إيميليو غارسيا غوميث- مستعرب وباحث إسباني
ترجمة خالد الريسوني- شاعر ومترجم مغربي
يعيد ميغيل غارسيا بوسادا، في إحالة مرجعية توجد في طبعته المحققة للأعمال الكاملة للوركا، بناء المشهد الذي أشار فيه غارسيا لوركا للمستعرب الإسباني إيميليو غارسيا غوميث خلال صيف عام 1934، بعد قراءة لمقاطع من مسرحية “يرما” في غرناطة، بأنه كتب “مجموعة من القصائد والغزليات” تكريما للشعراء الغرناطيين القدماء. أنطونيو غاييغو بورين، الذي حضر أيضًا القراءة وكان حينئذ عميدا لكلية الآداب بجامعة غرناطة، التمس من الشاعر المخطوط لكي تنشره الجامعة. لكن الكتاب لم يُنشر أبدًا. إدواردو رودريغيث بالديبييسو، الذي كان صديقا للشاعر الغرناطي، أخبرني في مناسبات عديدة (1992 و1993) يقول غارسيا بوسادا، أنه بناءً على طلب لوركا، الذي كان متوترًا بسبب تأخر نشر الكتاب، سحب المخطوط الأصلي من الجامعة في يناير 1936، وأرسله للمؤلف، وهذه المقدمة التي أعدها المستعرب الإسباني إيميليو غارسيا غوميث لطبعة ديوان “التماريت” التي لم يكتب لها الصدور عن جامعة غرناطة سنة 1936 لأسباب سياسية، ستعود للظهور وستنشر ضمن كتاب إيميليو غارسيا غوميث “كرسي الموري ومشاهد أندلسية جديدة” في دمج تركيبي لثلاثة مقالات اختار المستعرب الإسباني أن يجمعها تحت عنوان “الأصدقاء الكبار”، لكن هذه المقدمة استعادت أيضا مكانها الطبيعي كما قال إيميليو غارسيا غوميث حين تصدرت الديوان في طبعة لدار النشر “أنايا” الإسبانية، كما قام بنشرها ضمن الأعمال الكاملة ميغيل غارسيا بوسادا، ونظرا للأهمية التاريخية لهذه المقدمة، وللعلاقة التي جمعت لوركا بإيميليو غارسيا غوميث الذي اعتبر في مرحلة ما شيخ المستعربين الإسبان، قمنا بترجمة هذه المقدمة للقراء مرفقة بقصائد ديوان التماريت أيضا مترجمة إلى اللغة العربية…
(المترجم)
في البهو الرومانسي لدار الرماية، ستائر بيضاء ومفتاح وفانوس، كان فيديريكو غارسيا لوركا قد قرأ لنا كمجموعة من الأصدقاء مسرحيته التراجيدية الجديدة “يرما”. وبشكل مرتجل وغير مرتب سلفًا، اجتمعنا بعد ذلك لتناول العشاء في غرفة طعام عريقة، على خلفية أصوات سكارى حيث كانت تتعفن التوشيحات. متكئة على الطاولة اللامرئية لكن الجَلِيَّة، كانت فتاة غرناطية تستمع منذ خمسين عامًا للعشريات الساخرة التي كان يتلوها لوركا ببراعة.
في الحديث، المشحون بطاقة كهربائية أدبية، كانت تتردد بتواتر آهات ثلاث لغرناطة. ونحن نتحدث ونتحدث –حول تمثلنا لصورة المدينة الحالية، كانت تمضي منبثقة مثلما في تلك الأشكال الهندسية حيث تتم الإشارة للزوايا الناتئة الخفية بخطوط من نقط– فكرة غرناطة ماض أخرى، خالصة في الفرضية، حيث كان يغني أشخاص آخرون بلغة أخرى وعلى إيقاع قيثارات أخرى.
وفي إطار تبادل المشاريع الأدبية، كنت أقولُ للوركا إن غايتي كانت في أن يتم تخصيص كتاب إلى قطب عربي -هو ابن زمرك- الذي نُشرت قصائده في أترف طبعة يعرفها العالم: قصر الحمراء ذاته، حيث تغطي الجدران، وتزين القاعات وتحيط بأحواض النوافير. قال لنا لوركا حينئذ أنه قد قام بتأليف مجموعة من القصائد والغزليات، أي ألَّف ديوانًا، تكريمًا لشعراء غرناطة القدامى، وعنوانه مشتق من اسم بستان لأسرته، هنالك حيث كتب الكثير من تلك القصائد والغزليات، هذا البستان يسمى بستان التماريت.
