أحمد السبياع
كاتب وباحث مغربي
في الوقت الذي ظن متابعو فن المسرح ودارسوه، أنه ما عاد بالإمكان الإتيان بجديد، وأن كل ما يمكن أن يُبتكر قد تم ابتكاره فعلا، وأن كل ما يقدم الآن ما هو إلا إعادة تدوير للقديم، برزت فرقة ريميني بروتوكول الألمانية، واقترحت جديدا، لم يخطر على بال. فقد خطت هذه الفرقة خطوات ثورية في مجال المسرح الوثائقي، وأثارت شغف المتابعين والنقاد، فاحتشد الجمهور عشقا لأعمالها الفريدة، وأفرد النقاد الدراسات في مقترحاتها الجمالية ورؤاها الفكرية وعوالمها الفرجوية. ففي فترة وجيزة تمكنت هذه الفرقة من بلوغ مراتب عالية من الإبداع، وفرضت ذاتها في خارطة المسرح في العالم، وغدت نموذجا ضروريا لكل دارس يبغي مقاربة المسرح المعاصر وتحليل توجهاته واتجاهاته.
ولقد تأسست فرقة ريميني بروتوكول الألمانية سنة 2000 من قبل دانييل فيتزل Daniel Wetzel (1969) وهيلجارد هوج Helgard Haug (1969) وستيفان كيجي Stefan Kaegi (1972)، والذين تخرجوا جميعهم من معهد دراسات المسرح التطبيقي Institute of Applied Theatre Studies في جيسين Giessen. وكان العمل الأول لهذه الفرقة هو “Crossword Pit Stop”، الذي أعلن عن ميلاد فرقة مسرحية جادة، قادرة على تجديد المسرح الألماني خاصة والأوروبي عامة، وعلى استكشاف طرق جديدة لإنجاز الفرجة وسبل مبتكرة للتمسرح. وقد حققت الفرقة نجاحا كبيرا على المستوى الجماهيري والمستوى النقدي والنخبوي. كما فازت الفرقة سنة 2007 بجائزة مولهايمر لكتّاب المسرح، وفي سنة 2008 تم تتويجها بجائزة أوروبا للأشكال المسرحية الجديدة “Europe Prize New Theatrical Realities”، ثم جائزة الأسد الفضي في بينالي البندقية للعروض الأدائية 2011، ثم جائزة التميز في مهرجان اليابان السابع عشر 2013، عن مسرحية “مواقف في الغرف Situation Rooms”، وجائزة جرس هانز رينهارت Hans-Reinhart-Ring 2013، وهي جائزة سويسرية وجوائز أخرى كثيرة. وتعرض أعمال الفرقة في أهم المسارح في العالم، فقد نظمت لأعمالها جولات في الكثير من بلدان العالم.
صنف النقاد مسرح ريميني بروتوكول ضمن المسرح الوثائقي، إذ إن جل ما يقدم هو واقع حدث ويحدث. ويقوم عمل الفرقة على انتقاء “فكرة” أو “موضوع” بعناية بالغة، ثم يتم فحص كل المتدخلين في هذا الموضوع، ثم تنتقي الفرقة مجموعة من الخبراء في المجال أو الموضوع المُختار، وتلقي بهم على خشبة المسرح، وتطالبهم بأن يشاركوا خبراتهم مع الجمهور، كما تحفزهم على الإخبار عن حياتهم الحقيقية، وعلى البوح الحر والمرتجل. وتوظف في الكثير من الأحيان وسيطا ما مرئيا أو صوتيا لأشخاص لم يحضروا جسديا، لينضموا إلى العرض عن طريق الوسائط، وفي هذا الصدد تصرح هيلجارد هوج بـ: “تقوم الوسائط بدور أساسي لنقل الحياة الخارجية إلى المسرح. فالفيلم والتسجيلات الصوتية تتحدى الحدود المفروضة من قبل الخشبة؛ فالفضاءات المشار إليها يمكن أن تعرض عن طريق الفيديو والصور. إن المواد التي جمعت أثناء فترة الإعداد، خاصة الاقتباسات المقتطعة من تصريحات الأشخاص الذين لا يستطيعون الانضمام إلى الخبراء الآخرين على الخشبة يمكن أن تُدمج في العرض.”(1)
وبهذا، فإن مسرح ريميني بروتوكول هو مسرح الحياة ذاتها، إذ إن جل ما تقدمه الفرقة هو فرجة غير مؤلفة من قبل مؤلف مسرحي، فالشخصيات التي تعرضها هي شخصيات حقيقية، ومضمون منطوق وفعل هذه الشخصيات هو من صميم حياتها، أو من صميم خبراتها الخاصة. ويعرف فريديريك لوروي Frederik Le Roy “خبراء الحياة اليومية” بكونهم “ليسوا خبراء بقواعد التمثيل ومهاراته، ولكن تنحصر خبرتهم في المجال الذي هو موضوع العمل المسرحي (سبق لريميني بروتوكول أن عملت مع سائقي الشاحنات، عملاء الخدمات السرية، عشاق القطارات، أعضاء شركة سابينا للطيران السابقين، رجال الشرطة، عمال النظافة) فالخبرات التي يعرضونها على خشبة المسرح أو في عروض الأداء هي خبراتهم الخاصة، والقصص التي يحكونها هي قصصهم الحقيقية، والملابس هي ملابسهم فعلا، واللهجة والرطانة هي من صميم كلامهم، وأسلوب حركاتهم هو أسلوب تحركهم في حياتهم اليومية.”(2)
إن عرض أحداث واقعية وأشخاص حقيقيين قد يبدو للوهلة الأولى ابتكارا سهلا، ما دام أن مجهود تأليف نص مسرحي قد تم التخلي عنه، وما دام أن عمل الممثل قد استغني عنه كذلك، لربما يُعتقد أن الأمر لا يعدو عن تنظيم حركات أشخاص حقيقيين على خشبة المسرح. وهذا غير صحيح، فأعمال الفرقة تنم دائما عن تصور جمالي مبتكر، وعن صيغ تمسرح مفكر فيها بدقة، كما يستكشف المتفرج لأعمال الفرقة عوالم جديدة، ويتعرف على خبرات تنضاف إلى خبراته الخاصة، ويتعلم أمورا لا يعرفها. لذلك، فمسرح ريميني بروتوكول هو مسرح مواضيع وأفكار ورسائل كذلك. إضافة إلى ذلك، فإن بعض أعمال الفرقة لا تخلو من تخييل، فأحيانا ما يتم الجمع بين ممثلين وأشخاص عاديين، لكن هذا نادر جدا. كما أن النص المنطوق على الخشبة، غالبا ما يُتحكم فيه عن طريق توجيه أسئلة دقيقة للخبراء، ثم انتقاء الأجوبة الأصلح، ثم ترتيب كل ما يقال، فقول حوار قبل حوار آخر يضفي معنى جديدا للحوارين معا. أضف إلى ذلك المونتاج، الذي يطول النصوص المعروضة على الشاشات أو صوتيا فقط، فالمونتاج هو تدخل تخييلي كبير، إنه لغة أخرى، جمالية وفكرية. كما قد يقترح المخرج ذاته إضافة نصوص معينة. فهذا التوضيب النصي عموما هو درماتورجيا متفردة ينجم عنها نص واحد يجمع بين الواقعي والمتخيل، بين العفوي والمتحكم فيه في ذات الآن. ولربما لهذا السبب أطلق الناقد إستير فوكو Ester Fuoco اسم المسرح الوثائقي التخييلي(3) The Theatrical Docu-Fiction على مسرح ريميني بروتوكول. كما سمَّت ميريام درييس Miriam Dreyesse مسرح الفرقة بـ”extra-theatrical reality” وهو ما يمكن ترجمته بـ«الواقع المزيد مسرحيا»، أي ليس واقعا خالصا ولا مسرحا خالصا(4)، إنه بين بين.
