ان محمد خلاف وهو صديقي منذ التحقت بالجامعة، وصديقي الآن، لم يكن سيستهين بهذه الشهادة، ولو أنه كلف بها، لخصص لها أكثر من رزمة ورق أبيض، وأكثر من مائة ساعة خالصة، ولكتبها بأسلوب جاد صارم، أسلوب يخلو من الزخرفة، ومن الحكايات، على الأرجح كان سيضيف اليها نبرة جدية تفتقدها، أظن انه كعادته كان سيهمل الأماكن والاشخاص، في سبيل ان يجعل المشهد فكريا ومجردا جدا، وكان سينبه القارئ دائما الى أن الافكار المعروضة يجب أن تكون واضحة وفي كامل استعدادها للعرى، أفكر الآن في الكيفية والأوضاع التي سيتخذها محمد خلاف أمام مكتبه، سينسى انارة الأباجورة، وسوف يفكر في مسؤوليته نحو الآخرين، ويعيد فحص موقفه النقدي من العالم، وبناء على ذلك ينظر بصفة خاصة الى عمله من منظور جديد، أي أنه يلزم نفسه على اتخاذ موقف، ويصبح واعيا بأن طبيعة فنه تتطلب أن يصرف اهتمامه الى الواقع، الى بعض جوانبه، انه بهذا المعنى يقرر الا يصبح مشاهدا منفصلا، انه يلعب دورا في المسرحية التي يردها، ولذا فهو يحب ان يكون ذلك الممثل الواعي، ولكنني ومثل رفاق آخرين في الهواية والمهنة وسوء الطالع، أعترف أنني كنت ديكتاتورا عنيفا، أصنع للآخرين المشانق، وألوث جذوع الا شجار، وأعتنق قوة الخيال وطاقته الخام الهدامة، ومثل كل رفاقي، كنت تابعا، عرفت الهزيمة، وعرفت السلطة المطلقة، والتنوع الباذخ الشرير، وخسرت بيادقي في أكثر من لعبة، وكسبت بعضها في أكثر من لعبة. وبصورة لا تصدق كانت التناقضات الحادة والتراوح بين ظلال الوجودية والماركسية والدين مدخلا لائقا للالتزام وكانت سنوات أول الشباب أوا خر الستينات وبواكير السبعينات هي سنوات الفضول والرغبة وفتح النوافذ، والبحث عن المخطوطات الأصلية لكل فروع المعرفة، والتي كانت تتوج دائما بدفع غرامات وتكاليف، وقضاء عدة ايام في حضن الميتافيزيقا باعتبارها السجن الأمثل، وكاي ناشئ مفتون، كنت أضع اسم الحكيم تروتسكي الى جوار أسماء السادة أنسي الحاج وجان بول سارتر وادونيس ومار كمر وأيضا جدا نوف، لم يبد لي أبدا ان هذا العمل – ترتيب وصف الاسماء- عمل اعتباطي، عرفت فيما بعد انه كان استجابة لنداء، استجابة لتورية، ذات مرة فكرت مليا في البحث عن كل أسلافي، اعتبرت في البداية ان جسد عبدالناصر وأبخرة أنفاس عشاقه ومواليه ستقف في طريقي، ولما مات، تجاهلت مواليه وانتهيت الى الاعتقاد انه يمكنني ان أتعرف على ما فاتني من الاستعارات والرموز، وبالتالي يمكنني أن أتعرف على مسؤوليتي ودوري، راودتني حقائق أن الأدب عمل فردي، وفرد يته مخاطرة دونها يموت الفن، ولكنني ايضا انشغلت بهاجس النظر الى الكتابة كنشاط اجتماعي لانها تنبع من ارادة الكاتب الثرية، ارادة الاتصال بالناس، وأن أحد وجوه اللغة، واحدي وظائفها، هو كونها وسيلة اتصال، تنضح بما يريد ان يقوله الكاتب، فتنضح بمسؤوليته، الأكيد أن الكتاب لن يستطيعوا تغيير العالم لمجرد أنهم كتاب، وأن كوخ العم توم ليست السبب في الحرب الأهلية الامريكية، وان الكتاب لا يمكن ان يخلطوا بين الفعلين: الفعل على اطلاقه، والفعل الأدبر. علو. التخصيص، واذا كان الالتزام مستترا وكامنا في الأدب كله فانه لا شك فكرة أوجدها القرن العشرون، ووضعها على السنة بعض فلاسفته لانها تلائمه، تلائم ظروفا محددة فيه، وان الدراما تكمن في الدوران كما ألفنا بين فلكين: العمل والعمل الأدبي، تكمن في الخوف من الأدب باعتباره كل شيء، والخوف منه باعتباره لا شيء، وخلف هذه الدراما مغامرة هامشية متواضعة ولكنها أعمق وأكثر قدرة على المفاجأة واثارة الدهشة، وهي تلك المرونة التي يتمتع بها مصطلح الالتزام، انه ينتقل من طرف الى طرف دون أن يخسر، دون أن يغير ماكياجه، يمشي وكأنه أمارة الفعل الثوري، قل يمشي مع الثرار دائما، في زمن كنت ترده يتقدم مع الطليعة اليسارية، وفي زمن آخر ترده يتقدم مع طليعة الاسلاميين، وجهه بغير تجاعيد، وعضلاته مشدودة، وشفتاه مزعومتان، وقدرته على التحريم والرجم غير محدودة، وبعد أن كان رعاته الرسميون محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس وحسين مروة، أصبح وعاته الرسميون آية الله الخميني وآية الله الترابي وحزب الله وحماس.