التمس منه أنطونيو غاييغو بورين، بصفته عميد كلية الآداب، المخطوطة، ووافق لوركا على ذلك بكل سرور. عرض فرانسيسكو برييتو تصميم الغلاف، والتزمتُ أنا –وليعذرني القارئ– بكتابة هذه السطور.
يُطلقُ مصطلح قصيدة في اللغة العربية على أي تأليف شعري ذي طول معين، وذي بناء داخلي معين، دونما إعارة أي أهمية للتفاصيل، وفي أبيات شعرية ذات قافية موحدة، ووزن يُقاس وفقًا لنظام له معايير نمطية جد دقيقة. وأما الغزلية -التي تستعمل بشكل رئيس في الشعر الغنائي الفارسي- فهي قصيدة قصيرة، يُفضَّلُ أن يكون غرضها إيروتيكيا، وذات بناء محكم وفق قواعد تقنية معينة والتي يزيد عدد أبياتها على أربعة وتكون أقل من خمسة عشر. أما مصطلح ديوان فهو عبارة عن مجموعة من التأليفات لشاعر ما، وعادة ما يتم تصنيفها حسب الترتيب الأبجدي لحرف الروي في القافية.
لا أعتقد أنه من الضروري القول إن اصطلاحات غارسيا لوركا -ديوان، غزليات، قصائد- تتناسب مع التعريفات السابقة. وبهذا المعنى فهي اعتباطية. لكني لا أظنُّ أنه من الضروري القول أيضًا، ناهيك عن أن يكون ذلك في الحالة التي تتعلق بلوركا، -إن هذه الأشعار ليس لديها أي شيء مشترك مع تلك الاصطلاحات الشرقية، وهي أقنعة أدبية لكرنفال رومانسي، زائفة، وفارغة، ومشوهة-.
إن قصائد ديوان التماريت ليست تزييفا ولا محاكاةً، ولكنها قصائد لوركوية بشكل أصيل. سيكون الآخرون قادرين على الإشارة إلى أهميتها ضمن تطور مسار الشاعر الجمالي، وربما سيثمنون عاليا زخمها المتنامي ووهجها المُرَكَّز وذلك التواتر الأكبر الذي تتجَزَّعُ به أوردة زرقاء وتؤنسِنُ مرمرًا كان من قبلُ أشَدَّ برودة.
هذا صحيح -هل ثمة شيئان اثنان لا يتشابهان في ملمحٍ ما؟- إنه أحيانًا يمكن اكتشاف بعض التماثل مع الشعر الغنائي العربي في ديوان التماريت. ومثل ذلك يمكن اعتبار حضور تيمة الزيارة الليلية:
لا يريد الليل أن يأتي
كي لا تأتي أنت
لا لكي أستطيع الذهاب.
أو الإفراط المقدام في بعض الاستعارات:
والظليل بخطوات فيل
كان يدفع الأغصان والجذوع.
وفي أحيان أخرى يتموَّجُ لمعانُ الأبيات بقزحية ألوان متعددة لمنمنمة إيرانية:
ألف مهر فارسي كان ينام
في الساحة تحت قمر جبينك.
وبعض من نبرة الحب تذكِّرُ بشكل غامض بالعفاف البدوي المستعار السقيم:
دعيني في قلق كواكب معتمة
لكن لا تكشفي لي عن خصرك النَّضِر.
لكن بشكل عام، ولحسن الحظ، فإن قصائد لوركا تنفصل عن الشعر العربي من حيث إنها ليست مستعبدة للنحو، ولكن النحو عبدٌ لها؛ حيث تهرب من ذلك المنحى الغنغوري الذي يعود إلى ما قبل غونغورا، والذي يكون فيه كل شيء صعبًا، لكن باردًا ودقيقًا، وهي تتألق بدلًا من ذلك بحدوس ملتبسة، وبحالات حنين يعجز عنه الوصف، وأحاسيس غير قابلة للاستيعاب؛ حيث إنها تبدو لامبالية وليس فيها ما يُذَكِّرُ بالتوسُّلِ الأنيق للديثرامب.
