طلائع الفن العربي المعاصر
الفن العربي المعاصر: يتطلب هذا العنوان العام والتركيبي بعض الإيضاحات; ذلك أن المعاصرة, باعتبارها حاضرا خاضعا للتأجيل المستمر, هي تعايش بين أنماط عديدة من الحضارات, تمتلك كل واحدة منها ماضيا تليدا متفاوتا في القدم والتبجيل, متميزا بقوة الابتكار والحفاظ على تراثه.
إن ما نقوم به عادة من تمييز بين الفن »الحديث« والفن »المعاصر« يظل مثار غموض. فأين يبدأ الفن الحديث? هل يبدأ مع الانطباعية? أم مع التجريدية? وأي تجريدية نعني? يقال إن الفن المعاصر قد انبثق في الخمسينيات بعد حرب بالغة الضراوة, باعتباره بالتأكيد نظرة جديدة على عالم منهار ويعاني من التقلبات. هذا التقطيع التاريخي أمر لا يقبل النكران; بيد أنه بتمركزه حول التجربة الأوروبية والأمريكية الشمالية, لا يقدم نظرة مكتملة عن ابتكار الحداثة والمستقبل في دوائر حضارية أخرى. إن هذا يعني بأننا نسعى إلى التفكير في الزمن والفضاء في أبعادهما المتعددة المركز, أي في تاريخهما وجغرافيتهما وفنهما متداخلة ومجتمعة . فبعد أن تكون الخصائص الكبرى لحضارة معينة قد منحت قيمتها الحقة, آنذاك يمكننا مقارنتها بحضارات أخرى, وإبراز القيمة المتبادلة للحضارات الفاعلة في مسألة الفن, وتماثلاتها وأصالتها, وحوارها أيضا. فالمقارنة تأتي بالتمييز. تلك هي مقاربتنا في هذا البحث.
حين استعلن الفن العربي الإسلامي في الحداثة كان قد اكتسب, من زمن, مهارات وموروثا غدت كلاسيكية. وإذا كان لنا أن نحدد الخصائص المميزة لهذا الفن الكلاسيكي, فإننا سنجد أنه موسوم بالمزي ات التالية: استقلال اللون, وصفاء الأشكال, وهندسة »مطلقة« (حسب عبارة مفعمة بالإعجاب للوكوربيزييه), وقوة الز خرفي سواء في العمارة أو التوريق أو الز واقة, أو المنمنمات والخط والفنون والحرف الاستعمالية بتنوع موادها, من حجر ومعادن ونحاس وجلد وورق وحرير… الخ. إنها فضاءات عديدة للنظر والمعاينة, يعاد نسخها من قرن لآخر تبعا لصيغ تتميز بهذا القدر أو ذاك من الثبات والتغير. ومن ثم, فهي وفرة من العلامة والتآليف لا ينقصها الجمال ولا تخلو من قوة غامضة محيرة.
هكذا بدأت أوروبا تكتشف تدريجيا هذا التراث الكلاسيكي العربي الإسلامي. ونحن لا ننسى هنا المعرض العالمي بفيينا (1873) الذي كان مسرحا لاكتشاف حضارة مغايرة. من ثم أيضا ينبع سحر الفنانين الذي رحلوا نحو شرقهم, كـ»إميل غراسي« (إلى مصر سنة 1869), وكلود رونوار (إلى الجزائر سنتي 1879 و 1882), وفاسيلي كاندانسكي (إلى تونس بين 1904 و 1905 وإلى مصر وسوريا وتركيا سنة 1931), وموريس دوني (إلى الجزائر وتونس والشرق الأوسط فيما بين 1907 و 1910), وألبير ماركي (الذي قام بزيارات عديدة للمغرب والجزائر بين 1911 و 1945), وبول سينياك (إلى تركيا سنة 1907), وهنري ماتيس (الذي زار المغرب لعدة مرات منذ 1912), وبول كلي (إلى تونس عام 1914, ومصر عام 1928), وأوجست ماك (مع بول كلي إلى تونس), ودايرك ووترز (إلى المغرب في 1013), وراوول دوفي (إلى المغرب سنة 1925) وأوسكار كوكوشكا (إلى تونس والجزائر ومصر والشرق الأوسط بين 1928 و 1930), وعدة فنانين آخرين مثل بايير, ومارك شاجال, ودو ستيل, الخ, حتى فناني الأجيال الحالية. وبلوحة »نساء الجزائر العاصمة حسب دولاكروا« (مجموعة بيكاسو), كان بيكاسو يحتفي سنة 1955 بقرن كامل من الاستشراق في مجال التشكيل«.
تبعا لذلك, يظل الفن العربي الكلاسيكي, بشكل ما, يخترق حداثتنا. فقيمة الفن ذي الأشكال الثابتة, الذي يخضع للرغبة في الخلود, لم تكف عن بصم نظرة التشكيليين وذاكرتهم البصرية, كما لو تعلق الأمر بسفينة ثيزي Thésée التي يتم تغيير بعض عناصرها خلال الرحلة. وهذه التقنية المتمثلة في تغيير المنظور هي المبدأ الثاني لمنهجنا.
لهذا تشكل المعاصرة في ذاتها شبكة مكونة من عدة هويات تشكيلية. إنها نسيج من الصور والعلامات. لنأخذ مثلا »التجريدية« التي يتسم بها الفن العربي الإسلامي, والذي رسمنا ملامحه الأساسية. إن هذه التجريدية نابعة من حضارة للعلامة, حيث ظل الكتاب, بخطه وقوته الزخرفية, المعبد الكتابي الذي يمنح لكل معاينة visualisation أخرى معناها الفعلي; وهي بأشكالها الخالصة والهندسية, ليس لها نفس التاريخ ولا نفس التأليف الجمالي الذي يتميز به الفن التجريدي الغربي. فالنظر إلى العالم »بعيون« الكتاب والتوريق, يفترض فكرا متوحدا مع تلك الرغبة في الخلود. وقد أسر لنا بول فاليري, هو الذي تأمل في الحضارات وموتها, بما يلي عن الفن العربي الإسلامي: »إن المخيلة الاستنباطية الأكثر تحررا, والتي واءمت بشكل باهر بين الصرامة الجبرية ومبادئ الإسلام التي تحرم دينيا كل بحث عن محاكاة الكائنات في النظام التشكيلي, هي التي ابتكرت التوريق. وأنا أحب هذا التحريم. فهو يجرد الفن من عبادة الأصنام, ومن الخيالات الزائفة والحكي والاعتقاد الساذج ومحاكاة الطبيعة والحياة, أي من كل ما ليس خالصا ومن كل ما لا يكون خصبا بذاته, بحيث إنه يطور مصادره الباطنية, ويكتشف بذاته حدوده الخاصة, ساعيا إلى بناء نسق من الأشكال يكون مستنبطا فقط من الضرورة والحرية الواقعيين التي يقوم بإعمالهما«.
