لا أنفي دهشتي عندما اطّلعت على أعمال الشباب العماني، هي دهشة ناتجة عن حِدَّة الجِدّة التي وجدتُها في هذه الأعمال، ولستُ من دعاة الإغراق في الجِدّة، ولستُ من دعاة التلبّس بالماضي واجتراره، وإنّما مازلتُ أطلب من السرد فعل الأخْذ ولحظة غياب عن الوجود، أندمج فيها كليّا في عالم القصّة وأغيب عن الواقع وعن آثاره وأُداخل الشخصيّات، أعيش الأحداث، أحياها لحظة بلحظة، فالعين القارئة الأولى هي عين المستلذّ قبل أن تتحوّل إلى الإدراك وإعمال آلة النقد.
لا أنفي دهشتي بقراءة أعمالٍ ناتجة عن تراكم عربي وعالمي، تُواكب الحادثَ، وتنهل منه، وتنطلق من أصلٍ، من تراثٍ، من عادات، من قيم، من أساطير، من حركة مجتمع يصبو إلى الانطلاق في توازن غريب.
لا أنفي دهشتي، إذ اطّلعت على عمل سردي جامع بين القصّة القصيرة والقصّة الومضة، في أسلوب سردي رائق، ولغة شعرية، تصويرية تحمل أعباء المعاني الثقال، «سرير يمتطي سحابة» لحمود الشكيلي، يحمل في أثنائه ثِقَل الواقع وأثره ومعانقة المقبل خيالا ووهما.
لا أنفي دهشتي، إذ وجدت جملة من القصص القصيرة فالأقصر تُحلّق في فضاء من الترميز وتدعو إلى التفكير والتعمّق والنظر، ففعل السرد ليس فعلا مسطّحا ولا مبسَّطا وإنّما هو كدّ وبناءٌ ومعاناة، وكذا كان هذا العمل، يُحرّك الكائنات وأجزاءَها، يدفع الجمادَ، يقصّه، ينظر وجودَه والمقبل، ويتعمّق مشاكل الجيل بعين سارد جمَّاع، تداخلت عنده آثار عدّة بين قديم وحادث، بين أصالة ومعاصرة..
لا أخفي دهشتي، غير أنّي عبتُ من العمل أشياء وجب ذكرُها، عبتُه في مناح تقنية، إذ حضر فعل القصّ والطبع، وفتر التمثّل والصبر على الوقائع والشخصيات حتّى تنضج وتكتمل.
عِبْتُ من العمل هيمنة الراوي الكاتب على كامل الفضاء السردي، عين الراوي هي عين الكاتب، والشخصية المدار هي الذات، في عالم سردي تفقد فيه الشخصيات فرادتها وتميّزها، وترجع في هيئتها وفعلها ولغتها ورؤيتها إلى الراوي ومنه إلى الكاتب، فيتحوّل الأدب إلى ما يشبه السيرة الذاتية بالرغم من عمق التصوير وبُعد التخييل.
يتحوّل السرد إلى نظام شعري، تطفو فيه العبارة التصويرية والتهويم المطلق والتجنيح حدّا ينقطع معه خيط السرد، ويبدو السارد واهيا واهنا أمام ذات كاتبة تمتدّ وتعلو وتنفث منها رؤاها ورؤيتها، وتحمل هذه الذات عينَها ورؤيتَها ولغتَها فتخنُق الشخصيات وتحدّ من حركتها. فعلى تغاير القصص وتبدّل الموضوعات تثبُت عينٌ واحدة منها تبئير الأحداث والشخصيّات، هي عين الراوي/المؤلّف، الذي لا يحترم تنوّع شخصيّاته، ويظلّ محافظا على ذات النسق التصويري وذات الخطاب السردي وذات الموقف من الأشياء ومن الذات ومن الشخصيّات على تعدّد مآتيها.