المصادفة الودية، وبصيغة ما محاكاة، هي تلك التي عاشها لوركا مع أبناء جلدته السابقين، بصدد حب غرناطة. ليس ثمة مدن أكثر أنثوية من المدن الإسلامية ولم توجد قط من قبل ولا من بعد، يفتتن عشقا بها الشعراء بمثل هذا الهوى المستسلم جدا. في هذه القصائد، التي -مثل كل القصائد الحديثة– هي خالية تمامًا من الأسماء العَلم، لكن مع هور متواتر لاسم غرناطة، بقوة وملاحة، لم يكن لها صيغة النداء في البيت الرابع من القصائد الغنائية القديمة.
وحده غرناطي، منتسبٌ لغرناطة، كان قادرًا على الشعور بمثل هذا الإحساس المفرط الحاد، تلك النقطة الميَّالة نحو الخراب، وذلك الهجر المُهْمِلُ والحسي الذي -مقارنة بإشبيلية الدقيقة وقرطبة المتأنقة- يميز غرناطة. بالتفكير في المدينة، وإن بدون الإحالة عليها، تبدو تلك الأبيات الثاقبة المكتوبة عنها والتي يتم الحديث فيها عن:
ولتغمر الألوان الصفراء الحرير.
أو
وأقواس محطمة حيث يكابد الزمن عذابته.
في المشهد الطبيعي لغرناطة، أمام الزيتية الشائكة للصبار، تنبثق بلا ريب الاستعارة الجريئة:
لكن لا تضيئي عريك الطاهر
مثل صبار أسود مفتوح على الآسال.
المدينة ذاتها -بيضاء بالجير والجبس، خضراء بأغيال حزينة- تنعكس في تلك الأبيات التي يقول فيها:
وكانت غرناطة قمرا
غارقا ما بين اللبلاب.
أو في تلك الأخرى، مرآة لمساءات رائعة:
وكانت غرناطة أيلة
وردية في دوارات الريح.
وحده غرناطيٌّ منتسبٌ لغرناطة، قد استطاع أن يُحِسَّ بمثل هذه الحميمية اللاسعة سحر ماء غرناطة: الأنهار، والنوافير، والسواقي، والآبار، والينابيع، وأحواض الفسقيات، والشلالات، والبرك، التي تنعشها، وتذهلُها، وتُغرِقُها، وتلقيها عبر المنحدرات وتنقلها في تدفقها، نحو تلك الآفاق من الأسى حيث تموت إلى الأبد، ثملة بالدموع ومهووسة بكآبة غير قابلة للعلاج:
كل الأماسي في غرناطة،
في كل الأماسي يموت طفل.
في كل الأماسي يجلس الماء
للحديث إلى الأصدقاء…
إن القصائد المعنونة بـ: قصيدة لجريح الماء وقصيدة للبكاء هي قصائد ذات نزعة غرناطية هذيانية. في الأولى، يستمتع الشاعر، الحركي، النشط، المسكون باندفاع لا يكبحُ، – مرعوبًا – بالتعويذة السحرية المؤذية للماء:
أود أن أهبط إلى البئر،
أود أن أموت ميتتي جرعة بعد جرعة
أود أن أملأ قلبي بالطحالب
لكي أرى جريح الماء.
لكنه في الثانية، وخلافا لذلك، يستسلم ويذعن للحزن اللامحدود، الذي يلهمه إياه ماء غرناطة. لقد حل الليل وأغلق الشرفة. لا الملائكة تغني ولا الكلاب تنبحُ.
لكن البكاء كلب عظيم،
البكاء ملاك عظيم،
البكاء كمان عظيم،
تكمم الدموع الريح،
ولا يسمع شيء غير البكاء.
كتب غوته، بعد أن صار عجوزًا، ديوانًا شرقيًا-غربيًا، وهو بصرف النظر عن بعض أوجه التشابه الخارجية له، لا علاقة له بالشعر الغنائي الإسلامي. لكنه يصل فيه إلى ذروة النزوع إلى تقبُّل المؤلفين الشرقيين الكبار في نطاق الآداب الأوروبية، والتي حدثت في القرن الثامن عشر، مع تقديم علاء الدين في فرساي، والذي أحبط بشكل غبي أحد أشكال الاستشراق الرومانسي الوسخ.
