أحمد الحجري
قاص عُماني
كان يعيش بجوارنا مع أمّه وإخوته الصغار. تُوفي والده وهو لمّا يبلغ الخامسة عشرة. لا يفصلنا عن بيت أهله سوى بيتين آخرين من بيوت جيراننا المتلاصقة في حارتنا وسط البلدة القديمة. كنّا قد اعتدنا أن نلتقي به في إجازة نهاية الأسبوع، يأتي من المدينة التي يَدْرُس فيها مرحلته الجامعية محمّلا بحلويات صغيرة حمراء، أو بالونات ملوّنة، أو حلوى الرهش الطحينية اللون والمزينة بالفستق. لم أرَ في حياتي شابا في مثل وسامته، شعره الكثيف يغطي رأسه، وكلما تساقطت منه خصلات طويلة يعيدها إلى مكانها براحة يده اليسرى. أنفه طويل وحادّ مثل البرق، وأسنانه البيضاء مصفوفة بعناية مثل مكعّبات ثلجية صغيرة. جسده الرياضي يتيح له التصرّف بمرونة بحركة أعضائه مثل لاعب سيرك. يُجيد لعب كرة القدم مهاجما يسدّد الكرات بدقَّة صقرٍ يهوي على فريسته، ويلعب كرة الطائرة محرزا الأهداف بقفزاتٍ عالية وبضرباتٍ من يده مثل حطّاب يهوي بفأسه على جذع شجرة يابسة.
أصبحنا نحن الفتيات الصغيرات حين نراه نترك الدُّمى والألعاب، وننتظر المفاجآت التي يحملها لنا بكلّ محبّة وعطف. نراه مقبلا علينا من مدخل السكة التي تصل بدايتها بحارتنا، وهو ينزل من سيارة الأجرة حاملا حقيبته على ظهره. يصل دائما قبيل غروب آخر يوم من نهاية الأسبوع. في كل مرّة يفاجئنا بحركات غريبة أو غير مألوفة تُدهشنا نحن الصغيرات. ذات مرة أقبل علينا، ونحن نلعب ألعابا تخيّلية بعرائسنا الصغيرة. وقف قبالتنا وقال: “انظرن لقد فقدت ذراعي!”. أرانا كُمَّ دشداشته الطويل المتدلي بلا يد. وقفنا مدهوشاتٍ من هول ما رأينا. التمعت في أعيننا نظرة حزنٍ وألمٍ وحسرة، وكدنا نبكي لولا أن أخرج يده التي خبَّأها وأعادها إلى مكانها في كُمِّ دشداشته، وهو يقول: “ها هي قد عادت إلى مكانها!”. أوشكنا أن نموت رعبا، وقبل أن يسمح لنا بمعاتبته أو رميه بنظرة غضب أهدى كلَّ واحدة منّا دمية صغيرة بحجم عقلة الإصبع، وقال: “ها هي عرائسكنَّ قد أنجبنَ عرائس صغيرات وجميلات مثلكن”.
ذات يوم شرعنا في لعب الغميضة، فجاء كعادته في نهاية الأسبوع، ونزل برجلٍ واحدةٍ من سيارة الأجرة. رأيناه عند مدخل السكة، فتوقَّفنا عن اللعب. شعور الصدمة ذاك هزَّ مشاعرنا مثل هزّة أرضية هزّت أجسادنا. أتى إلينا يقفز برجل واحدة مثل فزاعة، فأثار فينا الفزع، وأخذنا نرقب وصوله. اقتربنا من بعضنا كأنما نواسي أنفسنا. خشينا أنه سقط من مكان مرتفع، أو انزلق وفقد رجله للأبد. حين دَنَا منَّا فكَّ الحبل الذي كان قد ربط به ساقه اليسرى وأخفاها تحت دشداشته، وزعق: “مفاجأة… أليس كذلك؟”. كاد أن يُغمى علينا من هول الصدمة، وغضبنا منه هذه المرة. حَرَّضَنا فِعْله ذاك أن نرميه بالحصى الصغير الذي تمتلئ به ساحة حارتنا لولا أنه قال: “تمهلن قليلا… عندي لَكنَّ مفاجأة لذيذة”. أخرج كيسا من حلويات ذهبية محشوّة بالشوكولاتة ومغلَّفة بأكياس فضية، ووزّعها علينا. سكن الغضب وارتسمت البسمة على وجوهنا، ونسينا ما فعله بنا قبل قليل. شكرناه وغفرنا له ممازحته الثقيلة. ودَّعنا وذهب إلى بيت أهله، وطفق يصفر مستخدما طرفي إصبعيه، وهو يقفز فرحا.
في نهاية أحد الأسابيع شكّلنا أنا وصديقاتي الصغيرات حلقة، وأخذنا نحكي الحكايات المسلّية، وإذا به يقف أمامنا وحقيبته في يده. قال لنا على حين غرّة: “انظرْنَ إليَّ”. وضع يديه على عينيه، وقام بحركة خاطفة، وظهر لنا مثل مُغَيَّبٍ مخيف بجفنين حمراوين مقلوبين. صرخنا جميعنا والتصقنا ببعضنا فَرَقًا. شعر بنفسه أن مزحته ثقيلة جدا هذه المرة، وأنه أخافنا كثيرا، فمسح جفنيه المقلوبين بغمضة عين، وقال: “لا تخفن…انظرْن كلّ شيء عاد إلى مكانه”. رددنا عليه: “ولكن كيف تستطيع أن تفعل ذلك؟”. أجاب: “هذا سرّ صغير ولا ينبغي عليكنَّ معرفته”.
