منذ ثلاث سنوات احتفلت فرنسا بالذكرى الخمسين لوفاة انطوان دو سانت أوكزبير (1900-1944) الذي يعتبر واحدا من أعظم كتاب فرنسا، وأحد رواد الطيران في العالم.
وقد اختفت طائرة اكزوبيري خلال الحرب العالمية الثانية، ويعتقد أن الطائرات الألمانية قد تصدت لها وأسقطتها في البحر الأبيض المتوسط ولمناسبة الذكرى الخمسينية لرحيل اكزوبيري، أصدرت فرنسا صورته على ورقة الخمسين فرنكا ومعها عدد من الرسوم التوضيحية التي قام هو رسمها لروايته الأشهر (الأمير الصغير)
كتب اكزوبيري هذا النص قبل فترة وجيزة من رحيله المأساوي، وتناول فيه جوانب من وجه العالم الذي تمزقه الحرب منطلقا من لشبونة التي تحولت الى موجز وديع لمآسي العالم نظرا لأنها كانت عاصمة بلاد محايدة في زمن مليء بالاضطرابات والهيجانات! وهذا ما يجعل هذا النص وثيقة نادرة، لكاتب نادر، من أعمق وأصفى كتاب هذا القرن!
حين عبرت البرتغال في ديسمبر (كانون الأول) 1940، متوجها الى الولايات المتحدة، بدت لي لشبونة كنوع من جنة مضيئة وحزينة. كانوا يتكلمون فيها آنذاك كثيرا عن غزو وشيك، وكانت البرتغال تتشبث بوهم سعادتها. كانت لشبونة التي أقامت أروع معرض في العالم، تبتسم ابتسامة شاحبة قليلا، كابتسامة أولئك الأمهات اللواتي ليست لديهن أية أخبار عن أبنائهن في الحرب ويبذلن الجهد لانقاذهم من خلال ثقتهن: "ابني حي لأني ابتسم…"، "انظروا، تقول لشبونة، كم أنا سعيدة وهادئة ومضاءة جيدا…" كانت القارة بأسرها تلقي بوطأتها فوق البرتغال مثل جبل متوحش، ثقيل بقبائله المتوحشة، كانت لشبونة المبتهجة تتحدى أوروبا: "أيمكن أن أعتبر هدفا في الوقت الذي أعني فيه الى هذا الحد بالا أخفي نفسي قط ! في الوقت الذي أكون فيه هشة الى هذا الحد…".
كانت مدن بلادي، في الليل، بلون الرماد، كنت قد فقدت فيها ألفتي لرؤية أي بصيص من الضوء، وهذه العاصمة المشعة تسبب لي ضيقا غامضا، إذا كانت الضواحي المحيطة مظلمة، فإن ماسات واجهة شديدة الاضاءة تجتذب متسكعين نشعر بهم يجولون. كنت أشعر أن ليل اوروبا يثقل على لشبونة، الليل المسكون بجماعات ضالة من المدفعيين، كأنهم احسوا بهذا الكنز من بعيد.
لكن البرتغال كانت تتجامل شهية الوحش. ترفض تصديق المؤشرات السيئة. كانت تتكلم عن الفن بثقة يائسة. هل كان احد ليجرؤ على سحقها في عبادتها للفن ؟ كانت قد أخرجت كل أعاجيبها. هل كان أحد ليجرؤ على سحقها في أعاجيبها؟ كانت تظهر رجالها العظماء. فنظرا لعدم وجود جيش، وعدم وجود مدافع، نصبت البرتغال في وجه حديد الغازي جميع حراسها المصنوعين من حجر: الشعراء، والمستكشفين المغامرين. وبسبب عدم وجود جيش او مدافع، كان ماض البرتغال بأسره يسد الطريق، هل كان أحد ليجرؤ على سحقها في إرث ماضيها العظيم ؟
هكذا كنت اهيم كل مساء بكآبة، عبر نجاحات هذا المعرض فائق الذوق، حيث كان كل شيء يلامس الكمال، حتى الموسيقى شديدة الهدوء، التي اختيرت بهذا القدر من الرهافة، والتي كانت تنساب بنعومة، فوق الحدائق، دون دوي، مثل مجرد رقرقة ينبوع. أكان أحد ليدمر هذا الحس الرائع بالاعتدال ؟
وجدت لشبونة، في ابتسامتها اكثر حزنا من مدني المطفأة.
عرفت وربما عرفتم، تلحك العائلات غريبة الأطوار الى حد ما، التي كانت تحتفظ بمكان لميت الى موائدها. كانت تنكر ما لا يمكن إصلاحه. غير ان هذا التحدي لم يكن يبدو لي مواسيا. من الموتى علينا أن نصنع موتى. عند ذلك يستعيدون، في دورهم كموتى، شكلا آخر من الوجود. إلا ان تلك العائلات كانت تعطل عودتهم. كانت تجعل منهم غائبين أبديين، مدعوين متأخرين الى الأبد. كانت تقايض الحداد بانتظار ليس له محتوى، وتلك البيوت كانت تبدو لي غارقة في ضيق لا كفارة عنه، خانق بشكل مختلف عن الغم. قبلت أن البس الحداد على الطيار غيوميه، آخر صديق فقدته والذي صرع أثناء الخدمة البريدية الجوية، يا إلهي! غيومية لن يتغير بعد الآن، لن يعود حاضرا بعد الآن أبدا، الا انه لن يكون غائبا ابدا كذلك. ضحيت بطبقه على مائدتي، ذلك الفخ غير المجدي، وجعلت منه صديقا حقيقيا ميتا.
لكن البرتغال كانت تحاول أن تؤمن بالسعادة، تاركة لها مكانها وفوانيسها وموسيقاها، في لشبونة، كانت تلعب لعبة السعادة، حتى يؤمن بها….