إن هذه الحضارة هي حضارة العلامة التي تغدو صورة, بينما الحضارة الأوروبية, منذ الإغريق, منحت الاستقلال للصورة في علاقتها بالعلامة وسلطتها, بالشكل نفسه الذي تحقق به ذلك قبلها في مصر الفرعونية, خاصة في مضمار النحت. إنه الاختلاف الحضاري الذي يحمل في طياته الإمكانات الإبداعية الخلاقة, كما يمكنه أن يغدو مجالا لاضطرابات الهوية إذا نحن انتقلنا من هذه التراث لذاك. ربما لم يكن الرجوع المنتظم للفن الإسلامي القديم من ق بل التشكيليين العرب (بل أيضا من ق بل فنانين عديدين غير عرب) كعنصر ومقطع من أعمالهم, فقط تعبيرا عن الحنين الانطوائي وتقديسا للر قع والأطلال; ربما كان ذلك الرجوع يخفي السر التشكيلي لكل حضارة تستمر, في موروثها البصري, في الحجب الدائم للحياة والموت بفن الأوهام. لكن ربما كان على الفنان أيضا أن يرو ض الماضي وهو يبتكر المستقبل حتى يتجرد العمل الفني وينفلت من الزمن, وحتى يتسامى في سباته المغناطيسي عبر تلك الاستعادة الدائمة للزمن, التي تدعو إلى العمل والمحبة والمعاناة .إن كل فنان جدير بهذا الاسم, منذور إلى الوحدة والصمت والنظرة الجريحة.
بيد أن هذه العودة إلى التوريق والخط والعمارة والفسيفساء والفتنة العدنية للبساط يظل مصحوبا باكتشاف الفن الغربي وتجريديته. وهي عودة لا تمثل في حد ذاتها أمرا مستحسنا أو مستهجنا, وإنما هي وعد ورهان على تحويل الماضي وقواه الباطنية.
ثمة فنانون عرب آخرون تبنوا بشكل قاطع الفن الغربي من حيث هو كذلك, بتشخيصيته وتجريديته,, من غير اهتمام بالرهان الخفي للأصل والذاكرة الذي تفترضه استمرارية الحضارة في الزمن. فقد اكتسبوا المهارة والتقنية وقضايا التوقيع والسوق ورهان المعارض الدولية, وهي لعبة مرايا يجرب فيها كل فنان عربي حظه ويبيع أعماله. إنه يشارك في الحضارة العولمية لتفاعل العلامات intersigne, باعتبارها حضارة تقترح فيها الصورة والعلامة والتقنوعلوم مختبرا جديدا يتجاور ويتنافس فيها اللامادي مع حب الفنان التقديسي للمادة و للمواد والحوامل التقليدية .
إن ما يميز الفن الكلاسيكي العربي الإسلامي في هندسة البيوت والقصور والجوامع هو صفاء الأشكال وعراء الجدران التي تزينها زخرفة خفيفة . وفي الخط, يتبدى ذلك في الصفحة التي نجد فيها كتابة من درجة ثانية تمنح للنص تموجات بين فن الخط واللون والإنشاد الصامت الذي ينبثق من الورقة ومن الفضاء بكامله, كما لو كنا نقرأ من خلال ملفوظ النص حوارا بين صوت منحن هو صوت القارئ, ونظرة مترنمة, أو أيضا في المنمنمة, الإيهام المسطح حيث تغدو الشخصيات الموج هة في فضاء من غير منظور, العلامات المتحركة والمتحولة للمادة نفسها, من ورق وحرير ومداد وألوان… وإذا كان ثمة العديد من الفنانين المفتونين بالخط الصيني الياباني والعربي, فذلك لأنه يغني مخيلتنا الفضائية, مجبرا خطية الكتابة على أن تصير أكثر حركية وأكثر انطلاقا. وقد أصاب كلود ليفي ستراوس بقوله إن الموسيقى والخط يمتلكان خاصية تجريدية رائعة للفضاء/الزمن.
ويتمثل ما تمنحنا إياه هذه الفنون ذات الأشكال القارة أيضا في أوزان الشعر العربي, الذي ما فتئ نبره الغنائي يلهم الشعر الغنائي المتوسطي والأوروبي بدءا من الشعر العذري, وفي الترادف بين الكلمات المنش دة والآلات الموسيقية الأولى المجلوبة من المشرق الخاضع لقاعدة القافية, باعتبار أن ذلك قد شك ل كشفا كبيرا بالنسبة للشعر الأوروبي في القرون الوسطى.
ويعتبر التوريق طريقا آخر للتجريدية, أو بالأدق, لترجمة العلامة إلى صورة. فهنا, لسنا أمام وهم الطبيعة والجسم الإنساني الذي تمنحنا إياه المحاكاة, وإنما أمام الهندسي المتداخل مع العناصر النباتية والحيوانية. إنها هندسية مرتبطة بالترقيم الجبري الذي استخلصت منه, منذ القرن السابع, نقط وإعجام حروف الهجاء العربية, التي بني الخط فيها على ثلاثة مبادئ بسيطة: الخط الأفقي للصوائت والصوامت والحركات الإعرابية. وانطلاقا من هذه القواعد, أصبح بإمكان يد الخطاط بلورة وارتجال لوحة علاماته, مثله في ذلك مثل الشاعر في علاقته بالوزن. ويستحضر الفنان الفلسطيني كمال بلاطة (المزداد سنة 2491) هذا الأمر حين يحلل العلاقة الخفية بين بلاغة اللغة العربية والتوريق, أي تصنيف الألفاظ حسب ثنائية الجذر وثلاثيته لدى النحاة, وتحويلها بالقلب والنقص والإضافة واستبدال الحروف, أي كل هذا التشجير للجسم اللساني الذي عليه ينبني التوريق. فما نسميه مثلا ومجازا توريق ماتيس لا أصل له في اللغة وتقسيمها إلى علامات مكتوبة, وإنما أساسه في فن الخط واللون, والانزلاق الدقيق بين مستويات التأليف.