وقد استدعيت الفرقة سنة 2004 لتقديم عملها الموسوم بـ”موعد التسليم” “Deadline” في مهرجان اللقاء المسرحي Theatertreffen السنوي ببرلين. ويختار هذا المهرجان -عبر لجنة من المحكمين تجوب ألمانيا- الأعمال الأكثر تميزا. وقد كان اختيار الفرقة بمثابة “الحدث المفاجأة” لدورة 2004 لهذا المهرجان. ويعبر عمل الفرقة “Deadline” عن أسلوبها في الاشتغال، فالعمل هو عبارة عن “شهادات” أو “كلمات حرة” لمجموعة من الأشخاص الخبراء experts والعارفين بموضوع الموت؛ من قبيل الممرضة التي تشاهد المرضى يموتون أمام عينيها، الموظفين المكلفين بتنظيم طقوس الجنائز والدفن، وما إلى ذلك. وقد حافظ مخرجو ريميني بروتوكول على براءة هؤلاء الخبراء، حيث إنهم لم يلقنوهم أيا من تقنيات التمثيل أو اللعب أمام الجماهير، فبدت الشهادات أكثر واقعية وعفوية، خالية من أي صنعة أو تزويق.
وتقدم فرقة ريميني بروتوكول أعمالها عموما في فضاءات المسارح، الصغيرة منها والكبيرة، تلك التي تقع في المركز أو الهامش. لكنها وفي الكثير من الأحايين ما تبتكر فرجات مسرحية مختلفة، تصمم خصيصا لتقدم في أماكن أخرى، خارج جدران المسارح وخارج نظام الخشبة والصالة، قانون المؤدين والجمهور، فضاء اللعب ومقاعد التفرج.
ريميني بروتوكول داخل المسارح
قدمت فرقة ريميني بروتوكول الكثير من الأعمال المسرحية داخل المسارح، منها عملها المسرحي الموسوم بـ«كارل ماركس: الرأسمال– الجزء الأول» سنة 2006، و«ملائكة ألجوس من رجال الأعمال Lagos Angels Business «2013، كما ابتكرت الفرقة مسرحيات وثائقية عن المدن، أسمت المشروع «100% City» حيث يتم اختيار مائة شخص ليتحدثوا عن المدينة موضوع العمل، من هذه الأعمال «100% Amsterdam» و«100% Paris»، و«100% Copenhagen»، و «100% Riga» إلخ.. كل هذه الأعمال قدمت في مسارح مختلفة من العالم. وسوف نختار في هذه الدراسة عملين مسرحيين من الأعمال المقدمة في المسارح، وهما «أخبار عاجلة Breaking News « 2008، «الراديو المؤذن Radio Muezzin« 2009، وهما نموذجان واضحان عن أسلوب عمل فرقة ريميني بروتوكول، ومثالان وافيان عن التصورات الجمالية والفكرية لمخرجي الفرقة الثلاثة.
أخبار عاجلة Breaking News
الصندوق الأسود لعوالم
الصحافة والأخبار
قدمت الفرقة سنة 2008 عملا آخر بعنوان “أخبار عاجلة، عرض يومي للأخبار” “Breaking News. A Daily News Show”، ويتخذ العمل المسرحي من موضوع الأخبار وكيفية صناعتها ابتداء بالاختيار ثم التنسيق والتوضيب فالتقديم؛ وقد استعانت الفرقة كعادتها بالخبراء في مجال الأخبار؛ وهكذا فقد جمعت صحفيين من خلفيات وتوجهات مختلفة، لتسليط الضوء على كيفية انتقاء الأخبار، صياغتها، إعطائها الشكل المناسب ثم تقديمها. ويفضح هذا العمل الخفايا الداخلية لصناعة الأخبار، إنه يزيح الجدار الرابع عن مطبخ الأخبار كما هو ودون أي تحفظ أو تزويق أو حجب. من بين الخبراء الذين استعانت بهم الفرقة، مارتينا إنجليرت Martina Englert مترجمة من وإلى اللغتين الإنجليزية والروسية، مولي ماهنيك Molly Mahnecke صحفية في القناة الوطنية الألمانية، سوشيلا شارما هاك Sushila Sharma-Haque مقدمة إذاعية متقاعدة مكلفة بالأخبار الهندية والأردية في ألمانيا، كارستن هينز Carsten Hinz مترجم مستقل، جنكيزخان حسو Djengizkhan Hasso مترجم من وإلى العربية والكردية، وهو أيضا طبيب نفسي، ورجل أعمال، ورئيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني الكردي، هانز هوبنر Hans Hübner مراسل سابق في إفريقيا يعمل لصالح قناة ARD، أندرياس أوسترهاوس Andreas Osterhaus محرر لوكالة الأنباء الفرنسية AFP، وآخرين.(5)
وتبدأ المسرحية ببرولوغ يقدم فيه الخبراء أنفسهم، الاسم، ثم الصفة ومكان الإقامة، ونوع الأخبار والبرامج التي يشاهدونها. ثم يصفون مهنهم الحالية. وبين الفينة والأخرى يتدخل الكاتب الألماني والتر ڨان روسوم Walter van Rossum والذي سبق له وأن كتب كتابا عن برامج الأخبار الألمانية. وهو يدافع عن أطروحة أن الأخبار ليست بريئة وأنها متحكم فيها من قبل الحكومة. وتلخص مقولته هذه كل ما يدافع عنه: (حينما أشاهد برنامج “أخبار يومية” أو أي برنامج إخباري آخر مشابه فإني أطرح الكثير من الأسئلة. ولكن هناك سؤال واحد يلح علي وعلى المشاهدين، وهو ما الذي يحدث على هذه الأرض والذي عليّ نسيانه لحظة إنصاتي لهذه النوعية من الأخبار؟)(6) وهو بهذا يصرح أن الأخبار تلعب دور الإلهاء، وتحجب أخبار أخرى أكثر أهمية، لا تريد السياسة الرسمية أن تعلن عنها.