يعود مناخ الحزن في لشبونة أيضا لوجود بعض اللاجئين. لا أتكلم عن المبعدين الباحثين عن ملجأ، لا أتكلم عن المهاجرين الباحثين عن ارض يخصبونها بعملهم. أتكلم عن أولئك الذين يغادرون أوطانهم ويبتعدون عن بؤس ذويهم من اجل وضع مالهم في مأمن.
باعتباري لم أستطع السكن في المدينة بالذات، سكنت في استوريل قرب الكازينو. كنت خارجا من حرب كثيفة: كان فريقي الجوي، الذي لم يوقف قط تحليقاته فوق المانيا طيلة تسعة اشهر، قد فقد، في الهجوم الألماني وحده ثلاثة أرباع طواقمه. بعودتي الى بلدي، عرفت جو العبودية القاتم، وتهديد المجاعة، عشت ليل مدننا السميك. وها على بعد خطوتين من منزلي، يعمر الكازينو بالأشباح، كانت سيارات كاديلاك صامته، تضعهم، وهي تتظاهر بالتوجه الى مكان ما، على الرمل الناعم لرواق المدخل. ارتدوا ملابس للعشاء، كما في السابق. كانوا يظهرون واقيات صدورهم أو لآلئهم. دعوا بعضهم بعضا الى وجبات ممثلين صامتين، فقد لا يكون لديهم شيء يقولونه لبعضهم.
ثم يلعبون لعبة الروليت او البكرا حسب الثروة. كنت في بعض الأحيان أذهب للفرجة عليهم. لم أكن أشعر لا بالغيظ ولا بالسخرية، بل بقلق غامض. القلق الذي يجعلك تضطرب في حديقة الحيوان أمام النماذج الناجية من نوع قد انقرض. كانوا يأخذون أماكنهم حول الطاولات، يتزاحمون حول مدير لعبة القمار الصارم، ويجتهدون في مكابدة الأمل، واليأس، والخوف، والحسد والابتهاج. كما الأحياء. كانوا يقامرون بثروات، ربما كانت في تلك الدقيقة بالذات، قد فرغت من مدلولها. ربما كانوا يستعملون عملة باطلة. ربما كانت قيمة خزائنهم مكفولة من قبل مصانع تمت مصادرتها، او هي الآن في سبيلها الى ان تسحق تحت تهديد الطوربيدات الجوية. كانوا يسحبون كمبيالات على سيريوس. يسعون جهدهم، بارتباطهم بالماضي، أن يمنوا بشرعية حماهم، بغطاء شيكاتهم، بازلية اصطلاحاتهم، كما لو أن شيئا منذ عدد مبين من الأشهر لم يبدأ بالتقصف على الأرض. كان ذلك غير حقيقي. كان أشبه بباليه دمى. لكنه كان شيئا حزينا.
دون شك لم يكونوا يحسون شيئا. كنت أتركهم واذهب لأتنفس عند شاطيء البحر. وكان بحر استوريل ذاك، بحر مدينة المياه، البحر المروض، يبدو لي انه يدخل في اللعبة أيضا. كان يدفع الى الخليج موجة وحيدة رخوة، لامعة تماما في ضوء القمر، مثل ثوب له ذيل في غير أوانه.
التقيت بلاجئي على سطح السفينة. كانت هذه السفينة هي أيضا، تنشر قلقا خفيفا. كانت تنقل من قارة الى أخرى، هذه النبتات عديمة الجذور. كنت اقول لنفسي: «اريد أن أكون مسافرا، ولا أريد ان أكون مهاجرا. تعلمت في بلدي أشياء كثيرة، تصبح بلا فائدة في مكان آخر.» ولكن هاهم مهاجري يخرجون من جيبهم دفاتر عناوينهم الصغيرة، بقايا هوياتهم. مازالوا يلعبون لعبة كونهم اشخاصا مهمين. كانوا يتعلقون بكل قواهم بمدلول ما. «أتعرف هذا هو أنا، كانوا يقولون، أنا من المدينة الفلانية.. صديق فلان… اتعرف فلانا؟».
ويقصون عليك قصة صديق، أو قصة مسؤولية او قصة خطيئة، او أية قصة أخرى يمكن أن تربطهم بأي شيء كان. ولكن
لم يعد شيء من هذا الماضي ينفعهم لأنهم هجروا أوطانهم. كان الأمر ما يزال ساخنا جدا، طازجا جدا، حيا جدا مثلما هي ذكريات الحب في بداية الأمر. تصنع رزمة من الرسائل الرقيقة. ترفق بها بعض الذكريات. يربط الكل بكثير من العناية. إن بقايا الأشياء الثمينة تثير سحرا كئيبا في البداية، ثم تمر شقراء ذات عينين زرقاوين، فتموت البقايا. لأن الصديق أيضا، والمسؤولية مسقط الرأس، وذكريات البيت، تفقد ألوانها إن هي ما عادت تستعمل.
كانوا يحسون بذلك جيدا. ومثلما تلعب لشبونة لعبة السعادة، كانوا هم يلعبون لعبة الاعتقاد بأنهم سيعودون قريبا. عذب غياب الابن الضال ! إنه غياب مزيف لأن البيت الأسري باق وراءه. فسواء كان الغياب في الغرفة المجاورة، أو على الجانب الآخر من الكوكب، ليس الفرق جوهريا. يمكن أن يكون وجود الصديق الذي ابتعد ظاهريا، أكثر كثافة من وجود فعلي. إنه وجود الصلاة. لم يسبق أن أحببت بيتي قط اكثر مما أحببته في الصحراء. لم يسبق أن كان خطاب أكثر قربا الى خطيباتهم من البحارة البروتونيين في القرن السادس عشر، عندما يجتازون رأس هورن ويشيخون في مواجهة الرياح المعاكسة. منذ انطلاقهم يكونون قد بدأوا بالعودة. وحين ينشرون الأشرعة، كانوا يعدون العدة بأيديهم الثقيلة للعودة. كان الطريق الأقصر من ميناء بروتاني الى البيت يمر من رأس هورن. ولكن هاهم المهاجرون يبدون لي مثل بحارة بروتانيين انتزعت منهم نافذتها لأجلهم. لم يكونوا قط أبناء ضالين. كانوا ابناء ضالين دون بيت يعودون اليه، عندما يبدأ السفر الحقيقي، السفر خارج الذات.