وسوف ي دخ ل الفن الحديث والمعاصر, سواء من صلب هذه الحضارة أو خارجها, معطيات جديدة إلى صلب هذه المكتسبات العتيدة التي لا نقوم هنا سوى برسم بعض منظوماتها الأساس. هل توجد لدينا فعلا مجموعة متآلفة من الفنانين? فالعربي, في نظرنا هو ذلك الذي يقدم نفسه على أنه كذلك, هناك حيث يوجد, في مرسمه وفي طرف ما من أطراف المعمورة, مهما كان أصله الجغرافي والديني والعرقي, ومهما كان بلده وأعماله نفسها. فهو باعتباره وريثا لموروث هائل وتراث يحظى بالقداسة, جاهليا وتوحيديا, يتساءل بقلق عن نسيج أصوله العربية والبربرية والإسلامية واليهودية والقبطية والفرعونية والآشورية والسومرية والكلدانية… الخ, باعتبارها صفات حضارية متنوعة طبعت هذه المنطقة بهذا القدر أو ذاك من القوة والاستمرار. بإمكاننا إذن أن نكتفي فقط بصفة »عربي« كما بإمكاننا أن نركب هوية اسمية أكثر تفصيلا: عربي بربري, عربي إسلامي, عربي يهودي, عربي مسيحي, عربي قبطي, وهكذا دواليك تبعا لقاموس غير مكتمل وشامل يعود بنا لتاريخ الفن الطويل الذي يهمنا هنا. وإذا ما نحن أضفنا الفنانين الذين يعيشون خارج بلدانهم الأصلية فإننا سنقيم مدونة أكمل وأكثر معاصرة. فهذا الذي يعيش في برلين, وذاك في باريس والآخر في نيويورك… كلهم ينتمون بذلك إلى المجموعة الدولية للفنانين.
فالعربي هو ذلك الذي يقدم نفسه من حيث هو كذلك. وليس لدينا من معيار آخر غير الانتماء الموسوم والمعلن لهذه الحضارة التعددية, وطبعا للعمل الفني الذي هو مصير الفنان. كثيرون هم الفنانون الذين يسبغون على أنفسهم هذه الصفة. وبدل أن نعرض مقدمتنا للفن العربي المعاصر بلدا بلدا, تبعا للتوالي الزمني أو توالي الأسماء (لكن أين نقف آنذاك?), اخترنا جزافا منهجية متحركة, منصاعين لإيقاع فكري معين قادر على الإمساك بمواطن قوة الفن العربي المعاصر. لقد كتب بول فاليري عن كاميي كورو: ؛علينا دوما الاعتذار عن الحديث عن التشكيل«. ما الذي سنقوله نحن, الذين علينا صياغة مقدمة لأعمال آلاف التشكيليين?
أولوية العلامة
يقول بعض العارفين بأن ثمة ثلاثة نماذج كبرى للحضارات: حضارات الصورة (الحضارة الأوروبية وامتداداتها في أمريكا الشمالية والجنوبية), وحضارات العلامة (الحضارة الهندية والصينية, والإسلامية التي ت قيم قوت ها الرمزية في القرآن باعتباره معبد الكتاب), وحضارات الإيقاع, كالحضارة الإفريقية التي تتمتع بأسطوريات وتصورات عن أصل العالم رائعة لا تخلو من عبقرية تشكيلية, وهو ما ألهم فنانين مبدعين كبيكاسو وجياكوميتي.
هذا التصنيف إذا كان يبسط الأمور, فله مع ذلك فضل إبراز بعض الاختلافات الحضارية. ولنأخذ فن الخط العربي. فالعلامة تحيل أولا على فن التخطيط الحروفي, وهو فن من العتاقة بحيث يضمن الديمومة والاستمرار الحضاري للكتاب.
ومع ذلك كثيرا ما نتناسى, حتى في عالم التشكيليين والرسامين, بأن فن الخط العربي مهارة تقنية متطورة جدا. فهو يمتلك سننه وأساليبه وتقاليده الكبرى. وهو يكتب على حوامل متعددة, من رق وورق وحجر, أي على كل مادة قابلة لأن تحتضن تآليفه. وبما أن الخط كتابة من الدرجة الثانية, فهي تعمد إلى تحويل دلالة النص إلى زينة وزخرفة, مضعفة من مداخل ومخارج القراءة. فهي تمنح الحروف للقراءة معيدة نسج معاني النص وملفوظه. إن التوزيع الذي تقوم به للعلامات يدخل القارئ أو المتفرج في فضاء شعري ليس خطيا البتة, بل يقوم بتعليق مسار القراءة في جدول للعلامات ينمحي فيه التعارض بين الشكل والمحتوى وبين الدال والمدلول. إنه ينتظم لوحا آخر للقراءة, وفضاء غير محدد, منفصما بين الكتابة والحرية الخطية, وبين الخطية والتشكيل, إلى درجة: »يكف معها مسار الخط عن أن يكون هدفا في ذاته. لأنه إيقاع وحجم معا, والحركة الأولى لصورة آتية لا ريب فيها, إن آجلا أو عاجلا, هي العلامة. فمن خلال العلامة ينكشف الإنسان للامنتهى رغبته… «, كما يوضح ذلك فرانسوا شانغ. إنها سطوة رائعة لفن الخط على مستويين: فهو من جهة يقوم بتحويل اللغة إلى فضاء ذي حرية شعرية; وهو من جهة ثانية وفي الآن نفسه يقوم بإعادة تأليف الفضاء المجر د لتحويله إلى أشكال زخرفية.