انجيل ماركس وتقرير جدانوف
ماجدة فكري هي المرأة الوحيدة التي قابلت ماركس سرا، ونظفت لحيته ومشطتها ثم سرقت منه النسخة الاولي من البيان الشيوعي: وفي بيتها سمحت لي بقراءة الصفحة الأخيرة، ولم تقبل أن أقلب بقية البيان قبل ان تختبر مدى صلاحيتي، أكلنا معا الأرز الابيض والخضراوات في بيتها، وحكت عن حبيبها وعن أصحابها، واختفت وظهرت ؟ ولما أفرج عنها وغادرت سجن القناطر وواعدتني وقابلتني وسعت الى تجنيدي، وعلى الرغم من انها لم تفلح، الا أنها انتشرت في مياهي وبحيراتي الداخلية، صحبتها الى أماكن العشات، الجبلاية، وكانت كلما مر رجل احترزت واقتربت مني وهمست كأنها تحبني، وهناك كانت تمدي بالمنشورات السرية، زارتني في بيتي واعترضت على شكوكي وترددي: يا عبدالمنعم، الأدب نشاط اجتماعي، يهدف الى الاتصال بالناس، ولابد أن يشعر الكاتب بالمسؤولية، واذا كان ضروريا أن تقرأ النظرية فليس لانها هي الاساس، والواقع الحي مخلوق على صورتها ومثالها، وليس لأنها نقطة الانطلاق والتفجير، بل لأن الواقع الحي يحتاج الى أدوات اكتشاف، والى طريقة مضمونة وحتمية، ثم تنفجر كأنها زوجة بليخانوف: ان قيمة الانتاج الفني تحدده بشكل نهائي قيمة مضمونه، وأنت يا صديقي تمشي في الاتجاه الخاطئ، تهدأ وتمسح غضبها في ابتسامة عفوية.
قابلت ماجدة أولا في الجامعة، وكانت الجامعة لي ولغيري مكانا للولادة الثانية، مياهها مخلوطة بسوائل كثيفة ومرنة، سوائل الايديولوجيا، ومن كل أركانها وحدائقها وممراتها كان الماركسيون يفاجئونني كأصدقاء وحبيبات وأفاكين ودعاة وطغاة ومروجي شائعات، كنت أعجب من تشابههم ونمطيتهم، ولم استطع أن أرجع هذا التشابه الى سبب واضح، واكتفيت، لعله تشابه الأقليات، ومزيج رغبتها في التميز وحاجتها الى الالتزام، كنت أسمعهم وأجبر نفسي على التفكير فيما يقولون كأنني برجوازي صغير يخشى على ممتلكاته من الضياع، رأيتهم يرددون الصفات الكبيرة ومنها الواقعية الاشتراكية، كنت أظن أن الالتزام هو الصفة المميزة للواقعية الاشتراكية، فيما بعد أدركت أن كل الطبقات والمذاهب تدعو بشكل او آخر الى الالتزام، في الجامعة نبهني الماركسيون وبخاصة ماجدة الى أن الالتزام يكون سياسيا بالطبقة العاملة، وفلسفيا بالجدل المادي قلت لها: نعم، فاستطردت: وانه ينبغي على الالتزام ان يعطي صورة كاملة للوا قع الانساي، في الجانب الآخر كان هناك خصوم ماركسيون أيضا، قالت لي ماجدة: احذرهم انهم تحريضيون، كانوا يزعمون ان الواقعية الاشتراكية ما هي الا تبسيط مبتذل للتطبيق الماركسي على مجال الفن، وانه لا يمكن ان يوجد مذهب أدبي اسمه الواقعية الاشتراكية، فتترجرج بشدة مقولة الالتزام، كانوا يزعمون أيضا ان المعرفة الادبية والفنية ليست محض ذيل لأية معارف أخرى، ان المعرفة الأدبية والفنية لابد أن تكون لها قوانينها الخاصة، وأن الشعر، كانت ماجدة تعتبره نصيبي الوفير من اللعبة، أقول إن الشعر نشاط انساني يختلف تماما عن السياسة، ماجدة تصحح لي: الأولى ان تقول صراع الطبقات لا أن تقول السياسة، وأن معايير الشعر لا يمكن ان تكون معايير سياسية، مع العلم انه يتفاعل مع كل الانشطة ومنها الانشطة السياسية، ويظل بعد ذلك صاحب دلالة نوعية مستقلة، في هذه الفترة كانت الماركسية هي القارئ الاول لكتاب الكون، وكنا نصدقها ونتبعها وهي تتحسس الأرض وتؤكد: يا أطفالي، من غير المعقول أبدا على ماركس ان يعتبر الاعمال الفنية انعكاسا مباشرا لاسباب مادية واقتصادية، فنؤيدها: نعم يا أم، من غير المعقول، تواصل: العامل الاقتصادي أحد العوامل، أي انه عامل ضمن عوامل أخرى كثيرة تؤثر في الفن، صحيح انه العامل الحساس والحاسم، عامل العوامل، وان العمل الفني يحيا في عالم اجتماعي، وكل عناصر العمل الفني تكشف عن وجوه تأثير المجتمع، واذا كانت استخدامات القوميسير جدا نوف لمبدأ سليم صلبة ومتعسفة، فان المبدأ نفسه صحيح، انه مبدأ مسؤولية الكاتب نحو مجتمعه بما يتوافق مع ما يحتاجه الانسان المعاصر، فهو يحتاج الى الفنان كي