كيف السبيل لاعادة بناء الذات ؟ كيف السبيل لاعادة صنع تلك اللغة الثقيلة من خيوط الذكريات ؟ كانت هذه السفينة محملة بأرواح سوف تولد كأنها في حالة مؤقتة. الوحيدون الذين كانوا يبدون حقيقيين، حقيقيين الى درجة يود معها المرء أن يلمسهم بإصبعه، هم أولئك الذين أعلت وظائف حقيقية من شأنهم، فحملوا الأطباق، وجلوا النحاسيات، ولمعوا الأحذية، وباحتقار غامض، خدموا أصواتا. أبدا ليس الفقر هو السبب في ذلك الازدراء الخفيف لدى طاقم الموظفين إزاء المهاجرين. ليس المال هو ما كان ينقصهم، بل الكثافة. فما عاد واحدهم الرجل الذي ينتمي الى بيت معين، الى صديق معين، الى مسؤولية معينة، كانوا يلعبون الدور، ولكن ذلك لم يعد صحيحا. لا أحد يحتاج اليهم، لا احد يستعد للاتصال بهم، أية أعجوبة هي تلك البرقية التي تقلب كيانك، تنهضك في منتصف الليل، تدفعك الى المحطة،«أسرع أنا بحاجة اليك !» بسرعة، نكتشف لأنفسنا أصدقاء يساعدوننا، ولكننا ببطء نصبح جديرين بأن تطلب منا المساعدة. صحيح أن أشباحي لم يكن أحد يكرههم، لم يكن أحد يحسدهم لم يكن أحد يضايقهم. الا أن أحدا لم يكن يحبهم مجرد الحب الذي يمكن أن تكون له قيمة. كنت أقول لنفسي: منذ وصولهم، ستأخذهم حفلات كوكتيل الترحيب، عشاءات المواساة. ولكن من هو الذي سوف يرج بابهم مطالبا بأن يفتح له: " افتح هذا أنا!" يجب إرضاع طفل وقتا طويلا قبل أن يطالب. يجب العناية بصديق زمنا طويلا قبل أن يطالب بحقه في الصداقة. يجب أن تفلس أجيال في إصلاح القصر القديم الذي يتصدع، حتى يتعلم المرء أن يحبه.
-2-
كنت إذن أقول لنفسي: «الشيء الأساسي هو أن يبقى ما شببنا عليه موجودا في مكان ما. العادات وأعياد الأسرة، ومنزل الذكريات. الشي الأساسي هو أن تعيش من أجل العودة..» وكنت أشعر أن هشاشة الأقطاب التي كنت أرتبط بها تهددني في جوهري ذاته. كنت على وشك معرفة صحراء حقيقية، وبدأت بفهم لغز كان قد حيرني طويلا.
عشت ثلاث سنين في الصحراء. حلمت، أنا ايضا، بسحرها، بعد آخرين كثيرين. كل من عرف الحياة الصحراوية، حيث ليس كل شيء في الظاهر، سوى وحدة وقفر، يبكي مع ذلك، تلك السنين، كأحلى سنين عاشها. ليست كلمات "الحنين الى الرمال، الحنين الى الوحدة، الحنين الى الامتداد" سوى صيغ ادبية، ولا تفسر شيئا، في حين أنه يبدو لي أني فهمت الصحراء للمرة الأولى، على ظهر سفينة تعج بالمسافرين المكدسين بعضهم فوق بعض.
لاشك ان الصحراء لا تقدم، على مد النظر، سوى رمال متشابهة، أو بدقة اكبر، رملة كثيرة الحصى، لأن الكثبان نادرة فيها. نعوم فيها بشكل دائم في ظروف الضجر ذاتها. ومع ذلك فإن آلهة غير مرئية بنت لها شبكة من الاتجاهات من المنحدرات والعلامات جهازا عضليا خفيا وحيا. فليس ثمة رتابة لكل شيء وجهته حتى الصمت، لا يشبه فيها صمتا آخر.
هناك صمت السلام عندما تتصالح القبائل، عندما يسترد المساء برودته، ويبدو لك أنك طويت اشرعتك وتوقفت في ميناء هاديء. هناك صمت الظهيرة، حين تعلق الشمس الفكر والحركة. وهناك صمت كاذب، حين تهدأ ريح الشمال، ويعلن ظهور الحشرات، المنتزعة من واحات الداخل، كأنها رحيق، عن هبوب عاصفة الشرق حاملة الرمال. وهناك صمت المؤامرة، حين نعلم ان قبيلة بعيدة هائجة. وهناك صمت اللغز، حين تنعقد بين العرب مؤامراتهم المبهمة. هناك صمت متوتر حين يتأخر المبعوث في العودة، صمت حاد، حين يحبس المرء أنفاسه لكي يسمع صمتا كئيبا، عند تذكر من نحب.
كل شيء يستقطب. كل نجمة تثبت اتجاها حقيقيا. كلها نجوم المجوس. وكلها تخدم إلهها الخاص. تشير هذه الى جهة بئر بعيدة، يصعب الوصول اليها. والامتداد الذي يفصلك عن تلك الشر يجثم كأنه متراس. وتدل تلك على اتجاه بئر جفت مياهها. وتبدو النجمة ذاتها جافة. وليس للامتداد الذي يفصلك عن البئر الجافة انحدار. تلك الأخرى تفيد كدليل الى واحة مجهولة مدحها لك البدو، ولكن الشقاق يمنعها عنك والرمال التي تفصلك عن الواحة أرض للحكايات الخرافية. تلك الأخرى أيضا تشير الى اتجاه مدينة بيضاء في الجنوب، يبدو أنها لذيذة مثل ثمرة تغرز فيها الأسنان. تلك تشير الى البحر.