عبتُ من العمل استغلاق العبارة السردية وتعقّدها وتعميتها بالرغم من جمالها وحسن تصويرها، غير أنّ ما عبته يتلاشى في بعض النواحي السردية التي يكون فيها الاستغلاق المعنوي والتصويري مطلوبا، يوشّح السرد، ويُخرِج القارئ من حال السكون ومن قراءة الكسل والفتور إلى قراءة الخلق والإبداع وتوليد المعاني، فيخرج من واحدية المعنى إلى العدد والثراء.
يتداعى السرد ويفتر، ويعلو التصوير وتبئير الحال. جميلٌ أن يعدل السرد عن سرديته وأدائه الفعلي الحدثي، إلى خلق فضاء من الصورة والتلاشي وتعميق المعاني وهزّ كسل القارئ ولكنّ فعل السرد ينبغي أن يكون الهيكل الجامع لجموح الراوي. إنّ للراوي في «سرير يمتطي سحابة» حضورا فاعلا، يستبدّ فينفي كامل الوجوه، منه نرى الوجود والكونَ حتّى لا آخر وإن ظلّ الآخر صورا تحضر في الذات الراوية.
عين الراوي أداة مهمة في هذا العمل وفي كلّ عمل سردي، وإذ عبنا اختناق الشخصيات تحت وطأة الراوي الكاتب المهيمن، فإنّ الصورة تبقى الأداة التي يفهم بها الراوي استغلاق الكون ويبدّد عقم العبارة بعمق الصورة التي امتدّت حدّ التعمية إلاّ أنّ وجودها دالّ في فهم تعامل الجيل مع الوجود وإكراهاته.
وكأنّي الآن ألبس جبّة الآمدي ومن ورائه النقد المعيب لتواتر الصور وتكاثفها في الاستعارة البعيدة المأخذ في شعر أبي تمّام وفي شعر غيره من المحدثين، إلاّ أنّي لا أرفض الصورة ولا إحكام إغلاقها وإنّما أرفض التخلّي عن السرد في سبيل تتبّع التراكيب التصويرية التي تقلّل من حظّ السرد ومن حظّ القصة، غير أنّ للصور في العمل وجوها من الحسن والدلالة.
تأتي الصُوَر في هذا العمل متتاليةً، متتابعةً، تنبئُ بفيض شاعر، يُثير الحدثَ ولا يُبدي طيّاته، عابر قصّ، وكأنّ القصّة أصبحت لمحا وإشارةً وكان طبعُها الإغراق ووفرة الكشف وتفصيل البيان، بذكر الوقائع وحوافّها ومآتيها، وبإظهار الشخصيّات ورسم ملامحها ورصد وجوهها وصلاتها وطرق إنشائها، وبضبط الأُطر المكانية والمتتاليات الزمانية.
تتّخذ الكتابة السردية في هذا العمل معنى خاصّ، يخرج عن حدّ رصد الوقائع ورسم ملامح الشخصيّات إلى ضرب من القصص تتداعى فيه الذات وتجول عين الراوي في الداخل مساررةً وكشفا عن هواجس النفس، تجول العين الرائية تُظهر مواقف الراوي مما يدور حوله من تحديث ومن قديم في جبّة الحديث ومن حديث في جبّة القديم ومن قديم محافظ على قِدَمه.
إنّ الكتابة السردية تفتح سبلا لا حدّ لها لتمثّل الحالّ ولتصوير الواقع بشتّى همومه وآماله من زوايا متعدّدة، ولكشف حالات الفرد المتقلّبة والإنباء عن أهوائه وأطيافه، فالواقع له زوايا متنوّعة، وهو لا يحتمل الهيئة الواحدة والمعنى الواحد. وكذا كان الأمر في هذا العمل الجامع الصادر عن عين تغوص في الذات لتُسفر عن طرق تفاعلها مع الكون الضيّق فالأوسع وعن وسائط إدراكها لما يحفّ بها من ثوابت ومن متغيّرات، عينٌ تجول المكان والزمان لتنقل بلسان بليغ قصصا هو أقرب إلى التداعي والكشف.