ويحافظ المؤدون على لكنتهم الأصلية، فتوحيد اللغة غير مطلوب. إذ إن للكنة دورَ الإخبار عن بلدهم الأصلي.(7) كما أن المطلوب دائما في مسرح ريميني بروتوكول هو عرض الأمور كما حدثت وتحدث فعلا. لذلك، فكثير ما يتم دمج فقرات تحدث فعليا في نفس لحظة تقديم العمل المسرحي. فقد أدرج العمل المسرحي البرنامج الإخباري الليلي “الأخبار اليومية Tagesschau”، حيث إن انطلاق فرجة “أخبار عاجلة” تتم على الساعة 7:30، والبرنامج الإخباري على الساعة الثامنة، وبمجرد انطلاق البرنامج فعليا حتى يتم بثه على شاشة فوق الخشبة، فيشرع المؤدون بمتابعة البرنامج، وهم بذاك يتحولون إلى جمهور متابع. ثم سرعان ما يشرعون في وصف ما يشاهدونه، ثم يُبْدون وجهة نظرهم الخاصة فيما يعرض على الشاشات.(8)
وليس هذا كل ما يعرض في فرجة “أخبار عاجلة”، والتي تستمر لساعتين، بل هناك عنصر آخر هام، وهو مسرحية “الفرس The Persians” لأسخولوس، والتي تُقرأ مقاطع مختارة منها بصوت عال من قبل هانز هوبنر. حيث يجلس المؤدي على قاعدة عالية، وقبالة ميكروفون، ثم يشرع في القراءة من نسخة المسرحية. وبين الفينة والأخرى كان يغادر مكانه لينضم إلى المؤدين على الخشبة، ثم ليشرح ويفصح عن الأحداث التي أدت إلى الحدث التراجيدي في المسرحية، وكذلك لتلخيص المشاهد، ولقراءة بعض المقاطع الفردية، أو لدعوة زملائه لقراءة أجزاء معينة(9).
والرابط بين مسرحية أسخولوس وموضوع الفرجة، هو أن المؤدي (الصحفي) وهو يعرض ويحلل ويقرأ، يجسد صورة الصحفي الذي يقرأ الخبر المعاصر. فالمسرحية تؤخذ بوصفها خبرا، أو نموذجَ خبر لتقديمه على الخشبة، عارضة بذلك مهارة الصحفي في قراءة الأخبار، مناقشتها وتحليلها، ومبينة التقنيات والأساليب الصحفية في عرض الخبر. وبالتالي فمسرحية الفرس تفشي أسرار التقنيات الحرفية التي يمكن أن يقدم بها الخبر المعاصر، والتي تظهره بوصفه حقيقة، وتمنحه المشروعية والمصداقية. كأن صناع العمل المسرحي، باقتباسهم لمسرحية كلاسيكية، أحداثها بعيدة في الزمن والمكان، يبرزون ما تملك الصحافة من قدرة فائقة على رواية الأحداث، وجعلها حقيقية حتى وإن كانت بعيدة عنا، وغريبة بالنسبة إلينا.
ويتم الربط بين المسرحية والعصر الحالي بأسلوب مبدع يذكرنا دائما بالتوجه الواقعي للفرقة؛ حيث إن في اللحظة التي يقرأ فيها هانز هوبنر من المسرحية، يتم عرضه هو ذاته على الشاشة في الخلف وهو يجري حوارا مع جندي أمريكي أثناء مشاركته في الحرب الأمريكية على الصومال سنة 1992. فيتوقف هوبنر عن القراءة من المسرحية ليعلق على الڨيديو المعروض له على الشاشة. وهذه المزاوجة بين الخبر المعروض على الشاشة وقراءة عمل تخييلي، توحي بحقيقة هامة؛ وهي أن الخبر حتى وإن كان حزينا يمكن تحويله إلى حالة مسرحية وفرجوية. ويمكن القول (إن ما يقدم على خشبة المسرح في مسرحية أخبار عاجلة») فعليا لا يمكن اعتباره ذا طابع درامي، فهو توثيقي إخباري في المجمل، لكن البرامج الإخبارية، ودون استثناء، تضفي الطابع الدرامي التشويقي على أخبار الحروب والصراعات(10). وهذا ما تريد المسرحية أن تكشف عنه.
وتحكي مسرحية “الفرس” لأسخولوس عن الحرب والدمار والموت، فخلفيتها التاريخية هي سلسلة من الحروب والصراعات الدموية بين الفرس واليونانيين. غير أن أسخولوس لا يأخذ منها سوى حدث واحد، وهو هزيمة الأسطول الفارسي على يد اليونانيين في معركة سلامين وبلاتايا، مختزلا الحقائق العديدة إلى حقيقة واحدة. وهو بذلك عَدَّل التاريخ وزيفه بتعبير عبد الرحمان بدوي(11). ومن ثم، فإن ما يلقى على خشبة المسرح هو قراءة المؤلف اليوناني للأحداث. ولهذا دلالاته، فالمقاطع المختارة من مسرحية الفرس تلقى وتحلل بأسلوب صحفي، أي يتم التعامل معها بوصفها خبرا من أخبار الحروب، محررها هو أسخولوس نفسه، والذي يقدم قراءته الخاصة (المزيفة والمختلفة عن الروايات التاريخية) للوقائع، والصحفي هوبنر يقدم تحليله الخاص لمسرحية الفرس، أي إن هناك قراءة ثانية مبنية على قراءة أولى، كأن الأخبار تبتعد عن الحقيقة بقراءتين، الأولى (مزيفة) والثانية حرفية تتوسل المهارة والتقنية. واختيار مسرحية الفرس تم لغاية مقصودة، هو كونها قراءة معدلة جدا للحقيقة التاريخية، مما يؤشر على أن الرسالة التي يريد صناع العرض إيصالها لجمهورهم من هذا الاختيار، هو أن الخبر ليس نسخة طبق الأصل عن الحقيقة التي يُخبر عنها، بل هو قراءة، أحيانا مزيفة، لهذه الحقيقة.
يكتب أسخولوس اليوناني مسرحية عن انهزام الفرس أمام اليونان. فالأحداث تقع في بلاد فارس لا في اليونان، وتصور تهور الملك الفارسي أحشويرش. أي إن أسخولوس ليمجد بلاده وقومه ابتكر طريقة جديدة، فبدل أن يصور انتصار اليونان، قرر أن يصور انهزام عدوهم. وهو بذلك يتناول هزيمة الآخر ونواحه ليصور انتصار الذات واحتفاءها. والمسرحية كلها تصف هذا الانهزام، فلا يظهر اليونان إلا كعدو يشار إليه. وتمجيد الذات على لسان الآخر ظاهرة في هذه الحوارات:
الملكة: وهل عندهم جيش من الرجال حسن التدريب؟ (تتحدث عن الجيش اليوناني)
رئيس الكورس: قولي أكثر من هذا: إن لديهم جيشا أصاب الميديين بأضرار بالغة.
