علي نجيب إبراهيم
كاتب وأكاديمي سوري
يتحدّث الطاهر لبيب في مُلحق روايته «في انتظار خبر إنَّ» عن مسافة عشر سنوات فصلت بينه وبين نصِّه الذي لم يُفكِّر يومًا في نشره. كان خلال هذا العقْد من السنين قد غدا جَدًّا لِثلاثة، منهم جوليا، بنت السنتين، التي طالَما عبثَتْ بأوراق المخطوطة على مكتب جَدِّها. ولمّا أدركت، وهي في العاشرة، أنّ ما عبثَت به كان روايةً، ألحَّت على الجَدّ أن ينشرها. فأخذ بعضًا من أوراق المخطوطة المُنتزعةِ من كُرّاسها، المُبعثرة مُزَقًا حول مكتبه، وصوَّرها، وصمّم منها غِلاف الرواية.
ثمّة جُملةٌ واحدةٌ كاملة في هذه الأوراق، جاءت بصيغة سؤال: “ما الذي يجعل سيزيف العرب سعيدًا؟”. ومن ثَمَ تبدأ الحكاية، إن كان ثمّة من حِكاية في ذاكرة الحفيدة جوليا مع النصّ قبل أن تعرِف أنّه نَصّ، وبعد أن أخبرتْ صاحباتها في المدرسة أنّ جَدَّها “كاتب روائي”.
سيرورة الرواية، الجماليّة
قُبيل سفر المؤلِّف إلى بيروت لعمَلٍ دُعِيَ إليه، يودِّع صديقًا شاعرًا في أحد مقاهي العاصمة تونس. دار بين الصديقَين هذا الحوار:
– لِمَ لا تكتبُ روايةً؟
– لأنّي لستُ روائيًا.
– لا يكتُب الروايةَ الأولى روائيٌّ، تكتُبها رغبتُه في أن يكون روائيًا.
– لو كانت رغَباتُنا تكفي لَغيَّرْنا العالَم، ونحن جالِسون. مهما يكُن، فقد جئتُ أُودِّعُكَ، قبل سفَري لإقامةٍ في بيروت لا أعلمُ كم ستدوم.
– بيروت؟ إن كنتَ فيها ولم تكتب رواية فأنتَ لستَ فيها.
– لا تنتظِر منّي هذا. لا أراني أكتبُ رواية.
يبدو أنّ سيرورة الرواية بدأت بسؤالِ الشاعِرِ صديقَه عالِمَ الاجتماع عن علّة عدم كتابته الرواية، وهو سؤال مُنطوٍ على ثِقَته بموهبةِ صاحبه الأدبية، ورؤيته العميقة التي لا يُجسِّدها فنٌّ أدبيّ كما تُجسِّدها الرواية. لكنَّ القارئ يُفاجأ بتجمُّد السيرورة في جواب المؤلِّف بنفيٍ قاطع ينزع عن نفسه صِفَة الكاتب الروائي جازمًا بعدَمِ كِفاية الرغبة في إبداع النصّ الروائي. لَكأنّ النصّ يدعو إلى البحثِ عن بدايةِ سيرورته في موضِعٍ آخر، على الرّغم من صدى الاستغراب الذي أبداه الشاعِر من إثباتِ عُرْفٍ ثقافي إبداعيٍّ سائد: استحالة إثبات الوجود في بيروت بغير كتابة الرواية!
لو تنامى بعض هذا الاستغراب إلى الشاعر الفرنسي بول فاليري لَتصدَّعت عِظامُه امتعاضًا من الشاعر، ومن بيروت على حدٍّ سَواء! فهو المعروف بِمَقته هذا الجنس الأدبي التعسّفي المُغرِق في التفاصيل، الذي يفتقِر إلى الصرامة الشكلية ولُزوميّاتها. ممّا يَحول بينه وبين “إثبات الوجود” أساسًا. فصرامة الشِّعر الشكلية هي وحدَها التي تُنسِّق إيقاعات سيرورة القصيدة، فتُسمِع صوتَ القراءة المَبثوثَ هَمْسًا في مجرى هذه السيرورة.
فأين تبدأ سيرورة هذه الرواية التي تشي بتلك “الصرامة الشكلية” التي طالما نادى بها صاحب نظرية الشِّعر الخالِص. كما يومئ إليها، من بعيد، جواب الطاهر لبيب: لا تنتظِر منّي هذا. لا أراني أكتبُ روايةً. لكنّه كتب الرواية في بيروت، وألحقها بالجنس الروائي حين ثبَّتَ تصنيفها “رواية” على الغلاف باللون الأحمر؟!
