة المصرية الى تحرير الشعر العربي من القيود، كانت بداية مرحلة التجديد في الشعر العربي المعاصر حيث طبق دعوته في ديوانه الذي نشر عام 1908 طارحا وحدة القصيدة وتجديد المضمون وتطعيم الشعر العربي بالشعر الغربي. أنشأ كثيرا من الصحف والدوريات وترجم الكثير من الأعمال الأدبية لشكسبير مثل «مكبث» و«هملت» و«عطيل» و«تاجر البندقية» و«السيد». له العديد من الدواوين المطبوعة. من كتاب «معجم المؤلفين» لرضا كحالة. وكتاب ابراهيم سليم النجار «خليل مطران».