تمهيد :
أود الاشارة في البداية الى أن موضوعا من هذا المستوى ليس سهلا من حيث تناوله ، وذلك يعود الى نقطتين أساسيتين : 1- باعث التداخل فيما بين الثقافة والمجتمع المدني. 2- عمومية العنوان ، والتي تقسي الوضع المرغوب في التطبيق عليه : أهو العربي ؟ أم الغربي؟ ولنن كانت المرجعية الغربية تظل حاضرة عندما يتعلق الأمر بالحديث عن المجتمع المدني.. من جانب آخر، فإن مثل هذه المواضيع ، اعتاد الخوض فيها المفكرون والساسة ، وقلما باشرها الأدباء، ولكن ، وانطلاقا من كون المتحدث اليكم تشغله بعض الاهتمامات الأدبية ، فإنني سأكون مخلصا للأدب ما أمكن .. ولذلك سأدعوكم في البداية الى لحظة شعر.
طه حسين: أو في الحاجة الى طه حسين:
كتب شاعران عربيان في موضوع واحد. فأما الأول فعراقي وهو “محمد مهدي الجواهري” وأما الثاني فالسوري “نزار قباني” وأما الموضوع فـ “مادة” طه حسين. ألقى الجواهري قصيدة في طه حسين بسوريا عام 1944 ضمن مهرجان الاحتفاء بـ “المعري” والذي ترأسه عميد الأدب العربي: طه حسين . وأما نزار، فألقى قصيدته بمصر، تحت عنوان “حوار ثوري مع طه حسين”
يقول “الجواهري”:
“أحييك طه لا أطيل بك السجعا
كفى السجع فخرا محض اسمك إذ تدعى
شكوناك إنا في ضيافة نابغ
نمتع منه العين والقلب والسمعا
وكنا على آثارك الغر قبلها
ضيوفا فما أبقيت في كرم وسعا
نهضت بنا جيلا وأبقيت بعدنا
لأبنائنا ما يحمدون به المسعى"
ويقول "نزار":
"إرم نظارتيك .. ما أنت أعمى
إنما نحن جوقة العميان"
“وعد الينا فإن ما يكتب اليوم
صغير الرؤى ..صغير المعاني"
ما كان لي أن أسوق الشهادتين ، لولا القيمة المتميزة التي حظي/ ويحظى بها الشاعران .. من جانب ثان ، فإن الشهادتين تتعلقان بعلم عربي أسس سؤال النهضة في مرحلة جد مبكرة ، وهي بالطبع المرحلة التي لن يصلها العرب مستقبلا على الاطلاق . لقد انبنى سؤال النهضة على التسلح المعرفي ، وهو تسلح زاوج فيه العميد بين إدراك التراث الفكري العربي، والثقافة الغربية ، مثل هذا الإدراك دفع به الى استقصاء السبل التي من شأنها رسم خطوات التقدم العربي، وأهم هذه : التربية والتعليم .. لذلك جاء كتاب : “مستقبل الثقافة في مصر" (1938) ليحفر هذا التأسيس ، تأسيس مجتمع عربي متنور وعقلاني.. وإذا كان الأمر يتعلق بمصر، فإن امتداداته طالت لتشمل العالم العربي، دون أن يغيب عن بالنا التالي ، وهو ما أورده “جابر عصفور" في كتابه الفذ: “هوامش على دفتر التنوير":
1- بمصر وبالضبط بالإسكندرية صدرت أول جريدة : 1800.
2- بمصر، كانت أول مجموعة لدراسة الفنون العسكرية : 1831.
3- إنشاء جريدة الوقائع المصرية : 1823. 4~ أول مدرسة لتعليم البنات : 1872.
في هذا الأفق ، نجد بأن ما استهدفه العميد: إصلاح المجتمع . وذلك بالانبناء على مرتكز التربية والتعليم ، بحثا عن رسم صورة وافية للثقافة ولإنشاء مجتمع حديث عقلاني متنور.. على أن الخلفية المنطلق منها:
1- شيوع الأمية .
2- تضارب مناهج التعليم .
3- الموقف من التراث .
لقد حاور العميد هذه النقاط بما عرف فيه من شجاعة ، وجرأة في إبداء الرأي وإعلانه ، وبالتالي المقدرة القوية في الرد على الأخر.
يتضح من خلال هذا بأن الثقافة هي المبدأ القويم لاعلان النهضة العربية إذا تم الابتداء بالثقافة نحو الأصول الى السياسة وليس العكس .. دون أن نلغي المرجعيات المعرفية التي راهن عليها العميد، بدءا من تأثره بـ “لطفي السيد" وبأ علام الفكر الغربي.. تقولون كان العميد ليبراليا هذا صحيح .. وإلا فأي طريق أنتم الآن فيه سائرون ؟ إنه طريق “الليبرالية المتوحشة" بتعبير الاقتصادي “رمزي زكي". أما ليبرالية العميد فيتحكم فيها العقلي أولا..