الملكة: وماذا أيضا؟ هل عندهم في بيوتهم ثروة كافية؟
رئيس الكورس: منجم للفضة، وهو كنز تحرسه الأرض لهم.(12)
وجعل الآخرين يتحدثون عن مزايا الذات، هو إضفاء للمصداقية على هذه المزايا، فهم الذين قالوا عني، أما الذات فمتواضعة تأنف عن إبراز الخصال الحميدة التي تميزها. وهذا بالضبط ما فعله أسخولوس في مسرحيته هاته. ومن المعروف أن أسخولوس ارتبك في أسماء الأشخاص والأماكن، حتى أن بعض النقاد يرى أنه اخترع الأسماء اختراعا، وأنها غير فارسية النغمة. وأسخولوس بهذا يشبه الصحفي الذي يتحدث عن نفسه من خلال نقل أخبار الأقوام الآخرين، فالخبر حتى وإن كان يتحدث عن وقائع بعيدة فإنه يتحدث عن الذات في نفس الوقت، فذات الصحفي والبرنامج وصُناعه والبلد الذي ينتج ويبث فيه، كل ذلك حاضر في الخبر المنقول. وبهذا يفقد الخبرُ صفاءه وتشوبه عناصر ذاتية، تغيره وتزيفه وتضفي عليه ما لا ينتمي إليه من العناصر. وهذه ربما هي الرسالة الأهم لإدراج “الفرس” في فرجة “أخبار عاجلة”.
“الراديو المؤذن”: وثيقة واقعية عن الأذان والمؤذنين في مصر
قدمت فرقة ريميني بروتوكول سنة 2009 عملها المعنون بـ”الراديو المؤذنRadio Muezzin(13)”، ويأتي عنوان المسرحية من واقعة اقتراح وزير الأوقاف بمصر توحيد الأذان وبثه من الراديو، مما يعني الاستغناء عن الكثير من المؤذنين. فهناك اختبارات للصوت ستقصي عددا مهما منهم، وستدمر حياتهم وتجهز على اطمئنانهم وسعادتهم، إذ يشكل الأذان كل حياتهم. وقد تم استقدام أربعة مؤذنين مصريين، واحد منهم فقط من الذين تم قبولهم بعد اجتياز اختبار الصوت هذا. وقد تم توزيع هؤلاء المؤذنين، الخبراء في مجالهم (الأذان)، على خشبة المسرح، مع الاستعانة بوسيط الفيديو لنقل ما لا يمكن التعبير عنه إلا صورة؛ فتأرجح العرض بين مساحتين، مساحة أولى مخصصة للمؤذنين، للحكي والبوح وكذلك لتجسيد شعائرهم وهمومهم وطموحاتهم، ومساحة ثانية مخصصة للشاشات التي تعرض بيئة الخبراء الحقيقية، كالمساجد التي يعملون بها، المنازل حيث يقطنون، الأحياء حيث يسكنون، الشوارع حيث يتنقلون، أفراد من أسرهم ومعارفهم، وصور للمؤذنين أنفسهم في مختلف مراحل حياتهم، إلخ…
ويبدأ العرض بظلام دامس، ثم صوت الأذان، يتعدد الصوت ويختلف ويتكرر. تسطع الإنارة فيبرز ثلاثة مؤذنين وهم يؤذنون في نفس الوقت. يبرز المؤذن الأول حسين گودة حسين، يرتدي نظارة سوداء، ثم يحكي كيف أن أغلب المؤذنين كان يتم اختيارهم لأنهم عميٌ، حيث أن الأذان كان يتم من قمة المآذن، وهذا يعني إمكانية الاطلاع على أسرار البيوت، والأعمى لا يستطيع طبعا أن يرى ما في البيوت المجاورة للمئذنة حيث يؤذن. اليوم، يقول المؤذن، أنه يؤذن من ميكروفون دون الحاجة إلى الارتقاء إلى الصومعة، وقد سبق له أن صعد مرة واحدة، وكان في ذلك شقاء كبير، نظرا لكثرة الدرج والحفر وغيرها. ثم يظهر مؤذن آخر يطرح عليه أسئلة عن الاسم، ومكان الإقامة والوظيفة، فيفصح المؤذن عن اسمه ووظيفته التي هي مقيم الشعائر بوزارة الأوقاف/ الأذان. وهو متزوج وأب لأربعة أبناء. وفي ذات اللحظة تظهر صورة للمؤذن في الخلفية دون نظارات مبرزة ضعف البصر الذي به، ثم صورة له رفقة أحد أطفاله. ثم يرافق المؤذن الجمهور إلى داخل منزله الصغير، واصفا مرافقه وأثاثه، وفي ذات الوقت تبرز صورُ المنزل بشكل متزامن. ثم يخبر عن مشاهدته للتلفاز بين الفينة والأخرى، ويكشف عن مشهد أغضبه لطفل فلسطيني مصاب بين يدي والدته، أردته القوات الإسرائيلية. ثم تعرض الشاشةُ بعضا من الطريق التي يقطعها المؤذن إلى المسجد، بينما هو يصاحب الفيديو بشرح شفوي. أثناء الطريق يستمع في راديو صغير بيده إلى القرآن الكريم، وهو أيضا يتابع مباريات كرة القدم التي يخوضها المنتخب المصري. من مهامه أيضا، تحفيظ القرآن للتلاميذ. يشرع المؤذن في توضيح الكيفية التي يدرِّس بها القرآن لتلاميذه، فيدخل مؤذن آخر ليلعب دور التلميذ، فيقرأ الأستاذ ويعيد بعده التلميذ. ينصرف المؤذن الأول ويبرز المؤذن الثاني، والذي يخبر بدوره عن اسمه وهو عبدالمعطي عبدالسميع علي ومكان إقامته، ومهنته التي هي كهربائي، ثم يكشف بعضا من حياته، فهو أرمل وأب لابنين وبنتين. جندي سابق شارك في حرب 1967. إنه سافر أيضا إلى السعودية، وعمل هناك لأربع عشرة سنة. وحين عاد إلى مصر أصيب في حادثة سير، وقد فر السائق الذي صدمه. وقد عانى كثيرا من هذه الإصابة، التي تطلبت إجراء عملية جراحية، وفترة نقاهة طويلة. كما تعرض لإصابة عمل بعينيه كادت تودي ببصره. بعدها صار عاطلا، وحدث أن كان جالسا ذات يوم في مقهى فجاءه الشيخ أحمد عوض، فنصحه بالاختلاف إلى المسجد لحفظ القرآن، وبعد فترة من الوجود بالمسجد طلب منه الشيخ ذات يوم أن يؤذن لتغيب المؤذن، وقد استحسن صوته، ثم سرعان ما صار يؤذن في فترات غياب المؤذن الرسمي. أثناء هذا الحكي، تعرض الشاشة صورا وفيديوهات متعددةً، من قبيل صورة المسجد، منزل عبدالمعطي، ثم صورة الشيخ الذي ساعده، وصور للشوارع القريبة من المسجد. ثم يبرز المؤذن الثالث واسمه منصور عبدالسلام منصور، ومهنته مؤذن رسمي، متزوج ولديه أربعة أبناء. يعتذر لأنه ليس لديه صور وهو صغير لتُعرض على الشاشات، فهو مولود في قرية صغيرة لا مصور فيها. عمل في الزراعة لفترة بدل والدِه المريض. انضم إلى الجيش وشغل مهمة سائق دبابة. بعد مغادرته الجيش عاد إلى الزراعة، لكن تبين له أن هذا العمل لن يوفر الحياة الكريمة له ولأسرته. هاجر منصور إلى القاهرة ثم عمل في مخبزٍ إلى أن أعلنت وزارة الأوقاف عن مسابقة لتعيين موظفين بالمساجد، فتقدم للوظيفة وحصل عليها. لكن المرتب كان قليلا فواصل العمل في المخبزِ ليلا. ثم يتحدث عن اللحية، وأنه يحبها أن تكون قصيرة. أثناء الحكي، تعرض الشاشات صور المسجد حيث يؤذن منصور، وفيديوهات للمخبز حيث يعمل ليلا، وصورا أخرى.