يصور له حياته، يصورها خالية من الأوهام ومن النفاق، وكي يبين له سبل الخلاص، وايضا يتوافق مع ما يستطيعه الفنان في أن يجد في مأساة الانسان المعاصر مصادر الهام تحفزه على مصارعة كافة عناصر الاسفاف والبذاءة مصارعة محترفين، شرط أن تنبع ايديولوجيا الفنان من ذاته وان تكون جزءا لا يتجزأ من شخصيته، فتصبح الايديولوجيا ضرورة داخلية تحمل سمات صاحبها الشخصية، في كل ما سبق كانت ماجدة تبدو اجمل وأقرب من النقد التطبيقي الماركسي، هل التسمية جائزة، أذكر كان هذا النقد يقوم بمهامه الكبرى في التحامل على الاعمال التي لا تنطبق عليها مفاهيمه، واتهامها بالتفاهة وضيق الأفق، ووصفها أحيانا بأنها شكلية اذا كانت تنحو نحو الفن الخالص، ووصفها في أحيان أخرى بأنها تفتقر الى الدلالات الاجتماعية، وبالتالي بأنها مجرد اعمال بورجوازية، ويكشف النقد الماركسي بتطبيقاته تلك عن حرصه الدائم على تقييد الموضوعات التي يجب ان يعالجها الفن، مما بدا وكأنه نشيد هزلي يسعى الى هدم الفن في الوقت الذي يزعم فيه انه يحميه، تخيلت دائما ان كل بلد لابد من ان تلتحق به صحراء شاسعة، ويكون اسمها صحراء سيبيريا، وان المنفيين اليها هم دائما الخارجون على آليات النقد الماركسي لأن جهازه الذي يستخدم عبارات مستمدة من التركيب الاقتصادي للمجتمع والتي لا تصلح الا لمعالجة سضامين أي عمل وأفكاره، ولا تصلح لمعالجة عناصره الشكلية، كانت ماجدة تراقبني وتتهمني بالتذبذب وعدم الاستقرار فيما كان النقد الماركسي يكشف عن محدود يته وقصوره، مما أدى الى اصطدامه ببدهيات ثابتة، فالأكيد ان الفكرة الاجتماعية داخل العمل الفني ليست ما هي عليه خارج العمل، وانما تتحول عن طريق كيمياء العمل وجسمه وتكتسب دلالات مختلفة، مما يعني ان المقولات المستمدة من النظرية الاقتصادية او الاجتماعية لن تكون كافية للحكم على المضمون الفني، واذا كان النقد الماركسي يبحث عن حكم قيمة يرفع قدر الأعمال التي تعبر عن احتجاج الطبقة المنوطة بالثورة، وعن نبضها وتطورها، ويستند الى الاخلاقي بدلا من الجمالي، فانه المسؤول عن محاولاتي الدائمة لتعطيل ماكيناته، لم يكن غالب هلسة سعيدا عندما تساءل، هل الفن مجرد وسيط لنقل الفكر السياسي والأخلاقيات السائدة، وهل وهل، في ذلك الحين كانت قصائدي غامضة، وكانت ماجدة تطاردني وتقول لي: ان سبب ذلك يرجع الى التفكير الاجتماعي المطموس وغير المحدد. تصادف انني تذكرت وجه ماجدة واستعدت الملامح ونظرت اليها وتأملتها تحت شمعة فيرمان هسه، وأمام مراته، واستغربت لان أحد أبطال فيرمان هسه كان فنانا وحائرا، وضالا، يعزف على آلته فيفتن الراعية وتقبله ويؤلف القصائد والأنماي، ويستعد للزواج من الفتاة محبوبته، يرى في منامه بحيرة وكوخا وشيخا يفاجئه ويدعوه لزيا رته، في اليوم التالي يستأذن العاشق من ابيه ويترك عروسه التي تجهزت للزفاف، ويسافر بحثا عن البحيرة والكوخ والشيخ وبعد تفتيش طويل يجد البحيرة والكوخ ويفاجئه الشيخ على طريقة الحلم، يمكث الشاب ويتعلم أصول الفن، ينازعه الحنين أحيانا، فيطرد الحنين، وبعد ان يتم تعليمه يموت الشيخ ويعود الفنان الشاعر الى بلدته ويبحث عن والديه وعروسه وكلابه، يكتشف ان والديه انصرفا في صحبة الموت وان عروسه اصبحت أما لشبان وشابات وانه أصبح شيخا وعازفا وشاعرا عظيما، ان فيرمان يلح على تربية الفنان تربية صوفية، يختار القطب، فيتفادى آلام اختيارات خاطئة كثيرة، ويتدبر الاجابات السرية على اسئلة: لمن نكتب ؟ ولماذا نكتب ؟ هكذا كانت الحركة المتصلة والدائبة بين الاجيال، الحقيقة أن ضباط يوليو 1952 حر مونا من براءة أرواحنا، هدموا الجسور وأقاموا مقامها أكواما من سوء الظن والتفاهة، واصبح كل جيل يبدأ وكأنه يبدأ عند درجة الصفر، لم أستطع أن اتشبث بالالتزام الذي رسمه لنا آباء الكنيسة الماركسية المصرية، ولم تستطع ماجدة ان تتشبث بالتزامها، كانت تبحث عن حق الحياة خارج العلب، وتكتفي بالحنين الى الماضي، وكنت أبحث عن الشعر، دون أن أجد ما أكتفي به.