أخيرا هنالك أقطاب تكاد تكون غير حقيقية تمغنط من بعيد جدا هذه الصحراء: بيت طفولة، يبقى حيا في الذكرى، صديق لا تعرف عنه شيئا سوى أنه حي.
هكذا تشعر بالانشداد والانتعاش من خلال حقل القوى التي تتجاذبك أو تدفعك، تغريك أو تقاومك. هأنتذا قائم فوق أسس ثابتة تماما، عازم تماما، مستقر تماما وسط جهات أصلية.
وبما أن الصحراء لا تقدم أي غنى ملموس، بما أنه ليس هناك شي ء يرى أو يسمع في الصحراء، فإنك مرغم تماما على الاعتراف بأن محرضات غير مرئية هي التي تحرك الانسان أولا، طالما أن الحياة الداخلية تقوى فيها ولا تنام، النفس هي التي تحكم الانسان. في الصحراء، قيمتي تعادل قيمة آلهتي.
هكذا، فأنا إن كنت أشعر بأني غني بجهات ما تزال لحيرة، على متن سفينتي الحزينة، وان كنت أسكن في كوكب ما يزال حيا، فقد كان ذلك بفضل بعض الأصدقاء الضائعين في ليل فرنسا، ورائي والذين بدأوا يصبحون أساسيين بالنسبة لي.
من المؤكد أن فرنسا لم تكن بالنسبة لي آلهة مجردة، ولا مفهوما مؤرخا، بل كانت حقا من لحم أنتمي اليه، شبكة من الصلات التي تديرني، مجموعة من الأقطاب التي تسند منحدرات قلبي. كانت لدي حاجة لأن أحس بأن أولئك الذين أحتاج اليهم كي يوجهوني، هم أصلب وأكثر دواما مني أنا نفسي. حتى أعرف أين أعود، حتى أكون موجودا.
كان بلدي بأكمله يسكن فيهم ويعيش في من خلالهم. هكذا تختصر قارة في مجرد بريق بعض المنارات بالنسبة لمن يسافر في البحر. المنارة لا تقيس البعد. ضوؤها حاضر في العيون، بكل بساطة. وكل عجائب القارة تسكن النجمة.
واليوم ها هي فرنسا، على أثر الاحتلال الشامل، تدخل دفعة واحدة في الصمت مع حمولتها، مثل سفينة جميع أنوارها مطفأة ونجهل إن هي نجت أم لا من أخطار البحر، مصير كل من أحبهم يعذبني بطريقة أكثر جسامة من مرض مقيم في داخلي، أكتشف أن هشاشتهم تهددني في جوهري.
ذلك الذي لازم، هذه الليلة، ذاكرتي، عمره خمسون عاما. هو شخص مريض، ويهودي. كيف سينجو من الهول الألماني؟ لكي أتخيل أنه مازال يتنفس، يلزمني الاعتقاد أن الغازي لم يعرفه، وأن سور الصمت الجميل لفلاحي قريته قد آواه سرا. عندها فقط أعتقد أنه مازال حيا. عندها فقط، يسمح لي وأنا أطوف بعيدا في امبراطورية صداقته التي لا حدود لها قط، الا أشعر بنفسي مهاجرا، بل مسافرا، لأن الصحراء ليست حيث نعتقد. الصحراء أكثر حياة من عاصمة والمدينة الأكثر اكتظاظا تفرغ إذا زالت المغنطة عن الأقطاب الأساسية للحياة فيها.
كيف تبني الحياة إذن خطوط القوة تلك، التي نحيا منها؟ من أين يأتي الثقل الذي يجذبني نحو بيت هذا الصديق ؟ ما هي إذن، اللحظات الأساسية التي جعلت من ذلك الحضور، أحد الأقطاب التي احتاج اليها؟ ما هي اذن، الأحداث الخفية التي جبلت منها المشاعر الرقيقة المميزة، ومن خلالها حب البلد؟
كم هو قليل الضجيج الذي تصنعه المعجزات الحقيقية ! وكم هي بسيطة الأحداث الجوهرية ! إنه لشيء قليل جدا أن يقال عن اللحظة التي أريد أن أرويها إنه يلزمني أن أعيش ثانية في الحلم، وأن أكلم ذلك الصديق.
كان ذلك في يوم من أيام ما قبل الحرب، على ضفاف نهر صاوون، من جهة تورنيس. كنا قد اخترنا من أجل الفداء مطعما تطل شرفته الخشبية على النهر. مستندين بأكواعنا على طاولة بسيطة تماما، حفرها زبائن بالسكين، طلبنا طبقي برنود. كان طبيبك قد منعك من تناول الكحول، إلا أنك كنت تغش في المناسبات الكبيرة. وكانت تلك واحدة منها. لم نكن نعرف لماذا، ولكنها كانت واحدة منها. ما يبهجنا كان يفوق نوعية الضوء في عدم قابلية لمسه. كنت قد قررت إذن اختيار طبق البرنود الخاص بالمناسبات الكبيرة، ذاك. وباعتبار أن بحارين كانا يفرغان حمولة أحد الزوارق على بعد عدة خطوات منا، فقد دعونا البحارين. ناديناهما من فوق الشرفة. وجاءا. جاءا ببساطة. وجدنا من الطبيعي جدا أن ندعو رفاقا، ربما بسبب ذلك العيد غير المرئي فينا. كان من البديهي جدا أن يستجيبا للاشارة. بناء على ذلك تناولنا المشروب !