يأتي دور الأداء الجماعي، حيث يشرع المؤذنون الثلاثة في تلقين الجمهور كيفية الوضوء بالإيماء وثلاثتهم في نفس الوقت، في حركات تتسم ببعض التنظيم، ثم يشرع الثلاثة في الصلاة جماعة. كل ذلك يتم بموازاة مع الفيديوهات التوضيحية والتي تنقل المشاهد إلى الفضاءات الحقيقية لهذه العبادات، فتظهر أماكن الوضوء وفضاءات الصلاة، مع فيديوهات للمصلين أثناء الصلاة.
يعود المؤذن الأول حسين گودة حسين للبروز، تعرض الشاشة فيديو لطفله طه الذي يحلم بأن يصير ضابطا. ثم يخبر المؤذن عن الثمن الغالي للزي الأزهري، الذي طالما حلم بأن يرتديه، فالثمن يعادل مرتب ستة أشهر من عمله بالمسجد، وقد أعطي له من قبل الدولة بمجرد التحاقه بالعمل. يرتدي المؤذن الزي الأزهري قطعة قطعة قبالة الجمهور وهو سعيد. ثم يجلس المؤذن ويتلو آيات من القرآن الكريم.
بالتناوب بين المؤذنين الثلاثة، والذين يوجدون جميعهم على خشبة المسرح، تتدفق شهاداتهم، والتي يبدو أنها انتقلت إلى المرحلة الثانية حيث عبروا عن أفكارهم وآرائهم بخصوص بعض القضايا، ثم أفصحوا عن مخاوفهم من قرار الوزير بإسناد وظيفة المؤذن للراديو. ثم أفصحوا عن مهامهم الأخرى التي يؤدونها طواعية غير الأذان، حتى إن أحدهم مارس أحد هذه المهام والتي هي التنظيف قبالة الجمهور. تعرض الشاشات الأربع مناظر مختلفة، شوارع مصر بضجيجها واكتظاظها، المساجد وغيرها. يكشف الضوء المنبعث من الشاشات عن المؤذن الرابع الذي يجلس على مقعده في مساحة قصية. في جانب من الخشبة تكشف الإضاءة عن مؤدٍّ جديد، قبالته مكتب عادي، يقف وبيده ساعة من صنع صيني، عليها مواقيت الأذان، ويمكن برمجتها حسب البلدان. يتحول المؤدي الجديد إلى مؤقت بدوره، حيث يحدد الوقت، فيشرع المؤذنون الثلاثة بالتناوب بالإخبار عن ما يفعلونه في الوقت الذي أعلن عنه المؤدي الجديد، وبذلك فإنهم يخبرون الجمهور عن برنامج يومهم العادي. تخفت الإنارة مؤشرة عن حلول الليل، يرقد المؤذنون الثلاثة على خشبة المسرح. يُعرِّف الرجلُ الجديدُ بنفسه وهو سيد عبداللطيف حماد وهو المهندس الذي عينته وزارة الأوقاف لتحقيق مشروع “الراديو المؤذن”، وهو خبير في مجال الإلكترونيات عموما، وفي فترة تجنيده قدم للجيش المصري خدمات مهمة بحكم خبرته، لكنه يعتذر عن عدم استطاعته الإفصاح عن فحوى هذه الخدمات لسِرِيَّتها. ويوضح سيد أهداف مشروع الراديو المؤذن، حيث إن المساجد كثيرة ومتقاربة، ولحظة الأذان يُسمع خليط غير متناغم من أصوات المؤذنين، بعض هذه الأصوات غير طروب. ومشروع “الراديو المؤذن” سيوحِّد الأذان، وسيُسمع أذان واحد في خمسين مسجدا. تخفت الإنارة، ثم تتمركز على المؤذن الرابع واسمه محمد علي فرج، وهو المؤذن الذي نجح في اختبارات الصوت، ولن يتم الاستغناء عنه، حيث أنه تم اختيار ثلاثين مؤذنا فقط. يبدأ حضورَه بتلاوة من القرآن. تُظهر الشاشاتُ مسجد عمرو بن العاص، وهو أول مسجد بني في مصر، حيث يعمل وهو مسجد كبير يسع من 15000 إلى 20000 من المصلين، تعرض الشاشات صوره وهو طفل، وصوره رفقة أسرته، ورفقة بعض الشخصيات المشهورة التي جمعتها الصداقة بوالده المقرئ المعروف. كان يحلم في طفولته أن يكون لاعب كرة، كان سيلتحق بكلية الشرطة، لكن أصدقاء والده نصحوه بالتخصص في قراءة القرآن. كما أنه مارس رياضة كمال الأجسام، وشارك في بطولات عديدة، يظهر على الخشبة بلباسه الاعتيادي، وهو يمارس هذه الرياضة ويرفع الأثقال بحرفية رياضية. وهو حاصل على ماجستير في الدراسات الإسلامية. شارك في مسابقة دولية لتجويد القرآن وفاز بالجائزة الثانية. ثم يتم عرض صور لأطوار من حياته يعلق عليها بسرعة وبالتناوب تبرز صور من حياة عبدالمعطي الذي يعلق بدوره عليها باقتضاب، حيث تُظهر الصور المعروضة المفارقة بين المؤذنين، من حيث الغنى والمكانة الاجتماعية.
