لم يعد النمط الاستهلاكي الفج يُسبغ دلالاته السطحية على اليوميّ والعابر والوسائط المتعجلة وحسب، بل قارب التجذر في وعينا، ولذا فنحن نجابه الآن خطر تقويض الثقافة وحاضناتها بالمعنى الصلب -باعتبارها خارج صيرورة العصر- وذلك لعدم قدرة هذا الذي نظنه صلبا على التماهي مع النزعة الاستهلاكية التي تنهض على إبقاء الفرد مُنغمسا في ذاته الفردية واحتياجاته التي لا تُشبع. وربما في ظرف كهذا، لا يعود أمام الثقافة إلا أن تأخذ بنصيحة الفيلسوف البريطاني بولندي الأصل زيجمونت باومان، صاحب كتاب “الثقافة السائلة” الذي قال: “إذا أردت أن تنجو من الغرق، فعليك الاستمرار في ركوب الأمواج”.
نجد أنفسنا الآن إزاء جدل مُغاير، لا يقل ضراوة عن ذاك الذي أشار إليه الشاعر سيف الرحبي قبل ثلاثين عاما عندما تحدّث عن المتطلبات الثقافية والإبداعية المحلية والعربية، في العدد الأول من مجلة نزوى -نوفمبر1994-، فإن كانت الدعوة آنذاك لوجود منابر ومجلات ثقافية تستوعب الأصوات الفكرية المتباينة وتستجلي ملامح المشهد، فالسؤال المناقض والحاد كمشرط الآن هو حول جدوى استمرار المجلات الثقافية، بينما العصر الجديد يقترحُ عديد أشكال المعرفة ووسائطها!
فالمجلات الثقافية التي عاشت مجدها وازدهرت في عقود مضت، عادت لتصطدم بسؤال “الجدوى” و”القيمة” في ظل المتغيرات الحضارية والاجتماعية والاقتصادية، عادت لتصطدم بسؤال العصر: كيف يمكنها أن تترك أثرا أصيلا في صيرورة الآداب والعلوم والفنون التي تنمو بتسارع مذهل في ظل الوسائط التي تغرفُ من أشكال ومضامين خارج ما هو مألوف؟ وكيف يمكنها -أي المجلات- أن تعمل على المراوحة بين الهويات الثقافية والتيارات الفكرية والفلسفية المتجذرة التي هي نتاج شرطها الزمني وميكانيزماته، وبين تلك الأنواع التي ستفرزها مخاضات الانفتاح على تقانات الحداثة؟
في أواخر القرن التاسع عشر، لعبت المجلات أدوارًا جادة في مجتمعات تنوء تحت أحمال الجهل أو التجهيل الممنهج، فقيض لعديد الأسماء من ذوي الثقل المعرفي أن تنمو وأن ترتبط في أذهاننا بالمجلات، ونحن ندين لها لقذفها الأحجار الأولى في المياه الآسنة، تلك التي حرّضت دوائر متلاحقة من التغيير ومن تدافع الأفكار ومن السجالات اليقظة، فتركت أثرًا لا تُخطئه عين في طرح سؤالها المعرفي ونقدها الجاد، جوار تخصيب المخيلة بالأدب والفن، ومن جهة أخرى استطاعت -إلى حد ما- نصب شباك الحماية من السقوط في مستنقعات وأوحال الرجعية المقيتة، ويمكن لمن يملك الصبر المعرفي أن يعود ليحفر في أرشيفاتها القديمة وأن يستقرئ بواسطتها التحولات التي عصفت بمجتمعاتنا العربية، ليستجلي الدلالات والمعاني من جهة، والتبدل وفوضى انسلاخات مما ظنناه مشروعا أصيلًا ومتراكمًا من جهة أخرى.
في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، كانت البرهة الزمنية في عُمان ملائمة لانبثاق مشروع مجلة نزوى، الذي استوعب الأصوات المحلية إلى جوار الصوت العربي وما جلبته الترجمة من انفتاح على تجارب العالم، فخرجت “نزوى” من شرنقة تخلقها الأولي، لتخوض تجربتها الأكثر فرادة.