بحث أنسي الحاج
أعرف انهم يتهمونه بالشراسة، وربما بالجنون؛ ومثل هذه الاتهامات تبعث على السخرية، صحيح انه يقر دائما بان الشعراء لابد ان ينهزموا قبل نهاية الفيلم، وأنه لهذا السبب يخشى ان يغادر بيته او مدينته، وصحيح أيضا أنه يكاد أن يصبح رسولا، ويكاد ان يجعل السماء أهم قطعة أثاث في بيته، هناك أكاذيب سخيفة تطارده، آخرها انه يؤلف كتاب صلوات جديدة، وأنه يعفي الشمس من السجود الا اذا استقرت الأرض تحت ساقي امرأة. أعرف انهم يتهمونه بالخوف من الشعر، بالخوف الجارف من عصر الثورات،من خو ائه وخو ائها، ومن الدعوات الدائمة القائمة على مديح الالتزام، اكتشف انسي أن أغلب الكلمات الرائجة لا تعني شيئا، ركلها فانتشرت في الطرقات وعطلت الحركة، كانت الكلمات تشبه سحبا جافة، كلمة الرجعية، وكلمة التقدم، اكتشف انسي ثانية ان الكلمة الوحيدة التي سازالت تعني شيئا معينا هي كلمة التمرد، التفت أنسي الى الفارق بين التمرد والثورة، وكان يقول في نفسه: ان الفرد المحسوس هو الموجود الحقيقي، وان النوع الانساني صورة ليست لها حقيقة خارجية في الوجود، ومتى كان الفرد هو الموجود الحقيقي، فلا معنى للتضحية به وبحر يته وضميره من اجل صورة لا وجود لها في عالم الحقيقة، وكان يقول: ان التمرد بمعنى ما هو انتصاف للثخصية الانسانية، انه المخرج الذي دبرته الحياة للنجاة من المأزق الخطر على الافراد، مأزق الغاء حق الفرد في جانب حق الجماعة أو حق الدولة، الثورة عند انسي عمل منظم، انها تغيير واستبدال، تغيير نظام بنظام، تغيير لغاية آنية، في حين أن التمرد فردي، التمرد يمتاز بأنه ليس جماعيا، يمتاز بأنه الوحيد في الحقيقة الذي يغير الواقع، الثورة انقلاب، مجرد انقلاب، قيمتها لا تكمن فيها، انها تعبير جماعي تضيع فيه القيم الفردية والاصالة الذاتية، الأرجح ان الحماسة الثورية حماسة سطحية، الثورات كلها قلما خدمت الفكر، كلها غالبا ما تؤدي الى انطفاء جذوة الانتاج الفكري والفني: ومن طبيعتها انها لا تستطيع ان تتحمل أي شيء يخالف اتجاهها، ان الثورة مطلقة، اسلوبها مطلق، ولذا فهي تسعي دائما ان تمحو، الأصح أن تسحق ما لا يتفق معها، انها تحب أن تحكم وتتحكم. الثورة الحقيقية تحدث فقط في العقل وليس في النظام، ذلك عندما يتعمم تطبيق الافكار السائدة، فتنوجد افكار جديدة تدعو الى حياة جديدة، وكأن الثورة بهذا المعنى حركة شكلية، حركة تشبه حركة التطور الزمني، ان الثورة بقدرتها الفائقة تقضي على ذاتية الفنان بحجر مختلفة وأساليب مختلفة، بمعنى آخر انها اذ تهدد الفنان وتحاربه، فانها تهدد معه الحضارة وتحاربها؟ والثورة في الأدب محض تغيير أشكال ومفاهيم وإدخال موضوعات جديدة، وإيجاد مقتربات للمياة وقضايا للنفس جديدة، الثورة عملية خارجية، انها لا تتقدم بالمجتمع، التمرد يتقدم بالمجتمع، الثورة تعرف كيف تنال السلطة، انها آنية، وعندما تتحقق، تتحول بدورها الى غاية لثورة قادمة تنقلب عليها، بينما المتمرد يظل هكذا متمردا أبدا، انه كيان أبدي، التمرد يقترن بالحرية وبكراهة الانسان، أحيانا تستعمل الثورة لغة التمرد، الصحيح انها تهينها، فالثورة تعد مقصلة واحدة لاعد ائها الطبيعيين، وبقية المقاصل للانسان المتمرد، والمتمرد في أجلى صوره هو الفنان في أجلى صوره لان الفن اكثر التصاقا بالذات، والذات مستودع التمرد، بها تنتصب شعلته، كل الثرار ينضوون، والمتمرد لا ينضوي، الفنان المتمرد لا ينضوي، الأكيد ان