إن ديوان التماريت لغارسيا لوركا ليس نزوة ولا مغالاة شاذة، هو احتفاءُ تعاطفٍ، كُتِبَ في غرناطة ونُشِرَ فيها، حيث تطمح كلية آداب قديمة ومدرسة دراسات عربية ناشئة إلى ترسيخ فكرةٍ في ذهن الشباب بشكلٍ علميٍّ، مفادها أن هذه الدراسات ليست بالنسبة لنا أوصافٌ أو أشياء عرضية -ميلٌ نحو الغرابة أو النفعية الاستعمارية- بل هي ضرورة لفهم ماضينا وتوضيح تقاليدنا.
حبذا لو يستطيع العلم والشعر أن يحققا مقصدهما، وربما نبلغ في يوم من الأيام، التي بعد لا تزال في الغيب بعيدة، أن يتخرج مستعربون آخرون، أكثر حظًا، من هذا المظهر الغريب الشاذ، الذي نحن الآن محبوسون فيه، ويجعلون إنسانيات أخرى أكثر اتساعا تعبرُ العتبة.
-1-
غزلية أولى
للحب الطارئ
لا أحد كان يدرك عطر
المغنوليا الحالكة في حشاك.
لا أحد كان يعلم أنك تعذبين
بين أسنانك عصفور الهوى.
ألف مهر فارسي كان ينام
في الساحة تحت قمر جبينك
بينما كنت أحضن لأربع ليال
خصرك المعادي للثلج.
وبين الجبس والياسمين كانت نظرتك
بارقة بذار شاحبة.
قد فتشت القلب لأمنحك
حروفا من العاج تقول أبدا.
أبدا، أبدا: يا بستان احتضاري،
جسدك الهارب إلى الأبد،
دم شرايينك في فمي،
وفمك وقد غدا بلا نور لأجل موتي.
-2-
غزلية
للحضور الرهيب
أود أن يبقى الماء بلا مجرى.
أود أن تبقى الريح بلا وديان.
أود أن يبقى الليل بلا عيون
وقلبي بلا زهرة من ذهب؛
فلتتحدث الثيران إلى الأوراق الكبيرة
ولتمت دودة الأرض في الظل؛
فلتلتمع أسنان الجمجمة
ولتغمر الألوان الصفراء الحرير.
أستطيع أن أرى حداد الليل الجريح
يتلوى وهو يصارع الظهيرة.
أقاوم غروبا من سم أخضر
وأقواس محطمة حيث يكابد الزمن عذابته.
لكن لا تضيئي عريك الطاهر
مثل صبار أسود مفتوح على الآسال.
دعيني في قلق كواكب معتمة
لكن لا تكشفي لي عن خصرك النَّضِر.
-3-
غزلية
عن الحب اليائس
لا يريد الليل أن يأتي
كي لا تأتين
لا لكي أستطيع أنا الذهاب.
لكني سوف أذهب،
وإن أكلت الشمس من عقارب صدغي.
لكنك سوف تأتين
بلسان محترق بأمطار من ملح.
لا يرغب النهار أن يأتي
كي لا تأتين،
ولا أنا أستطيع الذهاب.
لكني سوف أجيء
وأنا أسْلِم للضفادع قرنفلي المنهوش.
لكنك سوف تأتين
عبر المجاري العكرة للظلمات.
لا الليل ولا النهار يريد أن يأتي
كي أموت من أجلك
وتموتين من أجلي.
-4-
غزلية
عن الحب الذي يحجب مرآه
لأجل سماع أجراس
“برج الحراسة” فقط.
توجتك بإكليل من رعي الحمام.
وكانت غرناطة قمرا
غارقا ما بين اللبلاب.
لأجل سماع أجراس
“برج الحراسة” فقط
مزقت بستاني في قرطاجنة.
وكانت غرناطة أيلة
وردية في دوارات الريح.
لأجل سماع أجراس
“برج الحراسة” فقط
كنت أكتوي بجسدك
دون أن أعرف لمن الجسد.
-5-
غزلية
للطفل الميت
كل الأماسي في غرناطة،
في كل الأماسي يموت طفل.
في كل الأماسي يجلس الماء
للحديث إلى الأصدقاء.
للموتى أجنحة من طحلب.
والريح ضباب، الريح طاهرة.
هما تدرُّجان يحلقان عبر الأبراج
والنهار فتى جريح.
لم يكن قد تبقى في الهواء قشة من قبرة
حينما التقيتك عبر كهوف النبيذ.