فبذهنٍ خلاق ومتقد ورؤية مُتبصرة في تحولات العالم وما يمور فيه من مآزق وانشغالات، خاض الشاعر سيف الرحبي المغامرة برفقة فريق لا يتعدى عدده أصابع اليد الواحدة، شاقا شراسة الجغرافيا، ونأي الآخر عن المشهد العُماني ونتاجه آنذاك، مراهنا على ملء الفراغ الذي أحدثه غياب المشروع الجاد والرصين، ذاك الذي يتخلق في محليته ثمّ يشقُّ طريقه الوعر نحو أفق عربي وعالمي.
فتسنى لـ نزوى ومنذ البدء أن تُشيع المعرفة، وأن تنشد التعددية، فبقدر ما كشفت عن أسماء محلية، ثوّرت علاقة أخرى بين المراكز العربية الكبرى وهوامشها، فكُتب لها أن تجاور أهم الدوريات والمجلات في الجامعات العريقة والمكتبات العربية والعالمية، إذ بقدر ما أضاءت سمات الشخصية العُمانية وأنماط عيشها وتفكيرها وامتدادها التاريخي، قوّت أيضا جذر مشتركاتها العربية والعالمية بل وسمحت لأصواتٍ مجهولة -في ميزان قوى المركز والهامش- أن تترك انطباعات وتصورات عنها بالكتابة الأصيلة أو الترجمة. كما ظهر لنا الاعتناء الباذخ بشتى العلوم والمعارف التي كانت هدفًا شديد الوضوح في ذهن صنَّاعها، “في الفلك وعلوم البحار والطب والتاريخ وعلم الكلام واللغة وأصول الفقه وكذلك الشعر والنثر الفني الرفيع”.
سيف الرحبي صنيع الصحافة الثقافية العربية والأسفار التي أخذته باكرًا إلى مصر والإمارات ودمشق وبيروت وباريس ولندن وهولندا والمغرب وغيرها، سيف الرحبي المسافر أبدًا في النصّ والمتأمل في القصيدة، والمنفتح على الموسيقى والسينما والمسرح.. فكلّ ما كان يعبر “ابن الداخل العُماني” من تجارب ومخاضات على الصعيد السياسي والثقافي والفكري، كان يشدُّ من أزر التجربة، ليتبلور في مضامين المشروع الذي سيغدو لاحقًا مشروع حياة كاملة، حتى وإن ردد بيننا كمن يتطير: “بأنّ كل عدد من نزوى كان يحمل بداخله بذور موته”، غير أنّه كان يُفسح في كل مرّة لحياة عدد بعد آخر، يفتح الأذرع لتتنفس الأفكار والفنون ولتعيش النصوص حياتها الجديدة بين قرائها. فتلك النزعة للانفتاح على صنوف متباينة من الأدب، جعلت المجلة لا ترتهن إلى شكل أو مضمون ثابت، وإنّما تنهل من ينابيع المعرفة بين ما يقترحه الكُتاب والمثقفون وبين ما يُكلف به كضرورة لتأكيد اتصال المجلة بالمتغيرات والأسئلة التي تعتمل في العالم، لاغيًا بذلك الحدود بين مدارات الأشكال الأدبية وأزمانها، ومُتيحًا الفرصة لزوابع الاختلافات أن تنمو في متن السؤال المعرفي لا خارجه، فلم تَمِلْ المجلة يومًا لشكل بعينه ولم تكن أسيرة تصنيفات جاهزة ومُقننة، فلطالما فتحت مظلة آفاقها على تنوع باذخ من الدراسات والمتابعات والحوارات والترجمات، ولطالما نظرت إلى الفن دون تزمتٍ مُحددٍ وجامد. فحفظ مشروع مجلة نزوى جوهر المعادلة بين التراث والحداثة، فلم تنشأ بينهما قطيعة معرفية تُذكر، الأمر الذي منح المجلة ثقلًا وتنوعًا ما كان ليكون لو أنّها انشدَّت لأحد التيارين، أو وقعت في حُفر المناظير الضيقة والعقيمة.