المتمرد ليس الفوضوي، المتمرد كائن لا يقنع بالأفكار والاساليب الموروثة عن مجتمعه، ويحاول ان يأتي بالجديد، ولا يقبل الحدود التي تسجن حريته ويصر على حقوقه في التلويح بالرفض، التلويح بـ: لا، اذا أجمع شعبه كله على التلويح بـ نعم، ويصر على العكس، عالم المتمرد عالم أصم يفرض شروطا خاطئة وأوضاعا ثابتة، ولكنه في مواجهة هذا العالم يصبح الانسان المقاوم اليائس السالك طريق الغضب، والمتمرد كما انه ليس الفوضوي، هو أيضا ليس العدمي، لان العدمية رفض سكوني، فيما التمرد رفض حركي لكل ما هو قائم خطأ، والمتمرد الكامل لا تخدعه المظاهر، وهو منذ أول سيرته لا يبحث عن نتيجة ولا ينتظرها؛ انه أكثر الناس التماسا للعدل واحساسا به، ومع ذلك فاللافت ان التمرد ليس انسانيا، بالمعنى الدقيق لكلمة انساي، انه شخصي ومن هنا تجوز انسانيته وبالقدر نفسه، المتمرد لا يدافع بالضرورة عن حرية الآخرين: انه يدافع عن حويته كفرد، انه موجود لنفسه يقبل ان يصير قدوة، ولكن مسؤوليته لا تتعدى حدود حويته هو؟ واذا اختلط الامر وبدا الثائر على هيئة المتمرد، فلابد أن ندقق، لان الثائر ليس بالضرورة حارسا للحرية، انه طالب نظام، طالب سلطة، انه ديكتاتور ملثم: والفن بالنسبة للمتمرد هو الوعاء الذي يتجسد فيه تمرده، خصوصا فن الشعر، كوجيتو التمرد ليسر لفظيا لانه اذا ازدادت حدة الشعور بالحرية ازدادت حدة التمرد في الانسان، وبالتالي فالتمرا ليست أبله: انه لا يحب ان يحمل بساط الرحمة، ولا يحمل بساط الرحمة، ولا يتعاطف، يعرف أن الآخرين هم الآخرون، انهم لجام وقيد ومسؤولية، في حين يجب ان يكون التمرد مطلقا خلف حرية مطلقة، المتمرد هو الحالم بالحرية كلها، الحالم الذي ظهر في كل عصر واذا كان عصرنا هو عصر الثورات، فهذا لا يعني غيابه، على العكس، انه ضروري أكثر، المتمرد يقف وحده ضد عصر الثورات، هذه أعنف معركة يخوضها في تاريخ التمرد كله.
أعرف أنهم يتهمونه بالشراسة، وأتهمه بالحب، ومع ذلك لم يستطع ان يغسل حجارة الاتصال والايصال والحرية والمسؤولية، ظلت مسكونة بالفطريات والطحالب، كانت كنيسة أنسي بيضاء وأفسح من كنيسة الآباء الماركسيين المصريين، ولكنها مبنية على مقاس فرد واحد، أمام البوابة وانا أدق الجرس سمعت اصوات سارتر، أن تكتب يعني ان تتحدث، وأن تتحدث يعني ان تكشف عن جانب من العالم، وتهدف الى تغييره؛ الأدب اذن هو نتيجة لموقف من العالم سواء كان هذا الموقف واعيا او نمير واع، والكاتب الملتزم يختلف عن الآخرين ليس لانه متورط في العالم، بل لانه على وعي به: ان حرية الكاتب الخلاقة لا تنفصل عن احساسه بالمسؤولية الاجتماعية، وان اهتمام المرء بعصره هو مصدر كبير لالهام الفن، هذا يعني ان الأدب مهنة نضال مكتملة، وانه من المستحيل الوقوف موقف المحايد من واقع يتحرك بسرعة ذلك اذا كنا نريد ان نفهم هذا الواقع، واذا كنا نرغب في التعامل معه، لابد سننتبه الى ان ما نسميه عصرنا وواقعنا ما هو الا القشرة التي لا يمكن تجاهلها، انها قشرة مؤقتة تحوي تحتها العواطف الانسانية التي تهب الفن تأثيره الدائم ؟ وتجاهل هذه القشرة طريق مؤكدة الى كتابات مجردة، لابد سننتبه الى ان ما نسميه عصرنا وواقعنا قد ترنح طويلا بسبب حربين عالميتين وحروب أخرى، وأيضا بسبب طاقة نووية سازالت تتربص بنا وتجبرنا على الابتعاد عن كنيسة أنسي الحاج، وسيارك أنسي نفسه ان تاريخ الابادة بدأ منذ أصبح التمرد مجرد مظهر، منذ اصبح نظاما آخر.