لم يكن قد تبقى في الأرض فتات غيمة
حينما كنت تغرق في النهر.
قد سقط عملاق الماء فوق الجبال
ومضى الوادي يدحرج كلابا وزنابق
وكان جسدك في الظلال البنفسجية ليدي
ملاك برد، ميتا على الشاطئ.
-6-
غزلية
للجذر المر
ثمة جذرٌ مُرٌّ
وعالمٌ بألفِ شرفةٍ
وحتى اليد الصغرى
لا تكسر باب الماء.
أين تمضي، إلى أين، وأين؟
ثمة سماء بألف نافذة
معركة نحل أكهب
وثمة جذرٌ مُرٌّ.
مُرٌّ.
يؤلم عمق الوجه
باطن القدم،
يؤلمُ الجذعُ الغضُّ
ليلة قُطِعَتْ أوصالها حديثا.
أيها الحب، يا عدو نفسي،
انهش جذرك المر!
-7-
غزلية
لذكرى الحب
لا تسحبي ذكراك
دعيها في قلبي فقط.
رعشة شجرة كرز بيضاء
في مكابدات يناير.
يفصلني عن الموتى
جدار أحلام كريهة.
أغمر قلبا من الجبس
بأسى الزنابق الغضة.
قد أمضيت الليل كله في الجنائن
وعيناي مثل كلبين.
قد أمضيت الليل كله منزلقا
في أشجار سفرجل من سموم.
تغدو الريح أحيانا
زنابق من رهبة.
زنابق عليلة
هي أسحار الشتاء.
يفصلني عن الموتى
جدار أحلام كريهة.
يكسو الضباب في صمت
الوديان الرمادية لجسدك.
ها ينمو الحرقل
عبر أقواس التلاقي.
لكن دعي ذكراك،
دعيها في قلبي فقط.
-8-
غزلية
للموت الملتبس
أود أن أنام نوم التفاح،
أن أبتعد عن ضوضاء المقابر.
أود أن أنام نومة ذلك الطفل
الذي كان يرغب أن يجتث قلبه في أعالي البحار.
لا أود أن يُكَرَّرَ أمامي أن الموتى لا تُسْتَنْفَدُ دماؤهم؛
وأن الأفواه المهترئة تستمر في طلب الماء
لا أود أن أعلم شيئا عن العذابات التي تَهَبُ العُشْبَ
ولا عن القمر بفم أفعى
تشتغل قبل الفجر.
أود أن أنام لهنيهة،
هنيهة، دقيقة، قرن،
لكن فليعلم كل الناس أنِّي لم أمُتْ،
وأن ثمة إصطبلا من ذهب على شفتيَّ،
وأني الصديق الصغير لريح الغرب،
وأني الظل الشاسع لدمعاتي.
غطني عند الفجر بحجابٍ
لأنه سيُلقي عليَّ حفناتِ نمْلٍ،
وسيبلل حذائي بماء صلب
لكيْ ينزلقَ زبانَى عقربِهِ.
أود أن أنام نوم التفاح
لكي أتعلم بكاءً يغسلني من الثرى
لأني أود أن أحيا مع ذلك الطفل الملتبس
الذي كان يرغب أن يجتث قلبه في أعالي البحار.
-9-
غزلية
للحب الفاتن
بكل جبس
الحقول السيئة،
كنت أسَلَ الحُبِّ وياسمينا نديا.
بجنوب سماواتٍ
سيئة ولهيبها،
كنت همس الثلج في قلبي.
سماواتٌ وحقولٌ
كانت تشد أغلالا في يديَّ.
حقول وسماوات
كانت تجْلِدُ قروح جسدي.
-10-
غزلية
للهروب
قد تهت مرات في البحر
ومسامعي ملأى بأزهار قُطِفَتْ للتو.
ولساني مشبع بالحب والاحتضار.
مرات قد تهت في البحر،
مثلما أتيه في قلوب بعض الأطفال.
ما من ليلة، عند القبلة
لم أحس ابتسامة أناس بلا وجوه.
ما من أحد عند لمس مولود حديث الولادة
ينسى جماجم الخيول الساكنة.
لأن الورود تبحث في الجبين
عن مشهد العظام القاسي
فأيادي الإنسان لن يكون لها معنى
إلا حينما تحاكي الجذور تحت الثرى.
وكما أتيه في قلوب بعض الأطفال
فقد تهت مرات في البحر.