قدّم لنا بالونات ملونة كبيرة، وودَّعنا كعادته تاركا في أنفسنا حيرة وبهجة. لم يكن يبتسم وهو يقوم بكل ذلك. بعد هذه الحادثة عرفنا أنه يتعمّد عمل هذه المقالب؛ ليثير فينا الصدمة والغرابة، ثم يقدّم لنا الهدايا؛ ليعيد لنا البسمة والفرحة، لعلّه أراد أن يقدّم لنا درسا في الحياة التي قَدْر ما تسرّك حينا قَدْر ما تسوؤك أحيانا، أو لعلّه كان يمهّد لشيء قادمٍ كما أفهم الآن، لكننا اتفقنا نحن الفتيات الصغيرات ألا نقع ضحايا حِيَله الشقية تلك مرة أخرى. بدلا من ذلك اتفقنا أن نبادر المرّة القادمة بمفاجأته بنوع آخر من المفاجآت!
في نهاية الأسبوع الأخير من نهاية العام الدراسي، وقبيل تخرُّجه من الجامعة، قرَّرنا أنا وصديقاتي الصغيرات أن نقدّم له شيئا يُدخل السرور إلى قلبه الحزين كما اعتقدنا. جمعنا مصروفنا اليومي الذي لم يكن يتجاوز مائة بيسة، واستقرَّ عزمنا أن نهديه هدية رمزية تعبيرا عن شكرنا وامتناننا لألعابه وحلوياته وهداياه التي يغدقها علينا نهاية كل أسبوع. كلَّفنا أخي الكبير بشراء قلمٍ مذهّبٍ جميل مع دواة من المدينة، وطلبنا منه أن يضعها في صندوق مغلّف بتغليف الهدايا مع شريط فيونكة بيضاء فوقه. لم يكن اختيارنا ذلك عشوائيا فقد عرفنا أنه خطاط موهوب لا يُشق له قلم. أرفقنا مع تلك الهدية رسالة شكر وكتبنا عليها أسماءنا، وزيَّناها بالألوان والملصقات النجمية والقلوب الصغيرة، ووضعناها في ظرف اختلسته إحدى صديقاتي من الظروف الكثيرة الفارغة التي تملأ خزانة أخيها الكبير!
انتظرنا نهاية ذلك الأسبوع بفارغ الصبر. شكَّلنا حلقة دائرية وخبّأنا الهدية والرسالة في انتظار عودته من ختام دراسته لنفاجئه بها. ارتقبنا عودته وأعيننا على مدخل السكة. فجأة سمعنا صراخا وعويلا ينفجر من أحد بيوت الجيران. خرجت نسوة الحارة وهنَّ يبكينَ ويندبنَ أحدا ما ثم توجَّهْنَ إلى بيت جارنا. خرج الرجال وهم يتمتمون بأدعية لم نفقهها. وقف شباب الحارة مستندين على الجدران وأعينهم مثل الجمر يكتمون بكاء ونشيجا تكاد تتمزق به أوردتهم وشرايينهم. جاءت سيارة إسعاف وإشاراتها الضوئية الحمراء تشّع مثل قنبلة حرارية مثيرةً زوبعةً من الهلع والخوف، وازداد معها النشيج والنحيب. شاهدنا بعض الفتيات الكبار يُغمى عليهن، وشباب ينهارون ولا يستطيعون الوقوف على أقدامهم. وقفت السيارة أمام منزل بيته، وفُتح باباها الخلفيان على مصراعيهما. نزل مسعفان وأنزلا المِحَفَّة، وفي وسطها فتانا الذي كنا ننتظره نائما على ظهره. كان الزحام شديدا لكننا استطعنا الاقتراب من رؤية ذلك المشهد. بدا لنا بلا ذراع فَخَمَّنَّا أنها إحدى حِيَلِه وألاعيبه، وبلا رِجْلٍ فانتابنا شعور أنه قد أخفاها كما كان يفعل معنا، وبدت عيناه حمراوين من أثر الدماء التي سالت من أعلى جبهته، وصبّت في محجر عينيه الجميلتين. لم يكن جفناه مقلوبين كما كنا نأمل، لكن ابتسامة حزينة ظلّت تلوح على شفتيه، وتركنا هذه المرة في خوف وحزن ودموعنا تتناثر على وجناتنا الصغيرة مثل قطرات من ضباب، ولم يكن ثمَّة أمل أن يقوم لنهديه ما وددنا أن نفاجئه به.
هذه صورته… لا تكاد تشبهه تماما، لكنه هو ذاته الذي التقطت صورتَه عيناي آخر مرة رأيته فيها منذ ثلاثين عاما. تبدو الصورة باهتة كأنما التُقِطَت بكاميرا قديمة قِدَم الزمن الذي مرَّ، ثم نقلت مؤخرا لذاكرة قرص أو حاسوب. صحيح أنها دون جودة أو دقة لونية، لكنها احتفظت بذكراه، وحافظت على ملامحه الجسدية مثلما خزّنتها في ذاكرتي، وها أنا أطالعها في صفحة (ذاكرة تاريخ القرية) في (الفيسبوك)، وأطالع فيها صور ذكريات الحب والفقد.