أما في التشكيل (أو أبداله), فإن الخط يغير من مشهديته ومن سجل ه البصري. إنه يغدو متعلقا بالتأليف التصويري نفسه. وفيما يهمنا هنا, فإن المجال شاسع جدا. فإذا نحن رغبنا في التحليل ولو المختزل لمسألة الحرف في الفن العربي المعاصر, فإننا سنتبين فيها سلسلة محدودة وإن قابلة للتوسيع. فقد كتبنا في مكان آخر ما يلي: ؛يمكننا التمييز في التشكيل الذي يستوحي مادته من اللغة العربية, عدا فن الخط بمعناه الحصري, بين ثلاثة مستويات:
– الحرفية الهندسية: حيث يبدو الفنان, انطلاقا من التشذير التشكيلي للحروف, مسكونا بحلم ترجمة تلاوة القرآن إلى صور. هكذا يغدو ما يشبه الأنشودة (أو الصلاة) مرئيا في الخط والحركة (انظر مثلا جزءا هاما من أعمال الإيراني الزندرودي).
– تجريد الخط المشكل: أي أن الحرف المتناضد على مساحة الألوان يعيد تخطيط اللوحة, ويمنحها من ثم هويتها الثقافية وسمتها الحضارية المبتك رة للعلامات (انظر أعمال العراقي شاكر حسن, أو أعمال منير, التشكيلي الحفري البنجلاديشي المقيم بلندن).
– الحرفية الرمزية: حيث يغدو التشكيل مشهدية مشبعة بالعلامات والكتابات, من حروف عربية وبربرية تيفيناغ, وأرقام سحرية أو طلسمية.كما نجد في أعمال الجزائري رشيد قريشي اهتماما عجيبا بفنون الخطوط الصينية واليابانية.
– الحرفية الزخرفية: (وهي الأكثر تداولا), حيث تخضع الكلمة أو الجملة أو النص إلى بناء مقروء يمثل الحرف المخطوط, وذلك استمرارا للتوريق والخط الكوفي بالأخص«.
يذكرنا جبرا إبراهيم جبرا كيف يقوم الفنان العراقي شاكر حسن (المولود سنة 1925) بتفتيت الحرف, وكيف يقوم فنانون آخرون بتحويل التمثيل التشخيصي إلى تأليف بين الحروف كما قام التركي أمنتو جرنيزي بإخراج فيلم قصير شخصياته من حروف, وهو عبارة عن قصة حب وتماه مطلق بين الإنسان والعلامة المكتوبة. لكن الثورة التي قادها الفنان الإيراني الزنده رودي (المولود سنة 1937) ذات أهمية بالغة على مستويات عدة. فقد قام بتجذير رسم وتشكيل الحرف, وتطويعه لضرورات التخطيطية وإيقاعها, وللون ولهندسية إعجامية حركية, حيث تغدو شكلا خالصا, وتقدم نفسها في أشكال هندسية, وعبارة عن أرقام وخرائطية, وعن رموز وتمائم, بل وفتيشهات وشذرات حلمية, وفي شكل كلمات وحروف مستلهمة من التقليد الكتابي للفن الإسلامي. فالزنده رودي, باعتباره فنانا مسكونا بالتصوف, يعرف جيدا فن الخط قدر معرفته بالفن العالمي المعاصر.
إنها جرأة نادرة حقا; ذلك أن فن الخط الاحترافي عادة ما يتم تعويضه بأبدال له. والخط النسخي أو الكوفي ذو الهندسة الجامدة غالبا ما يستعملان كزخرفة مرسلة libre, بالشكل نفسه الذي نتحدث به عن »تشخيص مرسل«, خارج ضرورة المشابهة أو تناظر الأشكال. كما أن إتيل عدنان (المولودة سنة 1925), وهي شاعرة وتشكيلية عاشقة للكتاب والكتب الجميلة, ترسم أو تمارس التشكيل بكتابة سريعة شخصية يمكننا قراءتها من خلال الشطبات الملونة التي تزخرف النص. وإذا كان النص مقروءا هنا, فذلك ليس هو الحال المعروف لتفتيت الحرف الخطي وملفوظه.
ويذكرنا بلند الحيدري, وهو مصدر معلوماتنا بهذا الصدد, بأن العديد من الفنانين كالعراقيين حسن المسعودي وسعيد الصكار وعثمان واقي الله, قد ظلوا أوفياء لتقاليد فن الخط, بمهاراته وتقنيته الملائمة ومقروئيته, واحترام الأساليب القديمة, بما فيها التأليفات الخطية.
ويعتبر كمال بلاطة في كتاباته النظرية, مستوحيا نماذج الكوفي بهندسته وثباته, بأن ثمة وحدة حميمة وصارمة بين الحرف العربي وشكل الرقم والتوريق. وقد أشرنا سابقا إلى النتائج التي يمكننا استخلاصها في تحليل أشكال الحضارة العربية الإسلامية. بيد أن سياق هذا التقليد العظيم في فن الخط قد تغير. فقد تجرد الحرف من قداسته. وهو الأمر الذي يتجلى واضحا لدى العراقي رافع الناصري (المولود سنة 1940), بتحويل شكل العلامات وتحويل الصفات الدينية المرتبطة بدلالاتها الأصلية.