تؤسّس الصور سردا إيحائيا تشفيريّا، فالصور في الغالب الأعمّ تتداعى متوافرةً عن العنوان، فهو أصل بعثها أ محدّد مجالها، فالعنوان يُظلّ كامل النصّ بصور تنبيء عنه وتوحي به، وخذ على ذلك مثالا «موت الماء»= «ظلّ الشوك يسلّم على قدمي… مزرعة تموء بالجوع..»، فيقلب الراوي وجه الأشياء وما استقرّت عليه، فالماء في الثقافة العربية دليل الخصب والحياة، «خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرض رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ»(١)، «وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زوْجٍ بَهِيجٍ»(٢)، واهب الحياة يتحوّل في الخطاب السردي ميْتا أو ميّتا، هو لا يهب الحياة لذاته، وإن كان قادرا على وهْبها إلى الآخرين.
في «موت الماء»، يتأسّس السرد الإيحائي، التشفيري، تتوافر الصور، ويتداعى العنوان ليظلّ بقيّة النصّ….. «موت الماء= ظلّ الشوك يسلم على قدمي….مزرعة تموء بالجوع»
«السرير يمتطي سحابة»، قصّة تصويرية، رمزية، تتحرّك فيها الكائنات والأشياء وتُقلَب الأوضاع، غريبٌ عالم القول، قادر هو على إحياء الجماد وتحريك السواكن في عالم رمزي تخييلي، إلاّ أنّ صلته بالواقع متينة.
لِمَ «يمتطي السرير سحابة؟ ولِمَ هذا العنوان وهو الأقرب إلى قلب المؤلف؟
السرير الجامد، بلا معنى، يُحمَّل المعاني، ويفتقد راكبَه فيركب السحاب، السرير حامل المعاني في الثقافة القديمة، وحامل ذنوب العشّاق وملتقى الأزواج، هو الحامل بات بلا محمول، صار راكبا، وقد كان لزمن طويل مركوبا، «قرّر أن يدلف إلى البحر، كان العشّاق يفضحون أنفسهم..»(٣). ويتفاعل السرير من حيث هو أداة فاعلة مع الكائنات والأشياء»: «تململ السرير من وحدته»(٤).
«الوسادتان الورديتان، تقابلتا دون حديث، من بينهما أطلّت زجاجة عطر على عنكبوته تدخل في فم رواية الحزام»(٥)
يُطلَقُ السرير وفي إطلاقه حكايةٌ تُروَى وعينٌ للسرير ترى وإحسا» للسرير يُعاش، وقولٌ للسرير يُقَال، وحياةٌ للسرير تُعَاش، فأيّ سرير هذا الذي يرفض وجوده جمادا مركوبا ليتحوّل كائنا راكبا، وتلك فيما أرى قدرة السرد على تحريك الجماد والفعل في الأشياء. لقد أطلق السرد الجماد، ونفث فيه نفسا من الحياة، فبات حيّا مع الأحياء وبات مغايرا لوضعه متحوّلا لصور من التأويل تتقلّب على عدد من الأوجه. وكأنّ السرير هزّه الوجد، وأداؤه الطبيعي إذ ينفره الزوجان أو العشيقان المتواجدان -وأقصد الصيغة- أعلى المبنى.
وما الذي حرّك السرير (الرغبة) أم فقد الرغبة؟
صور عديدة تتوافر في هذا العمل وتعدل عن التصريح بالمعنى إلى خلق فضاء من التأويل والإيحاء، على القارئ أن يفكّ ملغزه، «تنفرد السبابة بدخول المستشفى في غير أوقات الزيارة الرسميّة.. » (٦).
«أخذ البحر قيلولة قصيرة.. » (٧).
عالم رمزي موغل في التشفير والتضليل وتعلو فيها حالات الشعرية ويخبو الوعي بالسرد.
تراكم الصور وإن حلا وحسُن، لكنّ الإفراط فيه يسيء إلى العمل، فينبغي تأثيث الفضاء السردي وبعدها إطلاق الصور.
إنّ للسارد أدوات يُحكم استخدامها ويُجريها على الوجه الأسلم، ولكن أملنا أن لا يُكثر من من التصوير والتخييل حتّى لا يفقد السرد سرديته، ويتحوّل إلى نص شعري تتكاثف فيه الصور ويفقد السرد خيطه الناظم.