سوف نبحث عن أثر هذه البداية المُستتِرَة عَبْر مجموعةٍ من السُّبُل النقدية التي من شأنها أن تُساعِدنا على كشْف خبايا رشاقة الشكل (لا الصرامة الشكلية) التي ليست في جوهرها سوى التعبير عن جماليات هذه الرواية.
ضمير السَّرد بين “أنا” الحكاية،
والتقمُّص العاطفي
المعلومُ الذي ساد أوساط النقد الأدبي زمنًا طويلًا أنَّ الأديب المُبدِع يُضمِّن نصَّه رسالةً يقرأها المُتلقّي فيتأثّر بها. وهكذا تُسجِّل قراءة النصّ تفاعُل “أنا” المؤلِّف، و”أنا” القارئ تفاعُلًا تنبني عليه “جماليات التلقّي” التي تُحلِّل نظريات قابلية التأثُّر وطريقة تلقّي الجمهور النصَّ الأدبيّ لحظةَ صُدوره. والحال أنّ هذه النظرية النقدية لا تُساعِد في تَقصّي أبعاد أسلوب الطاهِر لبيب، ولا في اكتشاف سِرِّ “صَناعتِه” الخاصّة وتفنُّنِه المُتميِّز. لأنّها لا تفصِل بين “أنا” المؤلِّف و”أنا” الحكاية الذي أبدَع الرواية بانيًا حبكةً تستغرِق سيرورتُها الجماليةُ القارئ فُتُخرِج ذاتَه -عَبْر ضَربٍ من النشوةِ الناتجة عن استحضار المشاهِد والصُّور في الذهِن- من لحظتها الحاضِرة، وتُدخِلها في الجوّ الشعوري العاطفي الذي خاض “أنا” الحِكاية تجربةَ إبداعه لحظةً إثْرَ لحظة. فما معنى خروج ذات القارئ من لحظتها الحاضِرة، وما علاقة ذلك كلِّه بفِعل القراءة، وصَوتها؟
يستخدِم الكاتب ضمير المُتكلِّم من خلال صِيَغ إسنادية مُتعدِّدة، ويُسوِّغ اعتماده هذا الضمير تسويغًا نقديًا في مَتْن الرواية. فحين تسأله حسناءُ بيروتيّةٌ كان سيجعلها شخصيّة في الرواية: “وأنتَ، مَنْ أنتَ في النصّ؟ يُجيبُها: – ضميرُ مُتكلِّمٍ. وفيه مسافات بين الأنا وأنا الذي ليس أنا”. ممّا يُذكِّرنا باستخدام رولان بارت ضمير السرد “أنا” في كتابه شذرات من خِطابٍ مُحِبّ، على الرغم من سَعيِه النقدي الحثيث لتحرير النصّ الأدبي من سُلطة المؤلِّف. حيث يقول: “اعتمدنا تصنُّع خِطاب الحُبّ بدَل وصْفِه، وأعَدْنا إلى هذا الخِطاب شخصَه الأساسي، الذي هو ضمير المُتكلِّم، حيث نُخرِج عمليّة قَول لا تحليلًا”.
إذًا “أنا” عملية القول، أو “أنا” العبارة المنطوقة كما يُسمّيها التحليلُ النفسي، ينفصِل بمسافات عن “أنا” المؤلِّف الذي لا يُستوعَبُ من غير المُدرَكات الحِسيّة التي تنقلها الحواسّ الخَمس. فحين يَغفَلُ المؤلِّف أو ينام، يفقد إدراكَ ذاته. معنى هذا أنّ الطاهِر لبيب خرَج أيضًا من لحظته الحاضِرة ساعةَ الكِتابة، وتقمَّص “أنا” حِكايته، ومن ثَمَّ استحال أن يتحقَّق التقمُّص العاطفي خارِج عمليّة القول والمسافة التي ترسمها فَتُهيّئ لكَ، أيُّها القارئ، هذا الجوّ الوُجدانيّ وتُشعِركَ من السطر الأوّل في الرواية، أنّكَ أنتَ الذي تسرد الأحداث، لا “أنا” الطاهِر لبيب السرديّة: “لم أتوقَّع، صباحَ يومٍ، أواسِطَ خريف 2011، أنّي ذاهِبٌ إلى سَماعِ أطول جُملة غير مُكتمِلة سَمِعتُها في حياتي، ولا توقَّعتُ أنّ هذه الجُملة مثقوبة ثُقَبًا واسعةً سيَسُدُّها ما يَحضرُني من مقاطِع ذكرياتي وتخيُّلاتي، خلال خمسٍ وأربعين دقيقة. كُنتُ مَدعوًّا إلى نَدوةٍ عُنوانها سؤالُ “العرب إلى أين؟ «…»1.