هكذا يتعرض الحرف إلى تغييرات متعددة. فإما تتم إعادة تأليفه بعد تفتيته, كما هو الأمر لدى الفنان التونسي نجا مهداوي (من مواليد 1937), أو أنه يتوالد بحيث يتكرر الحرف نفسه إلى ما لانهاية بغزارة وحيوية نجد أنفسنا معها أمام هوس بالعلامة المكتوبة المليئة حتى الإشباع والفارغة في الآن نفسه, كما هو الحال مع المغربي المهدي قطبي. هذا التضييق والوخز يبثه الجزائري رشيد قريشي (من مواليد 1947) بمحورته حول وحدة كتابية تذكر بشكل ساطع بالكتابة الرمزية idéographie الصينية. إنها وحدة كتابية محاطة, تبعا للتآليف, بكتابة سريعة تشبه كتابة الفقهاء المغاربيين. وبما أن قريشي متأثر بتقاطع الحضارات الفنية, فإنه يجعلها تتحاور في نسيج من العلامات المكتوبة. إنه انفتاح نحو الآخر, مصحوب بعودة للينابيع المتمثلة في الكتابة البربرية تيفيناغ, التي يربطها أهل الاختصاص بالكتابة الليبية القديمة. فهو خط يجعل التشكيليين والفنانين يحلمون باللغة البربرية الأم. هذه العودة إلى العلامة ما قبل الإسلامية هي معطى من معطيات الذاكرة والنسيان نجده في كل حضارة. فهنالك, لدى المصري آدم حنين (المولود سنة 1929) ولدى آخرين غيره, تشتغل الإحالة إلى الفن الفرعوني والكتابة الهيروغليفية والنحت والعمارة معا. وهنالك في الأبعد, لدى اليمني علي الغداف, ثمة حروف الهجاء الحميرية وذكرى ملكة سبأ, أو أيضا في أعمال الكثير من الفنانين العراقيين, ذلك الحوار المفتوح مع الحضارة الآشورية والبابلية. إنها مسارات تستعيد الزمن, وضرب من الحكاية واقتفاء أثر الأصل خاصة وأن الأساطير, باعتبارها إبداعات جماعية, تشكل بالنسبة للفنان نوعا من المذكرة الحلمية.
إنها مذكرة تثرى بفضل الحوار مع حضارات أخرى نائية. ويصرح الفنان المغربي عبد الكبير ربيع (المولود سنة 1944) بأنه قد تعلم, من خلال التأمل في الفن الصيني والياباني, التأليف المتوازن والمستخلص بين الأبيض والأسود, والفراغ والامتلاء الذي يميز التشكيل الإيديوغرافي الرمزي. كما يوضح أن ليس ثمة من علاقة بين التعبير التجريدي قائلا: »حركتي انطلاقة وإيقاع وصلاة لأنها تبص ر, والإحساس بها عميق وامتلاكها كامل مكتمل«. إنه أثر ذكرى البوذية الزين على هذا الفنان. فعملية التشكيل وصيرورة المرء موضوعا لعمله التشكيلي عملية واحدة.
ربما علينا أن نضيف أن هذه الاستعادة للزمن, باعتبارها أيضا توسعا حلميا في الفضاء, ذات طابع إشكالي أكيد. بل إن أحد الفنانين التشكيليين قد غامر بإنشاء بنايات معمارية في شكل حروف. لكن, ربما علينا أن نبني في المستقبل مخططا هندسيا لمدينة بكاملها في شكل رقعة ضامة بخط كوفي. وهي ستكون لا محالة مدينة كتابا.
إن فتنة المنزع الثقافي تتبدى هنا, فهي تنجم عن العودة إلى الأصول. لهذا يشتغل هؤلاء الفنانون إما بتفكيك هذا الموروث أو بإعادة تركيبه, لكن على حوامل مغايرة وتبعا لأنماط في التشكيل والرسم والحفر والسيريغرافيا مختلفة. ومن ثم ينبع عائق آخر. وهو يتمثل في الشكل الذي يمنح للعمل, والذي يلزم أن يحيل على هذا الموروث ويتجاوزه في الآن نفسه من خلال التجديد المتوافق مع مكتسبات الحضارة العربية الإسلامية من جهة, ومع مبتكرات الفن المعاصر العالمي من جهة ثانية. إن ذلك الشكل يتطلب من هؤلاء الفنانين تجربة جديدة للجدارية muralité والمواجهة والتأليف بين الألوان, ولتدخل العلامات وأشباحها.
عمل الفنان العراقي ضياء العزاوي (من مواليد 1939) على تجاوز هذا العائق بطريقة أشبه بطريقة التكعيبيين, وذلك عبر هندسية يتم ضبطها من خلال إشراق الألوان والمشهدية الحركية: ؛فالحروف تتجمع في شكل دائري حول فضاء مركزي كعقد من الثعابين المتواشجة بدينامية, في حركة لها طابع الوجد والتشنج«. أما شاكر حسن فيتحاور مع الموروث في فن الخط بقوة الأثر والبصمة, المصحوبة بكتابات متنوعة على لوحة/جدار محزوزة ومرشوشة, تارة بنوع من المواجهة القاسية, وتارة بإدخال المنظور فيها بحيث تضطرب وتنصاع وتشطب. إنه اختبار لنموذجين في التجريدية نلمسهما, ويشكلان توح دا بين الهوية الثقافية للفنان وخاصية الفن العالمي.
كثيرون هم الفنانون الذين تمارس عليهم العلامة المكتوبة جاذبية كبرى, باعتبارها شاهدا citation زخرفيا يتساكن مع تشخيصية مرسلة, طبيعانية أو ما فوق طبيعية (خرافات شعبية, أساطير, أماثيل … allégoriess), أو مع توابع تزيينية كالمقاطع العمرانية والفسيفسائية ورسوم الزرابي…
إن مسألة الاستشهاد القائم بين الحضارات المختلفة وبين أعمالها الفنية مسألة شاسعة. إنه حوار لا متناه, بل هو أيضا أساس كل فن. هكذا يمكننا وضع جنيالوجية للشاهد, وبإمكاننا أيضا وصف مراحله وتتبع الإحالات والتأثيرات والمحاكاة الجزئية. وسنكون قادرين, في التاريخ العالمي للفنون, على تشجيع إقامة مدونة ودائرة معارف مقارنة بين أنماط الشاهد. وفي هذا يكمن أساس علم جديد من اللازم تطويره, أي سيميائيات جامعة intersémiotique بمناهجها وأنظمتها الإحالية. ونحن هنا لا نقوم سوى برسم معالم هذه الفكرة.
وحتى نظل قريبين من الخيال الفعال للفنانين, نرى بأن الحلم التخطيطي المشتغل بين الحرف واللون والمادة, يتضمن تفاعلا بين العلامات المب ن ي نة لحرية تداعيات الفنان وولعه بالأثر في روحه السحرية. والتخطيطية graphisme هي التي تمسك بالإيقاع المباشر لذاك السحر, وذلك في صيغة مبلورة سلفا. أما تلك التخطيطية فهي ارتجال تحت المراقبة تتبلور بتسلسل إيقاعي, بالشكل الذي تحقق به ذلك في مجال آخر هو المجال المتفرد لموسيقى الجاز.