الحكيم تروتسكي
في القاهرة، في النصف الاول من سنة 1988، وكنا قد نشرنا للتو ديوان "مبررات الوجود" لجورج حنين مصحوبا برسوم كامل التلمساني، وكانت افكارنا تتجه الى اصدار العدد الأول من الكتابة السوداء؛ في ذلك الوقت، عرض علينا الصديق أنور كامل استعداده لاستضافة الندوة التي ننوي تنظيمها حول حرية الكاتب ومسؤوليته ولمن يكتب ولماذا؟ وحول علاقته بالايديولوجيا؟ وترك لنا العم أنور كامل حقوق اختيار الضيوف، وشكل صياغة الدعوة التي ستوجه اليهم، وانصرف همنا الاول الى اختيار اللغة المناسبة للدعوة، وتكليف فتاة الآلة الكاتبة بطبا عتها، وبعد ان فرغنا، أعددنا قائمتين، القصيرة منها تشمل أسماء الضيوف المتكلمين: تروتسكي وجورج حنين ورمسيس يونان وجريس منصور وطه حسين والمازني، والطويلة تشتمل اسماء الضيوف الحضور، حرصنا ان تضم رموزا من كل الاتجاهات، بقدر ما يمكنني ان أتذكر، بدأت المضايقات من الصحف كلها لانها رفضت نشر أي تنويه عن موعد الندوة وموضوعها، ولما وصلتنا رسالة تروتسكي التي يجيب بها على رسالتنا، قرأناها معا، وكان ينص على انه يرحب بالدعوة، وانه سيعد محاضرة عن دعاوي الأدب البروليتاري، وبقار ذكي من التأويل تصبح في قلب موضوعنا، وطوال ليلة وصول الرسالة عجزت عن النوم، كان هواء خفيف يترجرج داخل قلبي، بعد ذلك وصلت استجابات الآخرين، في يوم الندوة كنا خائفين، جيوبنا محشوة بالمناديل واللبان والنعناع، وانور كامل يربت على ظهورنا، اطمأننا على الاضاءة وأجهزة الصوت والتهوية، واطمأننا على ترتيب المقاعد،الى اليسار المقاعد المخصصة لأنصارنا، بقية المقاعد للخصوم وهم الأغلبية، رتبنا كلمات الضيوف بحيث تكون كلمة تروتسكي هي الاخيرة، الغريب ان الحضور جميعا اغفلوا اللياقة، كانوا يستعجلون جورج حنين ورمسيس يونان وجويمر منصور وطه حسين والمازي، بعضهم تمادى وصفر، ولما صعد ترو تسكي استقبلته الهمهمات المتضاربة والمشحونة بالتحية والتذمر؟ في البداية جاءت نظراته مشوشة، بعد قليل أصبحت الى حد ما ذات طابع رجولي صارم، وجوه الآخرين كانت معلقة ومقلوبة قليلا الى الخلف؛ وعيونهم نصف مفتوحة، لكنها واضحة ومحددة تماما، وبعد تسع او عشر كلمات، أدرك تروتسكي بشيء من المرارة انه يواجه الازمنة الأحدث، وانه لا يمكن ان يتوقع الكثير، غير انه مع ذلك حاول تشكيل المواد التي بين يديه وترويضها على هيئة الأحلام الممكنة:
"أيتها الرفيقات، أيها الرفاق، تبدع كل طبقة سائدة ثقافتها وبالتالي تبدع فنها، مع مراعاة أن تكوين ثقافة جديدة حول الطبقة السائدة يتطلب زمنا طويلا ولا يكتمل الا في المرحلة التي تسبق الانحطاط السياسي لتلك الطبقة؛ واذا كانت البروليتاريا هي ما يعنينا، فان دكتاتور يتها تعتبر مرحلة انتقالية قصيرة، فضلا عن ان سنواتها، سنوات الثورة الاجتماعية، ستكون سنوات صراع حاد بين الطبقات ويكون الهدم والتدمير أكثر غلبة من البناء: وعليه ستنفق البروليتاريا جوهر طاقتها في الاستيلاء على السلطة والمحافظة عليها، وكلما تقدمت الامور وتحسنت شروط الابداع الثقافي ذابت البروليتاريا في المجتمع الاشتراكي وتحررت من مميزاتها الطبقية، لا مجال اذن أثناء مرحلة الدكتاتورية لابداع ثقافة جديدة، ان الثقافة البروليتارية لن تظهر الى حيز الوجود، لان البورليتاريا بمجرد ان تأخذ مقاليد السلطة بين يديها ستضع حدا نهائيا للثقافة الطبقية، وتفتح الطريق أمام ثقافة انسانية؛ دكتاتورية البروليتاريا ليست في جوهرها التنظيم الاقتصادي والثقافي لمجتمع جديد، وانما هي نظام عسكري ثوري يرمي الى النضال في سبيل اقامة ذلك المجتمع، ولذا فانه يتوجب علينا دائما ان نحوز رسميا أهم عناصر الثقافة القديمة بحيث تتوافر لنا القدرة على الاقل على شق الطريق أمام ثقافة جديدة، لابد أيها السيدات والسادة من التدرب على ألف باء الثقافة، ومن التعريف بها؛ الثقافة هي ذلك النظام المتطور المتلاحم الداخلي من المعرفة والمهارة في جميع ميادين الابداع المادي والروحي واللحمة الاساسية للثقافة منسوجة من العلاقات والتفاعلات الدائمة بين انتلجنسيا الطبقة وبين الطبقة ذاتها، والبروليتاريا اثناء تدريبها الثقافي وقبل أن تخرج منه ستكون قد كفت عن ان تكون بروليتاريا، لان الثورة البروليتارية تهدف الى تصفية وجود البروليتاريا كطبقة في أقصر أجل ممكن وذلك على خلاف ما سعت اليه الثورة البورجوازية التي حرصت على تأييد سيطرة البورجوازية، ان اعترافنا بأن الطبقة العاملة تملك ثقافتها السياسية يعقبه اعتراف آخر بانها لا تملك ثقافة فنية، والتدرب على التقنية الأدبية يمثل بمفرده مرحلة لا غنى عنها وتتطلب زمنا، والتقنية تظهر بأجلى صورة لدى من يمتلكها. لا تنسوا يا أصدقائي أن السياسة هي المضمار الوحيد الذي أبدعت فيه البروليتاريا أسلوبها الخاص فعلا، السياسة وليست الثقافة…".