المحنة العربية أو استعادة الأسئلة:
بين 1938، سنة صدور “مستقبل الثقافة في مصر" و 1990، قرابة ستين سنة فهل تقدم الوضع الثقافي؟ وهل ترسخ أساس المجتمع المدني؟
لم يحدث هذا، ولا ذاك ولنتأمل التالي :
1- أورد الأستاذ “محمد عابد الجابري" في بحث له يحمل عنوان “الثقافة العربية الاستقلال الثقافي“ ثلاثة أبعاد لتبني استراتيجية ثقافية عربية إسلامية ، سنقف فيها على البعد الثالث والذي يقول فيه:
“بعد ثقافي : قوامه بناء بيدانموجية التعليم بكافة مستوياته وتخصصاته على اقصاء الأيديولوجية من عالم المعرفة واشاعة الروح النقدية مكانها من جهة وتعزيز الوحدة الثقافية من جهة أخرى، وذلك برفع القيود على “السيولة الثقافية“ بين الأ قطار العربية سواء في شكلها الاعلامي الصحفي والسمعي – البصري أو في صورتها الأكاديمية التي تتم عبر الكتاب والمجلة وتبادل الأساتذة والطلاب وإقامة معاهد مشتركة للبحث العلمي مع تدعيم النشرات العلمية والأعمال التنويرية داخل الثقافة العربية الإسلامية ..” ؟ص /13. المستقبل العربي. العدد 174).
2- في تقرير نشره الكاتب السوري “برهان غليون“ في شكل قراءة ومراجعة نقدية لكتاب “المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية“ واستهله بتفسير الأسباب التي أدت الى عدم الاهتمام بهذا الكتاب (وهو ندوة ) يقول :
".. أما امتناع الباحثين والمتخصصين عن تناولها فهو يرجع الى انعدام التقاليد العلمية بدرجة أساسية والى انهيار مستوى التكوين في الجامعات ، بحيث لم يعد من المؤكد أن أساتذة الجامعات المختصين يمتلكون فعلا الأدوات النظرية الضرورية لفهم واستيعاب الكتب والدراسات الجديدة، وبالتالي القدرة على عرضها، فكيف نقدها.
ثم ان انحطاط مستوى التعليم ، والجامعي منه بشكل خاص هو أحد معالم المحنة العربية ومرتكزاتها معا، وهو أمر يمكن أن يحكم على المجتمعات العربية ، بالخروج نهائيا من دائرة التبادل العالمي العلمي إذا استمر..”.
ويضيف :
".. فالوضع التعليمي الراهن هو ثمرة السياسات الرسمية السائدة التي تقوم على تفضيل الولاءات الشخصية أو العائلية أو الحزبية أو العقائدية على الكفاءات العلمية والعملية في كل الميادين دون استثناء.." (ص : 139و 140. المستقبل العربي.. العدد 179) ..
3- ختم الشاعر والكاتب السعودي “غازي عبدالرحمن القصيبي" كتابه : “التنمية الأسئلة الصعبة ..” باستنتاج مؤداه أن التنمية الاجتماعية لن تتحقق الا بنهضة تعليمية يقول :
“إن الطريق الى التنمية يمر أولا بالتعليم وثانيا بالتعليم ، وثالثا بالتعليم .. التعليم باختصار هو الكلمة الأولى والأخيرة في ملحمة التنمية “ (ص /126).
ومن المفارقات ، أنه وضمن هذه الصفحة الأخيرة ، نصص على الهامش التالي : "ومن هنا ندرك أن طه حسين كان رائدا تنمويا عظيما حين أعلن في الثلاثينات والأربعينات من هذا القرن أن التعليم حق لكل إنسان شأنه شأن الغذاء والماء والهواء..”.
ما الذي يستنتج من خلال هذه الوقفات الناطقة والتي تحتاج لمثل هذه الاستنتاجات ؟
إن مايمكن الوقوف عنده ، كون أسئلة اليوم ليست سوى أسئلة الأمس ، وقد يحدث أن تكون تلك الأسئلة طرحت بشكل واضح وبين ، فيما هي اليوم غامضة أو كالمبهمة فكيف الخروج إذن ؟
إن النهضة الثقافية العربية ، وتأسيس مجتمع “محلوم به" فقط ، لن يتم الا بتجذير وتجديد النظر في المسألة التعليمية ، مادامت صورة المجتمع يعكسها مستوى التعليم فيه ، كما ذهب الى ذلك "غوستاف لوبون “ في مؤلفه “سيكولوجية الجماهير ..” من ناحية ثانية ، يجب الرهان في بناء المجتمعات المدنية وخاصة في الدول المتخلفة على الثقافي بدل السياسي . إذا ما ألمحنا لكون الثقافي يعتبر المفتاح لفك قضايا واشكالات السياسي.. وليس تواري الثقافي الى الخلف ، سوى نوع من الخوف من قوته وفاعليته .. على أن تسهم في هذا القوى السياسية المؤهلة للتقدم خطوة بالمجتمع ، وليس مضاعفة جهله وأميته .. فإلي اليوم ، وإذا استثنينا حالة مصر، تكاد تكون أغلب هذه القوى بلا أصوات حرة ومستقلة تخدم الاختلاف بدل الائتلاف والقول بأن كل الأشياء إيجابية .
وفي ثالثة ، إذا كان السياسي تحجب ، أو يذهب الى الحجب ، فإن الثقافي يجلو ويكشف الحقيقة ، بل ويسهم في الإبانة عنها وتعريتها. ومن ثم تكتسب الهوية والخصوصية الذاتية ، بحثا عن مقارعة الآخر في خطابه الأمبريالي الاستعماري، أو لنقل في مركزيته الاعلامية الثقيلة والتي لن يستطيع العرب مهما حصل التواجد خارجها.. وإلا، فكيف تريدون بناء مجتمع مدني؟
صدوق نور الدين (كاتب من المغرب)