هكذا يحدث لخطاط الحروف هذا أن يصاحب الكتابة بالألوان فوق ورقة تترن م مساحتها وتتماوج في القراءة ومعزوفتها المتكونة من علامات مقطوعة عن دلالاتها. آنذاك يتلون نظر القارئ أو المتفرج الذي ينبثق في فورة الألوان هذه وجاذبيتها. وعبر هذه المقاربة يمكننا الإمساك الأفضل بالخطوط المتماوجة خلف اللوحة التي يرسمها فنان حركي بالشكل الذي نعنيه.
وفي فن الخط الفارسي كانت هذه التحولات للعلامات عميقة في إبداعها. فالكتاب شاهد من شواهد التشكيل, وإطاره يتغير في بعده, وحامل ه يتنفس بشكل مغاير من ورقة لأخرى. لقد كان فن الخط الفارسي وراء اضطراب وحيرة معنى القراءة, إذ رمى بها خارجه بطريقة يلزمنا معها لقراءة قصيدة أن نقلب الأوراق في وجهات متعددة. فقد أغنى التخطيط المعاصر الكتاب الدائري بابتكارات التشكيل المعاصر. هكذا تملأ يد مليحة أفنان (وهي فنانة لبنانية ولدت سنة 1935) الصفحة ملء عبر حفرية الصفحة, ويقوم الفنان العراقي صلاح الجمي ع (المولود سنة 1913) باستيحاء مخطوطات قديمة عبر استعمال الألوان المائية على الورق ومقاطع من الكتابة المسمارية, فيما يربط آخرون الحرف بالحركة التي تصفيه تارة وتارة أخرى تحيله على الغموض, وكل هذا يبين عن قيمة فن الخط وقوته الباهرة بوسائل متعددة.
بعض حضارات العلامة أرست قواعد لخلود هذا الفن عبر الطابع الهندسي المحسوس, الشفاف لكل المواد كما هو حال فن الخط العربي الإسلامي, أو عبر التوازن بين الفراغ والامتلاء كما هو الأمر في الخطين الصيني والياباني. وهذه القواعد لاتزال حية مثلا في أعمال زاو ووكي Zao-Wooki , وهو ما يمكن اعتباره علامة على الاستمرارية ومكتسبا كبيرا. بيد أن تطور الفن المعاصر في العالم العربي, فيما وراء الشاهد الزخرفي, يلاقي عائقين يحد ان من مدى العلامة: المنزع الثقافي والمنزع الشكلاني. لهذا السبب تستدعينا أعمال الفنان المغربي أحمد الشرقاوي (1934-1967) وتثير اهتمامنا. فقد منح للتشكيل العربي إشراقا فريدا عبر حركة فنية خاصة به.
ليس ثمة في أعمال الشرقاوي من تعبيرية تجريدية, ولا من لط خية أو حركية وإنما ثمة صرامة الخطوط والعلامة التي تغدو شكلا ولونا. إنها وحدة في التأليف وتوازن ونقاء وتعديل مستمر للمجموع في أسلوب لم يكف عن التوض ح فيما هو يعمق رهافته. وبما أن الشرقاوي اشتغل كاتبا عموميا بالدار البيضاء فقد خبر مهنة الخط المغربي وممكناته. لكنه في الستينيات دخل في بحث شكلي وكتابي تصويري متبلور جدا.
يعمد الشرقاوي إلى عزل مساحة قريبة من البيضاوية أو في شكل مستطيل, وهي ضرب من التخطيط الأحادي المركزي يستحيل أمام عين الناظر إلى لوحة داخل اللوحة, أي لعبة مرايا وتنويعات على العلامات والألوان والتغيرات المفترضة. وثمة أيضا تقنية أخرى تتمثل في قماش القنب المتراكب الذي يتماوج حتى حوافيه, فيمنح للوحة إيقاعا وتراكبا بين مستويين, ومعادلة من التناغم والاستبدالات المتوالية بين العلامات والتلاوين والمواد. تجري العين في هذا الفضاء, تتوقف, تأخذ وقتها أمام تحولات هذا الفضاء الذي هو نفسه والآخر. وثمة تكمن حرية الفن باعتباره استكشافا لرغباتنا الدفينة.
ليست الهندسية الرمزية والكتابية التصويرية التي تعتمدها أعماله هنا لكي تبهرنا, وإنما كي تلطف من انبهارنا. من ثم يأتي ذلك النسيج وتلك الرؤية الملموسة التي تنبثق بخفة ورهافة بالغتين. ولنا أن نتخيل ما يلي: حين نجد أنفسنا في العتمة المدلهمة لغرفة ما, يكفي استلاب هذه اللوحة من الليل كي نستعيد الضوء. فالفن يخرج الإنسان من كارثته الأصلية, ويضعه مجددا في حركة فعل الحياة, يعيده للعبة العلامات والأشكال المتناسجة مع حركة الجسد وحكاية حياته, كما حكاية بقائه على قيد الحياة. إن الأمر يتعلق في أعمال الشرقاوي بالتحولات النورانية.
بعد مرحلة أكثر عتمة (1962-1964) يعمل الشرقاوي على تلطيف شغب الألوان (تلاوين الأحمر الغامق, والأغمر والبنفسجي, والأسمر الممهور بالأخضر الغامق وبأزرق النيلة) بخفة لا تقاوم. هكذا يحقق الفنان حالة المواجهة عبر حرقها من الداخل بخطوط ناضحة سميكة, ممحورا توازن المجموع حول المساحة المحدودة, باعتبارها بنية وشكلا وعلامة ولونا في الآن نفسه. وعن طريق أثر التوالد الحلمي تظل اللوحة بكاملها مفتوحة على كل الدلالات والتمثيلات, بما فيها تلك المتعلقة بالبورتريهات والوجوه والمناظر, من دون أن ننسى تمثيل الحيواني السحري. هكذا يمتلئ المشهد حركة حين يعطل الفنان السم القاتل بإيقاع اللون في لوحة رقصة الثعبان (1964), أو في الحنفية الحمراء (1964) وباب الفتح (أيضا سنة 1964), وهي أبواب تدخل منها الألوان البهيجة وتخرج, فيما يعمد الفنان إلى تحويل الشارع إلى جدار وحيد من الألوان. أو كما يتم ذلك في لوحة محبة القطط (1964), وهي حيوانات نعرف نظرتها المغناطيسية, وقفزتها المطاطية في رغبة الفنانين وحركتهم. وبذلك يتابع الشرقاوي عملية بحث صارمة, بصرامة تستهدف الالتقاط والإمساك. إنه لا يمثل لأي شيء تبعا لمبدأ المشابهة, وإنما تبعا لنقل علامة نحو أخرى, تاركا للنظرة حرية ممارسة أحلام يقظتها النشيطة.