كانت الشمس طيبة. عسلها الفاتر يغمر شجرات حور الضفة الأخرى، والسهل حتى الأفق. كنا نزداد فرحا شيئا فشيئا ودائما دون أن نعرف السبب. كانت الشمس تطمئن بأن تضيء جيدا، والنهر بأن يجري، والوجبة بأن تكون وجبة، والبحارين باستجابتهما للنداء، والنادلة بأن تخدمنا بنوع من اللطافة السعيدة، كما لو أنها ترأس عيدا أبديا. كنا في حالة سلام تام، مندمجين تماما، في حضارة نهائية، بعيدا عن الفوضى، كنا نتذوق نوعا من الحالة التامة، التي لم يعد لنا فيها ما نسره لبعضنا طالما أن جميع الامنيات متحققة. كنا نحس بأننا أنقياء، مستقيمون، مشرقون ومتسامحون. ما كنا لنعرف أية حقيقة كانت تظهر لنا في بداهتها، إلا أن الشعور المسيطر علينا كان الشعور باليقين تماما. يقين يكاد يكون مزهوا.
كذلك الكون، كان يثبت ارادته الطيبة، من خلالنا كل شيء، تكاتف السديم، قساوة الكواكب تشكل الأميبات الأولى، عمل الحياة الهائل الذي أوصل الأميبة الى الانسان، كل شيء تلاقى لحسن الحظ حتى يصل من خلالنا، الى هذه النوعية من المتعة: لم يكن ذلك سيئا كنجاح.
هكذا كنا نتذوق ذلك التفاهم الصامت وتلك الطقوس شبه الدينية. البحاران ونحن، يهدهدنا رواح الخادمة الكهنوتية ومجيؤها، كنا نشرب كأننا رواد الكنيسة ذاتها، رغم أننا لم نعرف أية كنيسة هي. كان أحد البحارين هولانديا. الآخر ألماني، هرب من النازية. لوحق هناك كشيوعي، أو تروتسكي، أو كاثوليكي، أو يهودي. (لم أعد أذكر الصفة التي أبعد الرجل تحت اسمها). غير أنه في تلك اللحظة، لم يكن مجرد صفة، بل كان شيئا آخر. كان المحتوى هو المهم. العجينة الانسانية. كان صديقا، بكل بساطة. وكنا متفقين بين بعضنا كأصدقاء. أنت كنت متفقا وأنا كنت متفقا. كان البحاران والخادمة متفقين. متفقين على ماذا؟ على طبق البرنود؟ على مغزى الحياة ؟ على حلاوة النهار؟ ما كنا كذلك لنعرف. إلا أن ذلك الاتفاق كان مليئا جدا، وراسخا في العمق بشكل متين. كان يقوم على كتاب مقدس واضح في جوهره، رغم عدم قابلية صياغته في الكلمات، الى درجة أننا كنا لنقبل معها بكل طيبة خاطر أن نحصن هذا الجناح، أن نقيم محاصرين فيه، وأن نموت فيه خلف رشاشات لكي ننقذ هذا الجوهر.
أي جوهر؟.. هذا هو بالضبط ما يصعب التعبير عنه ! أخشى أنني لا أكاد ألتقط سوى الظلال، وليس الشيء الأساسي. الكلمات بعدم كنايتها، سوف تؤدي الى فرار حقيقتي، وسيكون في قولي غموض إن ادعيت أننا كنا سنحارب بسهولة انقاذا لابتسامة معينة كابتسامة البحارة، وابتسامتك وابتسامتي، وابتسامة الخادمة، انقاذا لمعجزة معينة لهذه الشمس، التي كلفت نفسها، منذ هذا القدر من ملايين السنين، كل هذا العناء لكي تصل من خلالنا الى نوعية ابتسامة، كانت متقنة الى درجة كافية.
غالبا ما يكون الجوهري بلا وزن إطلاقا. لم يكن الجوهري هنا، في الظاهر، سوى ابتسامة، وغالبا ما تكون الابتسامة هي الشيء الجوهري. نعطي حقنا ابتسامة. نكافأ ابتسامة. تحركنا ابتسامة. ويمكن أن تؤدي نوعية ابتسامة الى أن نموت. مع ذلك، وبما أن هذه النوعية كانت تخلصنا بشكل ممتاز من غم الظروف الحاضرة، وتمنحنا اليقين والأمل والسلام، فأنا احتاج اليوم، سعيا للتعبير عن نفسي بشكل أفضل، أن أروي أيضا قصة ابتسامة أخرى.
كان ذلك أثناء ريبورتاج عن الحرب الأهلية في اسبانيا، تهورت فحضرت، خفية، في حوالي الثالثة صباحا، عملية شحن لوازم عسكرية سرية في محطة بضائع. بدا أن اضطراب أفراد الفرق وبعضا من الظلام قد ساعدا على تطفلي. الى أني بدوت لبعض جنود الميليشيا مشبوها.
كان ذلك في غاية البساطة. لم أكن أشك بعد بشيء من اقترابهم المطاطي والصامت، حين كانوا قد أطبقوا حولي، بهدوء مثل أصابع اليد. حطت سبطانة غدارتهم قليلا فوق بطني وبدا لي الصمت مهيبا. أخيرا رفعت ذراعي مستسلما.
لاحظت أنهم كانوا يحدقون، ليس بوجهي، بل بربطة عنقي (كانت موضة الضواحي الفوضوية لا تنصح بارتداء هذه القطعة الكمالية). تشنج لحمي. كنت أنتظر الطلقة النارية، فقد كان ذلك هو زمن الأحكام المتسرعة. إلا أنه لم يحصل أي اطلاق. بعد بضع دقائق من الفراغ المطلق، بدت لي الفرق خلالها، كمن يرقص نوعا من باليه الأحلام في عالم آخر، أشار الي الفوضويون الذين يحاصرونني، أن أسبقهم ورحنا نسير، دون استعجال، عبر المسالك المختارة، تم الأسر في صمت تام، وباقتصاد مدهش في الحركات. هكذا تلهو طغمة تحت الماء.