لكن وإن سمحت مجلة نزوى للأشكال المتباينة أن تتجاور على صفحاتها فإنّها لم تكن تُغذي الصراعات ولم تتوسل الأحقاد، ولا الانزلاق المجازف في نهر الضغائن، وإنّما ذهبت بجرأة وثابة لما يُتيحه الحوار الأصيل من تدافع، وما تمنحه المخيلة من اتساع، فلقد رأى سيف الرحبي في التراث جوهر اللحظة المعاصرة، كما رأى تجدد التراث في أوصال الراهن، وهو على نقيض ما تتوسله بعض الأصوات التي ترى التراث كباعث على الشقاق والفرقة، فالفيصل في الأمر مرده الحفر فيه وإعمال النقد الجاد لا النزوع إلى ظلامية مروعة تطول المجتمع وسياقات الحياة المتنوعة.
إنّ الكلمة الأولى التي نكتبها اليوم تعيدنا مجددا إلى الكلمة الأولى التي كتبها الرحبي على صفحات هذه المجلة، لنشهد مدى الاختلاف الشاسع بين المرحلتين -وهو ما يستحق منا الاستقراء والتمحيص لرؤية مناظيرنا الثقافية من مسافة آمنة- فثمّة إشارة واضحة إلى جهل الآخر بعُمان ومكانتها على الصعيد المعرفي آنذاك، بينما الآن وعقب العقود الثلاثة نكاد نجزم بأنّ المشهد العُماني الثقافي بات أكثر سطوعًا، والأمر قد لا يتعلق بالجوائز التي حصدها الكُتَّاب العُمانيون وحسب، وإنّما بالبصمة التي تركها مشروع متراكم ظل يُنبئ عن نفسه واستحقاقه رغم ما اعتوره من توارٍ وخجلٍ وبطء.
عندما قُيّض لنا أن نقرأ الرسائل الأولى التي خُطت بأيدي كُتّاب وباحثين ومفكرين من الوطن العربي والعالم، والتي يعود بعضها لأشهر سابقة على صدور العدد الأول 1994، لمسنا ابتهاجها بقدوم مغامرة من هذا النوع، لا سيما من بلد مثل عُمان، وإن خشى البعض أن تكون “نزوى” مجرد “نزوة” عابرة، أو أن تضمحل عندما يشتد التضييق عليها. ولعلنا نظن في هذه البرهة الزمنية أنّ ذلك الشعور العميق بالزوال والخوف من المحو، كان يولّد ميكانيزماتها الدفاعية التي قوّت متنها فانبثق من نواة ذات المشروع أسباب حمايته من التقوُّض والاندثار.
هل يمكننا حقًا أن نقيس أثر الثقافة بلغة الرياضيات والأرقام؟ لكن ماذا عن القيمة غير المنظورة التي تذوب في نسق الحياة؟ من الأكيد أنّ الثقافة لا تلعب دور الفيتامينات التي يظهر أثرها عقب بضع جرعات، فالتغير الثقافي لا يحدث بسهولة، كما لا يحدث مرة واحدة، إنّه ينمو على مهلٍ مضنٍ.
قد نظن أنّ الثقافة في حالة كمون وخواء، لكن مياهها الباطنية تموج في الطيات السُفلى.. تشتد وتيرتها وتضعف، تقوى وتصاب بالهشاشة وفق متغيرات شديدة التعقيد، فعندما نقول الثقافة فنحن لا نقصر المعنى على القصص والأشعار -رغم أهميتهما- وإنّما نقصد الثقافة التي تمس عصب ثيابنا وطعامنا وغنائنا وفلكلورنا الشعبي وتراثنا وعمارتنا وبيئتنا والفلسفة التي ننظر بها لوجه هذا العالم المتغير بين شفافيته وغموضه وجماله وقبحه. وكل هذا لا يحدث جراء ضغطة زر، وإنّما كما وصف الشاعر المغربي صلاح بوسريف الأمر قائلا: “التغيير لا يحدث فجأة، بل يحدث بوتيرة بطيئة، لأنه تغيير في الذهن، في العقل، في جهاز تفكيرنا ونظرنا، وحالما يحدث هذا، فهو يُغير الكثير من الأمور الأخرى في المجتمع، يُغير علاقتنا ببعضنا، علاقتنا بالطبيعة والفن، بالمدينة والأمكنة والفضاءات، يُغير بيوتنا وعاداتنا وهذا في تصوري أخطر تغيير قد يحدث”. أمّا المجلات الثقافية باعتبارها مفردة من مفردات الثقافة، فقد تُحدث بواقع ما تدخره بين طياتها من فائدةٍ وإمتاعٍ قوةَ تأثير بين أوساط قرائها، ليس من اليسير قياسها في وقتها، لكنها في ذوبانها المستمر في نسيج المجتمعات، تتركُ أثرًا يطول البُنى التي تصوغنا وتشكّلنا.