يتعلق الأمر هنا بتوحد بين المواجهة والحركة. وهو ما تشهد عليه اللوحات الغواشية المرسومة على شرائح الخشب contre-plqué كمرايا (1965)حيث يهيمن اللون الخبازي البنفسجي والرمادي المزرق على هذه المرحلة. وبذلك يغدو اللون هو الغالب, ملتحما بشكل صميم, لكنه في الآن نفسه يبدو كما لو كان منتزعا من الأشكال الهندسية والوحدات التخطيطية ومن عناوين تلك اللوحات الغواشية نفسها.
في لوحات الشرقاوي عدد محدود من الأشكال التخطيطية, بحيث استعملها استعمالا مضبوطا. وفي منحى آخر يقوم الفنان التونسي قويدر التريكي (المولود سنة 1947) بتعميم تطبيقها. فسواء كان التريكي يرسم أو يحفر على الورق فهو يظل دائما خطاطا مصورا (بكتوغرافي ا) يمارس الكتابة التصويرية بشكل كامل. لكن ما هي البكتوغرافيا? إنها في معناها الأولي الذي يمنحها لها المؤرخون, كتابة من الإشارات تبث للغائبين هذا الخبر المهم أو ذاك الذي يتعلق بحياتهم اليومية. وفي معنى ثان, فهي تنتمي أصلا لفن الخط trait , وإلى لاتحدد أصلي بين الرسم والكتابة. إنها كتابة عتيقة, تحتفظ في ذاكرتها بتخطيطات الهيروغليفيا والكتابة التصويرية الصينية واليابانية. وبفضل هذه الكتابات استطاعت الحضارة الصينية والفرعونية, كل منها حسب نسق أشكالها, الإمساك بسر القدرة على انتشال وحدتها المحاكاتية من التمثيل التشخيصي. فقد حولتا المكتوب إلى تصاوير, تارة ذات طابع تجريدي وأخرى ذات طابع إشاري تعييني. إنه س ن ن لتبسيط ومف ه مة الواقع والمتخيل, إلى درجة تغدو معها الكتابة المرسومة (البكتوغرافيا) مدخلا لفن الخط والتشكيل في الآن نفسه.
إن الكتابة التصويرية للفنانين, كما هو حال قويدر التريكي أو ميشو, ترتجل العلامات وتغازلها, محركة إياها في زمن المرتجلة أو التأمل المشجع على حلم اليقظة النشيط. ويتمثل معجمها التصويري في أشكال إنسانية وحيوانية ونباتية تتناسل وتتكاثر عبر العدوى الحلمية. لكن كما هو حال بعض أنواع الموسيقى, تلك عناصر أساسية يطرز عليها الفنان العلامة ويقطعها وينتقص منها ويفصلها ويدفعها إلى التوالد, في ما يشبه الدعوة إلى الترحال.
فالخطاط التصويري هو بالتأكيد حاكي عالم ساحر وحنيني. إنها حكاية بلا بداية ولا نهاية, تمنح لنا هنا في و جهاتها المتعددة في الفضاء وفي تنويعات مختلفة تمسك بها العين حسب متعتها. وإذا كانت ألف ليلة وليلة تسري بتمازج قصصها, فإن التريكي يفك التمازج ويعزل العناصر بعضها عن بعض ويمسرحها, ويعيد تأليف المشهد المتعي والتكرار بأناة وصبر. إن الخطاط التصويري يكرر العناصر التصويرية نفسها وينوعها بحثا عن سعادة بسيطة, فذلك سعي وجودي على حد البراءة والجرح. آنذاك يحلم بيده بالشكل نفسه الذي نحلم به بأعيننا.
يقترح علينا فنان تونسي آخر هو محمد بن مفتاح (من مواليد 1946), وهو رسام وحفار ذو حساسية كبرى تجاه المادة, عنقودا من العلامات والوحدات الخطية, يلفها ويبنيها في شكل متاهة. والحال أن الدخول في المتاهة أصعب من الخروج منها. فالمتاهة صورة مركزية من صور الفن عموما ومن الحياة باعتبارها شبكات مكثفة من التعقيدات. لا يختار المرء أن يكون متاهيا, لكن تردد اليد (التي تقوم بالرسم أو الحفر هنا) تقودك وتدلك على الطريق, أي على طرق متعددة في الآن نفسه. هكذا نتعرف هنا على صورة شمس, وهناك على صورة عين , وهنالك على شبح حيوان, لكن تلك التمظهرات لا تلبث أن يختطفها المنطق السادر للعلامة الكبرى, التي لا تتبع إلا هواها وتتركنا تحت رحمة سلطانها.
هذا العنقود من العلامات (كإحالة للموروث الشعبي) توجهه مليحة أفنان تبعا لخط منكسر ومضطرب بحيث يترك الورقة تنساب مع نفسها.
إن العالم الحلمي للكتابات والتخطيط على الجدران graffiti في الأحياء الشعبية يعتبر مختبرا للمعينات الاجتماعية. فقد شكلت دائما تضعيفا للزخرفة الداخلية للبيوتات الفخمة. إنها لسان حال العامة والمنبوذين والصامتين والمحرومين من مفهوم الكتاب والتشكيل. تعلمنا تلك المعي نات كيفية إدراك الفن الذي ينزل للشارع, خارج المتاحف ووسط صخب الحياة. وليس من قبيل الصدفة أن يقوم بعض الفنانين المعاصرين بترويض التخطيط على الجدران من خلال استعادته لحسابهم الخاص. فقد شكلوا منه لوحات وحفريات, ومشهدوه خارج ساحة معركته. من لا يعرف بمدينة فاس ظهور واختفاء ذلك الشخص الغريب المسمى عبد الله غري و, الذي بعد أن بصم حيطان المدينة وأشجارها بتخاطيطه وكتاباته ترك المدينة مثل مختلس للعلامات, لم يمسك التحقيق (الفني والبوليسي) منها غير آثار آيلة للانمحاء.