سرعان ما غصت باتجاه قبو حول الى مركز حراسة هان هناك أفراد ميلشيات آخرون يغالبون النعاس، غداراتهم بين أرجلهم، وقد أضاءهم مصباح بترول رديء، إضاءة سيئة. تبادلوا مع رجال دوريتي، بعض الكلمات بصوت حيادي. قام أحدهم بتفتيشي.
أنا أتكلم الاسبانية إلا أني أجهل الكاتالانية. مع ذلك. فهمت أن أوراقي مطلوبة. كنت قد نسيتها في الفندق. أجبت: "فندق صحفي"، دون أن أعرف إن كانت لغتي تنقل شيئا ما، تناقل أفراد الميلشيا جهازا تصويريا من يد الى يد، كأنها وثيقة إثبات. بعض من أولئك الذين كانوا يتثاءبون، خائرون في مقاعدهم العرجاء نهضوا بنوع من الملل واستندوا الى الجدار.
الانطباع السائد كان الملل. الملل والنعاس. كانت قدرة الانتباه لدى هؤلاء الرجال، مستهلكة كما كان يبدو لي، حتى الاجترار. كدت تقريبا أتمنى ظهور مؤشر للعداء. لعلاقة انسانية. لكنهم لم يشرفوني بأية إشارة غضب، ولا حتى إشارة استياء. حاولت مرة بعد مرة أن احتج باللغة الاسبانية. سقطت احتجاجاتي في الفراغ. نظروا الى دون ابداء رد فعل، مثلما كانوا سينظرون الى سمكة صينية في حوض ماء.
كانوا ينتظرون. ما الذي كانوا ينتظرونه ؟ عودة أحد منهم الفجر؟ قلت لنفسي: " ربما كانوا ينتظرون أن يشعروا بالجوع.."
قلت لنفسي أيضا: «سيرتكبون حماقة ! إنه شيء مضحك قطعا!…» الشعور الذي كان ينتابني -يفوق مثيرا شعورا بالغم – كان قرفا من العبث. كنت أقول لنفسي: "إذا خرجوا من جمودهم، اذا أرادوا التصرف، فسوف يطلقون !"
هل كنت في خطر فعلا أم لا؟ هل مازا لوا يجهلون، أني لست مخربا، ولا جاسوسا بل صحفيا؟ ان أوراقي الشخصية موجودة في الفندق ؟ هل اتخذوا قرارا؟ ما هو؟
لم أكن أعرف عنهم شيئا، سوى أنهم كانوا يعدمون بالرصاص دون جدال كبير مع ضمائرهم. الطلائع الثورية، لأي حزب كانت، لا تسعي وراء الرجال (إنها لا تزن الرجل بالنظر الى جوهره)، بل تسعي وراء الأعراض والامارات تبدو لهم الحقيقة الخصم مرضا وبائيا. ومن أجل عرض مريب، يرسل الموبوء الى محجر العزل الصحي: المقبرة. لهذا السبب بدا لي هذا الاستجواب الذي يهبط علي من وقت لآخر، في مقاطع لفظية غامضة، ولم أكن أفهم منه شيئا، مشؤوما كلعبة روليت عمياء تقامر برأسي. لهذا السبب أيضا كنت، كي أفرض لنفسي حضورا حقيقيا، أشعر بحاجة غريبة تجثم فوقي، بأن أصرخ لهم بشيء كان يفرضني في حياتي الفعلية.. عمري مثلا! عمر الرجل، شيء مؤثر! إنه يلخص حياته بأكملها. يصنع النضج ببطء. يصنع ضد كثير من العقبات المذللة، ضد كثير من الامراض الخطيرة التي نشفى منها ضد كثير من الآلام التي تهدأ، ضد كثير من حالات اليأس المتجاوزة، ضد كثير من المخاطر التي أفلت معظمها من الشعور. يصنع عبر كثير من الرغبات، كثير من الآمال، كثير من حالات الندم، كثير من النسيان، وكثير من الحب عمر الرجل، إنه يمثل حمولة جميلة من التجارب والذكريات ! رغم الافخاخ والهزات والمشاق، تابعنا السير الى الأمام، كيفما كان، مثل طنبر جيد، والآن بفضل تقاطع عنيد لحظوظ سعيدة، وصلت الى هنا. عمري سبعة وثلاثون عاما. والطنبر الجيد، إذا شاء الله، فسيحمل حمولته من الذكريات الى مكان أبعد. كنت أقول لنفسي إذن: "هاهنا وصلت. عمري سبعة وثلاثون عاما…" كنت أتمنى لو ألقي بثقل هذه المسارة على حكامي. ولكنهم توقفوا عن استجوابي.
عند ذلك حدثت المعجزة. معجزة متكتمة جدا. لم يعد معي سجائر. وبما أن واحدا من سجاني كان يدخن. فقد أشرت اليه، أن يتخلى لي عن سيجارة، وشرعت بابتسامة غائمة. تمطى الرجل في البداية، مرر يده ببطء فوق جبينه، رفع بصره، ليس الى ربطة عنقي، بل الى وجهي، وأمام ذهولي الشديد، شرع، هو أيضا، بابتسامة. كان ذلك مثل طلوع النهار.
لم تحل تلك الابتسامة المأساة بل محتها ببساطة، كما الضوء، كما الظل. لم تعد تحدث أية مأساة. لم تغير هذه الابتسامة شيئا مرئيا. مصباح البترول الرديء، الطاولة ذات الأوراق المبعثرة، الرجال المستندون الى الحائط، لون الأشياء رائحتها، كل شيء بقي على حاله. إلا أن كل شيء كان قد تحول في جوهره ذاته. تلك الابتسامة كانت منقذة لي. كانت مؤشرا يضاهي ظهور الشمس في حسمه، وبداهة نتائجه القريبة، وعدم قابلية رده. كانت تفتتح عهدا جديدا. لم يتغير شيء، وكل شيء قد تغير. الطاولة ذات الأوراق المبعثرة أصبحت حية، مصباح البترول أصبح حيا. الجدران أصبحت حية. الملل الذي يرشح من أشياء هذا القبو الميتة تلطف فجأة. كان الأمر كما لو أن دما غير مرئي بدأ يجري، رابطا كافة الأشياء في جسد واحد، ومعيدا إليها مغزى ما.