ها نحن الآن أمام سؤالَين: “ما الذي يجعل سيزيف العرب سعيدًا؟” و”العرب إلى أين؟”، وها نحن وجهًا لِوجه أمام جُملة مثقوبة تبدأ بـ”إنَّ”، بينما يُملأ الثُّقْبُ بِفَتْحِ أُفُقِ الجوِّ الشعوري على ما يُشعِر القارئَ الخارِجَ تَوًّا من ذاته، بِأُنْسٍ يُبدِّد وحشةُ انتظاره خبرَ “إنّ” المتلازمة مع لحظة الاستهلال التي تنطلِق منها مسافة القراءة، الجمالية. فيعتري “أناه” شعور بما يُشبه استغراقًا في “الآخر” المُتطلِّع من بين السطور، وتقمُّص مشاعرِه وشخصيّاته الروائية تقمُّصًا عاطفيًا. فيصير هو المُشارِك في النّدوة، المُنتظِرُ خبَرَ أطول جُملةٍ سمعها في حياتِه، وهو الناسي عملية القَول، موضوع الرواية، خائضًا غِمار النصّ بمُذكّراتٍ ورَّطه المؤلِّف في تَخيُّلها ضمن تعاقُبها الزمني المُنطلِق من طفولته في تونِس حتى ساعة حضوره ندوة “العرب إلى أين؟”.
عمليّة القَول والتقمُّص العاطفي
يُعبِّر التقمُّص العاطفي عن المشاعِر الإنسانية الكامنة في أعماق انطباعاتنا الجماليّة التي تتَّخِذُ أشكالًا لا نهاية لها مع أنّ مبدأها واحد: إسقاط الذات على الأشياء والظواهِر والتماهي معها عاكِسًا جوهر الشعور الجمالي. يتولَّد هذا التماهي بين “أنا” القارئ و”أناه” المُتماهيَة مع “أنا” عمليّة القَول، في أثناء الجو الشعوري، الذي تستغرِقه المسافة الجمالية. فما إنْ يُدرِك القارئ أنّ عمليّة القَول هي موضوع الرواية، حتى يدفعه إدراكه إلى التوقُّفِ عند طبيعة “الجُملة الطويلة” المثقوبة التي يسدُّها نصّ الرواية بِمُذكّرات سرَحَ به المؤلِّف في استعادة سيرورتها ضمن تعاقُبها الزمني. وسوف يكتشِف، في ضوء عنوان الرواية، وشايةَ الجملة المثقوبةِ بِمُفارَقة دلالية تُناقِض منطق النحو العربي. فهي ليست جملة فعليّة مُرتبطة بلحظات الزمن الثلاث في تعاقُبها المُعتاد من الماضي إلى الحاضِر فالمستقبل، وما هي بالجملة الاسمية غير الزمنية. بل هي جملة “منسوخة”، كما يُسمّيها النُّحاة، غيَّر شكلَها الحرفُ الناسِخ “إنّ” بالمعنى الذي طوَّره الفارابي في كتاب الحروف2، فخرجَتْ عن ظروف الزمن للدلالة “على الثبات والدوام والكمال، والوثاقة في الوجود. […]. ولذلك تُسمّي الفلاسفة الوجود الكامل “إِنيَّة” […] إلّا أنّ حرف إنَّ لا يُستخدَم إلّا في الإخبار فقط دون السؤال”.
هنا يُخاطِب القارئ نفسَه ضِمنيًا، فيقول: مادامت “إنّ” مخصوصةً بالإخبار، فإنّي، لا شكَّ، كاشِفٌ بعد حين علّةَ سعادةِ سيزيف العرَبِ، ومُدرِكٌ الـ”أينَ” الذي يصير إليه العرب.