بيد أن علاقة الفنان الجزائري محجوب بن بلة (المولود عام 1946) بصورة العلامة علاقة مغايرة, فهو يعالجها بحوامل متنوعة بائدة إلى هذا الحد أو ذاك, لكن تأكيدا بألوان غاية في الإشراق, وغالبا على مساحات كبرى. وهو نفسه يتحدث عن »كتاباته التشكيلية«. ما الذي تعنيه هذه العبارة? هل تحيل إلى شيء آخر غير ما يتحقق في فن الخط? لنقل بأن الفنان يبعث برسالة لم تعد تنتمي إلى مجال المقروء. هل هي كتابة لا تحمل إمكانية القراءة? نعم, وأكثر من ذلك.
وإذا كان يتم هنا تفعيل المكتوب graphie في دفعة هندسية وتشكيلية خالصة, فعلينا تبديل المنظور, وتتبع الإنتاج المتعدد للعلامات ومشهد تناسلها المفرط. إنه تناسل يملأ الفضاء حتى حوافي الإطار, بحيث نجد أنفسنا أمام حفل للبصر ممتلئ وجدا وحمى. وما أن يمر الانطباع الذي يخلفه أثر الد وار هذا, حتى نبدأ في التفكير في تلك الطاقة الأرضية التي تفرضها على ذهننا, وعلى روح بصرنا. ثم ما تلبث العين أن تتوقف طويلا عند عنصر من عناصر اللوحة , وعند هذه العلامة أو تلك لنتعرف عليها باعتبارها ذكرى, ثم تتحرك العين نحو عنصر آخر لا يستوحي غير حركة الفنان, إلى درجة نجد أنفسنا معها أمام مذكرة نفك فيها بعض العلامات, وهي علامات آتية من بعيد, من قلب ثقافة جهوية, بوفرة طلاسمها, وآثارها ونقوشها الزخرفية, ووفرة أخاييل الرسوم المنسوجة. هذه المذكرة, باعتبارها دليل الهوية الرمزية, يتم الزج بها بشكل مستمر ومتجدد في لعبة التنقل والتحول. إنها ذاكرة في طور التشكل والتحول, وسرعة وآلة لإنتاج العلامة. فهي ليست كتابة تصويرية بالرغم من حضورها الأكيد, بل ليست فن خط بالمعنى الحصري, وإنما هي انطباع لبنية متحركة تتماوج, أي أن الدوار الاصطناعي الذي تنتجه تلك الآثار وسرعتها يجعل اهتمام الناظر يتجه نحو لامكان ليس له بعد من تسمية.
هذا اللامكان هو ضرب من الطوباوية تغدو فيه راحة الفنان بسهولة ذات ب عد فردوسي. إنها حيوية بالغة تعيشها العلامة وعملية بنائها واجتماع شملها من لون لآخر بنوع من الإكراه. هكذا يعشق بن بلة المادة في حالة تحول وامتلاء. فمن أولى أوراق لف السجائر إلى الشوارع المبلطة بباريس-روبي التي كل ف بزخرفتها, لا يزال فناننا مستمرا في استكشاف عدد كبير ومتنوع من الحوامل والمواد. وها هو يخرج إلى قارعة الطريق, ناذرا نفسه للقوة التقنية وللضوء والريح في هذا المشهد الطبيعي. بيد أن الطبيعة تمتلك وتتصرف, فيما يكتفي الفنان بالاقتراح. إنه يترك الآثار التي غالبا ما تمحوها الطبيعة, وهو يبني أعمالا فنية تعمل الحياة على تغيير ملامحها. ويتساءل مج برنار بصدد الفنان الجزائري محمد خدة (1930-1991), وهو فنان متعدد التوجهات ومعروف بتخطيطاته: »كيف للإنسان أن يمارس التشكيل بالرغم من وجود الحياة? «. هل يتعلق الأمر بواجب أم برغبة مجروحة? كيف السبيل إلى ممارسة التشكيل من غير أن يتحول المرء إلى قربان?
الكاتب عبد الكبير الخطيبي: باحث ومفكر وروائي مغربي. من مواليد 1938. له روايات ومؤلفات عديدة بالفرنسية. ترجمت له إلى العربية:
الذاكرة الموشومة, (ترجمة بطرس الحلاق)
فن الخط العربي (ترجمة محمد برادة)
الاسم العربي الجريح, دار العودة, بيروت, 1980 (ترجمة محمد بنيس)
النقد المزدوج, دار العودة, بيروت, 1980 (ترجمة عبد السلام بنعبد العالي وآخرين)
المغرب العربي وقضايا الحداثة, عكاظ للنشر, الرباط (ترجمة أدونيس, محمد بنيس, فريد الزاهي)
صيف في ستوكهولم, دار توبقال, 1993 (ترجمة فريد الزاهي)
ثلاثية الرباط, دار الرابطة, الدار البيضاء (ترجمة فريد الزاهي)
يشغل حاليا منصب مدير للمعهد الجامعي للبحث العلمي بالرباط.
المترجم د. فريد الزاهي: من مواليد 0691. حاصل على دكتوراه السلك الثالث من جامعة السوربون بباريس, وعلى دكتوراه الدولة من جامعة الرباط.كاتب وباحث بالمعهد الجامعي للبحث العلمي بالرباط. المغرب.
من مؤلفاته:
– الحكاية والمتخيل, المغرب 1990.
– الجسد والصورة والمقدس في الإسلام, أفريقيا الشرق, بيروت-الدار البيضاء, 1999.
ترجم للعديد من المفكرين والكتاب: جاك دريدا, جوليا كريستيفا, عبد الكبير الخطيبي, ريجيس دوبريه.
عبدالكبير الخطيبي ترجمة : فريد الزاهي كاتب وباحث من المغرب