في الندوة التي أقيمت بمناسبة إكمال 30 عاما على الإنجاز الثقافي لمجلة نزوى، ضمن برنامج معرض مسقط الدولي للكتاب في الدورة الثامنة والعشرين 2024، وبحضور نخبة من المفكرين والأدباء من مختلف دول العالم. طُرح موضوع تصلب الثقافة أمام التحولات التي يقترحها الذكاء الاصطناعي من جهة، والمخاوف العارمة من الانزلاق في وحل التسليع من جهة أخرى، إلا أنّ السؤال الجوهري الذي كان يشع من مكان آخر: ماذا بعد 30 عاما؟ وكيف يمكن لجيلٍ مُغاير عن جيل الثمانينيات أن يجد انعكاس اهتماماته وقراءاته ماثلًا بين صفحات المجلة دون أن يُكلف ذلك خسارة الثقل النخبوي والدور التنويري؟
أشار معالي الدكتور عبدالله الحراصي وزير الإعلام، إلى أنّ مجلة نزوى مهدت الطريق عبر إنتاجها لثلاثة أفلام تتحدثُ عن الوجود العُماني في شرق أفريقيا بالتعاون مع شركة ديماكس الألمانية، فأعطت دلالة أولى على شكل مغاير من السياقات الثقافية، وهو ما تفتح له المجلة في هذا العدد ملفًا خاصًا لقياس مدى حيوية التجربة في تماسّها مع روح العصر المنشودة، وهي تجربة يمكن أن يُبنى عليها المزيد من الاشتغالات التي تصب في نهر الاندماج.
لقد خاطبت المجلة في أوانها جيلًا متمردًا راغبًا في التحليق خارج ما هو مألوف، ولذا تبدّت مجلة نزوى آنذاك كمن يصنع وشائج جديدة، تربط القراء العرب بينابيع العالم في وقت كانت فيه المجتمعات الرجعية تكبح جماحه. ولعلنا نتذكر ما قالته الكاتبة الإماراتية ظبية خميس في الندوة آنفة الذكر: “تأصلت المجلة مع رواد الحداثة آنذاك وقد هرموا الآن، ولذا يجب أن يكون السؤال: بعد 30 سنة من الاستمرارية، هل ستبقى على ما هي عليه؟ فبعد 30 عاما ما كان جديدًا بات قديمًا، وما كنا نُناضل من أجله ليس ما تغامر من أجله الأجيال الحالية. علينا أن نعيَ بأن هذا الجيل ليس مُحملًا بما كنا نحن محملين به، ولذا علينا أن نفكر في تغيير المحتوى والشكل، وعلى المجلة أن تجد علاقة جديدة مع الأجيال الجديدة. كيف يعبّرون عن أنفسهم عبرها وما هو سقف الخطاب الذي يرغبون به؟”
إنّ هذه الأسئلة هي لُبّ ما يشغلنا الآن حقا، وقد لا تأتي الإجابة في عدد قادم أو عددين أو ثلاثة أو حتى بعد سنة من الآن، فهذا النوع من الوعود زائف وإن كان مُتمنًى، فالأمر ليس كما يسلخُ الثعبان جلده القشري عندما يضيق عليه فيصيبه التمزق، وإنّما هي رحلة نمو شديدة الحذر والترقب كيلا يفقد المشروع سماته وعلاماته، تلك التي نراهن أنّها تدحض قيم التسليع سريعة التلاشي التي تحدثنا عنها سابقا. لكنه الحذر الذي لا يمنع أيضا أن تنمو عضلة الثقافة بالمعنى النوعي والعميق، لمد صلات جديدة ووثابة تجاه مغامرة لا تقل جرأة عن جرأة البدايات وشغفها بالمغاير. فالحداثة كما قال الكاتب الجزائري أمين الزاوي: “ليست شططًا وإنّما مشروع”.