أثناء هبوط تروتسكي، حاصرته الهتافات: برافو برافو، والهتافات الأخرى الخائن، التافه، العميل، عدو الطبقة العاملة؛ كان البرنامج ينص على أن أصحبه الى سيارته التي ستأخذه الى مكان مجهول: سألت عن السبب، قالوا: لانه مازال مطاردا، عندما خرجنا معا الى الهواء الطلق، سألني
عن رأيي، قلت له: يكفيني أنني وجدت في سحاضرتك بعض ما أريده ؟ الحرية في التحرر من دعوى فنون الطبقة العاملة، والحرية في ابتداع أشكال جديدة، والمسؤولية التي توجب حيازة أهم عناصرا لثقافة القديمة، ابتسم تروتسكي، عرضت عليه ان نلتقي بصديقين يشبهانه فوافق، وعلى مقهى صفير كنا نحن الأربعة نتكلم ونضحك ونشرب الشاي معا، تروتسكي والسيد المسيح والحسين وأنا، وعندما بدأ كل منهم في تلطيف وأنسنة الجانب الخشن من عقيدته كي يجعلها عقيدة خالية من الوحشية والقسوة والقتل، كنت اتركهم وأنصرف وحدي.
الانولوجيا الشعرية
1- تميل الفلسفة الى التعرف والتمييز والجمع بين الوحيد والخاص والعام، وتزعم أن العام له صفة الشمول وهي الصفة العامة الموجودة موضوعيا والمشتركة بين أشياء واقعية، وتتجلى هذه العمومية المشتركة في وحدة خصائص هذه الأشياء ووحدة سماتها وشاراتها، وترى الفلسفة أن الوحيد يوجد في الأشياء والظواهر والعمليات والحوادث الواقعة في الطبيعة والمجتمع ولكن بعد أخذ كل واحدة على حدة، والخاص هو حلقة الوصل بين العام والوحيد، ولا يمكن معرفة العام الا عن طريق دراسة ومقارنة عدد كبير من الأشياء الوحيدة ؟ واذا كنا سنستخدم العام والخاص كأداتين، في صناعة هذه الانطولوجيا، فنحن نخشي أن يتصور بعضهم كما حدث فعلا، إن العام والخاص ينبعان في الشعر من المضمون – المعنى الذي يحمله العمل، وهذه مغالطة جسيمة لاننا نعرف ان قصيدة لنزار قباني عن فستان التفتا تتجلى كمنجز عام، بينما قصيدة توفيق صايغ المعنونة (نشيد وطني) من ديوانه ثلاثون قصيدة تتجلى كنص خاص؛ ما نتفاد اه ايضا كمغالطة جسيمة أخرى هو افتراض ان التقسيم عام وخاص تقسيم قيمي؛ ان العام والخاص في محا ولتنا يتحددان على أساس من المشتركات الظاهرة والباطنة التي تجمع الشاعر وقواءه، تجمع القصيدة وقواءها، وان الخاص هو نزوع للوصول بهذه المشتركات الى أدنى حد ممكن، بينما العام نزوع
الى الاعتماد على حقل كبير من هذه المشتركات، قد يكون المضمون – المعنى أحد المشتركات، لكنه وبمفرده لا يصلح للتمييز بين عام وخاص؛ فهناك عناصر أخرى كثيرة تتضافر لتأكيد أحد الوجهين منها الايقاع، والشكل واللغة والبلاغة، والتعامل مع التراث، والمرجعيات المختلفة وزاوية النظر والروح السائدة او النص السائد، الخ… الخ… مع مراعاة اختلاف ثقل وحجم حضور كل عنصر من تجربة الى أخرى، ولذلك فاننا لن نخطئ، وسوف نحترز ونرى ان العام والخاص يتحددان تاريخيا، ولا يمكن أن يكونا عبر تاريخيين، بل لا يمكن أن نقرأ ماضينا الشعري بمفهوم العام والخاص الذي نطبقه على شعرنا الآن ؟ ونحن في هذا الباب نؤكد أن الروح القلقة وكل فروعها تطالب بأن ينظر الى كل موضوعة، أولا: تاريخيا، ثانيا: في صلتها مع الموضوعات الاخري، ثالثا: في صلتها مع التجربة التاريخية الحسية ولا يجوز الأمر الا هكذا.
2- وتميل علوم العمران البشري الى تأكيد ان الوطنية والقومية ظاهرتان من الظواهر التاريخية وانهما ومعهما الثقافة التي ترتبط بهما محض نتاج للعصر الحديث، وفي وادي النيل تميل علوم العمران البشري الى اعتبار الوطنية والقومية وثقا فتهما نتاج عمل عموم المصريين وايضا نتاج عمل دولتهم؛ وهنا يميل أغلبية العلماء الى اتخاذ ايام محمد علي الكبير أياما أولى؛ ولقد تدرجت القومية والوطنية في وادي النيل واتخذت أشكالا بلغت الحدود القسوى لثقافة وطنية قرب نهاية الستينات، ساعدها على ذلك صراعات كبرى وفردوس مفقود وحركة ضباط 1952 والقدرة على استغلال كافة الاجهزة الايديولوجية من تعليم واعلام وبوليس وقضاء، التي ساهمت في عمليات التجييش القسري أحيانا، ولقد مهدت الحركات الوطنية السابقة منذ انفجار اسئلة التبعية للخلافة العثمانية أو عدم التبعية اوا خر القرن التاسع عشر؛ وبعدها الانشداا بوضوح الى المصرية التي تجلت في أعمال رواد ومبدعين كثيرين، وتجلت ايضا في الحركة الوطنية المسمدة بثورة 1919، أقول لقد مهدت الأرض لحركة 1952 في سبيل بلوغ الحدود القسوى لثقافة وطنية، وشكلت ارواح سجناء كثيرين مازا لوا يتغنون بالاناشيد التي حفظوها، ومازالوا راغبين في ترويجها، مع العلم ان الثقافة الوطنية ومنذ أواخر السبعينات أصبحت معرضة وبشدة لرياح التحولات التي عصفت وسترغم في النهاية منشدي الاناشيد على اغلاق أفواههم في سبيل الدخول الى عصور جديدة.