الرجال كذلك لم يتحركوا، إلا أنهم، بينما كانوا منذ ثانية، يبدون لي أبعد عني من نوع يعود لما قبل الطوفان، هاهم يولدون من حياة قريبة. انتابني شعور استثنائي بالحضور. هذا هو الأمر تماما: بالحضور ! وشعرت بقرابتي معهم.
الصبي الذي ابتسم لي، والذي لم يكن، منذ ثانية، سوى وظيفة، أداة، نوع من الحشرات الشنيعة، هاهو يتكشف عن رجل أخرق قليلا، شبه خجول، خجلا مدهشا. ليس معنى هذا أن هذا الارهابي كان أقل فظاظة من غيره! لكن ظهور الانسان فيه أضاء جانبه الهش، جيدا! نحن البشر نتعاظم كثيرا. إلا أننا نعاني في قرار الفؤاد، من التردد، والشك والأسى…
لم يكن قد قيل شيء بعد. مع ذلك كان كل شيء قد حل. وضعت يدي، على سبيل الشكر، فوق كتف الجندي، حين مد لي يده بسيجارتي. ونظر الآن، ذلك الجليد قد كسر مرة، فقد عاد جنود الميلشيا الآخرون، هم أيضا، بشرا، ودخلت ابتسامتهم، جميعا مثلما أدخل بلدا جديدا وحرا.
دخلت ابتسامتهم مثلما دخلت سابقا، ابتسامة منقذينا في الصحراء. الرفاق الذين عثروا علينا بعد أيام من البحث، وهبطوا في الموضع الأقل بعدا قدر الامكان، كانوا يسيرون بخطوات واسعة باتجاهنا، وهم يؤرجحون بشكل مرئي تماما، قرب الماء في طرف الذراع. أذكر ابتسامة المنقذين، اذا كنت غريقا، وابتسامة الغرقي اذا كنت منقذا، مثلما أذكر وطنا كنت أشعر فيه بسعادة شديدة. المتعة الحقيقية هي متعة أن تكون مدعوا. لم يكن الانقاذ إلا مناسبة لهذه المتعة. لا يكون للماء القدرة على خلب الألباب، إذا لم يكن أولا هدية الإرادة الطيبة للبشر.
العناية المقدمة للمريض، الاستقبال الذي يقابل به المبعد. وحتى العفو، أمور لا قيمة لها إلا بفضل الابتسامة التي تضيء المناسبة. نلتقي في الابتسامة فوق اللغات، والطبقات والأحزاب. نحن رواد الكنيسة ذاتها، فلان وعاداته أنا وعاداتي.
-3-
أليست نوعية الفرح تلك أثمن ثمرة للحضارة التي هي حضارتنا؟ تستطيع حكومة استبدادية شمولية أيضا، أن تلبي حاجاتنا المادية. لكننا لسنا دواب تعلف. لا يمكن أن يكون الازدهار والرخاء كافيين لارضائنا. نحن الذين تربينا على تقديس احترام الانسان، اللقاءات البسيطة التي تتحول أحيانا الى مناسبات رائعة، شيء له وزن كبير بالنسبة لنا..
احترام الانسان ! احترام الانسان !… هنا يكمن المحك ! حين يحترم النازي من يشبهه حصرا، فهو لا يحترم شينا عداه هو نفسه، يرفض التناقضات الخلاقة، يدمر كل أمل بالارتقاء، ويبني لألف عام، روبوتات في مأرضة، بدلا من الانسان. النظام لأجل النظام، يخصي الانسان وينتزعه من قدرته الحقيقية، التي هي القدرة على تغيير العالم وتغيير نفسه. الحياة تخنق النظام، لكن النظام لا يخلق الحياة.
يبدو لنا، نحن على العكس من ذلك تماما، أن ارتقاءنا لم يكتمل، إن حقيقة الغد تتغذى على خطأ الأمس، وأن التناقضات التي ينبغي تخطيها هي التربة الخصبة ذاتها لنمونا. نعترف بأولئك الذين يختلفون عنا، أقرباء لنا. ولكن يا لها من قرابة غريبة ! إنها قائمة على المستقبل، وليس على الماضي. على الهدف وليس على الأصل. نحن حجاج، بعضنا الى بعض، نسعي جاهدين في دروب شتى، نحو الموعد ذاته.
أما اليوم، فها هو احترام الانسان، شرط ارتقائنا، في خطر، تقصفات العالم الحديث أدخلتنا في المظلمات. المشكلات متنافرة والحلول متعارضة. حقيقة الأمس ماتت، وحقيقة الغد مازالت تحتاج الى بناء. لم يستشف أي توليف مقبول، وليس لدى كل منا سوى جزء من الحقيقة. الأديان السياسية تستدعي العنف بسبب افتقارها للوضوح الذي يفرضها. وها نحن نتيجة انقسامنا حول المنهج، نجازف بالكف عن الاعتراف بأننا نغذ السير نحو الهدف ذاته.
المسافر الذي يجتاز جبله باتجاه نجمة، معرض، إن ترك نفسه تستغرق في مشاكل صعوده، لخطر نسيان أية نجمة تقوده، إن هو ما عاد يعمل إلا بهدف العمل، فإنه لن يذهب الى أي مكان. مؤجرة الكراسي في الكاتدرائية تجازف، إن هي انشغلت انشغالا شديدا بتأجير كراسيها، بأن تنسى أنها تخدم إلها. هكذا، فإني بانزوائي في هوى متحزب، أجازف بأن أنسى أن سياسة ما، لا يكون لها معنى إلا شريطة أن تكون في خدمة بديهية روحية. تذوقنا في أوقات المعجزة نوعية معينة من العلاقات الانسانية: هنا تكمن الحقيقة بالنسبة لنا.