هلِ الخبَرُ المُنتظَرُ وُجودٌ مؤجَّل؟
خاصّة الجُملة المنسوخة أنّ معناها لا يوجَد إلّا في الخبَر الذي يُجسِّد، أو ينبغي أن يُجسِّد، القوّة الناطقة التي “بها يحوز الإنسان العلوم والصِّناعات، وبها يُميِّز بين الجميل والقبيح من الأفعال والأخلاق”3. فما العمَل إنْ بقِيَ الخبَر مُعلَّقًا؟
يَنظِمُ العبارة الروائية منطِقٌ مُحدَّد في التعبير عن المعنى. وإذا ما خُرِق هذا المنطق خرقًا فاضِحًا، بِتْنا أمام مقولة العبثي الجماليّة التي مجالُها الهزْل، ورُبَّما سخرية الذات “المُرَّة” من ذاتها كما من “ذات” الآخَر! أمّا العبَث في جملة “الخطيب” المثقوبة التي عُلِّق خبَرُها فيعكِس وجودًا مُجرَّدًا من المعنى بسبب تجرُّده من أسباب الصيرورة ومُحرِّكاتها. حيث أُلقيَت العبارة في ما سمّاه العرب “الوَدْس”: ودَسَ إليه بِكلامٍ، أي ألقاه عليه غيرَ مُكتمِلٍ. أمّا الخطيبُ المُفَجِّرُ أوداجَه في ندوة “العرب إلى أين؟” فراح “يركض ولا يصِل إلى ما يُريد أن يقول”. يركض بينما هو جالِس يُلقي كلِمته في “القاعةِ البرميلِ الصدئِ البارِد”، إلى جانب “أنا” العِبارة المنطوقة: “رَفعْتُ رأسي وأدَرْتُه، أتأمّلُ الخطيب: وَجهٌ شِبْه مُربَّع، شفتان بارِزتان غليظتان يعطيهما النُّطق حركة واسعة المساحة. البطْنُ مُتكوِّرٌ، حقًّا مُتكوِّر، عليه قميص رمادي وربطة عُنق رماديّة، لها خطوط داكنة. عُنُق قصير ينكمِش أو يغيب، كاللولب المضغوط، كلّما انكبّ الرأس على الورقة”.
شكلُ الخطيب، كما ادّعاءُ خِطابه، خِلْوٌ من أيِّ معنى، ومن أيّ ملمح جماليّ يدلُّ عليه. يلوح من خلاله شكل أحمد عبد الوهّاب الذي وصفه الجاحظ في رسالة التربيع والتدوير: “كان أحمد عبد الوهّاب مُفرِط القِصر، ويدّعي أنّه مُفرِط الطول، وكان مُربّعًا، وتحسبه لِسِعَةِ جَفْرَته، واستفاضة خاصرته، مُدوّرًا…”.
فما معنى وجه أو جَسَد شكلُه دائرة داخِل مُربَّع، وخصوصًا إذا علِمنا أنّ الشكل هو الذي يمنح المادّة طاقتها المُتَّقِدَة في دقائق الملامح البادية على وجه الإنسان، وتناسُق قامَتِه؟
يبدو شكل الخطيب الموصوف في النصّ مقصورًا على المُعطى العُضوي الجَسدي الذي يُكوِّن الفرد وفقًا لِقِيَم هندسية تتناقَض مع قيَم الجسد الجمالية المُعبِّرة عن اتّساق شكل العضو ووظيفته. على حين أنّ ما يكوِّن الشخص المُتمتِّع بـ”أناه” الخاص فليس سوى ملَكات النفس الناطقة. لذلك لا ينطوي شكل الفرد العضوي الجسدي على أيّ معنى. ومن ثَمّ نجِد أنّ ما كان الخطيب يهدُر به بعد الحرف الناسِخ “إنّ”، أشبه بقميص ذاكَ البخيلِ (القميصُ- الثّقبُ) الذي ذكره الجاحِظ أيضًا في قصة ليلى الناعطيّة (كتاب البُخلاء):
اِلْبِس قميصَكَ ما اهتديتَ لِجيبِه فإذا أضلَّكَ جَيبُه فاسْتبدِلِ
وإذا عرفنا أنّ الندوة معقودة أصلًا بُعيد ما دُعِيَ بالربيع العربيّ، وتداعيات ما سبقه من حروبٍ وصِراعات، بان لنا الانفصام بين شعاراتِ الأفراد، ومُداخلات مُثقّفيهم، ومستوى كلامهم الفكري والسياسي الذي لا يملِك من الخصائص ما يجعله يرتقي إلى مستوى الخِطاب. لا يرتقي لأنّه مُفتقِرٌ إلى قوّة “أنا” الشخص الثائر، أو الخطيب الذي أرغى وأزْبدَ. فقوّة “أناه” هي وحدَها التي تُنتِج المعنى حيث يغدو القولُ فِعلًا، “لا ثِقَبًا واسعةً” في أطول جُملةٍ منسوخةٍ “مُعلَّقةِ الخبَر” سَمِعَها مؤلِّف الرواية. إذًا “الوَدْسُ” هو أقصى ما بِوسع “الخطيب” الفَرد، أن يفعله. “فما أصعب أن تكون عربيًّا اليوم! (صفحة 92)، تُدرِكُ مُفارقةَ أنّ الخطيب يحسَب الجعجعةَ كلامًا، وهو يُشدِّد على “إنّ” ومُلحقاتها التي تُثبِتُ وجودًا غير موجود لا في الواقع ولا في عبارته المنطوقة. وها أنتَ تنتظِر خبرًا يُفترَض أن ينطوي فيه معنى، فلا يأتي، فتوهِمكَ أوداج الخطيب أنّ تأجيله مُباح إلى ما لانهاية. حتى لَيُمكِن أن تنتظره المجتمعات العربية مُستمتِعةً بمحبّة قدَرِها: هَزُّ الخُصورِ طرَبًا بسماعِ ما اعتادت سَماعَه، ورؤيةِ ما اعتادتْ رؤيته!