ويمكن القول، إن المقرئ المحظوظ أكثر شبابا وأعمق تعليما وأجمل صوتا، والمسجد الذي يعمل به كبير ومركزي وشهير بخلاف المساجد التي يعمل فيها المؤذنون الثلاثة والتي هي صغيرة وتقع غالبا في أحياء شعبية. كما أن المقرئ المختار يملك صورا بهية في فضاءات أنيقة عن طفولته، بينما لا يملك المؤذن منصور صورة من طفولته لأنه يعيش في قرية ليس فيها أي مصور أو كاميرا. وقد حرص عرض “الراديو المؤذن” على إظهار هذه الفوارق. وهو بذلك يبرز الفوارق داخل المجتمع المصري جميعه. فالعمل المسرحي يتجاوز كونه منشغلا بموضوع الأذان، إلى تسليط الضوء على حياة المصريين والمسلمين عموما، وما تزخر به من عادات وتقاليد، وكذا يركز على إبراز الطبقات الاجتماعية، ومدى الفقر والغنى، وغيرها من الحيثيات. ولا ينسى العمل المسرحي أن يجيب على لسان المؤذنين عن أسئلة، يحتمل أن يطرحها الجمهور الغربي، من قبيل: لماذا لا تؤذن المرأة؟. أين تصلي النساء؟.
وفنيا فقد تدرج العمل المسرحي “الراديو المؤذن” في تقديم الوقائع، من البسيط إلى المركب، ومن الأداء الفردي إلى الأداء الجماعي؛ ففي البداية يقدم المؤذنون أنفسهم فقط، ثم سرعان ما يعبِّرون عن آرائهم، ويحكون عن أمور طريفة من حياتهم. فيتدرج الجمهور في التعرف عليهم شيئا فشيئا، كما يتدرج في استكشاف الإشكال الذي تطرحه المسرحية وهو توحيد الأذان وفقدان بعض المؤذنين لدورهم الروحي ولوظيفتهم. حيث يتم بتدرج التطرق إلى الموضوع من وجهات نظر مختلفة، ففي البداية يرى الجمهور الجهة المتضررة فقط (أي المؤذنين)، ثم يرى الجهة الناجية/ غير المتضررة (المؤذن المختار) ثم يرى واحدا من أرباب المشروع ومهندسيه (مهندس المشروع). كأن الأمر يتعلق بمحاكمة يتم الاستماع فيها لجميع الأطراف والإلمام بالقضية من جميع الجوانب. والتدرج يتم أيضا على مستوى الأداء؛ ففي البداية يسود الأداء الفردي، ثم سرعان ما يرى الجمهور نسخة مصغرة من الأداء الجماعي، ثم تمتلئ الخشبة بكل الأطراف، وتحدث مناقشة بينهم، قائمة على المواجهة بين المعارض للمشروع والمؤيد له. والتدرج في العرض هو مبدأ من مبادئ التمسرح الأساسية، يساهم في درء الملل عن الجمهور، وفي إقحامه داخل الحدث المعروض، ويكسب اهتمامه وتتبعه للعرض في كل أطواره وبنفس الحرارة. فالجمهور حين يدخل الخشبة وفي الدقائق الأولى لزمن التفرج يقبل بالبسيط، لكنه سرعان ما يطالب بالمركب. يقبل بأن يستمع لوجهة نظر واحدة لكنه سرعان ما يرغب في الإحاطة بوجهات النظر الأخرى.
وبخصوص السينوغرافيا، فقد اتسمت بالاقتصاد والبساطة؛ حيث إن الأرضية عبارة عن سجادة في حجمها الطبيعي وتزاويقها الاعتيادية البسيطة، وقد تكررت مغطية كل الأرضية، وفي الخلفية أربع شاشات لتقديم الفيديوهات عليها. ويرتدي المؤذنون ملابسهم الاعتيادية؛ تتوزع بين سراويل ثوب فضفاضة وأقمصة ثم الجلابية المصرية التقليدية. ويستخدم المؤذنون إكسسوارات اعتيادية كالكراسي والطاولات الصغيرة، والراديو، وأشياء أخرى.
والعمل المسرحي من إخراج ستيفان كيجي، الصوتيات من تصميم محمود رفعت، والفيديوهات من تصميم وتنسيق برونو ديڨيل Bruno Deville وشادي جورج فخري.
الخروج من بناية المسرح: أساليب
مبتكرة للتمسرح
كانت بنايات المسرح المغلقة موضوع ثورة العديد من المسرحيين، فبعضهم رفض تقديم مسرحياتها في مسرح رسمي مغلق، وبدورها فإن فرقة ريميني بروتوكول توسعت خارج المسارح نحو فضاءات جديدة، لكن مع عدم رفض بناية المسرح. هذه الازدواجية بين المسارح التقليدية والفضاءات الأخرى تعبر عن رحابة في الرؤيا وفي تصور مفهوم المسرح ذاته، الذي يغدو فنا قابلا للتقديم في فضاءات عديدة، سواء تلك التقليدية أو الثائرة. كما يعبر عن رغبة متأججة في الوصول إلى كل الجماهير حتى تلك التي ترفض مغادرة مقعدها من المسرح. ويتخذ الخروج من المسرح تجليات عديدة؛ فالفرقة دأبت على تصميم فرجات، قد تكون مبتكرة ومختلفة جدا عن ما هو سائد؛ من قبيل عملها الذائع الصيت “Call Cutta in a Box” “كولكوتا في صندوق”، حيث تلغى كل خصائص التفرج المعروفة، فالموقع ليس واحدا، فهو مواقع عديدة، والجمهور ليس فئة من الناس تشاهد فرجة، والفرجة ذاتها ليست مادة تقدم. ففرجة “Call Cutta” تحدث بين الهند وبرلين في ذات الوقت.
وتبدأ فرجة “Call Cutta” باتصال هاتفي، حيث يتم ربط الاتصال بين المشاركين (الجمهور) بشكل فردي وعميل agent يعمل في مركز اتصالات بالهند في مدينة كولكوتا CalCutta، فيحكي العميل للمتفرج الفرد قصصا مشوقة، ثم يشرع في وصف أماكن معينة للمتفرج في ألمانيا، فيجد المتفرج في هذه الأماكن صورا تلخص ما حكاه العميل الهندي له هاتفيا. وبهذا فالفرجة تتم في الهند، وفي فضاءات متعددة في ألمانيا، وبين عميل ومتفرج فرد، وعبر الهاتف، ومن خلال صور تتمركز في فضاءات معينة. لكن طبعا إن ما يحكى وما يقال هو ما يمكن اعتباره نص الفرجة، وما يُشاهد من فضاءات وصور هو الجانب المرئي من الفرجة، والنتيجة التي يخلص إليها المتفرج الفرد هي الغاية من كل الفعل الفرجوي.