أمّا السؤال الذي ينبغي أيضا أن يتصدر الخطوط الدفاعية الأولى للمجلات الآن: كيف يمكن أن تكسر -المجلات- طوق عزلتها الثقافية التي أحاطت بها؟ وكيف تجاري وعي الجيل الجديد دون إسفاف أو ميوعة!
الآن وبعد ثلاثة عقود، ندركُ بأنّ هنالك من ذلّل الطريق الوعر، هنالك من حفر حدود الجغرافيا، هنالك من روّض النأي، إلا أنّ الراهن ينصب شراك مخاوفه الناتجة عن شعور مُضمر بشيخوخة المجلات وتكلسها إزاء تقدم أشكال البدائل المرعبة.
أحد أكثر الفخاخ السامّة التي نقع فيها الآن راجع إلى ما يعتري العالم من تسطيح للوعي، ومن رغبة جامحة في أن ننتمي كلنا إلى صورة واحدة رفضا لتنوعنا الأكثر ثراء وغنى، الأمر الذي يجعل هذا العالم الذي نظنه صلبا يتداعى ويضطرب كفقاعات تضمر بمجرد تعرض سطحها الهش للهواء الخارجي! فالعطبُ العربي أهلك المعنى الذي تنهض عليه المشاريع الثقافية، ولا أدل على ذلك أكثر مما يكتنف واقعنا السياسي من هوان، فالوضع السياسي لا يتقوقع في عزلته، وإنّما يُلقي بظلاله الغامقة على الحالة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا بالتأكيد لا يعني رفع راية الخنوع وإنّما الاستمرار في ايقاد الجمر الماكث تحت الرماد، فنحن في أمسّ الحاجة إلى التنوير لا التشرنق في الانهزامية، نحن في أمسّ الحاجة إلى القبض على ضوء الراهن ودلالات المعرفة لا النكوص إلى طابع استهلاكي مُدمر.
وليس الواقع السياسي وحسب هو ما يصعب علينا المهمة، وإنما عدم قدرتنا على تصور انهيار قبضتنا المهيمنة -كصحف ومجلات- على سلطة الكتابة وسلطة المعرفة، إلا أنّ هذا التحول الذي نظنه سلبيًا وموشكًا على تقويض وجودنا، هو نفسه الذي يمكن أن يبعث حياةً جديدةً بسماتٍ متصلةٍ برؤى العصر وإمكانياته، فيما لو وضعنا -تفكك السلطة الثقافية- تحت مجهر سؤال السياق المعرفي الجاد.
من المؤكد أننا بقدر ما نُكابدُ الارتياب من جدوى استمرار المجلات، نكابد الخشية من فاعلية القارئ المفترض، من شرط العصر وجموحه، لكن الحل لا يكمن في امتثالنا إلى الراهن العبثي وهذيان السرعة -اللذين يفترضان انقراض المجلات- وإنّما في إعادة البطء الحيوي، حيث تتخلق الجدوى ويُدحض الزيف، حيث تجري أنهار عدوى الجمال والفلسفة والعلوم الإنسانية في نواة الثقافة، حيث يتبرعم المشروع العربي الذي ضل طويلًا بوصلته.