وإذا ما كان المعنى هو الوجود ذاته، باتتْ حالُنا مرهونةً بالفوضى الخلّاقة “ندخلها من أبواب مُتفرِّقة فإذا في وَجْهِ كلٍّ منّا أُعجوبة [خلّاقة] نُمعِن في وصفها. ننُظِّر للعبث العربي ونتفلسف في تعريفه […] نردم السياسيين بأوصاف لا تُوصَف. ننعى الفِكر والمُفكّرين […] نلتفت إلى الشارع، من خلال النوافذ، فكأنّ شيئًا لم يكُن. ونتفرَّق وكأنّ شيئًا لم نقُل…”.
فهل يمضي معنى العبَث إلى أبعد من التغنّي بهبوط الفِكر العربي، والثقافة العربية، إلى أدنى مستوىً يُمكِن تصوُّره؟! “نتفرَّق وكأنّ شيئًا لم يكُن”. وحين نلتقي من جديد، نُكرِّر الشيء ذاته. فَلِمَ لا نَسعد سعادةَ سيزيفِنا العاشِقِ قدَرَه: “اعتدنا أن نرى سيزيف، خارِج التراجيديا” يرقص بيننا، في حفلٍ عربيّ، فَرِحًا بصخرتِه هو لا يراها إلّا وهي تُرفَع إلى أعلى الجبل، وإذا قِيل له إنّها تتدحرج نحو أسفله، قلبَ الجبَل لتنزل نحو قمّته! هكذا يكون سيزيف العربيُّ سعيدًا، دائمًا”.
إذًا ليست مقولة العبَث هي التي تستوعِب واقِع الوجود العربي، ولا الموقف التراجيدي، وخصوصًا أنّنا نرى سيزيفَنا السعيدَ خارِج التراجيديا أصلًا، بل هي مقولة الغريب العجيب. هذه المقولة التي تُعبِّر عن المُتنافِر -المُضحِك في الأشكال: لئن تَعذّرَ أنْ ترى شكلَ مزاريب كنيسة نوتردام في باريس، المصنوعة على شكل رؤوس شياطين، أَلسنتُها مُتدليّة، وآذانُها ضخمة تحشُر وجهًا عجوزًا ضامِرًا، وجبينًا مُراهِقًا مُتجعِّدًا، فتَخيَّل حركة عُنُق الخطيب القصير مُنكمِشًا أو غائبًا، كاللولب المضغوط، كلّما انكبّ الرأس على الورقة! كما تُعبِّر عن المتنافِر- المُضحِك في موقف سيزيف العرب الذي يغتبِط بمُناقضة قوانين الطبيعة متوهِّمًا أنّها تحلّ مُشكلة تدحرُج الصخرة نحو أسفل الجبل، فلا يني يقلِبه رأسًا على عقِب!
كناطِحٍ صخرةً يومًا ليوهِنَها فلم يضرْها، وأوهى قرْنَه الوعِلُ
جِدَّةُ النَصِّ والإحْباك
ترتكز جِدّة هذا النصّ على مبدأين من مبادئ “الإحباك” أو صِناعة الحبكة الروائية: 1) – فصل الوعي عن الجسد، والبقاء على مسافة من واقعِ “القاعةِ البرميلِ الصدئ” حيث تُعقَد ندوة “العرب إلى أين؟”، 2) – استعادة ماضي ضمير السرد “أنا”، منذ لحظة معينة من طفولته حتى نهاية أطول جملة سَمِعها في حياته على لسان الخطيب الأوّل في الندوة. فما سِرّ هذا الفصل، وذاك البقاء؟
السِرُّ كامنٌ في مبدأ فصلِ الوعي عن الجسد الذي يُتيح فُرصة وجود “ذات” تتصوَّر، وموضوع مُتصَوَّر من خلال الوعي ذاته. ومن خلال هذا الفصل تحدث عملية فصل أُخرى، بين “الذات” و”الموضوع”، ممّا يعني أنّ الذات المُتمتّعة بالوعي تفرِض نفسها بوصفها “أنا” يُواجِه الوجود من حيث هو موضوع تَصوُّر. وحيث إنَّ الزمن بُعدٌ أساسٌّ من أبعاد التجربة الإبداعية الماثِلة هنا في “الإحباك” الذي يتخلّل ثُقب الجملة المنسوخة المُعلّقة خارِج الزمن، فإنّ السؤال عن سِرّ فِعْل الوعي يفرِض نفسه فرْضًا: كيف خرج جسَدُ المؤلِّف من المؤلِّف، وبقِيَ على مسافة من واقع موجود في تلك “القاعةِ البرميلِ الصّدئ”، بادئًا وجودَ الذات المُتذكِّرَة، وذكريات الطفولة المُستعادَة إبداعيًا؟!