ويوضح الناقد الفني سولڨييج گاد Solveig Gad بدقة مراحل ومستويات فرجة “Call Cutta” وتأثيرها عليه، فيقُسِّم الناقد هذا الحدث الفرجوي إلى ثلاثة مستويات، المستوى السردي، المستوى البصري، والمستوى المكاني.
• المستوى السردي The narrative level: حيث يحكي العميل الهندي للمتفرج عن زعيم هندي ينتمي إلى حركة تحرير الهند يدعى سوبهاش شاندرا بوز Subhas Chandra Bose (1897 – 1945) والذي حارب الاستعمار البريطاني بقوة السلاح مختلفا بذلك عن غاندي الذي كان نضاله سلميا. وقد تأثر سوبهاش بشخصية هتلر. فقد انضم الزعيم الهندي إلى عدو عدوه وهو الجيش النازي الألماني، وهكذا فقد سافر إلى ألمانيا 1941 ليقاتل في صفها في الحرب العالمية الثانية. وقد درب الأسرى الهنديين لدى الألمان، فصاروا بذلك كتيبة من الجيش النازي. وكانت غاية الزعيم، هو تكوين جيش هندي (نازي) سيقوده لتحرير الهند من الاستعمار البريطاني. وقد أصيب الزعيم بخيبة أمل بسبب عدم حماس هتلر لاستقلال الهند. لذلك، فقد غادر سوبهاش ألمانيا يائسا سنة 1943. بالموازاة مع هذه القصة، يحكي العميل للمتفرج قصة تخص أسرته هو ذاته، فيتحدث عن جده المسمى سمير موكيرجي Samir Muckerjee والذي عمل في جيش الزعيم سوبهاش وشارك في الحرب لصالح هتلر. غير أنه بقي في ألمانيا إلى نهاية الحرب حيث شارك في بث خطابات موجهة إلى الهند من الإذاعة النازية أزاد Azad Hind Radio. ويحكي العميل كذلك عن حياته الشخصية، وبالتحديد عن عمله في مركز اتصال أجنبي لكن من داخل الهند. كما أن العميل يتجاوز كل ذلك ليطرح أسئلة على المتفرج، من قبيل: هل سبق لك وأن وقعت في الحب من خلال الهاتف؟ هل سبق لك وأن كذبت في اتصال هاتفي؟ ثم يقترح العميل أن يغني للمتفرج أغنية من بلده ويطالب في نفس الوقت المتفرج بأن يغني له.
• المستوى البصري The visual-photographic level: يقود العميل المتفرج إلى فضاءات في برلين، ويخبره أن يبحث في أماكن معينة، ليجد صورا بالأبيض والأسود (عددها ست). إنها بمثابة الدليل المادي على صدق حكايا العميل الهندي؛ فمنها صورة للزعيم سوبهاش رفقة الجد سمير موكيرجي يحتسيان القهوة، صورة للجد في لباس الجندية الألماني، صورة لسوبهاش يصافح هتلر، … إلخ.
• المستوى المكاني The spatial level: لقد حُجبت الصور في أماكن معينة ببرلين تعتبر من علامات الحرب العالمية الثانية، من قبيل محطة أنهالتر بانهوف السابقة Anhalter Banhof والتي لعبت دورا هاما في الحرب، أطلال المسرح/ الأوركسترا السابق الذي تم تفجيره في 1944، … إلخ.
إن المادة الفرجوية في “Call Cutta” هي المكالمة، المخطط لها بدقة، فكل ما يقوله العميل هو نص مكتوب ومتفق عليه مسبقا، مع إمكانية الانعراج إلى مناطق غير مخطط لها تفاعلا مع ردود المتفرج. ويبدو التخطيط واضحا في المكالمة في مبدأ التدرج من العام إلى الخاص، الذي يطبع أحيانا الحوار المسرحي، حيث يحكي العميل أولا عن بطل قومي هندي، ثم ينتقل إلى أسرته الخاصة، إذ يحكي عن جده، ثم يصير أكثر تحديدا، فيتحدث عن نفسه. إلى أن يسمح في النهاية لنفسه بطرح أسئلة على المتفرج. فالتدرج من الوطن إلى العائلة ثم إلى الذات هو تدرج جمالي، يؤكد أن الأمر يتعلق بنص مكتوب سلفا. إن كل المواد الفرجوية عموما مصممة لتنسجم ولتتفاعل لتعبر عن نفس الموضوع وتثير نفس الأحاسيس، فالصور تدعم وتساند المحكي، والمواقع والفضاءات بدورها تدور في ذات فلك المحكي والصور. لكن هل كل ما قاله العميل الهندي حقيقي؟.
ينتاب سولڨييج گاد الشك بخصوص مصداقية محكي المكالمة الهاتفية، فإن كان الزعيم القومي حقيقة معروفة فإن الجد من المحتمل أن يكون مجرد تلفيق جمالي، إنه ربما الجزء التخييلي من النص، يقول سولڨييج : “إن الأربعة عشرَ عميلا في مركز الاتصال (…) جميعهم يقدمون سمير موكيرجي بوصفه جدا لهم. إنه بالأحرى شخصية خيالية. لكن في حالة ما إذا كان شخصية تاريخية حقيقية فهو بالتأكيد لا تربطه قرابة الدم بكل العملاء/ المؤدين. عندما انتابتني هذه الشكوك، بدأت أشكك في مصداقية الصور بالأبيض والأسود.”(14)
وتطرح فرجة “Call Cutta” موضوع العولمة وتأثيراتها، وكيف أنه لم يعد ممكنا أن ينأى قوم بأنفسهم عن الأقوام الآخرين. فما يحدث في بقعة ما من العالم يؤثر في بقع أخرى بالضرورة، فالحرب تؤثر في الجميع، حتى في المناطق التي تقع على مسافة بعيدة جدا من ميدان الحرب. فتأثير هتلر امتد إلى الهند. كما أن مركز اتصال في الهند يمكن أن يساعد شخصا في بريطانيا أو واشنطن أو غيرها من البلدان. كما تطرح الفرجة العولمة من منظور مزدوج، فهي تفيد القوي وتضر الضعيف، حيث تستغل البلدان الثرية اليد العاملة الرخيصة في البلدان الفقيرة كالهند وغيرها. فالعامل في مركز اتصال هندي هو عامل رخيص، ويكد أكثر من العامل في بريطانيا ويمنح مردودية أكثر.