ولذا يجدر بنا أن نفكر مليًّا في “صيرورة الزمن” وفي “إعطاء القيمة والمعنى” مجددًا لاشتغالنا، فالمراوحة المستمرة بين ما يقترحه الراهن وبين ما يمكن تجذيره من قوة ومتانة هو ما سيخلق ديناميكية السؤال الثقافي، إذ لا يمكن لمشروع خطابٍ ثقافيٍّ أن تدور عجلته دون فعل واشتغال وحركة في المعنى، دون عقولٍ جديدةٍ تشرئبُ فوق سطح الاستهلاك العابر، دون التقاطٍ عميقٍ لما يدُبُّ في الوعي العام من هواجسَ ومقاربات.
توقف المجلات لا يعني بالتأكيد توقف سؤال المعرفة، فهذا السؤال مرتبط بحياة الإنسان على وجه البسيطة، فسؤال المعرفة رديف الحياة والتدفق.
وفي هذه اللحظة التاريخية علينا أن نُبرهن على أن المجلات الثقافية تمتلكُ من الإمكانيات ما يجعلها غير متخاصمة مع لغة العصر وأجيال الإنترنت، وعلى الحكومات العربية أن تُغذي فكرةً أصيلةً بحاجتنا للثقافة في كل ما يعتمل حياتنا من صخبٍ وهياجٍ وثوراتٍ تتخطى الأطر المُحددة والمألوفة، فمفرداتها وتردداتها -أي الثقافة- ينبغي أن تُنبئ عن جريان الزمن الحتمي فيها، جوار تلك الرؤية الخاصّة والفريدة للحياة والوجود.
علينا أن ننجوَ بأنفسنا من تقشف وقصور الرؤية تجاه مشاريعنا الثقافية، وعلى بصيرتنا أن تنجوَ من العمى والخدَر المثبّط لأذرعنا الفاعلة، فقد لا تعود المجلات الثقافية علينا بالمردود المالي المؤمل على سبيل المثال، إذ يعتاش أغلبها على الحكومات الداعمة، لكن علينا ألا ننظر إلى الخسارة في اتجاه واحد، وهو إنفاق المال، علينا أن ننظر أيضا إلى المرتجع الذي يُسهم في الكشف عن الأصوات القادرة على غرس ما سيُحصد غدًا من أفكارٍ ورؤى وتطلعات، علينا أن ننظر إلى ديناميكية إنضاج التجارب التي ستصبح أكثر فاعلية في المجتمع جيلًا عقب آخر.
إنّ الإنسان الذي دأب منذ البدء على ترك الإشارات التي تعني أنّه عبَر مكانا ما، بالتأكيد لن يتوقف يومًا عن الانشداد إلى هواجسه ومخيلته وما يشعه الفكر من غموض وثورات، وهذا -وإن تجلّى في سياقات كتابة جديدة- سيجعل المجلات الثقافية تستعير حيويته النابضة لتعجنه بمناهجها وتحليلاتها، وبمزيد من التفاؤل فقد تَصنعُ الثقافة ما تفشل فيه السياسة، عندما تتهيأ لهذه الجغرافيا المتناحرة أن تُعلي صوت العقل والبرهان والحجج بأقلامها لا بإسالة الدماء، لا سيما في وقت يتعكر فيه صفو المجتمعات العربية بالطائفية والرجعية البغيضة، إذ يمكن أن تفتح المجلات الثقافية قوسًا بين أقطاب العالم، وأن توفر خاصية الإصغاء للأصوات المغايرة، وهكذا تدخلُ للحداثة وتعمل التغيير الذي لا يمحو سماتِها وخواصَّها.
أن تُعطَى مجلة نزوى فرصتَها لأن تعيش حياتها الجديدة في منعطفٍ زمنيٍّ كهذا، وأن تُحمّل أجيالًا شابةً مجابهةَ وحوش التغيير، لهو إيمانٌ عميقٌ يجعلنا نتأكد حقًا من جدوى بقاء المجلات كمصدَّاتٍ آمنةٍ ضد الهشاشة والتفتت، فكل ما تأمله مجلةٌ طليعيةٌ مثل مجلة نزوى في هذا المنحنى العاصف، هو أن تُجيب على سؤال المستقبل وأن تقبض على جوهرها الرصين في آن.
هدى حمد
رئيس التحرير المكلف