في اللغة العربيّة فِعلان مُشتقّان من الجذْر [حَ بَ كَ]: فِعْلٌ ثُلاثي [“حَبَكَ” الدالُّ على الحَبْكِ، أي على ما أُجِيد حبكُه عامّةً]، وفعلٌ رُباعي مُستحدَث على مَبنى “أفْعلَ” الدالّ على الحركة والتحويل [“أَحبَكَ”: حوَّل الحكاية إلى حبكةٍ سردية]. وجاء في لسان العرب أنّ المَحبوك: المُحكَم الخَلْق […] وكُلّ شيء أحكمتَه، وأحسنتَ عملَه، فقد احتبكْتَه4. وبذلك أضاف فِعلًا ثالثًا يدلُّ على شدِّ خُيوطِ النسيج لُحمةً وسُدى. فهل يُمكِن الكلام على الإحباك أو الاحتباك في استعادة ذكريات الطفولة، ولا سيَّما وأنّ إحكام الصُّنْعِ يستلزِم زمنًا أبعد من خمس وأربعين دقيقة استغرقتها جُملة الخطيب؟
لو اعتمَد المؤلِّف على الأشكال السردية التقليدية بلحظاتها المُتعاقِبة مع تعاقُب الأحداث لَتعثّرت قِراءة الرواية تَعثُّر قراءة الروايات العربية الراهنة التي لا احْتباكَ فيها ولا إحباكَ. وقد عمَد إلى تجنُّب شكل السرد التعاقُبي بالقول: “السارِد كمن يصعد درَجًا: له أن يتوقَّف، أن يقفز درجةً، أن يتراجع درجات، مادام، في المُحصِّلة، يتقدَّم. حياتُنا أيضًا، هي هكذا: ليس لها مسار خطّي. لا أُحِبّ السرد الخطّي المستقيم”. وهو، على الأرجح، إنّما احتبكَ روايته من مرابِع طفولتِه ذاتِ الحُبُك: [تكسُّرُ كُلِّ شيءٍ كالرَّملةِ إذا مرّت عليها الريح الساكنة]. تلك المرابع المُمتدّة، وسط تونس، امتداد السُّهوب والفيافي، تفتتح المشهد التصويري بالوقوف على الأطلال وقوفَ امرئ القَيس في حُبُكِ “تُوضِحَ فالمِقراة” التي لم يعفُ رسْمها، لِما نسَجتها من جَنوبٍ وشمأَل. فالشاعر الجاهلي، كما الكاتب الروائي، اكتشفا أنّ الزمن الذي حوَّل الأطلال إلى “حُبُكٍ” ليس زمنًا مستقيمًا مُتعاقِبًا، بل هو زمنٌ زوبَعي حركته لولبية كحركة تلك المرأة اللبنانية التي رآها المؤلِّف تصِل من مسافةٍ كافيَة لِيتأمَّل قِوامها ومِشيتَها “جسّدت ما انبنى في ذهني من صورة المرأة اللولبية في لبنان، تلك التي إنْ تأنّق جمالُها، خَفّ جسدُها فمشت، تدور حول ذاتها، وفي الوقت نفسه تتصاعَد، فيبدو لك أن حركاتها لا تتكرَّر. لِجسَدها ذكاء يجعلُه قابلًا لهذا النوع من التجريد”. وما يكون التجريد خارِج تمُّوج حركة الجسد الرشيقة المُتصاعِدة لولبيًا كأنّها خارِج الزمن أو حدُّه الأقصى الذي قد يُجسِّده موعِدٌ في مقهىً من مقاهي بيروت الآخِذة بين ذراعَيها كاتب الرواية الذي أكّد لصديقه الشاعِر التونسي أنّه لا يرى نفسه يكتب روايةً!!!