وجاهلا بالماء أمضي باحثا
عن موتِ نورٍ أتلاشى فيه.
-11-
غزلية
السوق الصباحي
عبر قوس إلفيرا
أريد أن أراك تعبرين،
وأن أتعرف على اسمك
وأشرعَ بالبكاء.
أي قمر رمادي للتاسعة
قد أدمى خدك؟
من يجمع بذرتك
من جذوات مشتعلة في الثلج؟
أي شوكة صبار صغيرة
تقتلُ بلورك؟
عبر قوس إلفيرا
أمضي لأراك تعبرين،
لأشرب من عينيك
وأشرع بالبكاء.
يا للصوت الذي ترفعين
في السوق لعقابي!
يا للقرنفلة المهجورة
بين أكوام القمح!
ولكم أنا نَاءٍ مَعَكِ
ولكم أنا دانٍ حين تمضين!
عبر قوس إلفيرا
سوف أراك تعبرين،
لأشعر بفخذيك
وأشرعَ بالبكاء.
-12-
غزلية
للحب المئوي
عبر الشارع يصعد
المغازلون الأربعة.
أواه، أواه، أواه، أواه.
يمضي المغازلون الثلاثة
منحدرين عبر الشارع.
أواه، أواه، أواه.
يزنر هذان المغازلان
خاصرتيهما.
أواه، أواه.
كيف يلتفت مغازل
والهواء!
أواه.
بين الرياحين
يتنزه لا أحد.
قصائد
-1-
قصيدة أولى
لجريح الماء
أود أن أهبط إلى البئر
أود أن أصعد أسوار غرناطة
لكي أرى القلب المخروم
بمثقاب المياه المعتم.
كان الطفل الجريح يئن
مكللا بتاج من صقيع.
برك وأحواض وينابيع
كانت ترفع في الهواء سيوفها.
أواه، يا لغضب الحب، يا للحَدِّ القاطع،
ويا للوشوشة الليلية، ويا للموت الأبيض
يا لفلوات النور وهي تمضي غامرة مرملات الفجر!
كان الطفل وحيدا
مع المدينة النائمة في الحلق.
نافورة تأتي من الأحلام تحميه من جوع الخُثَيَّاتِ.
كان الطفل واحتضاره وجها لوجه،
كانا سيلا مطر أخضران متشابكين
كان الطفل ممددا على الأرض
وكان احتضاره يتلوى.
أود أن أهبط إلى البئر،
أود أن أموت ميتتي جرعة بعد جرعة
أود أن أملأ قلبي بالطحالب
لكي أرى جريح الماء.
قصيدة 2
للبكاء
أغلقت شرفتي
لأني لا أريد أن أسمع البكاء،
لكن خلف الجدران الرمادية
لا يسمع شيء غير البكاء.
يوجد قليل من الملائكة الذين يغنون،
يوجد قليل من الكلاب التي تنبح،
ألف كمان تتسع لها راحة كفي.
لكن البكاء كلب عظيم،
البكاء ملاك عظيم،
البكاء كمان عظيم،
تكمم الدموع الريح،
ولا يسمع شيء غير البكاء.
قصيدة 3
للأغصان
إلى أغيال التماريت
أتت كلاب من رصاص
تنتظر أن تسقط الأغصان،
تنتظر أن تنكسر لوحدها.
للتماريت شجرة تفاح
تفاحها من نشيج.
عندليب يطفئ التأوهات
وتدرج يفزعها بالغبار.
غير أن الأغصان جذلى،
الأغصان تشبهنا.
هي لا تفكر في المطر وها قد نامت،
كما لو صارت فجأة أشجارا.
وادِيان كانا يترقبان الخريف،
جالسين والماء يغمرهما حتى الركبتين.
والظليل بخطوات فيل
كان يدفع الأغصان والجذوع.
في أغيال التماريت
ثمة أطفال كثيرون بوجوه ملثمة
ينتظرون أن تسقط أغصاني،
ينتظرون أن تنكسر لوحدها.
قصيدة 4
للمرأة الممددة
أن أراك عارية معناه أن أتذكر الأرض.
الأرض المستوية والخالية من الخيول.
الأرض بلا آسال، شكل خالص
مغلق على الآتي: حد من فضة.
أن أراك عارية معناه أن أدرك قلق
المطر وهو يبحث عن قدٍّ أهيفَ،
أو حمى البحر بوجهه الشاسع
دون أن أجد ضياء وجنته.