مهما كان العمل ملحا، فإنه غير مسموح لنا أن ننسى النداء الروحي الذي يجب أن يوجهه، والا بقي هذا العمل عقيما. نريد أن نرسي أسس احترام الانسان. لماذا سيكره بعضنا بعضا في قلب الموقع ذاته ؟ لا يملك أي منا احتكار نقاء السريرة. أستطيع أن أحارب باسم طريقي، طريقا اختارها أحد غيري. أستطيع انتقاد مناهج عقله. فمناهج العقل متقلبة. ولكن علي أن أحترم هذا الرجل، على مستوى الروح، إذا كان يجهد في سبيل النجمة ذاتها.
احترام الانسان ! احترام الانسان !… اذا تأسس احترام الانسان في قلب البشر، فإن البشر سيصيرون بالمقابل الى تأسيس النظام الاجتماعي، السياسي أو الاقتصادي الذي سوف يكرس هذا الاحترام، تتأسس الحضارة أولا في الجوهر. تكون أولا رغبة عمياء ذات حرارة معينة داخل الانسان. بعدها، من خطأ الى خطأ، يعثر الانسان على الطريق الذي يؤدي الى الشعلة.
هذا هو دون شك يا صديقي، السبب في حاجتي تلك لصداقتك. أتعطش لرفيق يحترم في الرجل الذي يحج الى تلك الشعلة متعاليا على نزاعات العقل. أحتاج أحيانا أن أتذوق، مقدما الحرارة الموعودة، وأن أرتاح قليلا في الجانب الآخر من نفسي في ذلك الموعد الذي سيكون موعدنا.
تعبت جدا من السجالات، من الشروط المانعة، من المتعصبات ! أستطيع دخول بيتك دون أن أرتدي زيا نظاميا، دون أن أخضع لاستظهار نص مقدس، دون أن أتخلى عن شيء أيا كان، من وطني الداخلي. بجوارك لست مضطرا أن أدري، نفسي، لست مضطرا أن أترافع، لست مضطرا أن أثبت، بجوارك أجد السلام مثلما في تورنيس. فوق كلماتي الخرقاء، فوق المحاكمات التي يمكن أن تخدعني، إنك ببساطة تعتبر في الانسان تبجل في سفير المعتقدات والعادات، والميول الخاصة، إن كنت اختلف عنك فأنا لا ألحق الضرر بك، بل أجعلك أكثر مما أنت عليه. تسائلني مثلما يساءل المسافر.
أنا الذي أشعر، مثل كل إنسان، بحاجة لأن يعترف بي، أشعر بنفسي نقيا فيك وأذهب اليك، أحتاج أن أذهب الى حيث أكون نقيا. ليست كلماتي ولا تصرفاتي هي التي أخبرتك عمن أكون، قط بل إنه قبول ما أنا عليه، هو الذي جعلك، عند اللزوم، متساهلا مع هذه التصرفات كما مع هذه الكلمات. أنا ممتن لك لكونك تستقبلني على ما أنا عليه. ما حاجتي الى صديق يحاكمني؟ إن استقبلت صديقا على طاولتي، فإني أرجوه أن يجلس، إذا كان أعرج، ولا أطلب منه أن يرقص.
صديقي، أحتاج اليك مثلما أحتاج لقمة يتنفس الانسان فيها: أحتاج أن أتكيء بجوارك، مرة أخرى الى طاولة نزل صغير ألواحه منفصلة عن بعضه على ضفاف نهر صاوون، وأن أدعو اليها بحارين، نشرب بصحبتهما في سلام ابتسامة شبيهة بالنهار.
إذا بقيت أحارب، فسوف أحارب قليلا لأجلك. أحتاج اليك حتى أعتقد اعتقادا أفضل بمجيء تلك الابتسامة. أنا بحاجة أن أساعدك على العيش. أراك ضعيفا جدا، مهددا جدا، لكي تستمر يوما إضافيا، على رصيف بقالية فقيرة، ترتعد في حماية مزعزعة لمعطف رث. أنت، الفرنسي جدا، أراك معرضا مرتين لخطر الموت، لأنك فرنسي، ولأنك يهودي. أحس بكامل ثمن مجتمع ما عاد يسمح بالخصومات. ننتمي جميعا الى فرنسا مثلما ننتمي الى شجرة، وسوف أخدم حقيقتك مثلما كنت لتخدم حقيقتي. نحن فرنسيي الخارج، القضية بالنسبة لنا هي قضية إطلاق مؤونة البذار الذي جمده الوجود الألماني. القضية هي تحرير لحم في الأرض التي لكم فيها الحق الأساسي في تنمية جذوركم. أنتم أربعون مليون رهينة. تهيأ الحقائق الجديدة دوما في أقبية الاضطهاد: أربعون مليون رهينة يتنكرون، هناك في حقيقتهم الجديدة. ونحن ندين سلفا، لهذه الحقيقة.
فأنتم بالتحديد الذين سترشدوننا. لسنا نحن من سيعطي الشعلة الروحية لأولئك الذين سبق أن بداوا يغذونها بجوهرهم الخاص كما لو أنهم يغذونها بالشمع. ربما أنكم لن تقرأوا كتبنا. ربما لن تسمعوا أحاديثنا. ربما ستتقيأون أفكارنا. نحن لا نؤسس فرنسا. نحن لا نستطيع شيئا سوى أن نخدمها. لن يكون لنا حق، مهما فعلنا، بأي اعتراف بالجميل. لا سبيل للمقارنة بين المعركة الحرة وبين الانسحاق في الليل. لا سبيل للمقارنة بين مهنة الجندي ومهنة الرهينة. إنكم أنتم القديسون.
نص: سانت اوكزبيري
ترجمة: روز مخلوف