إذًا ها هو فِعْل الزمن في “الحُبُك” يتحوَّل بين يدَي الطاهِر لبيب إلى صُوَرٍ سرديةٍ رشيقة رشاقة ترتسِم على خطِّ الأفُق السهبيّ في مَهدِ الطفولة حيث اللحظة السرديّة المؤسِّسة: “أَراني أنتظِرُ الحافِلَة في يومٍ […] أجلِس على حافّة طريق تُرابيّ يمتدُّ في الأرض كجُرحٍ في جذْعٍ يابِس […]. لا شيء يُعلِن قُدوم الحافلة غير غُبارها في الأُفق: توقيتُها غُبارُها”. هذه الصورة الخاطفة كالبرْق تُضارِع، أيَّما مُضارَعة، خِفَّة جسَد المرأة اللبنانية، تمشي فتدور حول ذاتها تمامًا كما يُدوِّم الغبار المُرتسم على الأفقِ السَّهبي الواضِعِ حدًّا لغَمّ الانتظار. وما غَمُّ الانتظار المَعنيُّ ها هنا؟!
غَمّ الانتظار المعني هو الذي نشأ قُبَيل توقُّف الحافلِة، حين وصل ثَريُّ القرية راكبًا على بَغله، وحاول ثَنْيَ الوالِد عن إرسال ابنه إلى المدرسة: “وقف والدي وبقيتً جالِسًا على التُراب مُتأبِّطًا كَفيَّ […] اقترب البغلُ مني حتى لم يعُد بيني وبينه أكثر من ذراع. غطّى بطنُه أغلب السماء. كان مُكتنِزًا موزون المدّ والجزر. سلّم الرّجُل سلامًا كالزّجْر وسأل عن سبب وجودنا حيث كنّا. أجاب والدي بأنّه آخِذُني إلى المدرسة. ردَّ الرّجل مُستنكِرًا…”. وهو الغَمُّ الذي ترافق فيه سلامُ الرّجلِ الراكبِ بغلَه واستنكاره التعليم، مع حَجْبِ بطنِ البغلِ المُكتنِز، السماءَ أمام الطِّفل المُنتظِر يرقُب الأُفْقَ البعيد. فماذا لو اقتنع الوالِد باقتراح المُختار، وجعل ابنه يشتغِل راعيًا عند هذا الرجل الغنيّ لقاء نعجةٍ في العام؟!
يتحدّث الأديب والناقد اللبناني مارون عبّود عن انتظاره السيارة مع والده على مَفرَق قريته “عين كفاع” للسَّفر إلى بيروت والالتحاق بالمدرسة: “كُنتُ في التاسعة من عمري عام 1938 5 عندما عاد أبي من عاليه في العطلة الصيفية. ركضتُ لِمُلاقاته فانحنى عليَّ وقال لي: السنة القادمة سآخذك معي. طِرتُ من الفرح […] وفي إحدى الأُمسيات حزمنا أمتعتنا […] وما إن أطلّ الصباح حتى صحوت على صوت المكاري الواقِف بالباب. غادرنا القرية مُمتَطين ظهور الدواب وانحدرنا من عين كفاع صوب البحر، فوصلنا إلى طريق سهلة نائمة بِمحاذاة البحر […]. بعد طول انتظار، توقّفتْ سيارةٌ صعدنا إليها. وما أشدّ ما كانت دهشتي عندما رأيتُ العالَم من حولي يركضُ بعكس وِجهتنا”6.
تكاد عناصِر المشهد الموصوف تكون واحدة: المكاري ودوابهم (التي قد تكون بِغالًا أو حميرًا) والطفل الملتحِق بالمدرسة، ووالِده، وانتظار السيارة. لكنّ المشهد يبقى وصفيًا لا تصويريًا. لأنّه غير محبوك ولا مُحتَبِك. فحين بلغ مارون عبّود السابعة من عمُره، ألحقه والِدُه في مدرسة عاليه التي يُديرها. وما باقي الأحداث سوى إطار وصفي. لذلك من الطبيعي أن تخلو المُذكّرات من خطوط قوَّة الإحباك، وقُطَبِه المخفيّة التي تدخل في تركيز اللحظة المؤسِّسة في “ظرفٍ مُبهَم من الأمكنة” حيث انتهى الحوار بين الوالِد وصاحِب البغل، بإزاحة بطن البغل عن أُفق انتظار الطفل الجالِس على التُراب: “الظرْف المُبهَم من الأمكنة” […]. لم يكُن في البدء إلّا بقعة انتظار حافلة على حافّة طريقٍ تُرابيّ. مررتُ به […]. وكنتُ، كلّما مررتُ به، سمعتُ والدي يقول في وجه صاحب البغل: “الولدُ ذاهبٌ إلى المدرسة”. هكذا أصبحت بقعة انتظارِ حافلةٍ على حافّة طريق رمليّ مَوقِعًا لما استقرّ في ذهني أنّه “لحظة مؤسِّسة”.