سيدوي الدم في المراقد
وسيأتي شاهرا سيفا لماعا
لكنكِ لن تعرفي أين يختفي
قلب العلجوم أو زهرة البنفسج.
حشاك صراع الجذور،
وشفتاك فجر بلا نطاق.
تحت الورود الدافئة للسرير
يئن الموتى وهم ينتظرون دورهم.
قصيدة 5
للحلم في الهواء الطلق
زهرة ياسمين وثور ذبيح.
نصف لا نهائي. خارطة وقاعة ومعزف وفجر.
تحلم الطفلة ثورا من ياسمين
والثور شفق دام يجأر.
لو كانت السماء طفلا صغيرا
لكان الياسمين يمتلك نصف الليل مظلما،
والثور حلبة زرقاء بلا مصارعين،
والقلب عند أسفل العمود.
لكن السماء فيل،
والياسمين ماء بلا دماء
والطفلة باقة ليلية
عبر الرصف الشاسع والمظلم.
بين الياسمين والثور
إما كلاليب من عاج أو أناس نائمون.
في الياسمين فيل وغيم
وفي الثور الهيكل العظمي للطفلة.
القصيدة 6
لليد المستحيلة
أنا لا أرغب سوى في يد واحدة،
يد جريحة، لو أمكن.
أنا لا أرغب سوى في يد واحدة،
وإن أمضي ألف ليلة بلا سرير.
قد تكون زنبقة شاحبة من الكلس،
أو حمامة مشدودة إلى قلبي
أو الحارس الذي ليلة عبوري
يمنع عني الدخول مطلقا إلى القمر.
أنا لا أرغب سوى في تلك اليد
لأجل الزيت اليومي والشرشف الأبيض
لاحتضاري.
أنا لا أرغب سوى في تلك اليد
لأجل أن يكون لي جناح لموتي.
وما تبقى فكله يمضي.
خجل بلا اسم ونجم سرمدي.
وما تبقى فآخـَرُ؛ ريح حزينة،
بينما تفرُّ الأوراقُ أسرابا.
القصيدة 7
للوردة
الوردة،
لم تكن تبحث عن الفجر:
شبه متأبدة في غصنها،
كانت تبحث عن شيء آخر.
الوردة،
لم تكن تبحث عن العلم ولا عن الظل:
تخوم من جسد وحلم،
كانت تبحث عن شيء آخر.
الوردة،
لم تكن تبحث عن الوردة
ثابتة في السماء
كانت تبحث عن شيء آخر.
القصيدة 8
للصبية المذهبة
كانت الصبية المذهبة
تستحم في الماء
فيغدو الماء مذهبا.
كانت الخُثيَّاتُ والأغصانُ
تدهشنها في الظل،
وكان العندليب يغني
لأجل الصبية البيضاء.
وأتت الليلة المضيئة
عكرت صفوها فضة رديئة،
وتحت النسيم الحالك
كانت الجبال جرداء.
كانت الصبية المبللة
بيضاء في الماء
والماء جذوة.
أتى الفجر بلا شوائب
بمائة وجه بقرة،
جامدا من البرد ومكفنا
بأكاليل من صقيع.
كانت الصبية الدامعة العينين
تستحم بين جذوات النار،
وكان العندليب يبكي
بجناحيه المحترقين.
وكانت الصبية المذهبة
طائر بلشون أبيض
والماء يذهبها.
القصيدة 9
للحمامتين الداكنتين
إلى كلاوديو غيين
في أغصان الغار
رأيت حمامتين داكنتين.
إحداهما كانت الشمس،
والأخرى القمر.
قلت لهما: “يا جارتيَّ الصغيرتين”
“أين يوجد قبري؟”
“في ذيلي” قالت الشمس.
“في حنجرتي” قال القمر.
وأنا الذي كنت أمشي
والثرى في خاصرتي
رأيت نَسْرَيْن من ثلج
وصبية عارية،
أحدهما كان الآخر
والصبية لم تكن أحدا.
“يا نُسَيْرَايَ” قلت لهما،
“أين يوجد قبري؟”
“في ذيلي” قالت الشمس.
“في حنجرتي” قال القمر.
في أغصان الغار
رأيت حمامتين عاريتين.
إحداهما كانت الأخرى،
والاثنتان لم تكونا أحدا.