ريميني بروتوكول.. ركائز الاشتغال
وأسلوب المقاربة
يبدو أن الأسلوب المتبع في الأعمال التي استشهدنا بها وفي مجمل أعمال الفرقة يقوم على أربع ركائز:
الركيزة الأولى: هي الموضوع؛ حيث تختار الفرقة موضوعا يتميز بكونه مرغوبا ومطلوبا من قبل جماهير متعددة. أحيانا يكون الموضوع عن الآخر المختلف، وهذا عموما يثير اهتمام الجمهور الأوروبي عامة. أو موضوعا يهم المواطن الأوروبي، والألماني بشكل خاص. أو موضوعا إنسانيا كونيا يستهدف جميع الناس في جميع المناطق. وإن كان يصعب طبعا الفصل بين هذه المجالات الثلاثة من المواضيع، فما يهم الألماني قد يهم غيره، فالعولمة أكدت أن العالم شبكة معقدة من الوقائع التي تؤثر في بعضها البعض، فحدث واحد يقع في ألمانيا قد يؤثر في حياة رجل في جنوب أفريقيا. والملاحظ أيضا أن الفرقة تنتقي مواضيعها بدقة بالغة، فالموت موضوع يتسم بالإثارة والغموض، ويستجلب مشاعر الخوف والهلع والحيرة والتسليم، كما أن الشخصيات التي تتعامل مع الموت بوصفه مادة عمل شخصيات مثيرة، يرغب المتفرج في استكشافها والتعرف عليها. فالمفارقة الغريبة تكمن في الجمع بين مهنة يومية توفر دخلا وهذه الحالة الغريبة التي هي خاتمة كل حياة (الموت). لذلك، يتطلع المتفرج إلى معرفة مهن الموت هاته، والشخصيات الغريبة التي تقبل أن تمتهنها.
الركيزة الثانية: الانفتاح على العالم؛ حيث إن الكثير من أعمالها هي سفر حقيقي في ثقافات أخرى، وهي بذلك تعرف الجمهور الغربي بالعوالم البعيدة عنه، كما تفند مركزيته وانطواءه على ذاته وثقافته وحضارته. وهذا نابع من إيمان مخرجي الفرقة بأن العالم شاسع، ليس في المساحة فقط، بل في كل شيء، فالحضارة موجودة في كل مكان، وإن بأشكال مختلفة، والتميز ليس خاصية حصرية على بعض الأقوام دون غيرهم، وأن الناس في كل العالم يبكون ويضحكون ويتألمون. فـ”الراديو المؤذن” من مصر، عن موضوع جديد كليا على المتفرج الغربي، الذي هو “الأذان الإسلامي”، فالكثير من المتفرجين سمعوا هذا الأذان، لكنهم لا يعرفون أي شيء عنه، والمسرحية تجيب عن كل سؤال محتمل عن هذا الموضوع، بل إنها تقدم صورة واضحة خالية من الأحكام المسبقة والأفكار الخاطئة والمتداولة، والتي تميز بعض الأعمال الفنية غير الدقيقة، وبهذا فإن مسرح الفرقة يحوز سمعة تقديم الحقائق والوقائع كما هي، وبذلك يمكن اعتباره من قبل المتفرجين مصدر معلومات موثوقا.
الركيزة الثالثة: التحديد والتفصيل؛ حيث إن الفرقة لا تقدم المعطيات بعمومية، فالخبراء الذين يحكون عن الموضوع، يعرضون سيرهم الذاتية ويتحدثون عن تفاصيل دقيقة من حياتهم. وهكذا لا يغدو الموضوع جافا وتعليميا بل يصير إنسانيا، والتركيز على الفرد مسألة في غاية الأهمية، فالناس دائما يحبون متابعة فرد محدد، بملامح واضحة، ورغبات وتطلعات معلن عنها. كما تقدم تفاصيل الأماكن، والأشياء والمواضيع؛ فحينما تتطرق إلى موضوع الصحافة فإنها تغوص عميقا في أسرار هذا العالم وخباياه وعوالمه الخفية، دون مواربة أو تحفظ أو رقابة.
الركيزة الرابعة: العالم الجمالي؛ حيث إن الفرقة تحرص على تقديم الأفكار والمواضيع في حلة جمالية جاذبة. إذ لا يظهر أي ارتباك على خشبة المسرح بالرغم من أن الخبراء في الأساس ليسوا ممثلين. كما تستعين الفرقة جماليا بالوسائط المعاصرة، والتي تحقق هدفين؛ هدف تداولي، حيث تبلغ المعطيات والمعلومات، وهدف جمالي، حيث تضفي على العمل عموما جوا جديدا، وتخلق تنويعا جماليا على أشكال العرض، وتخلق الانطباع بالانتماء إلى العصر الراهن. كما تشتغل الفرقة جماليا على الديكور والإنارة وغيرها من عناصر العمل المسرحي.
خاتمة
تنتج فرقة ريميني بروتوكول الألمانية الكثير من الأعمال المسرحية في ذات الوقت؛ فهي من الفرق الشبكية، لديها ثلاثة مخرجين، قد يخرجون أكثر من مسرحية واحدة في ذات الوقت، فمثلا في سنة 2012 أظهرت الفرقة للعلن ستة أعمال مسرحية/ فرجوية، وهذا عدد كبير مقارنة بالمعتاد. إن غزارة الإنتاج هاته تأتي بالأساس من تصور لدور المسرح الجوهري، حيث ينبغي أن يوجد بكثافة في حياة الناس. إن المسرح الذي تتبناه الفرقة مسرح رسالة بالأساس، فهو بعيد عن نوع المسرح الذي يبغي التسلية أولا. لذلك، فالكثير من أعمال الفرقة تخلو نهائيا من أي لمحة طرافة أو تنويع كوميدي. لكن، الطرافة قد تحدث أحيانا، غير أنها تبدو طارئة أو غير أساسية. فالأساس في أعمال الفرقة، هو مقاربة المواضيع الآنية من منظور يميل إلى أن يكون واقعيا. وقد اشتغلت الفرقة مع الكثير من الناس/ الخبراء من ثقافات مختلفة، من ليتوانيا، نيجيريا، مصر، كوبا، وغيرها، وقدمت أعمالا مسرحية/ فرجوية بنيت أساسا على مواضيع ترتبط بالثقافات الأخرى. لكن الفرقة لم يسبق لها أن قدمت صورة مشوهة عن أي ثقافة، بل إن الكلمة كانت دائما للخبراء أولا، فتدخل الذات والإخراج اقتصر على الحد الأدنى، وغالبا على الجانب الجمالي وليس على المحكي والأفكار وما إلى ذلك. ومن هنا تأتي مصداقية الفرقة. لذلك، وفي ظرف وجيز استطاعت الفرقة أن تصير علامة من علامات المسرح في العالم في الوقت الراهن.