من الذات يدير الراوي عالمه، يحفظ وجده ووجهه، وينثر قولا إلى التعمية أقرب، يوميء ويُرمّز ويترك القارئ دون هدهدة السرد، تتراكم صور السرد، أو صور القول حدّ التغميض.
عينٌ ترى ذاتها والكونَ والكائنات من منطلق ذاتي، تُصوّر الفضاء وتعاملها معه، وطرقَ الجمع بين أصالةٍ وتاريخ ومتوارث، وبين حالات الجِدّة أو الردّة على التقاليد
يخرج حمود الشكيلي باللّغة عن السائد ويدخل المحظور، المحظور اللغوي، المحظور الاجتماعي، وكذا الكتابة دوما هي سعي لخرق السائد والعادي واليومي القاتل، فيحرّك الجماد ويتحرّك، يُنطق الصامت وينطق عبره، حتّى الكلاب صار لها وقع وآثار تمسح المكان والزمان وعبء الحالّ.
وتكون المرأة، الصورة النافثة، دوما في العُقَد، عُقَد السرد وارتباكاته، صورة المرأة على اختلاف أوجهها وتقلّباتها، تحضر في هذا العمل، «لولا المرأة والبحر لحاصرنا الجفاف، وقتلنا العطش»(٨).
تظلّ المرأة حاضرة، صورة الأمّ، هيئة الماضي الحاضر، في الراوي تشدّة إلى المكان، إلى الذات، تصنع منه أمل قصّ وتوفّر عددا من المجالات التي يفرغ لها السرد،سظلّت عيناه تتبع فتاة جميلة انسلّت على حين غرّة من قبضة العائلة، من خلف عباءة سوداء»(٩)
«ما زال يتبع العباءة السوداء»(10)
تحضر المرأة صورةً ثاوية في ذات الراوي، تبعث وجدَه وتشكّل ذائقته، وتُوافق وضعا اجتماعيا وحضاريا مخصوصا، ولا غرابة في ذلك فالمرأة عنصر من مشكّلات العالم الإبداعي.
يُعلن حمود الشكيلي الجنسَ الذي يكتبه في عتبة الكتاب: «قصص وقصص قصيرة جدا»، وكأنّ هذا الإعلان البدئي إشارة توقّف حتّى يعلم القارئ مجال التلميح والإشارة التي يدخل فيه الكاتب، وحتّى يضعه في إطار نوعي يتحرك فيه.
تخضع الكتابة السردية لمقوّمات الجنس، قصّة قصيرة، قصّة ومضة، تحسن فيهما العبارة، غير أنّ العيب كامن في إحساس القصّ المتناقص، أمر يعسر أن يُدرَك بالتمرّس بالكتابة فحسب، وإنّما هو حاصل باختمار الفكر ومعالجة القضايا والنظر في الوسائط والأساليب، لذا كان من الضروري أن تُطلق العنان للفكر صحبة العاطفة، إنّ السرد عمل فيه من الوعي والدقّة والتخطيط ما يفوق كتابة الشعر.
وعلى كلّ، فإنّ العمل لاقى في نفسي هوى إذ قرأته بعين الناقد، ولاقى في نفسي بعض النُفرة إذ قرأتُه بعين المستلذّ. وبين هذا وذاك فإنّ التجربة حقيقة بالاهتمام جديرة بالممارسة، ولا غرابة أن تكون هذه الملاحظات في عمل هو النتاج الأوّل لحمود الشكيلي، وننتظر منه أعمالا أعمق وأقدر في المجال السردي .
الهوامش
١ – سورة لقمان: (10)
٢ – سورة الحج: (٥)
٣ – «سرير يمتطي سحابة» ص: 46.
٤ – م.ن: ص: ٤٤.
٥ – م.ن: ص٤٤
٦ – م.ن: ص 37.
٧ – م.ن: ص 28.
٨ – ناظم حكمت.
٩ – م.ن: ص28.
10 – م.ن: ص30
محمد زروق
أستاذ الأدب والنقد في جامعة نزوى