تخيَّل عزيزي القارئ، إن جاز التخيُّلُ في هذا المقام، أنّ الوالِد اقتنع باقتراح صاحب البغل، وعاد بابنه من حيث أتى، بعد أن وجد له عملًا في رَعْيِ الماشية! لو اقتنع الوالِد لَماتت صورة السيّارة المُنتظَرة التي توقيتُها غُبارُها، ولَما حانتْ لحظةٌ تؤسِّس سيرورةَ الرواية، ونقطة ارتكاز حبكتها. ولو اقتنَع لَصحَّ جَزْم الطاهر لبيب بأنّه لا يرى نفسَه كاتبًا روائيًا، ولَما كانت الرواية أبدًا!
هكذا يحتبِك الطاهر لبيب مشاهِدَ من صُوَرٍ وامضة كنبض البرْق، كاشفًا النِّقاب عن أسلوب جديد في بلاغة التصوير الأدبي، كأنّما يردُّ على جُملة الخطيب الممطوطة خارِج الزمن. ولا شكّ عِندي أنَه خبِر ما تختزنُه اللغة العربية من الكلِمات -الصُّوَر التي صنّف الثعالبي كثيرًا منها في كتابه «فقه اللغة وسِرّ العربية»، على حين أنّ بقيّتها الباقيَة ما تزال مهجورةً كامنةً في أرحامِ المعاجِم. لأنّ إدراك الدلالة في سَرده التصويري، وإدراك دلالة تلك الكلِمات- الصُّوَر لا يتحقَّق إلّا عن طريق إعمال المُخيِّلة. فحين تقول “شجرةٌ فَنْواء”، تتخيَّل على الفَور أغصانًا مُمتدَّةً وظِلًّا وسيعًا كثيفًا، وسُرعان ما تربطه بالأفنان، وفناء المنزل، والرّكح في مركز المدينة.
وحين تقرأ هذه العبارة: “في مقهى ليناس، دخلتِ امرأةٌ تُعلِّق طلَّتُها الفُنجانَ في يدي”، تشرع في تخيُّل المشهَد المُباغِت الوامِض الذي تتراءى فيه امرأةٌ لا يترُك لكَ الانصعاق بجمالها حتى بضع ثَوانٍ كي تُوصل فُنجان القهوة إلى شفتَيك. ولَسوف تُعمِل مُخيِّلتك لكي تُعيد رسم تلك المرأة البيروتية التي “جلست كالفرحة” تنشر ضِحكتَها” أو تلك التي ضحكَت فحوَّلتِ الممرَّ الضيِّقَ إلى شارِعٍ عريض. ولست أدري إلى أي مدى ستنعِكس صورة بيروت على صفحة المُخيّلة وهي بين فِعلَيْ “طار” و”سقط”: “كانت بيروت تطير كلّما سقَطتْ، والآن تسقُط كما طارت”!
لقد تمخَّض الإحباك عن هذا الضَّرب من السرد التصويري الانسيابي الذي تتهادى فيه المشاهِدُ تهادي مجرى السواقي في ضوء القمَر. مع فارِقِ أنّ ضوء القمر لا يُغيِّر ملامح الأشياء التي يُضيئها، على حين أنّ ريشتَي المُحتبِك المُتفنِّن والرسّام البارع تفادَتا البرَك الآسنة في ثُقْبِ جُملةِ الخطيب التي لا يأتي خَبرُها. ومع هذا التفادي، بعثتا ظلال الإيقاعات بين ثنايا الصُّوَر الوامِضة المُنسابة في مجرى المشهَد السردي. كأنّها الأزهار لا تني تتطلَّع من أكمامها مُترقِّبَةً “خبر إنَّ” الذي أكملته حفيدةُ المؤلِّف بعد أن قرأتْ روايةَ جَدِّها باللغة العربية، لا بِلُغة الخطيب…
الهوامش
1 ـ في انتظار خبر إنّ، منشورات مُنتدى المعارف، 2023، صفحة 9.
2 ـ منشورات دار المشرق، بيروت، طبعة ثانية 1990، صفحة (3 ظ).
3 ـ أبو نصر الفارابي، كتاب السياسة المدنيّة (المُلقَّب بمبادئ الموجودات)، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1998، ص 22.
4 ـ انظر: المُجلَّد العاشِر، باب الكاف، فصل الحاء، صفحة 408.
5 ـ تجدر الإشارة هنا إلى خطأ تاريخي يستحيل إصلاحه في مُذكّرات مارون عبود المنشورة بعد موته. فهو من مواليد سنة 1886، كان عمره سنة 1938، اثنين وخمسين عامًا لا تِسْع سنوات. ونعتقد أنّ العام المقصود هو 1893، وقد كُتِبَ خطأً.
6 ـ مارون عبّود من خلال مُذكّراته، دار مارون عبّود، 1980، ص، ص. 183 ـ 184.