3- وبالنظر الى شعرنا الحديث منذ عصر النهضة سنكتشف انه طمح دائما في ظل بزوغ الروح القومية والوطنية الى ان يكون شعرا عاملا وفعالا، شعر وكالة أو شعر انابة، شعرا يعتمد على حقل كبير من المشتركات الظاهرة والباطنة التي تجمعه وشعبه، ويكتفي بأن يتوسل بها الى غايات أبعد منها؛ والشاعر في هذه الحالة يكون دائما مسكونا بقداسة واضحة، يتقدم ليقود جماعته، هو طليعتها، وهو حارس الأزمنة، وهو في كل صورة من صوره محض رسول، هو المتصل بها المنفصل عنها، وهو الوكيل الدائم عندما يحب وعندما يناضل، عندما يحزن وعندما يفرح، عندما يتأمل وعندما يعبث.
4- الشاعر العام يعرف جمهوره، يعرف احتياجاته، وما يؤثر فيه، يعرف كيف يتصل به، وكيف يقوده، وتتحدد كفاءة الشاعر العام بقدراته تلك التي تتساوى او تبدو وكأنها معرفة عميقة، والتي تؤدي الى ترسيم ظاهرة الانتخاب الطبيعي، فكل الشعراء العامين يلعبون على أوتار المشتركات الظاهرة والباطنة، كلهم يلعبون على العمود الفقري لجماعتهم، ومن هنا فان أكثرهم تفوقا يتقدم بالضرورة على الآخرين، واعتادت ظاهرة الانتخاب الطبيعي ان تقنع فقط بانتخاب الرئيس ووصيفه في كل فترة، شوقي وحافظ، علي محمود طه وابراهيم ناجي، صلاح عبدالصبور واحمد حجازي، عفيفي مطر وأمل أنقل، عبدالرحمن الابنواي وسيد حجاب، ولانه تكاد الا توجد في الطبيعة ظاهرة تتمتع بالصفاء الكامل، فانه أيضا لا يوجد شاعر عام أو خاص يتمتع ~نه عام هكذا وبصفاء كامل، انه عام حسب الروح الغالبة على نتاجه، والشاعر العام شاعر تجميع وتوحيد وليس شاعر تفريق؛ جمهوره المتفاوت طبقيا وثقافيا… الخ يصبح كتلة واحدة وتغيب التفاوتات امام الدلالة الواحدة او التأويل الوحيد، وهو لا يتنازل عن ذلك أبدا لانه يعلم ان ذلك من طبيعة الرسالة، والذين يستمعون اليه يظلون الى الابد جمهورا، أي انهم يتلقون غناءه ولا يشاركون في انتاجه، انهم لا يمكن ان يتحولوا الى قراء، قوة الشاعر العام تكمن في تلك القدرات مضافا اليها، انه لا يتأرق كثيرا من هاجس الاتصال والايصال، فغاية المشتركات تتكفل بتيسير ذلك حتى العسير من الشعر العام يسهل بعد إمعان النظر والكشف عن مشتركاته.
5- على الرغم من أن الشاعر العام يرى بوضوح لماذا يكتب ولمن يكتب، الا انه كان معرضا دائما لرغبات السلطات في احتو ائه، لأنها اكتشفت انه يفكر دائما في الدور والرسالة التي يجب أن يؤديها، واكتشفت انه اما أن يكون معها أو يكون خصما لها، وقد تجلى هذا بعد حركة ضباط 1952، حيث الأجهزة الأيديولوجية كلها تقوم ببث تعاليمها وتحديد القيم الممدوحة والقيم المذمومة التي يقلقاها الشعب مرة ثم يقوم الشاعر بصياغتها في قالب جميل فيقلقاها الشعب مرة ثانية ؟ وبالتالي تسهل عمليات الاتصال والايصال، وحتى اذا اتجه الشاعر عكس اتجاه السهم الذي تحدده السلطات الا انه يظل كشاعر عام داخل مفهوماتها، داخل حجرات الاتصال السابقة.
6- نهاية حقبة الستينات كانت ايذانا بأقول نجم الشاعر العام، لانه منذ أوائل السبعينات شرع الشعراء في الهرب والفرار وراء عربة الشاعر الخاص، الشاعر دون مشتركات قدر الامكان، ودون رسالة، ودون جمهور، ودون شعب، الشاعر اليتيم، دون أب، ودون زوج أم، مما أحدث ارتباكا في التوصيفات والتصنيفات، فالذين لم يدركوا هذا التحول ولم يفهموه سارعوا برصد واطلاق تسميات: الزمن ليس زمن الشعر، انه زمن الرواية، الشاعر الخاص، اجابة أخرى صعبة وغامضة على سؤال لمن نكتب، ولماذا نكتب؟
عبدالمنعم رمضان (شاعر من مصر)